فواز طرابلسي
(السفير)
2010-08-16
لست أدري كم مرة أعلنت فيها وفاة الماركسية وأقيمت المآتم. لكني أعرف أنه في كل مرة، يتبيّن أن الجثة في صحة جيّدة وأن المرحومة قامت من بين الأموات قبل اليوم الثالث. وأعرف أن آخر مرة أشهر فيها حفارو القبور معاولهم والرفوش كانت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
صورة كارل ماركس الأثيرة عن الشيوعية هي حيوان الخلد. يختفي ليعود إلى الظهور فيالأوقات والأماكن غير المتوقعة. تنطبق الصورة أيضاً على النظرية التي أنتجهاالفيلسوف الألماني الملتحي الذي لقّبه أهله بـ«العربي» بسبب سمرة بشرته.
مثل الخلد، غارت الماركسية في تلك السنوات وأخذت تحفر السراديب ببطء تحتالأرض. وفي أقل من عقد من الزمن، عادت للظهور أقلاً في ثلاث أمكنة مفاجئة. وبينماكان الناس يطمرون الجثة في أوروبا، ظهر الكائن الحي في أميركا الجنوبية، ووصل عددمن الحركات اليسارية والشعبوية المتأثرة بالماركسية إلى السلطة في البرازيلوفنزويلا وبوليفيا والباراغواي عن طريق الانتخابات النيابية، ومن خلال حركاتاجتماعية منظمة وفعالة تضم ملايين من البشر. يمكن تسمية تلك العودة عودة لجثة أخرىساد الظن أنها قد دفنت وانتهى أمرها بعد اكتشاف بقاياها في مطار بوليفي. هي عودةتشي غيفارا من بين الأموات.
وكان هذا في الوقت الذي يحتفل فيه العالمالرأسمالي بنهاية التاريخ حسب رواية السيد فوكوياما.
من جهته، أعلن صموئيلهانتنغتون نهاية التفسير المادي والاقتصادي للتاريخ والمجتمع وانتصار التفسيرالثقافوي. أفتى بأن البشر ينقسمون ثقافات وحضارات مغلقة ومتصارعة أساسها الدين. وهممتراتبون وفاقاً لما تحمله ثقافاتهم ذات الجواهر الفريدة من قيم تساعد على التقدّمأو تعيقه. جاء الرد على هانتنغتون على شكل فوران من الإنتاج النظري والأكاديميوالثقافي والأدبي، المستوحى من الماركسية، غمر الحياة الفكرية الغربية، وخصوصاً فيالبلدان الأنغلوساكسونية. تكفي الإشارة إلى النفوذ الكاسح لتيار «الدراساتالثقافية» الذي أطلقه يساريو جامعة برمنغهام البريطانية وإلى مفرقعات السلوفينيسلافوي زيزك النظرية، وقد أعاد الوصل بين ماركسية خلاقة والثورة التي أطلقها جاكلاكان في علم النفس الفرويدي، ناهيك عن نظريات الأميركي فريدريك جايمسون اللامعة فيدور الثقافة في «الرأسمالية المتأخرة» وأهمية الطوبى في فكر البشر وسلوكهم.
وفيما كان هذا التيار اليساري في الثقافة ينازع ثقافوية هانتنغتون في عقردارها، لاح شبح الماركسية مجدداً في خلفية الأزمة المالية الأخيرة التي هزّت العالمالرأسمالي. أكدت الأزمة صحة نظريات ماركس عن دورية الأزمات في الرأسمالية وعن أحدمصادرها انتقال رأس المال من القطاعات الإنتاجية إلى القطاعات المالية. فجأة صاركتاب «رأس المال» مرجعاً لرجال الأعمال علّهم يكتشفون فيه أسباب الأزمة وسبلتجاوزها.
فؤاد خليل من الذين يؤمنون بقيامة الماركسية.
يضم كتابه مجموعة نصوص متفاوتة من حيث طبيعتها ـ بين مقالة ودراسة وبحث ـ ومن حيث الموضوع وزمن الكتابة. مؤلفها عالم اجتماع يرتقي من التحليل السوسيولوجي إلى التأملات الفلسفية ليختم على مقترحات عن النهضة الفكرية العربية ومهمات تجديد اليسار فيلبنان. ولكن يجمع بين هذه النصوص همّ رئيسي هو إثبات شمولية الماركسية وراهنيتهاعبر مفاصل ثلاثة: الأول هو إعادة الاعتبار النقدي للنظرية الماركسية بما هي نظام معرفي موجّه نحو التغيير. والثاني، تحريرها من المركزية الأوروبية. والثالث، السعي لحلّ إشكالية العلاقة بين الماركسية والعالم العربي.
تلقي هذه المقدمة الأضواء على عدد من المقولات المميزة في إسهام فؤاد خليل في هذا الجهد، قبل أنتسجّل ملاحظات نقدية مقتضبة تطمح إلى أن تكون مقدمة لحوار.
في التنقية النقدية
يبدأ فؤاد خليل شغله النظري بجملة من عمليات التنقية النظرية. يميّز الماركسية عن التفسير الاقتصادوي الاختزالي السائد، فيؤكد على أن الإنتاجالاقتصادي عملية تتم في «مركّب من العلاقات الاجتماعية» هي موضوع المعرفة فيالماركسية. ويعرّج على الصورة الدارجة عن القاعدة الاقتصادية والبنية الفوقيةالسياسية والأيديولوجية ليثبت علاقة التفاعل بينهما. ففي الدولة ـ أي في البنيةالفوقية ـ يعاد إنتاج التمايزات الطبقية؛ وفي الدولة يجري تعديل البنية الطبقية؛وأخيراً في الدولة يجري إنتاج علاقات طبقية جديدة متوسلة العنف أو الموقع السلطوي.
بناءً عليه، يجري فؤاد خليل جردة حساب لما للماركسية وما عليها. فيرى عناصرراهنيتها في مبدئها المادي وفي منهجها السوسيولوجي وحداثتها وطبيعتها التغييريةوعدم تمييزها بين البشر وفي اكتشافها قوانين الرأسمالية التي لايزال معظمها فاعلاًفي الرأسمالية المتعولمة المعاصرة. لكنه من بين هذه العناصر المكونة للماركسية يعطيالأولوية لطابعها التاريخاني.
في المقابل يأخذ المؤلف على الماركسية عدمتعمقها في دراسة نمط الإنتاج الآسيوي، وثنائية التحليل الطبقي، وعدم كفاية مفهومالتناقض للتعبير عن حركة الواقع الاجتماعي، فيضيف إليه «الاستقطاب» و«التكامل» و«التسوية». ويعارض خليل لجوء ماركس إلى النبوءة واختزال الأيديولوجيا بـ«الوعيالزائف» مشدداً على الجدل بين المعرفي والأيديولوجي. وأما عن الدولة الطبقية فيعارضالقول إنها تقوم على القمع فقط فيضيف «نيل الاعتراف والشرعية». وهو نقد يشوبهالتباس. ذلك أن دور الدولة الطبقية في مزج العنف والطواعية هو في صلب الماركسية (أنظر غرامشي مثلاً). علماً أن المؤلف نفسه يعود فينتكس عن هذا التعيين الثنائي فينصه عن الدولة حيث يخلص إلى أن «العنف هو المضمون الطبقي للدولة» ص255.
المساواة
تقول إحدى الطروحات البارزة في الكتاب إن مقولة المساواةهي المقولة الأساس في الماركسية. قد لا يوافق ماركس على اعتبار المساواة أساساًفلسفياً لمذهبه لأنه يرى إلى ذاته عالماً يكتشف قوانين اجتماعية وتاريخية ويدعوإليها. وفي دعوته تلك يتحول العلم إلى عقيدة.
مهما يكن من أمر، ففؤاد خليليلقي هنا ضوءاً كاشفاً على زاوية من الماركسية يغشاها الظل. إذ يصعب فهمها بما هيمنظومة متكاملة بمعزل عن محورية مفهوم المساواة فيها. والحقيقة إن أبرز مميزاتالماركسية هي أنها تقوم على الربط بين مفهومي وقيمتي الحرية والمساواة. وليس منقبيل المصادفة أن تكون المحطة الفاصلة في التاريخ بحسب رؤية ماركس هي العبور من«مملكة الضرورة» إلى «مملكة الحرية». ذلك أنه رأى أن لا حرية ممكنة للبشر إلا بعدتحررهم من الحاجات المادية الأساسية. والحال فإنَّ الرأسمالية مهّدت الطريق أمامتلك الإمكانية لأنها نمط الإنتاج الوحيد الذي تجاوز حالة الندرة، أي أنه سمح أخيراًبأن تنتج البشرية من الفوائض ما يسمح بسدّ الحاجات الأساسية لجميع البشر من غذاءوسكن وصحة وعلم وحد أدنى من الحياة الكريمة، لكن بشرط إزالة العائق الأكبر أمامتحقيق هذه الأهداف الذي هو الرأسمالية ذاتها وركيزتها الأساسية: الملكية الفردية.وهكذا، فمملكة الحرية تلك هي هي مملكة المساواة حيث تزول الطبقات وتضمحل الدولةبحيث ينتهي التناقض بين الفرد والمجتمع وينظّم البشر حياتهم في نظام تعاوني حيث «التطور الحر للفرد هو التطور الحر للمجموع».
ومن دون حسبان مبدأ المساواةعلى أنه المبدأ الأساس في الماركسية لن يمكننا فهم معنى الثورة الإنسانية الكونيةالتي تحملها الماركسية. ولن يمكننا، كذلك، فهم تحليل ماركس النقدي للديمقراطيةالسياسية. ففي تشريحه للتناقض الذي تقوم عليه الديمقراطية في ظل المجتمع الرأسمالي،يطرح أن المساواة القانونية والسياسية للمواطنين في الدولة الديمقراطية إن هي إلّاالوجه الآخر للامساواة ـ أي للتمايزات والفروقات الطبقية ـ السائدة في المجتمع. بليمكن القول إن الديمقراطية السياسية هي ذلك الشكل من المساواة في الدولة الذي يسمحباستمرار وإعادة إنتاج اللامساواة، الفوارق الطبقية، في المجتمع. هكذا كان مؤسسوالماركسية يرون إلى الاشتراكية بما هي تجاوز للديمقراطية السياسية بواسطةالديمقراطية الاجتماعية. مثلما رأوا إلى الديمقراطية الاجتماعية على أنها النظامالاقتصادي الاجتماعي الذي يسمح بتجاوز الديموقراطية السياسية، القائمة على التمثيلالنيابي المحدود وغير المباشر، إلى الديموقراطية الشعبية المباشرة. ومن هنا فإنّالأحزاب العمالية الأولى التي تبنّت الماركسية تسمّت أحزاباً «ديموقراطية اجتماعية» أو «ديموقراطية اشتراكية».
وجرياً على ذلك، كان ماركس، داعية الثورةالديموقراطية السياسية، يؤكد على أن أكبر خطر يتهدد ذلك النظام هو لاديمقراطيةالعلاقات الاجتماعية، أي طابعها الطبقي. وكان يمثّل على ذلك بالقول إن التجارة هيالخطر الأكبر الذي يتهدد حرية الصحافة وحرية الرأي. وهو حكمٌ يكتسب أحجاماً مضاعفةمن الأهمية مع ثورة الاتصالات والمعلوماتية في عصر العولمة والمجمعات الإعلاميةالاحتكارية الجبارة التي تتحكم بما نعرف ولا نعرف من أخبار وأنباء وتعليقات عنالمجريات اليومية لكوكبنا.
ومهما يكن، فليس من قبيل التفصيل على الإطلاق أننستدرك بالقول إن الماركسية هذه ارتبطت، في الممارسة العملية، بوأد الحرية بحجةالمساواة أو هي شرعنت تأجيل الحرية باسم أولوية المساواة. ولا بد لأي جهد في تجديدالماركسية وتنقيتها من أن يعيد الاعتبار إلى العلاقة العضوية بين الديموقراطيةالسياسية والديموقراطية الاجتماعية. تتم الثانية في كنف الأولى. تحصّنها وتتحصّنبها.
الدين
يتناول فؤاد خليل نقد ماركس للدين بما يؤكد أن منهجيةماركس في هذا الموضوع تتجاوز المنهج العقلانوي الذي لا يرى في الدين إلا نور العقليبدد ظلمات الغيب. فالإسهام المميّز للماركسية في مسألة الدين هو أنها تبحث فيوظيفة الدين. تنقّب عن أسباب حاجة البشر إلى الدين. وتجيب في ذلك المقطع الشهير عنالدين بما هو «الزهرة الوهمية على قيد العبد»، «زفرة المقهور»، «روح عالم بلا روح»، «أفيون الشعب». للمناسبة، الذين يفسرون عبارة «الدين أفيون الشعب» على أنها تعنيالدور التخديري للدين، يتناسون أن الأفيون كان ولا يزال دواءً بالغ الفاعلية لتخفيفالأوجاع. ثم لا بد من ملاحظة عبارة «روح عالم بلا روح»: إنها تصفع الذين يخلطون بينالمادية والمثالية، فيفسرون المادية تعلّقاً بالماديات بمعناها المبتذل ونقيضاًللروح التي يجري تقديمها على أنها تكثيف للقيم الأخلاقية والمثل العليا. يقلب ماركسالآية: الحضارة الرأسمالية هي التي سلبت البشر روحهم، فيحرر الروح في ضربة واحدة منالاحتكار الديني والرأسمالي للسمو والتعالي والقيم الأخلاقية. وكم هي صحيحة هذهاللفتة للتأمل في الردة الحالية نحو التديّن تحديداً بسبب خواء رأسمالية عصرالعولمة القيمي وفسادها الأخلاقي وفقرها الروحي.
لا يكتفي فؤاد خليلبالخلاصة التي يتوصل إليها ماركس من أن الحاجة إلى الديانات تزول بزوال الظلموالاستغلال بين البشر. يضيف إلى حاجة البشر إلى الدين حقيقة أن الدين يملك إجابةعلى لغز حتمية الموت، وفي ذلك يكمن الأساس الدائم لاستمرار الديانات واستمرارالحاجة إليها (ص79). نقول «إجابة» الدين عن لغز حتمية الموت والأحرى الحديث عنحكاية أو رواية أو تخييل أو تعويض أو وعد.
إلى هذا يذكّر المؤلف بأن الدين،في وظائفه، يتجاوز أحياناً دور التخفيف من الأوجاع، ليصير طاقة تعبئة للبشر ودفعهمإلى النضال من أجل حقوقهم وطموحاتهم وأحلامهم في معارك تحررهم الوطني والسياسيوالاجتماعي. اكتشف ماركس وانجلز هذه الوظيفة للدين عندما انتقلا من النقد الفلسفيللدين في المطلق إلى معاينة الديانات في حركتها التاريخية، أي الدين بما هو حركاتاجتماعية. فاكتشفا أن كل ديانة تتمظهر وتتقولب حسب الزمان والمكان والمجتمع الذيتشتغل فيه وتنحكم تأويلاتها المختلفة بالمواقع والشرائح الاجتماعية التي تحمل تلكالتأويلات أو تستغلّها. فثمة دين للحكام ودين للمحكومين ودين للمستغلّين والمستغلينوهلم جرا. وتجدر الإحالة في هذا الموضوع إلى كتاب انجلز عن الحروب الفلاحية فيالمقاطعات الألمانية في القرن السادس عشر حيث يروي، بوضوح، كيفية تصدّع الوفاقالاجتماعي للجماعة البروتستانتية جراء الصراع الطبقي بين الفلاحين والنبلاء الحكام. فتستولد الثورة الفلاحية تياراً هرطوقياً هو الأنابَبْتية، لا يلبث أن ينشقّ عنالحركة البروتستانتية بعدما انحاز مارتن لوثر، مؤسس البروتستانتية الرسمية، إلى صفالأمراء الحكّام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق