عبد القادر شرشار
يشكل التراث الثقافي غير المادي بالنسبة لكثير من الشعوب والأمم مصدراً ثرياً تتناقله الأجيال بصفة متواترة، وتعيد بعثه مرة أخرى طبقاً لتاريخها وخصوصياتها الاجتماعية والعقدية ومستوى تفاعلها مع المجالات الطبيعية، وهو بهذا كفيل برسم هويات هذه الجماعات وانتماءاتها الحضارية، لأنه يحيل على وضعيات وحالات متجذرة في التاريخ، ذلك أن ما تحمله الذاكرة الشعبية من قيم ولغات، وطرق تفكير واعتقادات وممارسات وتمثلات اجتماعية وفردية تشكل طابع ونمط حياة يكسب أصحابها الإحساس بالهوية والاستمرارية، ويسهم في تعزيز احترام التنوع الثقافي والإبداعي للإنسانية، حسب ما جاء في مواثيق اليونسكو.
ونظراً لاتساع التراث الشعبي غير المادي، فإنه يمكن للأفراد والجماعات أن يكونوا منتجين وحاملين لهذا التراث في آن واحد، وتعتبر الأمثال الشعبية عنصراً حيوياً من عناصر الموروث اللامادي تقوم على ما تنتجه جماعة إثنية ولغوية معينة في ظروف تاريخية وجغرافية معينة.وحرصا على الحفاظ على هذا الموروث اللامادي تسعى الهيئات الوطنية والدولية بالإضافة إلى بعض الجمعيات والمؤسسات العلمية المتخصصة إلى خلق قنوات للتواصل بينها قصد تجميع وصيانة هذا الموروث، وقد أوصت هيئة اليونسكو في دورتها الخامسة والعشرين بباريس عام 1989 بتبني هذه المبادرة والعمل على مساعدة الجهات المختصة للقيام بما من شأنه أن يصون هذا الموروث ويحافظ على تعدد الهويات والثقافات العالمية.
وليس من باب الصدفة أن يعتبر بعض الباحثين الأمثال الشعبية مدونة في غاية الأهمية لبناء بحوثهم الميدانية، ومقارباتهم العلمية، ومن هذا المنطلق أدرجت بعض الجامعات العالمية ضمن برامجها العلمية المثل باعتباره حقلا معرفياً مستقلاً، وأطلقوا عليه مصطلح: Paraméologie . وقد عقدت مؤتمرات علمية حول المثل باعتباره خطاباً متميزاً في جامعة ليل بفرنسا وغيرها من المؤسسات العلمية في الغرب، كما شكل موضوع الأمثال الشعبية محوراً هاماً ضمن اللقاءات العلمية التي عقدتها بعض المؤسسات العلمية والجامعات بالجزائر والمغرب العربي.
وتعتبر كلودين شولي ومن خلال مسارها الطويل في البحث أن علماء الاجتماع في البلاد المغاربية قد استوعبوا ضرورة القيام بمقاربات تفهامية حول المأثور الشعبي ولا سيما الأمثال الشعبية، وتؤكد قيمة هذا المتن في دراسة التحولات الاجتماعية والاستماع الدقيق للثقافة وهي تتشكل(2).
قيمة المثل كموضوع للبحث في المجال السوسيولوجي:
إذا سلمنا بأن الأمثال الشعبية تحتل حجماً معتبراً من الذاكرة الشعبية، على اعتبار أنه من الأشكال التعبيرية الأكثر انتشاراً وشيوعاً بين الناس، حيث لا تخلو أية ثقافة منه(3). فإن هذا الموروث الشعبي يمكن تصنيفه في خانة "الموسوعية"التي حددها الجاحظ في قوله المشهور:"الأدب هو الأخذ من كل شيء بطرف"، فالأمثال الشعبية من وجهة نظر سوسيولوجية يمكن أن تعبر عن الحياة عبر سلسلة أقوال نثرية، لا تخضع ظاهرياً لنظام معين، غير أنها متكاملة في موضوعاتها، ومستقلة لغوياً في بنيات قصيرة، تعكس قيماً فنية وفكرية بل وحتى حضارية، تؤدي وظائف شتى:كالتعليمية، والتسلية، والنهي والزجر والدعوة إلى التآلف وغيرها من الوظائف، ومن هنا يمكن ربطها بمؤسسة التواصل المعرفي الشفوية.فالمثل الشعبي بالإضافة إلى كونه عنصراً من عناصر الثقافة الشعبية، التي يعتبرها بعضهم مرآة لطبيعة الناس ومعتقداتهم، لتوالفها وتغلغلها في معظم جوانب الحياة اليومية، تعكس المواقف المختلفة، بل تتجاوز ذلك أحياناً لتقدم أنموذجا يُقتدى به في مواقف عديدة.كما تساهم الأمثال الشعبية في تشكيل أنماط اتجاهات وقيم المجتمع مما جعل بعض الباحثين والمهتمين بدراسة الثقافة الشعبية يجعلونها محوراً أساسياً في أعمالهم البحثية، لما يتسم به المثل من خصائص تساعد على تتبع نشأته، فلكل مثل حكاية تشكل أنموذج حياة وتماثُل مع التجربة التي أحاطت بمن ضرب به المثل(4).
نشأة الأمثال:
المثل فن قديم، يصاغ انطلاقاً من تجارب وخبرات عميقة، يحمل تراث أجيال متلاحقة، يتناقلها الناس شفاها أو كتابة، تعمل على توحيد الوجدان والطبائع والعادات، ولذلك يعدها البعض حكمة الشعوب، وينبوعها الذي لا ينضب، وقد تقوم في هذا المجال بدور فعال في دفع عجلة المجتمع إلى الأمام باتجاه التطور والبناء.لذلك ينظر إليها باعتبارها وثيقة تاريخية، واجتماعية(5).
إن نشأة المثل غير واضحة تماماً، فليس هناك من يجزم بأمر في تاريخ نشأته ومكانه، والأرجح أن يكون نشوء المثل قد ترافق مع ذيوع الكتابة.
وقد تحدث الباحثون عن تنوع مصادره، فبعضها تفرزه حكاية شعبية أو نكتة لا يعرف قائله، وبعضها الآخر مقتبس عن الفصحى مع ما يصحب هذا الاقتباس من تحريف وتصحيف وتعديل، وبعضها مستخلص من التراث الطبي وغيره، مما يؤكد قدم هذا التراث، ولعل الكثير منه ضاع ويضيع يومياً، وما يحول دون ذلك هو كثرة مثل هذه الحلاقات العلمية والندوات وأعمال المخابر المختلفة.
يغلب على الأمثال أنها تعبير عن الحكمة الشعبية بين الناس، إنها جنين تجربة وبداهة فرد، رسختها الشفاه الشعبية نتاجاً جماعياً، فأضحت حكمة الأجيال وصوت الشعوب(كما تقول جمانة طه في كتابها القيم:موسوعة الروائع في الأمثال والحكم 2002)(6).
وقد تنبهت بعض الأمم قديما (كالسومريين والكلدانيين مثلا) إلى جعلها وسيلة تعلم، فنقشوها على ألواحهم، مما يؤكد فكرة كتابة الأمثال عكس ما يروجه البعض كونها تراثاً شفاهياً لدى الشعوب القديمة.
ظهر الاهتمام بالأمثال في العصر الجاهلي عند العرب، حيث سجل الشعراء ذلك في بعض أشعارهم كما تبدى الاهتمام بها في العصر الإسلامي الأول من خلال إعجاب الرسول (() بالذين نطقوا بالحكمة، وتفوهوا بالمثل، وقد ردد الكثير منها في بعض أحاديثه الشريفة ولا سيما المأثورة منها عن النبي لقمان عليه السلام.
جاء في رسالة بعث بها الخليفة عمر بن الخطاب(ر) إلى الأنصار:"علموا أولادكم العوم والفروسية، ورؤُوهم ما سار من المثل وما حسن من الشعر".
وكاد أن ينقطع تدوين الأمثال وجمعها في عصر الدويلات والطوائف، لولا أن محمد بن أحمد الأبشيهي(ت825هـ) وضع كتابا أسماه " المستطرف من كل فن مستطرف" جعل فيه باباً خاصاً بالأمثال الشعبية العامية(7).
وفي مطلع القرن العشرين نشأ في الغرب أدب يسمى بأدب"الفكلور" يُعنى بجمع التراث والمأثور ودراستهما، ومن جديد رأوا في الأمثال الشعبية مرجعاً أساسياً للتعرف على هوية المجتمع ومكوناته.
ومع زوال الحدود الثقافية بين الشعوب والأمم في عصر العولمة، برزت أهمية العودة من جديد لهذا التراث لتأكيد الوجود الحضاري للأمة العربية والإسلامية، ولعل هذا ما يفسر ظهور بعض المؤلفات لأقلام متخصصة وغير متخصصة تجمع ما أمكنها من أمثال متداولة وشائعة، فصيحة وعامية، وإن اختلفت المناهج في هذه المؤلفات إلا أن الفكرة طيبة والغاية نبيلة.
يؤكد المختصون أن نشأة المثل تكون عبر مصدرين:
ـ الإنسان العادي الذي يعكس كلامه تفكيره الواقعي.
ـ الإنسان المفكر، الفيلسوف الذي يقرأ الواقع ويحاول تعليل الظواهر وشرحها وتفسيرها، وهو ما نعثر عليه في كتب الآداب والتاريخ وغيرها.
الكثير من هذه الأمثال مبني حول قصة واقعية أو حادثة معروفة في التاريخ، إلا أن هناك كثيراً منها بني على خرافة أو أسطورة أو حكاية شعبية من الوسط العامي.
لذلك يعتقد بعض الباحثين الاجتماعيين أن الأمثال الشعبية ليست وليدة نظام فكري أو سلوكي كما أسلفنا، بل هي رؤية تعبر عن السيرورة الحضارية للشعوب في ارتباطها بماضيها وحاضرها ومستقبلها، حيث يشترك أكثر من ظرف في نسج صورة المثل، وعلى العموم يساهم في بناء المثل العلماء ورجال الدين والسياسة والأفراد العاديين البسطاء مما يعطي المثل ديناميكية التأثير، ويربطه بالأحداث والمواقف المختلفة في الحياة اليومية(8).
واللافت للانتباه هو تشابه بعض الأمثال لدى الأمم والشعوب على الرغم من طابع الخصوصية التي تتحلى بها هذه الشعوب والأمم، ويمكن أن يرد هذا التشابه في جانب كبير منه إلى حقيقة هامة وهي أن مضمون هذه الأمثال واحد في كل مكان وزمان، بالإضافة إلى ظاهرة التأثير والتأثر الناتجتين عن رحلة الثقافات وامتزاجها.
وتأسيسا على ما قدمنا يعتبر المثل الشعبي من أكثر فروع الثقافة الشعبية ثراء في اللغة، يعبر في معظم حالاته عن نتاج تجربة شعبية طويلة تلخص من خلال حكمة(9)، واعتمادا على ذلك يعكس المثل بصدق عادات الشعوب وأسلوب عيشهم ومعتقداتهم ومعاييرهم الأخلاقية.
والأمثال في تصويرها لأنماط البشر وسلوكهم الإنساني بكل أشكاله تلقي الضوء على ضرورة المحافظة على بعض القيم كصلة القربى التي ركز عليها الإسلام، وأوصى بها القرآن " وأُلوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله"، وقول رسول الله (ص):"من أحب أن يُبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه"، وامتدادا لهذه الروح جاءت الأمثال مرددة: (نقطة دم ولا قنطار محبة)، (ما تجوز صدقة وأهلها جياع).
كما اهتمت الأمثال بتصوير المخادع والمحتال والتحذير منه (مية من تحت تبن)، (يفتي على إبرة ويبلع مسلة)، (عامل إمارة وأخته بالخمارة)
وهكذا يتبين لنا من مجمل ما تقدم أن الأمثال الشعبية تترجم المخزون الديني والقيم الاجتماعية في ذاكرة ابن الشعب، وفي المحصلة يمكننا القول إن هناك توافقا بين التوجيهات الدينية والأمثال، ولا مناص لدارس علم الاجتماع الديني من الوقوف على هذه الدلالات.
وقد أكدت الدراسات الميدانية في هذا الحقل أن المثل ليس مجرد شكل من أشكال الفنون الشعبية، وإنما هو صراع مع الحدث يدفع بالفرد أو الجماعة إلى صياغة المثل، لذلك نلاحظ سرعة تأثيره في المجتمع وانسياب هذا التأثير إلى أعمق أعماق الأوساط الشعبية بمختلف تركيباتها(10).
وتسري قاعدة النشأة والتأثير في المجتمعات البشرية كلها وإن اختلفت مرجعياتها الدينية والثقافية والإثنية. فالأمثال الشعبية بهذه الأهمية يمكن أن نتصورها مؤلفا ضخما يقرأ فيه الباحث المهتم بهذا الحقل أخلاق المجتمع وعاداته وطرق تفكيره، ولعل هذا ما حدا بالاستعمار الفرنسي إلى الاستعانة بعلماء الاجتماع والإثنوغرافيا والأنتروبولجيا حيث وفرت السلطات الفرنسية حينها لهؤلاء كل ما من شأنه مساعدتهم للوصول إلى جمع التراث بما فيه الأمثال وإجراء دراسات حوله وتزويد السلطات العسكرية بنتائج هذه البحوث، وقد كان بعض القادة العسكريين يعتمدون في مخططاتهم واستراتيجيتهم الحربية واللوجستية للتغلغل في الجنوب الجزائري اعتمادا أساسيا على نتائج هذه البحوث.وعلى الرغم من تعارض بعضها مع المصالح الوطنية لمجتمعاتنا آنذاك إلا أنها تمثل اليوم مرجعيات لا غنى عنها للبحاثين الجزائريين ـ وغيرهم ـ في العلوم الاجتماعية والإنسانية الخاصة بالمجتمع الجزائري.وإن كانت هناك رؤية أخرى من الجيل الجديد للإثنوغرافيين والأنثروبولوجيين ومنهم جيلنر ممن يقللون من قيمة هذه الكتابات ومصداقية بعض المراجع والأعمال المنجزة في الفترة الاستعمارية تحت طائلة أنها أنجزت بالاشتراك وبمساعدة المستعمر العسكري، الأمر الذي يقلل من علميتها وبالتالي يفضل استبعادها من دائرة البحث الجاد.
تعريف المثل:
اختلف مفهوم المثل في الكتابات القديمة، ويبدو أن ذلك راجع للتأثر بالرؤى والمرجعيات التي انطلق منها أصحاب هذه التعاريف من لغويين وفقهاء ومؤرخين وغيرهم، فقد عرف أبو عبيد القاسم بن سلام(ت242) في كتابه الأمثال، فيقول:"هذا كتاب الأمثال، وهي حكمة العرب في الجاهلية والإسلام، وبها كانت تعارض كلامها، فتبلغ بها ما حاولت من حاجتها في المنطق، بكناية غير تصريح، فيبلغ لها بذلك ثلاث خلال:إيجاز لفظ وإصابة معنى وحسن تشبيه"(11).
ويرى إبراهيم النظام(ت231هـ) أنه " يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام، هي:إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكتابة"(12)
وقال الماوردي (ت450هـ) في كتابه أدب الدنيا والدين:"للأمثال من الكلام موقع الإسماع، والتأثير في القلوب، فلا يكاد المرسل يبلغ مبلغها، ولا يؤثر تأثيرها، لأن المعاني بها لائحة، والشواهد بها واضحة، والنفوس بها وامقة، والقلوب بها واثقة، والعقول لها موافقة، فلذلك ضرب الله الأمثال في كتابه العزيز وجعلها من دلائل رسله، وأوضح بها الحجة على خلقه، لأنها في العقول معقولة، وفي القلوب مقبولة."(13)
وهي صفات وتعاريف تشترك فيها الأمثال الفصيحة والشعبية على حد سواء، وتذهب جمانة طه في "موسوعة الروائع في الحكم والأمثال" أن الأمثال التي قيلت بالفصحى وعاشت متداولة بها، هي محصول عهد قديم كانت فيه الفصحى لغة التخاطب اليومية، ولذلك فوجود بعض الأمثال لها نصوص بالفصحى وأخرى بلهجة أو لهجات عامية، إنما هو دليل على تواصلها مع الحياة وانتقالها من جيل إلى جيل.(14)
ويبدو من استقراء هذا الموضوع في المصادر القديمة أن مدونة الأمثال من أكثر الأشكال التعبيرية التي أثارت اهتمام الدارسين، فقد أفرد لها علماء اللغة والمؤرخين والفقهاء وغيرهم مؤلفات جليلة، من بينها:
- المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لابن الأثير
- كتاب الأمثال لابن السكيت
- مجمع الأمثال لأبي الفضل أحمد بن محمد النيسابوري الميداني المتوفى عام 518هـ.
وقد توزعت هذه المصنفات عبر ثلاثة توجهات:اهتم التوجه الأول بنص المثل باعتباره شاهداً نحوياً أو بلاغياً، في حين نحا التوجه الثاني نحو الاهتمام بنص المثل في علاقته ببعض القصص والحوادث التاريخية العربية.أما التوجه الثالث، وهو الأكثر شمولية، فقد اشتغل على ربط المثل بمصدره الاجتماعي، وبمفهومه المجازي، ومضرب مثله، وتمثل هذه المصنفات في مجموعها رصيداً معرفياً قيماً حول مدونة الأمثال(15).
أما في العصر الحديث، وبعد تجاوز مسألة التعريف، فقد تم التركيز على جمع ودراسة الأمثال الشعبية، وفق مقاربات علمية استفادت من الركام المعرفي ومناهج البحث الحديثة، وقد اتجهت هذه الدراسات في مجملها إلى اتجاهين اثنين، حيث اشتمل الاتجاه الأول على الدرسات التفسيرية والتعليلية والتأويلية التي استفادت من نتائج العلوم الاجتماعية والنفسية والتاريخية ولا سيما تطبيقاتها، لكنها وقفت عند مستوى المضامين وما أفرزته من قيم، كما أنها لجأت إلى تصنيف المادة المثلية إلى موضوعات وحقول دلالية معينة، كحقل الأسرة والأخلاق، والزراعة، والسياسة والاقتصاد وغيرها.ويبدو أن هذا النوع من المقاربات على الرغم مما وصل إليه من نتائج إيجابية يكون قد مارس نوعاً من التعسف المنهجي في قراءة المدونة، حيث حصر المثل في حدود موضوعاتية، من شأنها أن تسجن النص المثلي وتقلص من حركيته المعنوية ودلالاته العميقة.
أما الاتجاه الثاني فقد اهتم ببنية المثل النصية، اقتداء بالتوجهات البنيوية واللسانياتية والسيميائية؛ أي درس المثل باعتباره نصاً قائماً بذاته، وعزله عن محيطه الاجتماعي والثقافي وسياقاته المتعددة الحضارية والتاريخية من أجل استخلاص عناصره الأدبية، وقد مثل هذا الاتجاه في المغرب العربي كثير من الدارسين منهم الباحث المغربي: عبد الكبير خطيبي في دراسته للمثل المغربي، حيث يبدو تأثره الكبير بمدرسة باريس للسيميائية ولا سيما زعيمها غريماس(16).
ويبدو أن هذا الاتجاه أهمل البعد المضموني للمثل، الذي يمثل جانبه الحيوي وديناميته الدلالية، لأن مقاربة المثل اعتماداً على عناصره اللغوية المشكلة لبنيته النصية لا تكفي وحدها.
وتأسيساً على هذا العرض، يبدو أننا بحاجة اليوم إلى التفكير في اتجاه ثالث يستفيد من معطيات الدراسات اللغوية، التي تهتم بالتواصل البشري، وأعني به ها هنا "التحليل التداولي" الذي يعتمد على مستويات كثيرة من الوصف، لأنه يستند على مكاسب المعرفة اللسانية والبلاغية والفلسفية، وعلى دراسات علمية في مجال العلوم الإنسانية مما يجعل المقاربة التداولية تتسم بطابع التوسع والثراء والشمولية، لأن من شأن التحليل التداولي أن يشمل تحليل الظواهر المجاورة للغة، ابتداء من السياق المرجعي وانتهاء بالمعطيات الثقافية والاجتماعية.
ظاهرة التناقض في الأمثال الشعبية:
يؤثر المثل الشعبي في سلوك الناس بشكل كبير كما سبقت الإشارة إلى ذلك، غير أنه من المفيد أن نلاحظ هنا أن كثيراً من هذه الأمثال تتناقض أحياناً حتى ولو ارتبطت مصادرها بسياق مجتمعي وظروف جد متشابهة، إلا أن هذا التناقض ظاهري فقط، لأن الحالات الاجتماعية والتجارب الفردية شديدة التغيير والتنوع، ولكل حالة تجربة ما، تعبر عن مثل بعينه، ولو اكتفت الأمثال بذكر جوانب معينة وأهملت أخرى سعياً وراء تلافي السقوط في المتناقضات لما عُد المثل صورة للفكر الشعبي وخبراته، ولكانت الأمثال تعبيراً عن جزء ظاهري، واختفت جوانب حياتية أخرى كثيرة، لأن الأمثال لا تقوم قطعاً بإظهار سلوك فئة مميزة من البشر في مظهر منطقي متجانس وأمام وضعية بحث معينة، بل الأمثال خزانة للتراث، تتراكم فيها صور الحياة، وعبرها تبرز التناقضات الحياتية، وتنوع المواقف البشرية، وفق الظروف المحيطة بالحادث.
ليست الأمثال إذن ذات موقف أخلاقي أحادي ثابت، بل إنها تتضمن أحياناً نوعاً من التضاد يثير الدهشة ويستدعي الابتسام، فالحياة ليست كلها جداً ومثلاً عليا، بل هي خليط من جد وهزل وخير وشر وحق وباطل، والحياة ملأى بهذا التناقض الذي يعكس جدلية الحياة، فلكل حالة لبوسها كما يقال، فقد تجتمع الرحمة مع القسوة في مثلين يعالجان حالة اجتماعية واحدة.إن مجتمعات أنجبت الجاحظ الذي كتب "المحاسن والأضداد" يمكنها أن تتقبل بل بإمكانها أن تدرك وتتذوق هذه التناقضات والأضداد التي تحفل بها مدونة الأمثال العربية.
أمثلة هذا التناقض على صعيد النص:
من بين المفارقات في رصد أحداث الحياة التعامل مع مظاهر البخل والكرم، فقد يستسيغ المجتمع تارة هذا ويتنكر طوراً له.هناك أمثال تحث على الكرم والجود، وأخرى تدعو إلى الاعتدال وأحياناً إلى الحيطة والحذر من يوم الشدة، (البطنة تذهب الفطنة) ـ اللي يصرف ما يحسب.
كما أن صلة القربى حقل قيل عنه الكثير، تارة تدعو الأمثال إلى التمسك بروابط صلة القربى وطوراً تحذر من القريب:(البعد عن الناس غنيمة) ـ (الأقارب عقارب) ـ (أهلك لا تقربهم، يقرصك عقربهم) ـ
(سوء الظن عصمة)، وفي المقابل (الناس للناس)، (إيد وحدا ما تصفق).
تشجيع الزواج من ذوي القربى(حلاوة الثوب رقعة منو)، (خذ الطريق المستقيمة ولو دارت واد بنت العم ولا بارت)، وفي المقابل (أبعد اللحم على اللحم لا يخيس) و(موت المرا سترة)
كما شجعت الأمثال على التعامل مع الجار ولكن حذرت منه (جارك القريب ولا أخوك البعيد)، (الجار قبل الدار)، وبالمقابل (اللي وطي حايطو تنط عليه الكلاب) ـ (فوت الجار على الجار أولها مهتة وآخرها معيار).
كما تحذر الأمثال من المرأة وتحث في الآن ذاته على قيمتها الاجتماعية الكبرى:
(آمن للحية ولا تامن لمرية)، (البيت اللي ربه مرا كل ما له لورا)، (مسمار بالحيط ولا مرا بالبيت)، ولكن الأمثال تقول أيضا: "الخير مرا والشر مرا".
وفي الختام ، إن ما نوصي به بالنسبة للتراث غير المادي في بلادنا، هو التفكير الجاد في القيام بجمعه وأرشفته، والتشجيع على البحث العلمي في مكوناته وعناصره الحيوية، وتطوير مناهج دراسته وتثمينه، وبذل كل ما من شأنه للتعريف به وتوصيله للأجيال الجديدة، لكونه من المكاسب الثقافية التي يمكن التفريط فيها، كما أنها مسئولية وطنية وإنسانية.
مصادر ومراجع هذه الورقة:
1 ـ جمانة طه، موسوعة الروائع في الحكم والأمثال، الدار الوطنية الجديدة، ودار الخيال، ط.2، بيروت، 2002.
2 ـ محمد سعيدي، المثل الشعبي:مفهومه ومناهج دراسته وتصانيفه في الدراسات القديمة والمعاصرة، مجلة الثقافة الشعبية، تصدرها جامعة تلمسان، العدد الثالث، 1995.
3 ـ عبد الغفار محمد أحمد، المأثور الشعبي ونمط الإنتاج، المجلة العربية للثقافة، عدد خاص بالمأثور الشعبي في الوطن العربي، تونس 1999.
4 ـ عبد الرحمان أيوب، الذاكرة واللسان، المجلة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1999.
5 ـ عبد القادر شرشار، الذاكرة والمأثور الشعبي، مجلة التراث العربي، العدد:86 ـ 87، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2005.
6 ـ أبو الفضل أحمد بن محمد النيسابوري الميداني، مجمع الأمثال، منشورات دار مكتبة الحياة، (د.ت).
7 ـ كلودين شولي، أنثروبولجيا و/أو سوسيولوجيا؟ الثقافة إلى الخلف لدراسة ممارساتنا في هذين الحقلين، مجلة إنسانيات، عدد:27 مارس 2005.
الحواشي :
(1) أستاذ التعليم العالي في قسم اللغة العربية وآدابها جامعة وهران.
(2) كلودين شولي، أنثروبولوجيا و/أو سوسيولوجيا؟التفاتة إلى الخلف لدراسة ممارساتنا في هذين الحقلين، مجلة إنسانيات، عدد:27 مارس 2005، ص.6
(3) محمد سعيدي، المثل الشعبي:مفهومه ومناهج دراسته وتصانيفه، في الدراسات القديمة والمعاصرة، مجلة الثقافة الشعبية، تصدرها جامعة تلمسان، العدد:03، 1995، ص:37
(4) عبد الغفار محمد أحمد، المأثور الشعبي ونمط الإنتاج، المجلة العربية للثقافة، عدد خاص بالمأثور الشعبي في الوطن العربي، تونس 1999.
(5) جمانه طه، موسوعة الروائع في الحكم والأمثال، الدار الوطنية الجديدة، الطبعة الثانية، 2002، .ص13
(6) موسوعة الروائع في الحكم والأمثال، ص23.
(7) المرجع السابق، ص24.
(8) عبد الرحمن أيوب، الذاكرة واللسان، المجلة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1999
(9) الفرق بين المثل والحكمة: ليس المثل حكمة وإن تضمنها، وقد يتجاوزها أحيانا بعمقه ومدلوله، فهو يعبر في ظاهره عن مرحلة زمنية وتاريخية معينة، ويحمل في باطنه روح الردع والاحتجاج والتوعية، كما أنه يصدر عن أي فرد في المجتمع، نتيجة موقف محدد أو معاناة فردية. أما الحكمة فهي عامة في الأقوال والأفعال، تولد عن تفكر وتبصر في شؤون الحياة، وغالبا ما يكون قائلها مشهورا في محيطه، يتمتع بقدر من العلم والفلسفة والمعرفة.وقد يتشابه المثل مع الحكمة في بعض مظاهر الصياغة كالإيجاز، والتكثيف والعبارة.
(10) عبد القادر شرشار، الذاكرة والمأثور الشعبي، مجلة التراث العربي، العدد:86—87، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ص147
(11) عن جمانة طه، موسوعة الروائع في الحكم والأمثال، دار الخيال للنشر والتوزيع، بيروت، 2002، ص:15
(12) المرجع السابق، ص:15
(13) عن موسوعة الروائع في الحكم والأمثال، مرجع سابق، ص:16
(14) المرجع السابق، ص:16
(15) محمد سعيدي، المثل الشعبي:مفهومه ومناهج دراسته وتصانيفه في الدراسات القديمة والمعاصرة، مجلة الثقافة الشعبية، تصدرها جامعة تلمسان، العدد:03، 1995، ص:38 ـ 39.
(16) المثل الشعبي:مفهومه ومناهج دراسته في الدراسات القديمة والمعاصرة، مرجع سابق، ص:51.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق