بقلم: خلدون النبواني
سنعمل في هذه الدراسة على قراءة نص فوكو "ما التنوير؟" Qu’est ce que l’Aufklärung? الذي ألقاه في الأصل كمحاضرة في الكوليج دي فرانس عام 1982. يعود اختيارنا لهذا النص لأن فوكو يتناول فيه وللمرة الأولى موضوع الحداثة بوصفه إشكاليةً فلسفيّةً.
لكي يقارب مسألة الحداثة، يختار فوكو تحليل نص كانط "جواب على سؤال: ما التنوير؟" Was ist Aufklärung? (1) الذي حرّره كانط عام 1784. في تلك السنة قدّم كانط هذا النص جواباً على سؤال: ما التنوير؟ الذي كانت قد طرحته المجلة الألمانية الشهيرةBerlinische Monatschrift على مجموعة من المفكرين الألمان. في نصه ذاك يُعرِّف كانط التنوير كما يلي: "التنوير هو خروج الإنسان من حالة القصور المسؤول عنها بنفسه(2)." وقد حاول كانط في رده هذا تشجيع السلطة السياسيّة الألمانيّة في ذلك الوقت مُمثَّلة بالملك فردريك غليوم الثاني على تبني مشروع التنوير وعلى إصلاح الكنيسة الألمانيّة.
يسعى فوكو إلى إعادة إحياء هذا النص عام 1982 أي بعد قرنين من ظهوره؛ مما يطرح علينا سؤال: ما الذي حمل فوكو على الاهتمام بهذا النص الذي مرّ عليه حينها مائتا سنة تقريباً؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال لنلاحظ أولاً أن فوكو قد تناول سابقاً بالنقد موضوع التنوير وذلك في نصٍ يعود لعام 1978 أكّد فيه على أن "التطورات العديدة التي طبعت النصف الثاني من القرن العشرين أعادت سؤال التنوير إلى واجهة الاهتمامات المعاصرة. أول هذه التطورات هي الأهمية التي تمّ إيلاؤها للعقلانيّة العلميّة والتقنيّة […]. بينما يتمثَّل ثانيها في تاريخ "الثورة" […] وفي النهاية يتجلى التطور الثالث في الحركة التي من خلالها بدأنا نُسائل الغرب ـ مع نهاية الحقبة الاستعماريّة ـ ما هي الحُجج التي مكَّنتْ ثقافته، وعلمه، ومنظمته الاجتماعيّة وأخيراً عقلانيته نفسها من أن تزعم لنفسها صدقاً كونيّاً: أوليس هذا سراباً مُرتبطاً بالهيمنة الاقتصاديّة وبالتسلُّط السياسي؟(3)" من الواضح من هذا المقطع أن فوكو يريد هنا التشكيك بأُسس التنوير انطلاقاً من المستجدّات الحاصلة في النصف الثاني من القرن العشرين وبخاصة بعد الحرب العالميّة الثانيّة.
يعود فوكو من جديد ليتناول العلاقة بين التنوير والحاضر الراهن بقوله: " بعد قرنين، يعود التنوير: ولكن ليس كطريقة تمكِّن الغرب من استيعاب إمكانياته الحاليّة والحريات التي يستطيع الوصول إليها، وإنما كطريقة لمساءلته عن حدوده وعن السُّلُطات التي قام باستغلالها(4)". حتى هذه اللحظة لا يزال فوكو يُحذِّر الغرب من تبني نموذج التنوير، ولكنه سيعود مرّة أخيرة إلى هذه المسألة عبر محاضرته الشهيرة التي ألقاها عام 1982 في الكوليج دي فرانس والتي ستبدو وكأنها مراجعة لمواقفه السابقة من التنوير(5).
إن ما يستولي على اهتمامنا في هذه المحاضرة هي اللهجة الجديدة التي نسمعها من فوكو حيال موضوع التنوير الذي لم يتوقف عن إدانته من قبل. فإذا كان فوكو قد اعتاد في كتاباته السابقة اعتماد النقد والتشكيك في سيرورة التنوير، فإنه يفاجئنا في محاضرته لعام 1982 بقبوله لبعض "معايير" التنوير التي كان يرفضها قبلاً جملةً وتفصيلاً. لنلاحظ هذا الموقف الجديد لديه حين يعلن: "بعد كل شيء، فإنه يبدو لي أن التنوير ـ بوصفه، في آن واحد، حدثاً فريداً يُدشّن الحداثة الأوروبيّة وسيرورةً دائمةً تتجلى في تاريخ العقل، وفي تطور وإقامة صيغ العقلانية والتقنية، وفي استقلال ونفوذ المعرفة ـ هو ليس بالنسبة لنا مجرَّد حلقة من حلقات تاريخ الأفكار؛ بل هو سؤال فلسفيّ منقوش في فكرنا منذ القرن الثامن عشر(6)."
نود هنا أن نتوقف عند نقطتين في هذا المقطع تتمثَّل الأولى في أن فوكو لا يرفض فيه التنوير بعجره وبجره، وإنما هو يطمح بالأحرى أن يفهمه بوصفه سؤالاً فلسفيّاً يركّز على الحاضر. أما النقطة الثانية التي نود الإشارة إليها هنا فتتمثَّل في رفضه اعتبار الحداثة " حلقةً من حلقات تاريخ الأفكار" وإنما " سؤالاً فلسفيّاً منقوشاً في فكرنا منذ القرن الثامن عشر". برؤيته للأمور بهذا الشكل يكون فوكو قد أخذ موقف النقيض لهابرماس الذي لم يكن يرى الحداثة إلا كمرحلة خاصّة بأوروبا وبتاريخها. إن رفض فوكو لزج الحداثة في سجن التاريخ يبدو جليّاً عندما نعير انتباهنا لاستخدامه، على مدى صفحات نصه هذا، للمفهوم الألمانيّ "Aufklärung" الذي يعني عملية التنوير في مقابل التعبير الفرنسيّ " les Lumières" الذي يكتفي بالإشارة إلى حقبة عصر الأنوار الأوروبيّة في القرن الثامن عشر.
يرى فوكو أن مسألة الحاضر الراهن هي محور نص كانط "ما التنوير؟" ليؤكد بعد ذلك أن التفكير الفلسفي في الحاضر كان دائم الحضور في التقليد المسيحي الغربي الذي أخذ فيه ثلاث صيغ رئيسيّة:
1ـ الحاضر بوصفه ينتمي إلى عصرٍ ما يتميِّز عن غيره من العصور ببعض السمات أو هو منفصل عنها من خلال بعض الأحداث المأساويّة. ويضرب فوكو مثالاً على هذه الصيغة بكتاب السياسيّ لأفلاطون.
2ـ مُساءلة الحاضر لمحاولة الحصول على بعض المؤشرات التي تُنبئ عن حدثٍ آتٍ. ويقدّم فوكو القديس أوغسطين مثالاً على هذه الصيغة الثانيّة.
3ـ تحليل الحاضر بوصفه نقطة تحول نحو فجرٍ جديد يشرق على العالم وهو يرى في الفيلسوف الإيطالي فيكو مثالاً لهذه الصيغة(7).
يقيم فوكو هذا التصنيف الثلاثي لكي يؤكّد لنا أن نص كانط عن التنوير يُقدِّم تصوُّراً عن الحاضر مختلفاً تماماً عن أيٍّ من هذه الأمثلة الثلاثة السابقة، وما يقصد فوكو بذلك هو : التنوير بوصفه مخرجاً أو باباً. يرى فوكو أن نص كانط هذا حول التنوير هو نصٌ تاريخيٌّ يُجذِّر الحداثة في التنوير، بل إنه يذهب إلى اعتبار هذا النص "نقطة انطلاق الحداثة". بالاستناد إلى هذا النص الكانطيّ يدعونا فوكو إلى فهمٍ جديد للتنوير بوصفه :" نمطاً من التساؤل الفلسفيّ يؤشكل problématise في آنٍ معاً العلاقة مع الحاضر والطريقة التي يكون عليها تاريخياً، كما ويؤشكِّل عملية تأسيس الذات بوصفها ذات مستقلة. (8)" يجد فوكو أن الجديد في هذا النص الكانطي يتمثل في أنه وللمرة الأولى يُقْدِم فيلسوفٌ على الجمع ما بين تفكيره حول التاريخ وتحليله الخاص للحاضر حيثُ يُعلِن: "تبدو لي جدّة هذا النص في التفكُّر ﺑ "اليوم" بوصفه اختلافاً في التاريخ وحافزاً لمهمة فلسفيّة خاصة. برؤيتنا للأمور على هذا النحو، يبدو لي أن بإمكاننا أن نلمح في هذا النص نقطة انطلاق لمخطط ما يمكن دعوته بموقف الحداثة. (9)".
إذن يعيد فوكو تعريف الحداثة بوصفها موقفاً أو مهمة يتركز اهتمامها على الحاضر الراهن، وهو يشرح لنا هذه النقطة بالقول: "بالإحالة إلى نص كانط، فإنني أتساءل ما إذا كان بإمكاننا أن نواجه الحداثة كموقف بدلاً من مواجهتها كفترة تاريخيّة؟ وما أقصده بالموقف هنا هو صيغةً للعلاقة مع الراهن، وخياراً طوعيَّاً يأخذ به البعض، وأخيراً طريقةً في التفكير والإحساس وكذلك أسلوباً للفعل والسلوك الذي يطبع الانتماء ويقدّم نفسه كمهمة في نفس الوقت وهذا يماثل قليلاً، بلا شك، ما كان الإغريق يدعونه بالإيطيقا « ethos ». (10)"
نلمح هنا بوضوح التباعد بين وجهتي نظر كل من فوكو وهابرماس حول مسألة الحداثة. أي بين فوكو الذي يرى الحداثة بوصفها موقفاً من الحاضر الراهن وبين هابرماس الذي يرى الحداثة كحقبة تاريخيّة مقتصرة على التاريخ الأوروبي وبشكل أكثر تحديداً على عصر التنوير وامتداداته.
الهوامش:
1- E. Kant, « Qu’est ce que l’Aufklärung ? » in Écrits Politique, introduction et notes par: A: Aulard, Paris, La Renaissance du Livre, Sans Date.
2- المرجع نفسه، ص. 187.
3- M. Foucault, « Le normal et le pathologique » (1978), in Dits et écrits, Paris, Qarto-Gallimard, 2001, t. II, P. 433.
4- المرجع السابق، الصفحة نفسها.
5- هذه المحاضرة هي الصياغة الأولى لما سيعرف لاحقاً بنص "ما التنوير؟" حيث سيضيف إليها فوكو لاحقاً فصلاً حول مسألة الحداثة عند بودلير.
6- Foucault, Cours au Collège de France, 5 janvier 1981, in Dits et écrits, Paris, Qarto-Gallimard, 2001, t. II, P. 1505.
7- M. Foucault, « Qu’est-ce que l’Aufklärung ? », P.63-64.
8- المرجع نفسه، ص 68ـ 69.
9- المرجع نفسه، ص 66.
10- المرجع نفسه، ص 67.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق