هنا لمحات سريعة عن تشارلز داروين وشيء من سيرته وحياته، وينبغي التنبيه إلى أن الكثير مما ذكره داروين قد سبقه مجموعات من المفكرين والعلماء الغربيين منذ نهاية القرن السادس عشر ولكن داروين كان هو الذي جمع هذه الأفكار في بوتقة واحدة ومزجها وصهرها ووضعها في قالبٍ علمي وعلى محورين (أو مرحلتين) الأول أصل الخلائق (وبعده بعدة سنوات) والثاني ظهور الإنسان، فقد قام بربط الثاني كنتيجة حتمية للمرحلة أو المحور الأول
ولد داروين في سنة 1809م في مدينة شروزبري في بريطانيا، كان والده طبيبًا وجده عالمًا في الطبيعة، توفيت والدته وهو في الثامنة من عمره وتولت تربيته أخته الكبرى، عام 1825م ذهب إلى أدنبرة في أسكتلندا لدراسة الطب ولكنه لم ينجح وكره دراسته، انتقل إلى كامبرج حيث درس العلوم الدينية في كلية المسيح (Christ College) في سنة 1828م، كان يبدي ميولاً كبيرة لتجميع ودراسة الحشرات والنباتات والحفريات ودراسة
الكتب الطبيعية والجيولوجية، تمّ ترشيحه وإرسـاله كعالم طبيعة على سفينة البيقل المخصصة للاكتشافات عام 1831م حيث قضى خمس سنوات في رحلة زار خلالها العديد من الأماكن والجزر في نصف الكرة الجنوبي، أصبح سكرتيرًا للجمعية الجيولوجية عام 1838 ـ 1841م، وقام بنشر العديد من المقالات والأبحاث عن اكتشافاته الجيولوجية والحيوانية أثناء رحلته، تزوج عام 1939م من إيما وجوود (ابنة خاله) (Emma Wedgewood)،
عام 1842م فرغ بالكلية للبحث في اكتشافاته عن طريق الدعم الخاص حيث سكن في منطقة ريفية من مقاطعة كنت (Kent) ببريطانيا، في عام 1844م أظهر جزءًا من نظريته والتي تتعلق بالاختيار الطبيعي Selection) Natural)، في عام 1858م طلب السير لايل وجوزيف هوكر من داروين أن يبعث لهما بكامل نظريته حيث تمّت قراءتها في الجمعية اللينانية (Linnean Society)
حيث قرأ معها مذكرة الفريد والاس والتي كانت تشابه نظرية داروين ولكنها اختصت بملاحظاته عن الملايو (لم يحضر أي من داروين أو والاس هذه المناسبة!)، في عام 1859م قام داروين بطباعة كتابه الأول (أصل الخلائق عن طريق الاختيار الطبيعي (The origin of Species by Means of Natural Selection)، في عام 1871م أصدر كتابه الثاني (ظهور الإنسان والاختيار بالنسبة للجنس) (The Descent of Man and Selection in Relation to Sex)، كما أصدر العديد من المؤلفات والمقالات التي تساند نظريته من ضمنها
(التعبير عن الشعور في الإنسان والحيوان) (The Expression of Emotions in Man and Animals) عام 1872م، وفي عام 1882م توفي تشارلز داروين بعد معاناة طويلة من مرض (تشاقاس) والذي انتقل إليه من عض حشرة أثناء وجوده في البرازيل، وقد خلف ثمانية أبناء، تبنى داروين الكثير من أفكار جده إراسمس داروين والذي كان يتحدث كثيرًا عن التطور، وقد وضع جـده بدايات النظرية عام 1790م،
انتشرت في تلك الفترة الجمعيات السرية المناهضة لتعاليم الكنيسة والتي تنوعت في درجات بغضها للكنيسة؛ من التي تؤيد المسـار العلمي فقط دون التعرض لبقية تعاليم الكنيسة إلى تلك التي تناصب الكنيسة العداء وتعمل بطرق ملتوية ومتخفية على تقويض دعائم الكنيسة، وقد انضم الكثير من العلماء في ذلك الوقت إلى هذه الجمعيات باعتبارها تساند العقل والتجربة وتنافي الخرافات الكنسية، ومما زاد في تشجيع ظهور هذه الجمعيات هو أن تعاليم الكنيسة كانت متناقضة مع الكثير من المكتشفات
والحقائق العلمية، ليس ذلك فحسب بل إن الكنيسة نفسها كانت تحارب العلم وتعتبره مروقًا عن الدين، وقد كانت الماسونية من أشدّ هذه الجمعيات حربًا على الكنيسة، كما كانت بما تظهره من تعاطف مع العلم والعلماء تستقطب الكثير منهم وتروّج لهم وتمكن لهم في مختلف المجالات وخاصةً العلمية منها، وقد استقطبت هذه الجماعة جد داروين والذي حرص عن طريق والد داروين على أن يكون حفيده من المجندين المخلصين للماسونية، وقد وجدت الماسونية بغيتها في داروين فوجهته إلى دراسة الطب أولاً لإضفاء الصفة العلمية ومن ثمّ إلى دراسة العلوم الدينية حتى لا يساور المسيحيين الشك في داروين وحتى تكون أقواله أكثر قبولاً في تلك الأوساط، ولحساسية موضوع الجنس البشري فقد عملت الماسونية على أن يقوم داروين بالتمهيد لها وذلك بإصدار الجزء الأول من نظريته وهو تطور الخلائق في عام 1858م
حتى إذا ما تمّ لتلك الفكرة القبول والاستحسان في الأوساط العلمية خاصة، أصبح الجزء الثاني من النظرية نتيجة طبيعية للجزء الأول؛ لذا فقد قام بإصداره في عام 1871م ـ أي بعد حوالي ثلاث عشرة سنة من الأولى حيث كان جيل من المثقفين قد تشرب الجزء الأول وعلى استعداد لتقبل الثاني بسهولة، ولم يكن داروين وحده الذي أُعِدَّ لهذا الدور بل كان هنالك والاس والذي أرسل إلى الملايو وشرق آسيا ليقوم بدوره بوضع نظرية تشابه ما وضعه داروين حيث تمّ إلقاء الورقتين في نفس الوقت ونفس الجمعية وبدون وجود أيٍ من داروين أو والاس، ومما جعل للنظرية قبولاً في تلك الأوقات هو انتشار الاستعمار الأوربي في العالم وازدياد تجارة العبيد السود من أفريقيا واستيلاء الأوربيين على المواطن الأصلية للهنود الحمر بإمريكا، وللأبوريجينيز باستراليا، وللزولو بجنوب أفريقيا وغيرها من الأماكن فجاءت النظرية الداورينية مبررةً بل
مساندةً لما كان يقوم به هؤلاء، ولا زالت هي الرافد للكثير من أعمالهم، وكما أنها بررت للبريطانيين منحهم أرض فلسطين لليهود ليقيموا كيانهم باغتصاب الأراضي والاستيلاء عليها من أهلها العرب الذين يعتبرهم داروين وأتباعه من الأجناس المتخلفة التي ليس لها أي حقٍّ في الحياة، وصل داروين الدرجة الثالثة والثلاثين في الماسونية ومنح لقب (فارس) (Knight) ولقب بالسير تشارلز داروين قبل وفاته بعدة سـنوات ودفن في مقبرة (Westminister Abbey) في لندن والتي تعتبر مقبرة ملوك وقادة بريطانيا، وظلت هذه النظرية من إحدى نقاط التعارف بين الماسونيين ولا زالت كذلك في بعض الأوساط وخاصةً تلك التي تتشدق بالثقافة والعلمنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق