بقلم فرح عبد الإله
تعتبر نظرية المعرفة من العلوم الحديثة، التي نالت اهتمام العديد من المفكرين الأوربيين، منذ ثلاثة قرون التي مضت، حيث اهتمت نظرية المعرفة بقضية أساسية رئيسية تتعلق بمصدر المعرفة، مما أدى إلى ظهور اتجاهين متعارضين، تمثل الاتجاه الأول في أن العقل هو المصدر الوحيد في المعرفة، وسمي هذا الاتجاه بالعقلاني، أما الاتجاه الثاني فتمثل في التجريبيين وسمي بهذا الاسم نظرا لأنهم كانوا يعتقدون أن الحواس هو مصدر المعرفة والوصول إلى حقيقة يقينية، من هنا يتبادر لنا السؤال التالي: أي منهما ينتج المعرفة الحقيقية؟ هل العقل أم الحواس أم هما معا؟
لقد تمثل الاتجاه العقلاني في العديد من الفلاسفة كان أشهرهم الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي يعد من أهم رواد الفلسفة الحديثة بل من مؤسسيه، حيث كان يرى بأن العقل فطرة في الإنسان وأنه أهم ما يميز الإنسان عن الحيوان، فهو عبارة عن منهج لتنظيم المعطيات والأفكار، واستخلاص النتائج اللازمة عنها، وتطبيقها تطبيقا عمليا نافعا، فالعقل عند ديكارت نور فطري يحتوي بطبيعته على أفكار فطرية، فهو متساو بين الناس جميعا، لا يختلفون في امتلاكه، وإنما في طرق استخدامه، فالعقل وحده يستطيع أن يميز بين الخير والشر، وأن يبني معرفة مطلقة حول النفس والطبيعة والله دون الحاجة إلى الاعتماد على الحواس لأنها تخدع وقابلة للشك، فالعقل في منظور ديكارت ينبني على أوليات عقلية بديهية للمعرفة اللاحقة وبالتالي تكون المعرفة يقينية.
وللوصول إلى معرفة يقينية عن طريق العقل، فقد اقترح ديكارت منهجا مستلهما من المنهج الرياضي في كتابه الشهير(مقال في المنهج)، الذي عرض فيه رؤية جديدة في استخدام العقل وتوجيهه، والمتمثل في أربعة قواعد رئيسية وهي: (الشك، تقسيم المشكلة إلى أجزاء، ترتيب الأفكار، مراجعة عامة للنتائج)، ويعرف هذا المنهج أحيانًا باسم الشك المنهجي: وهو منهج يرفض أية أفكار مشكوك فيها ويعيد إثباتها وترسيخها للوصول إلى أساس قوي للمعرفة الحقيقية.(موسوعة ويكيبيديا).
ولكن كيف يمكن للعقل وحده أن يبني معرفة يقينية دون الاعتماد على الحواس؟ مع العلم أننا نعلم جميعا أن للحواس دور كبير في تحقيق أو بلوغ المعرفة مع التجريبيين خصوصا مع جون لوك، الذي كان يرى بأن المصدر الأصلي والممون الأساسي للذهن البشري من أجل إدراك المعرفة هو الحواس، فالعقل عند جون لوك عبارة عن صفحة بيضاء، خالية من أفكار فطرية، لا يوجد فيه إلا ما يأتي من التجربة الحسية، حيث ينتقد جون لوك أطروحة ديكارت التي ترى بأن العقل يحتوي على أفكار فطرية بقوله: << لو كان الناس يولدون وفي عقولهم أفكار فطرية لتساووا في المعرفة>> (موسوعة ويكيبيديا). فمن خلال هذه القولة أراد أن يبين أن محتويات العقل بين الناس مختلفة حسب درجة عقلانيتهم ومعرفتهم المرتبطة بتجاربهم الحسية.
وهنا يظهر لنا الدور الثانوي الذي يلعبه العقل في بناء المعرفة، فهو مجرد وعاء لمعطيات التجربة الحسية التي تنتظم فيه بفعل التكرار والعادة، فهو عبارة عن مستودع سلبي للمعرفة حسب منظور جون لوك والتجريبيين الأمبريقيين.
إن هذا الصراع الفلسفي بين الاتجاهين العقلاني والتجريبي، أدى بذلك إلى ظهور تيار نقدي بزعامة إيمانويل كانط حول مفهوم العقل، حيث حاول تجاوز نظرة كل من العقلانيين والتجريبيين، وذلك بدمج عناصر العقلية بعناصر التجربة، لأنهم كانوا ينظرون إلى العقل من جانب واحد، فهو يرى بأن العقل ملكة في المعرفة يتألف من صور ومبادئ قبلية سابقة على التجربة، يقوم بتنظيم معطيات التجربة ويقوم بتحويلها إلى معرفة يقينية، وهذا ما جاء على لسانه بأن العقل منظومة من المبادئ القبلية(kant-critique de la raison pour).
ويرى كانط أن هناك مصدران للمعرفة، وهما الحساسية والفهم، ونقصد بالحساسية بأنها هي المسؤولة عن تنظيم الانطباعات الحسية المتفرقة التي تقدمها التجربة على شكل مدركات حسية، أي أنها تقدم لنا الموضوعات، بينما الفهم هو الذي يحول تلك المدركات الحسية إلى معرفة وذلك بواسطة مقولات قبلية تنصب فيها معطيات التجربة الحسية، فتتحول إلى معرفة، وهنا نعني بالفهم أنها تقوم بتعقل تلك الموضوعات، وقد ميز كانط بين ثلاثة أنواع من المعرفة:
• معرفة قبلية تحليلية Analytical priori : وتتميز بالدقة والثبات إلا أنها غير كافية للتعليم Uninformative حيث لا توضح إلا ما يتضمنه التعريف Definition.
• معرفة بعدية مُخلقة Synthetic posteriori : وتُنتج معلومات عن العالم الخارجي نتيجة التعلم من الخبرات، وهي عرضة للوقوع في الخطأ بسبب اعتمادها على الحواس.
• معرفة قبلية مُخلقة priori Synthetic : وتنتج عن الحدس الخالص Pure intuition وتتميز بالدقة والثبات لأنها تعبر عن الحالات الأساسية التي تنطبع على العقل نتيجة الخبرة بالأشياء، وطبقاً لكانط فهذا النوع من المعرفة تنتجه الفلسفة والرياضيات (أحمد إبراهيم أحمد، حاجتنا للمعرفة).
ومن هذا المنطلق يتضح لنا أن المعرفة في نظر كانط هي عملية معقدة صعبة يساهم فيها كل من العقل والحواس. وهذا ما جاء بقول كانط:<< الحدوس الحسية بدون مفاهيم تظل عمياء، والمفاهيم بدون حدوس حسية تضل جوفاء>> (kant-critique de la raison pour). هكذا يبدو لنا أن العقل عند كانط يتجسد في شكل بناء مقولات أو الصور القبلية التي ستكون عديمة الفائدة لولا معطيات التجربة الحسية.
ومن هنا يمكن أن نقول بأن العقل وحده لا يستطيع أن ينتج معرفة أكيدة يقينية، دون الاعتماد على التجربة، فإن تجاوز العقل التجربة أصبح عقلا جداليا سجاليا، لا ينتج معرفة يقينية، وبالتالي ينتج أطروحات متناقضة ليس لها سبيل إلى حلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق