الـمـقـدمـة:
تتضمن الفكرة الاجتماعية عند دور كايم عوامل عدة حيث يعتبر البيئة الاجتماعية الإنسانية هي الصلات الروحية الوثيقة و المحددة بخواص تخضع هذه البيئة الاجتماعية لبعض الأسباب الاجتماعية ، فعلم الاجتماع عند دور كايم هو علم يختص بدراسة المجتمعات حيث يماثل الظاهرة الاجتماعية بالظاهرة العضوية أي يحذو حذو بعض الذين يجارون العلوم الطبيعية وتطبيق نفس المناهج العلمية على العلوم الاجتماعية ..لكن هذه الخصوصية تبقى محل تردد وتحفظ من قبل العديد من المختصين الاجتماعيين... وفي هذا السياق قد تأثر دور كايم بالمجتمع الفرنسي نظرا ما أمكنه من اكتساب مساحات التي أتيحت لهذا المجتمع من الحرية الفكرية والمعرفة الواسعة ...كما تأثر أيضا بفلاسفة عصر التنوير أمثال " سان سيمون ومونتيسكيو وجان جاك روسو" فضلا عن إطلاعه عن أفكار بعض المفكرين الألمانيين من أمثال: فاجنرو شمولر وفونت ، هذا وظل يؤثر التضامن في حياته كلها وفي فكره الاجتماعي الداعي إلى روح التضامن بدل من الصراع المتصل ...
المبحث الأول: أفكاره الاجتماعية:
المطلب الأول: حياته ومؤلفاته:
ولد إميل دوركايم سنة 1858 بمدينة إبينال بفرنسا حيث نشأ في عائلة من الحاخامين. وكان تلميذًا بارعًا وما لبث أن التحق بـمدرسة الأساتذة العليا (وهي من أفضل مؤسسات التعليم العالي في فرنسا.) سنة 1879 حيث احتكّ ببعض شبان فرنسا الواعدين مثل جان جوريس أو هنري برغسون غير أن الأجواء بالمدرسة لم تعجبه فالتجأ إلى الكتب ليتجاوز الفلسفة السطحية (في نظره ) التي كان يدين بها رفاقه. هكذا اكتشف أوغست كونت الذي أثرت مؤلفاته عليه تأثيرًا عميقًا فاستقى منها مشروع تكريس علم الاجتماع كعلم مستقل قائم بذاته يهدف إلى كشف القواعد التي تخضع لها تطورات المجتمع. فنجد لهذا الاهتمام صدى في أعماله عن قواعد المنهج السوسيولوجي وعن الانتحار وعن التربية حيث تتجلى رغبته في أن يواجه المشاكل المختلفة بمناهج خاصة ومن منظور اجتماعي منزّه من إشكاليات العلوم الأخرى (الفلسفة والتاريخ مثلا) ومقارباتها. كان دركايم يكره التأملات الفلسفية العقيمة والعلم لأجل العلم فقط ولذلك ابتغى أن يجعل من علم الاجتماع علمًا يسلّط الضوء على آفات المجتمع ويستعان به لحلّ بعض مشاكله عن طريق تحسين العلاقات بين الفرد المجتمع. فلذلك أولى عناية كبرى للمشاكل التربوية إذ أن التربية تلعب دورًا أساسياً في اندماج الفرد في المجتمع. قد تفسر لنا هذه التصورات اهتمام دركهايم بمشاكل زمنه إذ أن اثنين من أهم كتبه تتناول الاضطرابات الاجتماعية المتولدة عن التصنيع المفاجئ والكثيف الذي انتاب مجتمعات عصره ..
ّومن أهم مؤلفاته :
ولقد ترك دوركايم مؤلفانا وبحوثا كثيرة نشر بعضها في حياته ونشر أتباعه البعض الآخر بعد وفاته والمؤلفات التي نشرها في حياته يمكن ترتيب ظهورها كما يلي :تقسيم العمل الاجتماعي (1893م),قواعد المنهج الاجتماعي (1895م), الانتحار دراسة اجتماعية (1896م), الإشكال الأولى للحياة الدينية(1912م).
أما مؤلفاته التي نشرها أتباعه فهي التربية وعلم الاجتماع, علم الاجتماع والفلسفة, التربية الأخلاقية, كتاب الاشتراكية.
كما انشأ دوركايم مجلته الاجتماعية المعروفة باسم السنة الاجتماعية أو التقويم الاجتماعي عام 1896م (ابوطاحون,عدلي علي.107).
المطلب الثاني: التضامن الاجتماعي
ساهم هذا الرائد في كثير من الأعمال العلمية و الاجتماعية إذ تظهر جهوده في دراسته لظاهرة تقسيم العمل.
وقد صنف دوركايم التضامن الاجتماعي إلى نوعين:
1- التضامن الآلي: ويتميز هذا النوع من التضامن بالبساطة و السذاجة أحيانا حيث انه غير مركب وغير مميز وغير خاضع لمبدأ توزيع العمل.
2-التضامن العضوي: ونلاحظ على هذا النوع أنه يتميز بالتعقيد وله مميزات في الوظائف،ويخضع لمعيار مبدأ تقسيم العمل،وتقدر فيه توزيع الوظائف على الجماعات و الأفراد بالإضافة إلى تميزه بزيادة التحصص ويكون هذا النوع عنصرا أساسيا في الحياة الاجتماعية ويسود عموما داخل الوسط الاجتماعي الذي يطغى عليه هذا النوع سلطة القانون و احتكام الجميع إلى مبادئ القانون بمعنى أن حياة الناس تتجه إلى التنظيم الرسمي وتساير صلاحيات السلطات بين مختلف الأدوار الاجتماعية في مفهوم التنظيم وتدرجه.
المطلب الثالث: الظاهرة الاجتماعية عند دوركايم .
صنف دور كايم الظاهرة الاجتماعية على أنها ضرب من السلوك ثابتا كان أو غير ثابت. ويمكن أن يباشر نوعا من الضغط الخارجي على الأفراد، كما يعتبر كل سلوك يعم في المجتمع بعمومه.
وبهذه المميزات يمكن أن نحدد خصائص هذه الظاهرة في النقاط التالية (1):
1-أنها جماعية: أي أنها تختص بسلوك وبنية الجماعة وليس الفرد وتظهر هذه الظاهرة في السلوكيات الجماعية ذات اتساق و انسجام، ولها أبعاد منهجية تختص بعلم الاجتماع عنده وهي علم الجماعة وليس علم الأفراد وبذلك يميزه عن علم النفس.
2 -الالتزام: ويكون بمعنى حالة القهر و الجبر التي يمارسها السلوك الجماعي كظاهرة اجتماعية على الأفراد وانتقال التقليد والسلوك الاجتماعي بما يسمى العدوى الاجتماعية.
3- الطابع الإنساني: هذه الخاصية تميزه حيث أن الظاهرة الاجتماعية تتعلق بالمجتمع الإنساني دون غيره من المجتمعات الأخرى كما يتميز منهجها الذي يختص بالبحث الاجتماعي الإنساني عن غيره من البحوث و المناهج التي تختص عن بقية المناهج البحثية الأخرى.
4- التلقائية: وتشكل هنا الظاهرة الاجتماعية حالة تلقائية وطبيعية لوجود الحياة الاجتماعية وعادة التفاعل الاجتماعي بين أفراد المجتمع.
5- الترابط: ويكمن في الظاهرة الاجتماعية الترابط أي أن عناصرها تترابط ترابطا عضويا ووظيفيا وعموما فالظاهرة الاجتماعية تشتق بين المظاهر الجمعية-المعتقدات، الممارسات الجمعية.ويمكن التعرف عليها بواسطة القوة القاهرة التي تمارسها على الأفراد والمتجسدة في أنماط السلوك.
المبحث الثاني: الانتحار
الانتحار والتيارات الاجتماعية :
قدم دوركايم مفهوماً أكثر تحديداً وحيوية وأقل تبلوراً ذلكم هو التيارات الاجتماعية. وهى أيضا حقائق اجتماعية غير مادية وعرّفها كحقائق اجتماعية غير مادية لها نفس الموضوعية والهيمنة على الفرد مثل الحقائق الاجتماعية التى ناقشناها سابقاً لكن " بدون ذلك الشكل المتبلور". وقدم لذلك عدداً من الأمثلة "مثل الحماس, السخط والغضب داخل تجمع ما. بالرغم من أن التيارات الاجتماعية الأخرى أقل تحديداً من الحقائق الاجتماعية الأخرى لكنها تبقى حقائق اجتماعية وقد أوضح دوركايم ذلك عندما ذكر"إنها تأتى لكل منا من حيث لا يدرى ويمكن أن تحملنا بعيداً رغم أنفسنا".
شرح دوركايم فكرة التيارات الاجتماعية في كتابه (قواعد المنهج الاجتماعي) لكنه استخدمها كمؤشر توضيحي أساسي في دراسة ميدانية أصبحت نموذجاً لتطور الدراسات الميدانية الأمريكية. في الحقيقة إن البحث الوارد في الانتحار يمكن اعتباره محاولة لاستخدام الأفكار التى طورت في (قواعد المنهج الاجتماعي) في دراسة ميدانية عن ظاهرة اجتماعية محددة هى الانتحار. في (الانتحار) أوضح دوركايم أن الحقائق الاجتماعية وخاصة التيارات الاجتماعية مستقلة عن الفرد وقاهرة له. ولقد اختار دراسة الانتحار بدلاً عن العديد من الظواهر الاجتماعية الأخرى لانه ظاهرة ملموسة ومحددة. كما أن هنالك قدر جيد من المعلومات عن الانتحار ويعتبر بواسطة العديد من الناس فعلاً خاصاً وشخصياً. يعتقد دوركايم أنه إذا تمكن من توضيح أن لعلم الاجتماع دور يلعبه في توضيح ما يبدوأنه فعل فردى مثل الانتحار فإنه يصبح من الممكن توسيع مجال علم الاجتماع لدراسة ظواهر هى أكثر انفتاحاً للتحليل السوسيولوجى. أخيرا اختار دوركايم دراسة الانتحار لأنه إذا تمكن من إقناع المجتمع العلمي بدراسته لهذه الظاهرة سيكون لعلم الاجتماع فرصة أكبر في الحصول على الاعتراف من العالم الأكاديمي.
كعالم اجتماع لم يكن دوركايم مهتماً بدراسة لماذا أن شخصاً محدداًً ينتحر. هذا يجب أن يترك لعالم النفس. لكن دوركايم كان مهتماً بتوضيح التباين في معدلات الانتحار، أي أنه كان مهتما بلماذا نجد أن مجموعة معينة لها معدل انتحار أعلى من الأخرى. يفترض دوركايم أن العوامل البيولوجية، والنفسية الاجتماعية تبقى ثابتة من مجموعة لأخرى ومن وقت لاخر. وإذا كانت هنالك اختلافات في معدل الانتحار من مجموعة لأخرى أو من وقت لأخر يرى دوركايم أن الاختلاف يرجع إلى الاختلاف في العوامل الاجتماعية وتحديدا ً التيارات الاجتماعية.
وكملتزم بالبحث الميداني لم يكتف دوركايم بإبعاد الأسباب الأخرى التى ربما تؤدى إلى الاختلاف في معدلات الانتحار وإنما قام باختبار تلك الأسباب ميدانيا ً .
بدأ كتابه عن الانتحار بسلسلة من الأفكار المغايرة عن أسباب الانتحار. من ذلك الحالة المرضية النفسية للفرد، العرق، الوراثة والمناخ .
في حين أن دوركايم عرض قدراً واسعاً من الحقائق ورفضها كمسبب لاختلاف معدلات الانتحار، لكن حجته الأوضح والتي تنسجم مع مجمل تصوره كانت حول علاقة العوامل العرقية مع تلك الاختلافات. أحد أسباب رفض العرق هو أن معدلات الانتحار تتباين وسط المجموعات ذات الأصل العرقي الواحد. وإذا كان العرق سبباً مؤثرا في تباين معدلات الانتحار فيمكننا أن نفترض أن له أثراً مشابها على مختلف المجموعات. دليل آخر ضد أهمية العرق في تباين معدلات الانتحار هو التغير في تلك المعدلات وسط عرق معين عندما ينتقل من مجتمع إلى آخر. وإذا كان العرق حقيقة اجتماعية ذات علاقة يجب أن يكون لها نفس الأثر في مختلف المجتمعات. بالرغم من أن حجة دوركايم هنا ليست كافية جداً وربما تكون حججه حول العوامل الأخرى التى رفضها أضعف ، لكن هذا يعطينا فكرة عن طريقة ومدخل دوركايم في الرفض المدعم بمعلومات ميدانية لما يعتبره عوامل إضافية مما مكنه من الانتقال إلى ما يعتقد أنه العوامل الأكثر أهمية. إضافة إلى رفضه للعوامل سابقة الذكر، فقد درس دوركايم نظرية التقليد التى تنسب إلى عالم النفس الاجتماعي الفرنسي جابريل تاردا ورفضها. تقول نظرية التقليد أن الناس ينتحرون ( ويدخلون في نطاق واسع من الأفعال الأخرى ) لأنهم يقلدون أفعال الآخرين الذين انتحروا. هذا المدخل النفسي الاجتماعي غريب على علم الاجتماع وعلى تركيز دوركايم على الحقائق الاجتماعية. لذلك لم يأل دوركايم جهداً في رفضها. سبب دوركايم ذلك بأنه إذا كان التقليد مهماً كان يجب أن تكون الأمم التى تجاور بلداً ذا معدل انتحار عال هى نفسها لها معدلات عالية، ثم نظر في المعلومات الخاصة بهذا العامل الجغرافي و خلص إلى أنه ليس له أي أهمية. قبل دوركايم أن انتحار بعض الأفراد ربما يكون بسبب التقليد، لكن هذا عامل ضعيف جداً وليس له أي تأثير على معدلات الانتحار الكلية. أخيراً رفض دوركايم نظرية التقليد كعامل هام لرؤيته أن حقيقة اجتماعية ما تكون فقط نتيجة حقيقة اجتماعية أخرى. وبما أن التقليد عامل اجتماعي نفسي لن يكون له في نسقه أية أهمية في تباين معدلات الانتحار لاجتماعية، وخلص إلى أن "معدلات الانتحار الاجتماعي يمكن توضيحها فقط سوسيولوجيا.ً".بالنسبة لدوركايم، العوامل الأهم في التغير في معدلات الانتحار يجب أن توجد في الاختلافات على مستوى الحقائق الاجتماعية. بالطبع هنالك نوعان من الحقائق الاجتماعية - مادية وغير مادية. وكما هو دائما ًالحقائق الاجتماعية تحتل موقع الأهمية الرئيسية لكن ليست الأساسية. مثلا ً نظر دوركايم في أهمية الكثافة الحيوية في تباين معدلات الانتحار لكنه وجد أن أثرها غير مباشر. لكن التباين في الكثافة الحيوية وفى الحقائق الاجتماعية المادية الأخرى يؤثر على التباين في الحقائق الاجتماعية غير المادية وهذا له أثر مباشر على التباين في معدلات الانتحار. هنا يقدم دوركايم حجتين مترابطتين، من ناحية فهو يقول أن المجموعات المختلفة لها ضمير جمعي مختلف وتمثلات جمعية مختلفة أيضاً. من الناحية الأخرى هذا ينتج تيارات اجتماعية متباينة ذات أثر تبايني على معدلات الانتحار. إحدى طرق دراسة الانتحار هي المقارنة بين مختلف المجتمعات أو الأنواع الأخرى من المجموعات. من ناحية أخرى يري دوركايم أن التغير في الضمير الجمعي يقود إلى تغير في التيارات الاجتماعية والتي بدورها تؤدي إلى التباين في معدلات الانتحار. أدى هذا إلى الدراسة التاريخية للتغيرات في معدلات الانتحار ضمن مجموعة معينة. في كلتا الحالتين، ثقافياً أو تاريخياً فأن منطق الحجة هو نفسه التباين أو التغير في الضمير الجمعي الذي يؤدي إلى تباين أو تغير في التيارات الاجتماعية وهذا بدوره يؤدي إلى تباين في معدلات الانتحار. بمعني آخر، التغير في معدلات الانتحار يرجع إلى التغير في الحقائق الاجتماعية، وبشكل أساسي التيارات الاجتماعية. كان دوركايم واضحا حول الدور الأساسي الذي تلعبه التيارات الاجتماعية في تسبيب الانتحار" كل مجموعة اجتماعية لها استعداد جماعي للفعل، خاص بها، وهو مصدر الاستعداد الفردي وليس نتيجته. وهو يتكون من تيارات من الأنانية، الإيثار أو اللامعيارية تتخلل كل المجتمع. هذه النزعات للجسم الاجتماعي ككل، وبتأثيرها علي الأفراد تدفعهم إلى الانتحار " .
أنواع الانتحار الأربعة :
نظرية دوركايم عن الانتحار وبنية تنظيره السسيولوجي يمكن أن يري بوضوح عند دراستنا لكل واحد من أنواع الانتحار الأربعة. الأناني، الإيثارى، اللامعيارى والقدري.
الانتحار الأناني :
المعدلات العالية من الانتحار الأناني غالبا ما توجد في المجتمعات، التجمعات أو المجموعات الذي يكون فيها الفرد غير مندمج تماماً في الوحدة الاجتماعية الكبرى. المجتمعات ذات الضمير الجمعي القوي تمنع التيارات الاجتماعية الوقائية والشاملة التي تنبع من ذلك الضمير حدوث وانتشار الانتحار الأناني فيها. عندما تضعف هذه التيارات الاجتماعية يتمكن الأفراد وبسهوله من تجاوز الضمير الجمعي ويفعلون ما يريدون. في الوحدات الاجتماعية الكبرى ذات الضمير الجمعي الضعيف، يترك الأفراد للجري وراء مصالحهم الخاصة بأي طريقة يريدونها. مثل هذه الأنانية غير المكبوحة "غالبا ما تقود إلى قدر كبير من الاستياء والضجر بما أنه لايمكن إشباع كل الحاجات وحتى التي يمكن إشباعها تنتج حاجات أكثر وأكثر، كما أنها تنتج الاستياء المطلق للعديد من الناس كما تدفع بعضهم إلى الانتحار. لكن الأسر المندمجة بقوة،(المجموعات الدينية، الجماعات السياسية) تتعامل كهيئات ذات ضمير جمعي قوي ولا تشجع الانتحار "الدين يحمي الإنسان من الرغبة في تحطيم الذات. ما يكّون الدين هو وجود عدد من المعتقدات والممارسات التقليدية المشتركة بين كل المؤمنين، و لذا فهي ملزمة. وكلما تعددت هذه الحالة العقلية الجمعية وقويت كلما ازداد الاندماج في المجموعة الدينية وكذلك ازدادت القيمة الواقية ."
تفكك المجتمع ينتج تيارات اجتماعية مميزة وهي السبب الأساسي في تباين معدلات الانتحار. مثلا تحدث دوركايم عن تفكك المجتمع الذي يقود إلى تيارات من الكابة والخيبة "التفكك الأخلاقي للمجتمع يعرض الفرد لارتكاب فعل الانتحار، لكن لابد من وجود تيارات الكآبة لحدوث التباين في معدلات الانتحار الأناني. ما هو مثير للاهتمام أن دوركايم هنا يعيد تأكيد أهمية العوامل الاجتماعية، حتى في الانتحار الأناني الذي يعتقد فيه أن الفرد حر من كل قيود اجتماعية. الفاعلون ليسوا أحراراً أبداً من قوة الجماعة " مهما كان الإنسان فرديا يبقي هناك دائماً شئ جماعي- الكآبة والسوداوية الناتجة من المبالغة في الفردية. إن الأنسان يؤثر علي المشاركة من خلال الحزن عندما لا يكون لديه ما يمكن تحقيقه بها "
إن حالة الانتحار الأناني تشير إلى أنه حتى في أكثر الأفعال فردية وخصوصية تكون الحقائق الاجتماعية هي المحدد الأساسي.
الانتحار الإيثاري :
النوع الثاني من الانتحار الذي ناقشه دوركايم هو الانتحار الإيثاري. في حين أن الانتحار الأناني غالباً ما يحدث عندما يكون الاندماج الاجتماعي ضعيف جداً. الانتحار الإيثاري يحدث عندما يكون "الاندماج الاجتماعي قوي جداً." الفرد يجبر حرفيا علي ارتكاب فعل الانتحار.
ربما يكون أفضل نموذج للانتحار الإيثاري ذلك الانتحار الجماعي لاتباع "ريفيرنيد جيم جونز " في جونزتاون، غيانا. لقد تناولوا وبوعي كامل مشروب سام وفي بعض الحالات سقوا أطفالهم أيضا. من الواضح أنهم ارتكبوا الانتحار لأنهم دفعوا, بقوة أو بهدوء إلى الموت من أجل اتباع جمعية جونز المتعصبة. بشكل عام إن الذين يرتكبون فعل الانتحار الإيثاري يفعلون ذلك لأنهم يحسون أن ذلك هو واجبهم.
وكما في حالة الانتحار الأناني درجة التكامل ( في هذه الحالة درجة عالية) ليست السبب الرئسي في الانتحار الإيثاري ولكن التباين في درجة الاندماج ينتج تيارات اجتماعية مختلفة تؤثر في معدلات الانتحار. مثلما في الانتحار الأناني اعتبر دوركايم أن التيارات الاجتماعية السوداوية هي سبب معدلات الانتحار الإيثاري العالية. في حين أن معدلات الانتحار الأناني العالية تنتج من التمزق والاكتئاب الحزين فإن الزيادة في معدلات الانتحار الإيثاري " تأتى من الأمل لأنها تعتمد علي الاعتقاد في التصور الجميل لما بعد هذه الحياة ."
الانتحار اللامعياري :
النوع الأخير والأساسي من أنواع الانتحار الذي نوقش بواسطة دوركايم هو الانتحار اللامعياري ويحدث عندما تضطرب ضوابط المجتمع. وترتفع معدلات الانتحار اللامعياري إذا كانت طبيعة الاضطراب إيجابية (الانتعاش الاقتصادي مثلا ) أو سلبية (الكساد الاقتصادي ). كلا النوعين من الاضطراب يؤدى إلى التعطيل المؤقت للجماعة عن أداء دورها السلطوي علي الأفراد. فترات الاضطراب تطلق العنان لتيارات اللامعيارية ـ الإحساس بانعدام الجذور وانعدام المعاييرـ وتقود هذه التيارات إلى الزيادة في معدلات الانتحار المعياري. من السهل تصور هذا في حالات الكساد. إغلاق مصنع نتيجة للكساد الاقتصادي ربما يؤدي إلى فقدان وظيفة ونتيجة ذلك أن الفرد ينقطع عن تأثير ضوابط الشركة والوظيفة. الانفصال عن مثل هذه البنيات – لأسرة, الدين, الدولة مثلاً – يترك الفرد فريسة لأثر تيارات اللامعيارية. يبدو أنه من الصعب تخيل أثر الانتعاش الاقتصادي. في هذه الحالة يمكن القول أن النجاح المفاجئ ربما يقود الأفراد بعيداًً عن البنيات التقليدية التى نشأوا فيها. النجاح الاقتصادي ربما يقود الفرد إلى ترك عمله والانتقال إلى مجتمع جديد وربما يتخذ زوجة جديدة. كل هذه التغيرات تؤدى إلى اضطراب أثر ضوابط البنيات الموجودة وتترك الفرد في فترات الانتعاش الاقتصادي فريسة للتيارات الاجتماعية اللامعيارية. الزيادة في معدلات الانتحار اللامعيارى خلال فترات اضطراب الحياة الاجتماعية منسجمة مع رؤية دوركايم عن الأثر الضار لنزوات الفرد عندما يتحرر من القيود الخارجية. فعندما يتحرر الناس يصبحون عبيداً لنزواتهم ونتيجة لذلك، يرى دوركايم أنهم يقومون بسلسلة واسعة من الأفعال المدمرة تشمل قتل أنفسهم في أعداد أكبر مما هو معتاد .
الانتحار القدري :
هنالك نوع رابع من الانتحار لا يشار إليه كثيرا - الانتحار القدري – والذي ناقشه دوركايم في إحدى حواشي كتابه (الانتحار). ففي حين أن الانتحار اللامعيارى يحدث في الحالات التى تضعف فيها الضوابط فان الانتحار القدري يحدث في الحالات التى تكون فيها الضوابط متجاوزة للحد المرغوب فيه. وصف دوركايم الذين يرتكبون فعل الانتحار القدري بأنهم "أشخاص مستقبلهم مغلق بقسوة ونزواتهم خنقت بعنف عن طريق نظام قهري " المثال التقليدي هو الرقيق الذى يقتل نفسه بسب عدم الأمل المصاحب للضوابط القاهرة لكل أفعاله. الزيادة في الضوابط – القهر – تطلق العنان لتيارات السوداوية والتي بدورها تتسبب في ارتفاع معدلات الانتحار القدري. قدم ويتن بوب ملخصاً مفيداً لأنواع الانتحار الأربعة التى ناقشها دوركايم. قام بذلك من خلال التداخل الذى أجراه بين درجات مرتفعة ومنخفضة للاندماج والضوابط على النحو التالي :
الاندماج عال: انتحار إيثاري
الاندماج منخفض انتحار أناني
الضوابط عالية انتحار قدري
الضوابط: منخفضة انتحار لامعيارى
المطلب الأول: أسباب الانتحار
أعطى دوركايم خلاصة لأسباب الانتحار بعد تحليله للظاهرة ومنها :
1- الزواج المبكرغالبا ما يؤدي إلى الانتحار خاصة بين صنف الرجال.
-2 يقل الميل إلى الانتحار إبتداءا من سن العشرين للمتزوجين من الجنسين عنه من غير المتزوجين.
-3 تزداد نسبة الانتحار بين غير المتزوجين من الجنسين منها بين المتزوجين.
-4 تقل نسبة الانتحار بين النساء عنها بين الرجال.
-5 تقل نسبة الانتحار بين النساء غير المتزوجات عنها بين الرجال وذلك لأنه في نظره الرجل يستفيد من الزواج أكثر من المرأة.
6 - تقل نسبة الانتحار بين الأرامل عنها بين المتزوجات .
7- تقل نسبة الانتحار بين المتزوجين الذين لديهم أطفال عنها بين المتزوجين الذين ليس لديهم أطفال.
8 - تقل نسبة الانتحار بين الأرامل الذين لديهم أطفال عنها بين من لا يوجد لديهم أطفال.
9- تقل نسبة الانتحار بين الأرامل اللواتي لديهم أطفال عنها بين المتزوجات اللواتي ليس لديهن أطفال.
-10 تقل نسبة الانتحار كلما زاد حجم الأسرة.
11 - تقل نسبة الانتحار في فترات الاضطراب السياسي و الحروب.
المطلب الثاني: الظاهرة الدينية
في كتابه الأشكال الأولية للحياة الدينية صاغ دوركايم أفكاره عن الظاهرة الدينية و حللها من خلال مناقشة فكرة كيفية ممارسة الأفراد للمعتقدات و الطقوس الدينية للسيطرة على بعضهم البعض.
و يلاحظ أن الصفة المميزة للدين هي تقسيم العالم إلى مملكتين المملكة الأولى تتضمن كل ما هو مقدس وروحي و المملكة الثانية تحتوي على كل ما هو مدنس
ويعرف دوركايم الدين بأنه " نسق موحد من المعتقدات و الممارسات تتحد في مجتمع أخلاقي واحد و فريد يسمى الكنيسة ويضم كل الذين يرتبطون به".
ما يؤخذ على تحليله الاجتماعي للظاهرة الدينية هو أنه عالجها من خلال تحليل حالة دينية مختلفة من قبل البشر عبر العادة و التقليد والوهم البشري اللاسماوية، مما يعطيه نتائج لا تتطابق كثيرا مع الظاهرة القائمة الأكثر عموما في المجتمع الفرنسي حيث أن هناك أديان سماوية لها قواعدها في تفسير الأسباب و الأشياء ، وتقسيم المواقف الدينية الغيبية والشاهدة بالرغم من التناقضات التي تعيشها الديانتين المسيحية واليهودية والتحريفات التي تخللت مضامين معتقداتهما و تقاليدهما.
المطلب الثالث: المجتمع و الضمير الجمعي
يرى دور كايم في خصوصية المجتمع على أنه مجموعة من العلاقات والروابط الاجتماعية تعمل على ظهور توقعات حول أنماط السلوك ... والمجتمع بالنسبة لدور كايم هو نسق منظم يعمل على التوافق والتكيف وأهم صفة مميزة له هو التوازن حيث يشير أن المجتمعات تكون ثابتة ومنظمة إلى أن يقع حدث أو تغير آخر وعندما يحدث تغير يعمل المجتمع على التكيف مع الموقف الجديد لكي تقم عملية بناء التوازن وهذه الفكرة قائمة على افتراض أن المجتمع هو بمثابة كائن حي .
و يكرس هنا دور كايم مصطلح جديد يسميه الضمير الجمعي وقد أورد هذا المصطلح في كتابه "تقسيم العمل " حيث يعرف هذا المصطلح على انه المجموع الكلي للمعتقدات و العواطف العامة بين اغلب عناصر المجتمع ، و التي تشكل في رأيه نسقا له طابع متميز و يكتسب هذا الضمير العام واقعا ملموسا ، فهو يدوم خلال الزمن و يدعم الروابط بين الأجيال ...
و بمعنى أن المجتمع يعيش في داخل ضميرنا و من منظور إميل دور كايم فان الضمير الجمعي هو تعبير عن فكرة الجماعة في المجتمع
المبحث الثالث : منهج البحث عند دور كايم
المطلب الأول: كيفية التحليل المنهجي
ينظر دور كايم إلى المنهج على انه مجموعة من المبادئ والقواعد لدراسة و تحليل الظواهر الاجتماعية و هي تتلخص فيما يلي :
-1 يجب ملاحظة الظواهر الاجتماعية على أنها أشياء، بمعنى التعامل مع الظواهر الاجتماعية دون التأثر بأفكار سابقة و إنما تحلل كما هي موجودة، فمنهجية تحليل الظواهر الاجتماعية تقتضي من الباحث في علم الاجتماع التحرر بصفة مطردة من كل فكرة سابقة.
-2 على الباحث في علم الاجتماع تعريف الظواهر الاجتماعية التي هو بصدد دراستها حتى يعلم بها الناس ، إذ لا يستطيع الباحث أن يحلل ظاهرة ما دون الإحاطة بمعانيها كما ينبغي على الباحث أن يقف منذ البداية على الخواص الأكثر ظهورا أي الظواهر الاجتماعية ، و الآلية المنهجية التي تساعد على الوصول إلى تحديد الخواص الجوهرية للظاهرة هي الاعتماد على الخواص الخارجية التي تمكنه من الاهتداء إلى الجوهر و عمق المسالة .
3- إنه من الواجب حصر البحث في طائفة من الظواهر الاجتماعية و يتم على أثرها تعميم البحث على جميع الظواهر الاجتماعية التي لها نفس الخصائص وتتحقق فيها الشروط اللازمة.(المسألة فيها تحفظ)
4- يجب على الباحث في علم الاجتماع عند شروعه في بحث و تحليل الظاهرة الاجتماعية أن يبذل جهده في ملاحظة هذه الظواهر من الناحية التي تبدو فيها مستقلة عن مظاهرها الفردية.
المطلب الثاني: الانتقادات التي وجهت لدوركايم
ومن خلال تحليل أفكاره حول التحليل الاجتماعي للظواهر الاجتماعية ومنهجه الذي تعتريه بعض العيوب التي تحفظ إزاءها بعض المحللين ومن بين هذه النقاط التالية:
الاعتبار الأول الذي يؤخذ في هذه الوجهة أن دوركايم ناقش هذه القضية -
أي ظاهر الدين من منظور معاداته للدين . وليس كما هي موجودة في الواقع ,إذ لا يمكن تقسيم الظاهرة التي قام بها دوركايم على جميع الظواهر المتشابهة ...وكان يفترض أن يدرس الظاهرة الدينية في جميع تجلياتها الاجتماعية كما هي موجودة في الواقع الاجتماعي ويترك للموضوعية وحدها فرض نتائج البحث أنى كانت , مما يجعل نتائج التحليل الاجتماعي تتمتع بالشروط العلمية ذات المصداقية والقابلية للتقييم.
- تأكيد على الخاصية الجمعية للظاهرة الاجتماعية لا يؤخذ على إطلاقه وإلا كان ناقصا للواقع مما يجعله مضطرا لوضع التحفظات حول حدود التحديدات الاصطلاحية للمفاهيم الاجتماعية. حيث أن بعض السلوكيات الاجتماعية مصدرها الفرد ثم تبدأ تقل تدريجيا في الجماعية.
- يلاحظ أن فكرة الضمير الجمعي تلغي أي دور للفرد وتهدد حريته كما أنه لا يستطيع تفسير السلوك لأعضاء المجتمع إذ أنه لا يمكن اعتبار المجتمع مصدر السلوك لان الفرد سابق الوجود عن المجتمع فكيف يكون الفرع أصل الأصل.
- كما يؤخذ عليه من الناحية المنهجية فبالنسبة للضوابط التي وضعها في دراسة الظواهر الاجتماعية الموضوعية هي ضوابط مثالية إذ لا يمكن أن يتخلص أي باحث من ذاتيته وأفكاره المسبقة . والصعوبة في هذه الحالة هي مشكلة الموضوعية... والتحدث عن الموضوعية يعني التقليل من تدخل الاعتبارات الذاتية في نتائج البحث.
- إن تقسيمه لأنواع الانتحار هو تقسيم متضارب تعوزه الأدلة الواقعية ومناقض للبحوث العلمية لان على سبيل المثال سلوك الإيثار ينتج الراحة النفسية وليس السلوك الانتحاري.وألا لكان أول الناس بالانتحار حاتم الطائي – كريم العرب – والأم قريزا – قديسة مسيحية –
الـخاتـمـة:
دراسة دوركايم عن الانتحار مثال جيد لأهمية الحقائق الاجتماعية غير المادية في عمله. في نموذجه الأساسي، التغيرات في الحقائق الاجتماعية غير المادية تسبب التباين في معدلات الانتحار. ميز دوركايم بين أربعة أنواع من الانتحار – الأناني، الإيثارى، اللامعيارى والقدري – ووضح كيف أن كل منها يتأثر بمختلف التغيرات في التيارات الاجتماعية. دراسة الانتحار اعتبرت بواسطة دوركايم ومؤيديه دليل على أن لعلم الاجتماع مكانة شرعية بين العلوم الاجتماعية. وذكر أيضاً، إذا كان باستطاعة علم الاجتماع توضيح ذلك الفعل الفردي – الانتحار فإنه يمكن استخدامه وبكل تأكيد لتوضيح جوانب في الحياة الاجتماعية أقل فردية.
يسعى دوركايم إلى إبعاد علم الاجتماع كبقية بعض المفكرين الاجتماعيين عن الفلسفة وهي القطيعة التي أحدثها قبله رجال الفكر أمثال توماس الاكويني وكوبرينيك و غليلي ,في حين أن شغفه يتطلع إلى الفلسفة الوضعية التي خاض فيها أوجست كونت أشواطا . وقد طرح دوركايم العديد من الأسئلة في حين بقيت الإجابة غائبة نظرا لكثرة التناقضات التي وقع فيها ولم يفسر بعض الاستفهامات الاجتماعية كتقديمه للمجتمع على الفرد وانتقاله من التضامن الآلي إلى التضامن العضوي بدون أي صيغة ايجابية تهدف إلى توضيح أو تفسير الظاهرة...من جهة أخرى ينسب لنفسه اعتبارات الفرد سابقا للمجتمع بالتأكيد ملاحظة أكد عليها ابن خلدون قبله ويستشف من خلال القراءات المتعددة لمضامين فكره نجده متأثرا بالفكر الماركسي في كل من الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي في الأنساق الاجتماعي عموما ...
مراجع البحث :
-علم الاجتماع الرواد والنظريات... د. مصباح عامر. دارا لأمة
-مدخل علم الاجتماع- صالح شروخ... دار الشروق للنشر والتوزيع
-علم الاجتماع الرواد والنظريات ... د. مصباح عامر... دار الأمة
- مقدمة في علم الاجتماع. إبراهيم عثمان – دار الشروق للنشر والتوزيع.
- دوركايم،قواعد المنهج الاجتماعي،ص.4
- دوركايم،الانتحار،ص.299
- بوب ويتنى،كلاسيكي حول كلاسيكي،ص.12-13
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق