نشأ علم الاجتماع و تطور في أوروبا في القرن التاسع عشر و علم الاجتماع هو أحد فروع العلوم التي تهدف إلى شرح ما يحدث في المجتمع أو بالأحرى ما يحدث فيالمجتمعات البشرية ؛ و قد كان أوغست كونت هو أول من صاغ هذا المصطلح المهجن (sociologie) من اللغتين اللاتينية و اليونانية (logos و تعنى "علم أو خطاب" وsocieta و هي كلمة لاتينية تعني المجتمع). كانت المجتمعات الأوروبية تتساءل عن طريقة تقدمها و عن مصيرها ؛ و كانت الثورة الصناعية و الثورات السياسية قد"خلطت الخرائط" ؛ و لم يكن قد سبق للمجتمعات أن عاشت اضطرابات كهذه من قبل. و يوضح تحليل ظروف تجديد النظام أن من غير الممكن فصل تطور علم الاجتماع عن ثلاثة عوامل : في المقام الأول ، يعيش المجتمع "أزمة" ، ويواجه مجموعة من المشاكل تحمله على التساؤل عن نفسه و عن مصيره ؛ و في المقام الثاني ، لقد قام التفكير الفلسفي و العلومي حول الإنسان و المجتمع بتمهيد الميدان ؛ و أخيرا ضرورة وجود مفكرون تقود خبرتهم الشخصية و نضجهم العلمي إلى تحليل ظروف الحياة الخاصة بمجتمعهم.
و بهذه الظروف الثلاث نشأ علم الاجتماع في فرنسا و ألمانيا و الولايات المتحدة و لم يتوقف منذئذ عن تجديد إشكالياته و نظرياته. حقيقة أن الأزمة التي واجهتها أوروبا في القرن التاسع عشر قد أصتبغت بأكثر من مجال بطابعخاص مقارنة بكل "أزمات المجتمع" السابقة ؛ و لقد تسبب طابعها العالمي بالإضافة إلى نمو الرأسمالية في طرح مشكلة مصير الإنسانية.
غير أن في أزمنة و في أماكن أخرى طرح "علماء" أسئلة مشابهة ؛ و يرد ذكر بعضهم ضمن رواد علم الاجتماع و من أشهرهم مكيافيلي و مونتسكيو ؛ و بالرغم من ذلك فلم ينجح أي منهم في الإعلان بوضوح عن ضرورة خلق علما جديدا قادرا على تحليل المجتمعات تحليلا علميا كما فعل ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي. ولد عبد الرحمن بن خلدون في عام 1332م (غرة رمضان 732ه) بتونس التي كان يحكمها الحفصيون منذ أكثر من قرن ؛ و كان المغرب يواجه بعد مئة عام من الوحدة تحت حكم الموحدين فترة كساد اقتصادي و نزاعات سياسية مستديمة ، و عنيفة إلى حد ما بين القبائل و السلطات المركزية و بين الأسر الحاكمة المختلفة للمغرب نفسها. و منذ ذلك الحين أصبحت la reconquistaتمثل تهديدا و بدأت التجارة في التقدم على حساب مجتمعات المغرب ؛ و في هذا الجو من الأزمة المستترة ترعرع ابن خلدون.
عاشت أسرته المنحدرة من شبه الجزيرة العربية طويلا بالأندلس قبل أن تستقر بتونس ؛ و منذ تولي الحفصيون الحكم و هي لم تتوقف عن التقرب إلى السلطة الحالية ؛ و قد كان جده الأكبر عبد الرحمن بن خلدون وزيرا للمالية و قام بتأليف كتابا لوزراء الدولة و قد أثر هذا الكتاب بالتأكيد في تفكير ابن خلدون. و قد شهد ابن خلدون و هو في الرابعة عشر الصراع الذي أدى إلى الاقتتال بين أبناء السلطان الحفصي أبو بكر و الذي برر تدخل بنو مرين (إلى السلطة في فاس) ؛ و هو حدث أثر فيه بشدة و أثار لديه التساؤلات حول "السلطة". و لقد أتم ابن خلدون دراسته بالجامعة العريقة الزيتونة بتونس حيث أتيحت له الفرصة للتتلمذ على أيدي معلمين أمثال الآبلي الشهير الذي بجانب ثقافته "الموسوعية" – و هو ما يعد ظاهرة فريدة بجامعة لاهوتية – كان يصر على أهمية السفر و الاحتكاك بالناس لإتمام ثقافة لا تقوم على "الكتب" فقط. و سلك ابن خلدون الطريق الذي سلكه أجداده فالتحق بخدمة السلطان الحفصي أبو اسحاق الثاني (1352).
و كان هذا ليكون بمثابة بداية مثالية لمستقبل مهني طويل في خدمة الأسرة الحاكمة ؛ و لكن فضول ابن خلدون و رغبته الشديدة في التعمق في المعرفة أدوا إلى غير ذلك ؛و انتهز ابن خلدون الحملة التي شنها الحفصيون على المغرب الأوسط لمغادرة تونس و إعادة علاقاته مع بني مرين الذي سيستمر في خدمتهم لسنين طويلة. و لقد عاش ابن خلدون لأكثر من عشرين عاما في تبعية إقطاعية الأسر الحاكمة المختلفة بالمغرب و الأندلس كوزير أو رئيس للوزراء أو سفير أو مفاوض.
و غالبا ما كانت تلاحقه المكائد التي كان يلعب خلالها دورا رئيسيا مما كلفه السجن و حياة لا تخلو من الأخطار.
و بنهاية هذا المشوار الطويل على الصعيد السياسي قرر ابن خلدون أن يتناول مشروعا كان يداعبه منذ فترة طويلة و هو كتابة تاريخ العالم مع البدء بتاريخ المغرب الذي عاشه بشغف. و بجانب كونه مدنيا و تابعا لبلاط الأسر الحاكمة شارك ابن خلدون القبائل المغربية في الجنوب حياتهم اليومية.
لجأ ابن خلدون إلى خلوة دراسية بقلعة ابن سلامة (المعروفة اليوم باسم (فرندا) وهران بالجزائر) حيث تناول هذا العمل الذي أثراه بخبرته الشخصية و بثقافة علماء عصره التي تبناها و بمعرفته العميقة بالقرآن و تفسيره من خلال الفقه و السنة ، وزينه بأعمال الفلاسفة و رجال العلم و كذلك بأعمال المؤرخين العظماء الذي تمكن من قراءة كتاباتهم.
و سوف تسمح له تلك الخبرة و تلك الثقافة في خلوته من القيام بتلك المواجهة الضرورية بين النظرية و المشاهدة و هي الشرط الذي لا يقوم بدونه أي تفكير علمي.
و كان ينوي ابن خلدون إعادة كتابة تاريخ المغرب و قد كان ؛ فبما أسماه بالمقدمة بدأ بالدفاع عن مشروعه من خلال نقد أعمال المؤرخين الذين سبقوه ؛ و في الواقع كان مشروع كتابة التاريخ يخفي مشروعا آخر و هو فهم و شرح السلطة في إطار مجتمعات المغرب و الكشف عن حقيقة دولة الأسر الحاكمة في المجتمعات المسلمة.
فأخذ على المؤرخين استخدامهم السيئ لمصادرهم مشككا في الإسناد (و هو اللجوء إلى سلسلة من الراوين للتصديق على الأفعال المروية) ، و غياب روح النقد لديهم و الميل إلى التحيز – و أخذ عليهم خاصة اقتصارهم على رواية الأحداث دون محاولة شرحها من خلال وضعها في سياقها و محاولة فهم أشكال التغير ؛ فيقول ابن خلدون أن التاريخ "يهدف إلى دراسة المجتمعات الإنسانية" ؛ و يتوصل إلى أن من أجل تحليل المجتمع بشكل صحيح ينبغي خلق "علما جديدا" و هو العمران ، علم الحضارة الذي يصفه كعلم قائمبذاته "مستقل بنفسه" مقارنة بالفروع المعيارية الأخرى كالفلسفة و الخطابة (حديث عن المجتمع مخصص "لإقناع الجمهور ليقبل أو ليرفض وجهة نظر محددة" و السياسة المدنية. و كما فعل العلماء الاجتماعيون الأوروبيون في القرن التاسع عشر ، قام ابن خلدون بتعريف "العلم الجديد" من خلال موضوعه "العمران البشري" أو "الاجتماع الإنساني" و من خلال أساليبه.
و ما يستبقيه عالم الاجتماع اليوم من "المقدمة" هو بداية تعريفه لموضوع هذا العلم الجديد الذي يبغى تأسيسه و هو "العمران" ، ثم بعض المبادئ المنهجوية الرئيسية التي يستخلصها من قراءة النص ، و التي غالبا ما تتضارب عندتحليله لمجتمعات المغرب ؛ و أخيرا و قد يكون أهمها تفسيره لبنية و ديناميكية المجتمعات المغربية و نظريته الدورية للتاريخ.
موضوع "العلم الجديد"
إن الإنسان وفقا لابن خلدون – كسائر مخلوقات الله – له احتياجات ، يأتي في مقدمتها احتياجه إلى الطعام و الحماية من طبيعة شديدة العدوانية ؛ و الإنسان مخلوق ضعيف نسبيا مقارنة بمعظم الحيوانات و لكن الله منحه "الفكر و اليد" ؛ فبفضل ذكائه تمكن من استخدام يده و "إطالتها" بواسطة ابتكار التقنيات ؛ كما مكنه هذا الذكاء من إدراك أن العيش في المجتمع و التعاون و التضامن أشياء ضرورية لنجاته ؛ فالحياة في المجتمع بالنسبة لابن خلدون ضرورية و هي ليست شيئا طبيعيا و إنما حصيلة التفكير البشري.
و يجب كذلك الوضع في الحسبان أن مع عدائية الناس تجاه بعضها البعض ، لن يصمد المجتمع بعد تكونه إلا إذا تمتقنية (التحكم في) تلك العدائية مما يتطلب وفقا لابن خلدون وجود "سلطة معتدلة" (وصي) ، أي وجود إنسان "لديه السلطة و الصلاحية لمنع الناس من القتال" ؛ فالسلطة هي إذا حصيلة "مجهود فكري"
إن الهدف بالنسبة لابن خلدون من هذا العلم الجديد الخاص "بالمجتمعات الإنسانية" هو تحديدا تحليل و شرح الأوجه المختلفة للمجتمعات الإنسانية ، و أنماط التشكيل الاجتماعي ، و مجتمعات البادية (العالم الريفي و عالم البدو و أنصاف البدو و غير المترحلين) و المدن (العمران الحضري ، موطن السلطة). و يقصد العلم الجديد تحليل النظام الاقتصادي و الطبقات الاجتماعية و الأبعاد الثقافية و دور التعليم و الإبداع (و لاسيما الإبداع التقني) و أخيرا تستحوذ الأبعاد السياسية على كل اهتمامه. و يرجع ابن خلدون كسائر المفكرين المسلمين الذين سبقوه إلى الشريعة للقياس ، و يحلل بوجه خاص تطبيق السلطة و العلاقة بين الدولة السلالية و المجتمع.
إن المجتمعات بالنسبة لابن خلدون ديناميكية للغاية ؛ و لقد عاب على المؤرخين عدم اكتراثهم بالتغير. و سوف يصر "بالمقدمة" على إثبات أن أساس العلاقات الاجتماعية لا يكف عن التغير ، في العلاقات التي تنشأ بين الجوانب الاقتصادية و السياسية و الثقافية و التعديلات في الطبقات الاجتماعية و معايير "التمييز" : فقد تلي فترات الرخاء و الازدهار فترات التأخر و الفقر.
محاولة لتعريف المبادئ المنهجوية :
يضع ابن خلدون لنفسه هدفا واضحا بالمقدمة و هو القيام بتحليل المجتمعات تحليلا علميا ؛ و لابن خلدون موقف ينتمي لامتداد الفكر العقلاني العربي المورث من مجموعة من المفكرين و الفلاسفة الذين تناولوا من قبله التفكير في السلطة بالمجتمعات الإسلامية. أما بالنسبة لتفسير المعايير الدينية الذي يتناولها كعالم جدير من علماء عصره قاطع ابن خلدون مبحث العلوم حيث أنه يعتبر السياسة متأصلة في المجتمعات.
و لقد تمكن ابن خلدون ، كما أظهر عبد القادر زغلول أثناء مداخلته بمؤتمر "ابن خلدون" الذي أقيم بولاية الجزائر(Alger) عام 1978 ، من القيام بالتمييز بين الدين "و الذي يتم بلوغه بالإيمان" و العالم الحسي "و الذي يتم بلوغه بالمنطق". و ما يحاول ابن خلدون تحليله هو المجتمعات في وضعها الحالي و ليس الوضع الذي كان ينبغي أن تكون عليه ؛ و دعونا لا ننسى أن بالرغم من روح الاستقلالية لدى ابن خلدون و الصراعات بينه و بين الصرامة المتجسدة في ابن عرفة إلا أن ابن خلدون كان يعد حتى آخر أيامه سلطة دينية مالكية معترف بها و حتى و إن كانت معاييره الدينية قد حملته على تقدير نوع النظام السياسي المتبع بالفترة الأولى من الهجرة (تحت حكم الخلفاء الراشدين الأربع) ؛ و يقول ابن خلدون بوضوح أن هذا هو أفضل نمط قيادي ؛ و تقوم تحليلاته على سير النظام السياسي المشاهد بمجتمعات المغرب المعاصر. منذ عهد الأمويين طرأ على الأحداث تطور من الخلافة إلى الملك (السلطة السلالية) ، و هي سلطة قد تأخذ أشكالا من الطراز المنطقي الموقر للمبادئ الإسلامية الجوهرية و كذلك أشكالا بعيدة كل البعد عن "النموذج" ؛ كالسلطة الاستبدادية رمز الانهيار الذي لا رجوع فيه للأسر الحاكمة.
و هذا ما يسمح لنا بالتأكيد على تطرق ابن خلدون لدراسة المجتمعات المغربية كعالم اجتماعي و ليس كفيلسوف اجتماعي كما صاغها الشاب طه حسين الذي تشرب بالدقة الدوركامية ببحثه عن ابن خلدون و ، و لا حتى كرائد بعلم الاجتماع.
و إذا كان ابن خلدون لم يعلن عن المبادئ المنهجوية بوضوح باستثناء المبدأ الذي سبق ذكره و المتعلق برواية الأحداث مع التخلي عن كل المواقف المعيارية ، إلا أن ابن خلدون قد احترم خلال تحليله للمجتمعات المغربية عددا من القواعد العلمية التي يمكن تحديدها بوضوح في ظل التقدم الذي حققه علم الاجتماع.
و لقد ذكرنا بأهمية ما كان يعني له نقد المستندات المستخدمة من قبل المؤرخ (أو "عالم الاجتماع") ، نقدا داخليا و خارجيا شديدا بقدر المستطاع من خلال التساؤل عن احتمالية و معقولية الأحداث المتناولة (اقتضاء منهجوي لم يتبعه ابن خلدون نفسه و لا حتى في المقدمة). و قام ابن خلدون كما فعل دوركايم فيما بعد بتحليل المجتمعات معتمدا على الوثائق و المشاهدات الشخصية و متبعا بكل الخطوات نهجا مقارنا ، مجابهة بين وسط البادية و العالم المديني ، و بين الأسر الحاكمة بالحقب المختلفة من تاريخها ، و بين أشكال السلطة و العلاقات السياسية...
و من المهم التنبيه إلى حرص ابن خلدون الدائم على إظهار الصلات المعقدة بين الأبعاد المختلفة للواقع الاجتماعي. إذا كان العمران هو أولا مجموعة من البشر وفقا للمعني الديموغرافي لهذا المصطلح ، فهو كذلك نوع من التنظيمالاجتماعي الذي أهم ما يحدده طبقا لتعبير ناصف ناصر هي الأبعاد الاقتصادية و السياسية و الثقافية. يصف ابن خلدون في تحليله للعمران البدوي و العمران الحضري المجموعات الاجتماعية غير غافلا عن الإشارة إلى التغيرات التي قد تطرأ و آخذا في الاعتبار كل من خصائص نظامها الاقتصادي (الإنتاج و الاستهلاك و الموقف من قضايا الضرائب و تغير الاحتياجات و العلاقة بين "المهن"...) و الثقافة (المعرفة العميقة بطبيعة سكان البادية و الابتكارات التقنية و التقدم في العلوم و الفنون و نظام نقل المعرفة و التطبيقات التثقيفية و المعتقدات و الخرافات...) و بالطبع السياسة (السلطة و الطبقاتالاجتماعية في إطار العشائر و الطوائف الريفية ، و طريقة عمل السلطة المركزية ، و دور قضايا الضرائب و الشرطة و الجيش و علاقات التبعية و الموالاة...).
و سوف تدرج التيارات الكبرى لعلم الاجتماع بالقرنين التاسع عشر و العشرين بالمبادئ المنهجوية للعالم الاجتماعي أخذ "الجملة العضوية" (كارل ماركس) و "الظواهر الاجتماعية الشاملة" (مارسيل موس) و علم الاجتماع الانتفاعي أو حتى البنيوية في الحسبان.
محاولة لصنع نموذج تفسيري لديناميكية المجتمع :
يقصد بأخذ الجملة في الحسبان أخذه من المنظور الديناميكي و لقد توصل ابن خلدون من خلال تحليل مقارن لتاريخ مجتمعات المغرب إلى نتيجة أن التاريخ دوري ؛ و يلاحظ أن الأسر الحاكمة المختلفة للمغرب تستمر عادة على مدار ثلاثة أجيال ؛ ففي البداية تظهر دائما قبيلة تكون مزاياها (و عيوبها) هي مزايا و عيوب الإنسان الذي يعيش في رحاب طبيعة قليلة الحفاوة عادة ، فيتميز بالبساطة و الشجاعة و الإقدام و المعرفة بالطبيعة و كيفية استخلاص كل مواردها و لم تفسده ضغوط الاحتياجات الجديدة الملحة و هذا ما يهم في نظر ابن خلدون ؛ على أن تتحد هذه المجموعة بفضل العصبية و التي تترجم عادة "بروح الجماعة" أو "التضامن الاجتماعي" ؛ فلتفترض تضامنا مبنيا على صلات القرابة (في إطار نظام أبوي النسب) الحقيقية و (أو) الصورية بالرجوع إلى سلف مشترك ، و هو تضامن يتطلب رياسة بمعنى وجود قائد يتضح بالرجوع إلى أصله و صفاته الشخصية قدرته على تجسيد القيم الأساسية للمجموعة مما يصنع منه الشخصية "المركزية" للمجموعة ؛ و يسمح هذا التضامن للقبيلة بضمان ولاء القبائل الأخرى ؛ و إذا كان هذا شرطا ضروريا فهو ليس كافيا ؛ حيث يلاحظ ابن خلدون أن كل القبائل التي نجحت في الاستحواذ على السلطة المركزية كانت تحركها دعوة معينة أي أيدلوجية ذات طابع سياسي و ديني ؛ و أخيرا كان ينبغي أن تكون السلطة الحالية "خالية" أي ضعيفة للغاية. و في حالة توفر هذه الشروط الثلاث (العصبية و الدعوة و ضعف السلطة الحالية) تكون القبيلة قادرة على الاستحواذ على السلطة المركزية و تأسيس أسرة حاكمة جديدة.
في مرحلة أولى تسمح صفات القائد مدعومة بعصبية قوية بتوطيد السلطة ؛ و يستمر القائد على مدار المرحلة الثانية في تعزيز سلطته بضمان ولاء العديد من المناصرين له. و تهيمن السياسة خلال هاتين المرحلتين الأخيرتين و تسمحبتنمية الاقتصاد. و تمثل المرحلة الثالثة ذروة الدورة : حيث تكون السلطة في أوجها ، و تؤدي الضرائب التي يتم تحصيلها إلى الرواج و الازدهار ؛ و يسمح الرخاء بنهضة العمارة و الفنون و الآداب ؛ فيرضى الشعب و يعيش فيرفاهية نسبية. و لكن منذ ذلك الحين ستبدأ السلطة و حاشيتها في الاستسلام لرغائبها في إرضاء ذاتها و الانزواء في التبعية للمنافع المادية الأكثر فأكثر تكلفا ؛ و تندر الابتكارات مما يودي بالنظام إلى مرحلة الزوال : حيثتساهم المصروفات في تبذير "المال العام" ، و تصبح السلطة غنيمة الشخصيات المنتفعة من نعمها ؛ و تزيد الضرائب فيعم السخط بين السكان. و تضعف السلطة مما سيسمح لقبيلة جديدة تنعم بعصبية شديدة و تحركها دعوة خلال المرحلة الأخيرة من الاستحواذ بدورها على السلطة. و تبدأ الدورة من جديد.
سمح تحليل ابن خلدون لتاريخ مجتمعات المغرب مع الرجوع إلى العالم الإسلامي ككل منذ عصر الأمويين له بإظهار "قوانين المجتمع" وببناء نموذجا قياسيا يسمح بشرح تاريخا معقدا للغاية حتى و إن تجاهل هو نفسه في كتابه "العبر" تلك القوانين التي اكتشفها. و سيصبح هذا في القرنين التاسع عشر و العشرين بمثابة هدف أنماط و نموذجية علم الاجتماع الجمعي.
ويوجد بالمقدمة أمثلة أخرى على التحاليل الاجتماعية التي تعتبر شيقة بشكل خاص لعالم الاجتماع الذي يدرس اليوم مجتمعات المغرب. وهكذا فعلاوة على تحليلاته للسلطة ، سوف نتناول تحليلاته للعلاقة بين الوسط القروي و الوسطالمدني (العمران البدوي و العمران الحضري) ، و وصفه للمدن و خاصة تحليله للطبقات الاجتماعية ؛ فبينما تعتمد الهيبة الاجتماعية في إطار القبائل على وضع الشخص النسبي و قدرته على تجسيد القيم الجوهرية للمجموعة ، فبالمجتمع المدني لا يمكن فصل المكانة الاجتماعية عن العلاقات المتشعبة التي تنسج بين الفرد و السلطة (استخدام مفهوم الجاه الذي يعني أن هيبة الفرد أو المجموعة تتوقف على علاقاته بالأمير أو بحاشيته) و دور العلماء ومرتبةالنقابات المختلفة.
و يمكن اعتبار ابن خلدون لكل هذه الأسباب حتى و إن لم تكن تتعلق إلا بجزء ضئيل من كتاباته كعالم اجتماعي من المفيد الرجوع إليه لدراسة مجتمعات العالم العربي. و لا يعتبر ابن خلدون رائدا حيث تم تجاهل نصوصه من قبلمؤسسي علم الاجتماع بالقرن التاسع عشر. و نعرف اليوم أن كتابات ابن خلدون كانت موضوع عدة قراءات و تفسيرات بالبلاد العربية و لكن لم يثر قراءاتها قراءة اجتماعية سوى مولد علم الاجتماع في أوروبا. فمنذ نهاية القرن التاسع عشر ، دهش كل من العالم الاجتماعي النمساوي جومبلوفيتش و الإيطالي فريرو من عثورهم على مبادئ علم الاجتماع الأوروبي الجديد بكتاب المقدمة ؛ و معذلك فلقد ساهم استخدام علم الاجتماع "القومي" بالثلاثينات و علم الاجتماع "الاستعماري" لبعض من هذه التحليلات استخداما "موجها" إلى حجب الأهمية العلمية لهذا الكتاب. فكان ينبغي الانتظار حتى يحصل المغرب على استقلاله وينمو علم الاجتماع بالبلاد العربية بنهاية الخمسينات أو حتى بالستينات ليكتشف العلماء الاجتماعيون العرب و الأوروبيون المتخصصون في دراسة المغرب الأوجه المتعددة للكتاب التي سمحت بإثبات أن مؤلفه كان من أول إن لم يكن أول عالم اجتماعي بالعصور الحديثة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق