د. فريدريك معتوق
قراءة: منى بليبل
لماذا يسيطر الغرب على العالم منذ ما يقارب الخمسة قرون؟ سؤال شائك شغل العالم على مدى قرون، وقدم العديد من المفكرين في العالم العربي وخارجه إجابات عليه، بخاصة في الحقل السياسي والاقتصادي والثقافي. بيد أن أحداً لم يحاول الإجابة على التساؤل المطروح من زاوية معرفية، أي من باب تبيان أسباب غلبة الغرب في طرائق التفكير والتخطيط والتنفيذ.. تلك الأسباب الكامنة في البنية المعرفية التي رفعت بنيان الحضارة الغربية، وأعطتها مفتاح سيادة العالم وأمنت لها موقع السيطرة عليه بنحو مستمر قد لا يرجى انقطاعه في المدى المنظور.
ذلك أن أغلب ما كتب من تحليلات في هذا المجال، خاصة من قبل المفكرين العرب، جاء في إطار الإجابة عن السؤال الكلاسيكي الذي طرح منذ عصر النهضة: لماذا تقدموا ولماذا تخلفنا؟ وهو سؤال يعمل على نقد التجربة الغربية ويفتش في عناصر الضعف الكامنة فيها، بدلاً من تفحص تلك التجربة، ودرسها معرفياً، ومحاولة اكتشاف مرتكزات القوة المتجددة فيها. وهو الدور الذي تصدى للقيام به الدكتور فريدريك معتوق ، في واحد من أحدث كتبه " مرتكزات السيطرة الغربية مقاربة سوسيو -معرفية ".
لا يمكن البدء بفهم ظاهرة الغرب ، بشكل فعلي بعيداً عن فهم البنى المعرفية التي يعيش في إطارها الغربيون. وبعيداً عن المحركات الذهنية التي تسمح لهم ، كأفراد وجماعات، بالسيطرة على العالم بهذا الشكل الثابت والمنهجي والمتواصل الذي نشهده منذ قرون عدة، ذلك أن قوة الكتلة الغربية لا تنبع فقط من تجربتها التاريخية الخاصة، بل وأيضاً من جهدها المتواصل في إعادة تأهيل بناها المعرفية بشكل يتناسب مع كل عصر. وهنا يكمن سر نجاحها الحقيقي، حسب رأي الدكتور فريدريك معتوق في كتابه " مرتكزات السيطرة الغربية " وهنا أيضاً تكمن أهمية المقاربة السوسيو- معرفية التي يقدمها الكتاب.. فهو جهد ريادي في حقل علم اجتماع المعرفة عربياً، وذروة بحث كاتبه العلمي من جهة حسب رأي بعض النقاد. وسواء كنا نملك موافقتهم الرأي في ذلك أو لا فإن ذلك لا يقلل من أهمية الكتاب الذي نحن بصدد قراءته.
من الهيمنة إلى العولمة
في تسعة فصول، ومقدمة وخاتمة، يتحرى الدكتور معتوق في كتابه " مرتكزات السيطرة.. " التمفصلات الذهنية التي ساهمت ولا تزال في سيطرة الغرب على هذا العالم، وهي حسب المؤلف تتمحور حول خمسة عناصر تأسيسية هي، الهيمنة والمساجلة والربح والتنظيم والمعرفة .
ويرى المؤلف أن أولى مرتكزات السيطرة الغربية تتمثل في "الهيمنة" التي تأسست كمفهوم عبر تحالف القوتين البريطانية والفرنسية، تحالفاً حمل الشعوب الواقعة ضمن دائرة أطماع هاتين القوتين إلى اعتبار تلك الهيمنة هيمنة حضارية لا مناص من التسليم بها. لذا وبهدف السيطرة المعنوية على الآخرين، يستقدم الغربي مع جيشه تجارته وأساتذته وخبرائه وكافة سلعه، ويسعى إلى فرض نماذجه السلوكية ومعاييره القيمية، غير آبه بثقافة المجتمع المختلف الذي يقيم فيه. في المقابل وكي يشعر الآخر بالتخلف عنه وبعدم التساوي معه ،يحجب عنه الإنجازات والنماذج الثقافية التي تمخضت عنها حركة النهضة من نموذج حقوق الإنسان الذي أنتجته الثورة الفرنسية، إلى تنظيم وعقلنة العمل وغيرها من إنجازات الثورة التكنولوجية والصناعية.
المساجلة السياسية
المساجلة السياسية أو البوليميك (POlémique): يشكل هذا المفهوم أحد أركان التفكير الغربي المعاصر، وهو مفهوم لا مثيل له في الحضارات الأخرى؛ لذا أعطيت الكلمة مفهوماً اصطلاحياً بمعنى: المخاض السياسي العنيف حول شؤون تهم الطابع العام. والواقع أنه يعني الانفتاح الذهني على رأي الخصم، على الرغم من مقارعته العنيفة لدى الاصطدام العلني والعام به. وبالتالي تعني الجدل الخلاّق الذي يصبو من يدخل في مساره إلى نتيجة مختلفة جدلياً عن تلك التي انطلق منها. وفي نهاية الجدل هناك منتصر، لكنَّ المغلوبين لا يشعرون بأنهم مهزومون، بل يدخلون في معادلة جديدة مفتوحة وكأنهم منتصرون.
بهذا المعنى يشكل «البوليميك» استثمار السياسي في الحقل الاجتماعي، وقد تمكّن الغرب من خلال اعتماده للبوليميك من حلّ المشكلة العظمى التي تتخبط فيها معظم بلدان العالم الثالث التي يؤدي فيها الصراع السياسي إلى حروب أهلية داخلية متعددة الأشكال، نظراً لعدم إرساء الخلاف السياسي على قاعدة المصلحة الاجتماعية العامّة.
وجواباً على سؤال: من أين أتت هذه الميزة في الرؤية السياسية في الغرب؟ يرى معتوق أنها حصيلة تراكم بدأ مع الخروج من زمن القرون الوسطى، بحيث تم إنتاج مواثيق سياسية مدنية للتفكير، والعمل السياسي، أصبح معها لا سياسة خارج إرادة المجتمع. فالسياسي اجتماعي في الصميم لا فوق المجتمع. من هنا تميزه بالطابع الحواري في عمق أعماقه، وانفتاحه الدائم على البدائل.
سلطة المعرفة
تستكمل «المعرفة»، كمحرك ذهني، في المجال الثقافي ما تفعله الهيمنة والمجادلة السياسية في المجالين الاجتماعي والسياسي. ذلك أنه يستحيل أن نرسي مشروع هيمنة دون قاعدة معلومات ومعارف. والمعرفة المطروحة في السياق الغربي الحديث تأتي كمخزون ومهارة وشبكة لفهم المعلومات الجديدة الوافدة، الأمر الذي يعطي للمعرفة طاقة حيوية، وطابعاً بانياً ومبنياً على حد سواء.
يتعامل الفرد في الغرب مع المعرفة بشكل توليدي فوّار، في حين أن الفرد في المجتمعات الأخرى يتعامل مع المعرفة بشكل نقلي. فالطرف الأول يميل إلى «تثمير» المعرفة بتجديدها على الدوام، في حين يميل الثاني إلى تكرار المعلومات ولو في حلّة جديدة.
وتكمن ميزة المعرفة في الغرب اليوم في أن وظيفتها لا تقتصر على نفسها وعلى المجال الثقافي، بل تتخطّى ذلك لتهتم بالشأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فالمطلوب من المعرفة أن تعزّز المنافسة، الأمر الذي يضعها باستمرار أمام تحدي تجاوز مكتسباتها. فللهيمنة على العالم شرط، هو الاعتماد على الاستيعاب المعيد لإنتاج مكتسبات المعرفة. وبالتالي يخضع الغربي المعرفة للمعرفة، فيعيد إنتاجها على نحو مختلف، متعاملاً معها وظيفياً.
فالاختراعات الميكانيكية والتكنولوجية والكهربائية والإلكترونية والمعلوماتية تعتبر كلّها في الغرب أسرار دولة، وتخضع للمراقبة شأنها شأن الاختراعات الذرية والنووية. غير أنَّه نظراً لأن العقلانية الغربية مبنية على المرونة، فإن الاختراعات بعد استنفادها عسكرياً وتخطيها علمياً، تُعرض للاستثمارات في المجالات التسويقية والتجارية، دون أن يعني ذلك تخلّي الجهات العسكرية عن الأبحاث والعلوم الجديدة التي تبصر النور سنوياً تقريباً في الغرب..
التنظيم الاجتماعي.. والربح:
من الركائز التي يعتبرها المؤلف أساسية في السيطرة الغربية، «التنظيم الاجتماعي»، والتنسيق المناسب لعناصر مجموعة ما، بهدف تأمين حسن العمل في ما بينها. يقوم هذا التنظيم على سيادة الفرد الذي باتت الحرية تنشأ عنده كاملة بمجرد أن يولد مواطناً، وسيادة الفرد تقولب مفهوم التنظيم الاجتماعي وتمنحه الصلابة الداخلية، مما يؤدي إلى سيادة المجتمع على نفسه، من خلال دمج مصلحة المواطن ومصلحة الدولة الخاضعَتيْن للقانون، ممّا يشترط ابتعاداً قاسياً عن ذاتية السلطة التي لم تعد خاضعة لمشيئة المتربع في السلطة نفسه، بل خاضعة لشرائع سنّها ونظمها سواه، كما عدّلت ركيزة «الربح» من ارتباط السياسي بالاجتماعي، فمصير الإنسان الذي كان مرتبطاً بمنشئه الاجتماعي أضحى مرتبطاً بعمله. فانتشرت في الغرب مفاهيم جديدة مثل: القيمة الاجتماعية للعمل، ومفهوم الدولة الراعية. وارتبطت فكرة الربح بفكرة التقدم الاقتصادي والاجتماعي على حدّ سواء، لأن الثروة لم تتحوّل في الأنموذج الغربي إلى مفهوم وطني وعام بشكل طبيعي، بل بشكل إرادي وسياسي. ومن هنا التمسك بالاقتصاد كشأن عام، وكجزء من شخصية الغربي الأساسية...
شاهد (1)
تحت عنوان فرعي "العولمة كصيغة متجددة للسيطرة " يقول الدكتور فريدريك معتوق:
نعيش مع العولمة اليوم تعاظماً لافتاً لانقسام العالم وانتظامه ما بين كتلة البلدان الغربية، المصرة على تمييز نفسها سياسيّاً ومعرفياً، وكتلة البلدان غير الغربية. بيد أن هذه القسمة تخضع لتمويه متنام يحاول محو معالم الظاهرة.
فالعولمة تسعى اليوم لجعل شعوب الأرض قاطبة منضوية تحت لواء نظام اقتصادي واحد ومتبعة لنموذج واحد هو اقتصاد السوق. فبإمكان أي كان أن يستهلك ما شاء، طالما أنه قادر على دفع ثمن السلعة التي يريد الحصول عليها.
وفي هذا النظام الجديد لم يعد الإنتاج يحصل عملياً في الغرب، بل في بلدان عدة من جنوب الأرض حيث اليد العاملة أقل كلفة. حتى أن مصطلحاً جديداً قد ظهر في علم الاقتصاد، هو إعادة التمركز للتعبير عن هذه الظاهرة الجديدة ، فبفضل هذا المفهوم يضحى الإنتاج، بعد الاستهلاك، عالمياً. وقد تبين أن الصين تمكنت بموجب ذلك من أن تصبح اليوم " محترف العالم " على حد ما تناقلته الصحافة .فالمنتوجات التي تحمل شعار صنع في الصين " تتزايد كمّاً ونوعاً في الأسواق .
وهنا يذكر معتوق: أن أحد المتتبعين للأمور الاقتصادية قد لفت الانتباه أنه من الأفضل وضع شعار " معالج في الصين " بدل شعار " صنع في الصين " الذي لا يعبّر عن حقيقة ما يجري. حيث إنّ الإنتاج الصيني يأتي بموجب نماذج واختراعات وتصاميم موضوعة أصلاً في البلدان الغربية .
الأمر الذي يجعل: عملية الدمج الاقتصادي غير متكافئة.فسلطة القرار تسيطر على سلطة الإنتاج ، على الرغم من الصورة المضللة التي تنقل عن هذه المسألة حسب رأي الدكتور معتوق.
شاهد( 2):
يقارن الدكتور معتوق في بحثه بين ذهنية الغربي وذهنية غيره، عند كل محور من محاور الكتاب مبيناً عوامل التفوق في الذهنية الغربية. في سياق هذه المقارنات التي يجريها على مدار فصول الكتاب، يقارن بين العامل في الغرب والعامل في بلدان الجنوب حيث يقول :
العامل الغربي يدخر وهو يعمل ، أما العامل في بلدان الجنوب فيعمل ويعمل دون أن تتاح له فرصة الادخار.
وقد سمح هذا الفارق المفهومي والتاريخي بنشأة ذهنية ربحية عامة في الغرب حيث الادخار ممكن ومتاح، فطورت على أساسه ما يعرف اليوم بالطبقات الوسطى. في حين أنّ بلدان الجنوب بقيت في سوادها الأعظم خارج هذه الفكرة، يعيش العاملون فيها تحت رحمة أصحاب الثروات الكبرى .
صحيح أن إمكانات الادخار التي يتيحها العمل مختلفة عند رب العمل والعامل، إلا أنها فعلية وواقعية.. فانتشرت في الغرب مفاهيم لا نجد لها في تجربة الجنوب لا الماضية ولا الحاضرة، كالقيمة الاجتماعية للعمل. هذا الانسجام المعرفي الخفي والجديد الذي أتاحته فكرة الربح الرأسمالية في صيغتها الرأسمالية. وقد تابعت هذه الفكرة طريقها سياسياً واجتماعياً حتى بلغت مفهوم دولة الرعاية.
في المقابل يقول المؤلف: شهدت بلدان الجنوب مزيداً من الابتعاد بين فكرة العمل وأبعاده الاجتماعية، بغية بقائه مسجوناً في مفاهيم تساوي، كما في غابر الأزمنة بين العامل والعديم؛ خدمة للبناء العصبي العام الذي لا يحتمل فكرة الحرية والادخار وتقرير المصير والارتقاء الطبقي الإرادي.
شاهد (3)
بعد أن يستعرض الدكتور معتوق البنى الذهنية الخمسة التي أمّنت للغرب التفوق والسيطرة حسب رأيه ويخلص إلى الاعتراف والتسليم بذاك التفوق يختم بحثه بسؤال استفهامي حول إمكانية تغيير المسار التاريخي لذاك التفوق ناقداً النتائج التي تمخض عنها ذاك التفوق على جميع البلدان التي تقع خارج دائرة الحضارة يقول معتوق :
مع الغرب، أضحت الحرب ثابتاً من ثوابت العلاقات الدولية. حيث إنّ الغرب قد أصر على الدوام على المضي في نهجه التسلطي تجاه العالم أجمع، فالحروب قد رافقت جميع تدخلاته، بألوان وأشكال مختلفة. ويكمل الدكتور تعداده لنتائج السيطرة الغربية :
حاك ويحيك الغرب، اليوم، علاقات الشمال بالجنوب على نول مصالحه الخاصة، بمهارة لافتة وعلم ودراسة. فالمطلوب من هذا التقسيم غير القابل للمراجعة إبقاء العالم منقسماً بين مسيطِر ومسيطَر عليه، للمنافع الناتجة عن هذا التقسيم لصالح الطرف المهيمن.
فالمأزق في العلاقة مدروس ومطلوب. ولا يرى منظرو الغرب أن زمن العدالة والمساواة العالمية قد آن أوانه فيحتفظون بأنانية بمكتسباتهم المتعددة لأنفسهم علماً أنهم قادرون على مشاطرتها مع الآخرين ...
ويكمل معتوق توصيفه لنتيجة الغلبة التي يعمل على تكريسها باستخدام مهاراته في حقل الاتصالات حديثاً مُقراً : باسم الديمقراطية يقود الغرب داخلياً وخارجياً عملية الغلبة الكبرى التي يمارسها على العالم أجمع، دون أن يشعر أن من واجبه ممارسة النظام الأمثل بالشكل الصحيح الذي أبتكر على أساسه، أي دون تمييز بين إنسان وآخر، أو بين مجتمع وآخر، أو بين قارة وأخرى، أما الميزة المعاصرة لهذه الظاهرة فتقوم على أن استراتيجية واحدة تمارس على الذات والآخر على حد سواء .
خاتمة
كتاب الدكتور فريدريك معتوق " مرتكزات السيطرة الغربية " الصادر في طبعته الثانية عن دار الحداثة للطباعة والنشر في بيروت ، عبارة عن بحث سوسيو معرفي لظاهرة سيطرة الغرب الحضارية على العالم ..
"مرتكزات السيطرة"، كتاب في 160 صفحة... تحيل التفوق الغربي بكلّ تجلياته إلى مرتكزات ذهنية، ومحركات معرفية بالدرجة الأولى والأخيرة... لا مناص من قراءة مكوناتها من الداخل.. كي نفهم الغرب.. وكي نتمكن من بناء حوار إيجابي ومثمر معه... وكي نتحرر من سلطته في نهاية المطاف..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق