المقدمة:
بنت الوضعية كاتجاه فكري تفسيرها للعالم على معطيات التجربة وحدها وانطلقت من العلوم الطبيعية التي أثبتت أنها أنجح طريقة لمعالجة مادة التجربة
وعلى الرغم من أن كثيراً من العلماء والمفكرين قد تبنوا هذا الاتجاه وساروا على خطه إلا أن هذا لم يمنع من وجود اتجاهات أخرى كان لها الأثر والصدى الكبير في علم الاجتماع ومنها الاتجاه المثالي .
ويعرف محمد عاطف غيث المثالية بقوله:
المثالية:
تصور فلسفي ، يعارض الأمبيريقية التي ترى أن الواقع هو مصدر كل معلوماتنا وتبدأ المثالية الحديثة بأعمال الفيلسوف كانط Kant حيث أنكر القضية القائلة بأن العقل يستقبل الأفكار الأمبيريقية بصورة سلبية وذهب إلى أن المعرفة تعني قيام العقل بدوره في تحديد المعطيات الواقعية من خلال مبادئ أو مقولات ضرورية دعامة وقبلية وبدون هذه المقولات العقلية لا يمكن أن تكتسب الخبرة أي وجود .
والواقع أن رائد الاتجاه المثالي هو هيجل ( 1770 – 1830 ) الذي حاول أن يتخذ موقفاً وسطاً بين الطبيعيين الذين يقولون بوجود الطبيعة بالذات العارفة بين المثاليين الذاتيين الذين قيدوا الطبيعة بالذات العارفة وشبه هيجل منهجه بأنه تأليف أو تركيب بين موضوع هو الطبيعة وبين نقيض الموضوع وهو الذات ويجمع هذا التأليف بين العناصر الحسية في كل من مذهب المثالية الذاتية ومذهب الطبيعة ويسقط من حسابه تطرفهما وينتج عن ذلك أن يكون هناك وجود لعقل مطلق أو إلهي منبت في الطبيعة ، بصورة تجعلها خاضعة في حركتها وتطورها لهذا المطلق .
أما تعريفه للنموذج المثالي فهو :
النموذج المثالي Ideal Type )
صياغة تصورية أو بناء عقلي لصيغة معينة تشمل العناصر المميزة لفئة محددة من الظواهر ، وتستخدم في التحليل الاجتماعي وتعتمد العناصر التي يتم تجريدها من أجل ذلك على ملاحظات مستقاة من الظواهر الملموسة التي أمكن دراستها ، ومن خصائص هذا البناء النظري ( النمط المثالي ) أن لا يكون مطابقاً تماماً لأية ملاحظة أمبيريقية مفردة .
وقد طور ماكس فيبر النمط المثالي كمنهج وكأسلوب يستخدمان في الوصف والمقارنة واختبار الفروض المتصلة بالواقع الأمبيريقي وتعتبره المنظمة الدينية أو " الإنسان الاقتصادي " أو " الإنسان الهامشي " و" المجتمع المحلي " و "المجتمع المعقد " أمثلة على الأنماط المثالية .
وهناك اختلاف واضح بين الأنماط المثالية والنماذج الجامدة Stereo Type يرجع إلى أن الأخيرة لا تبنى بطريقة مقصودة بهدف التجريد العلمي للواقع ، ولهذا تكون في أغلب الأحيان بعيدة جداً عنه أما الأنماط المثالية فأنها توضع لكي تكون قابلة للاختبار والتحقق من صدقها .
وهي فضلا عن ذلك ليست صورة للواقع أو تعبيراً عن الحقيقة أو شكلا صادقاً بها ، وإنما هي أنماط قابلة للتجريب والاختبار .
يعتبر ماكس فيبر أشهر من كتب في الاتجاه المثالي بل هو رائد هذه المدرسة وسوف نعرض أهم أفكاره وآراءه ولكن سنبدأ بذكر سيرة حياته كخلفية تعطينا تصور ملائم للعوامل التي أثرت في تشكيل فكر ماكس فيبر .
سيرة ماكس فيبر الذاتية :
ولد في مدينة ابر نورث بألمانيا في 21/4/1864م وتوفي في 14/6/1920م أي أنه عاش ستة وخمسين عاماً ويعتبر الابن الأكبر لسبعة أشقاء، كانا والديه يعتنقان المذهب البروتستاني وعانوا كثيراً من الاضطهاد الكاثوليكي خلال فترة حياتهما الأولى في ألمانيا .
تنتمي هذه الأسرة إلى الطبقة الوسطى في المجتمع الألماني وكان والده بيروقراطي النزعة والميول ، تقلد مناصب سياسية مرموقة وظل لعدة سنوات عضواً في البرلمان الألماني (الريستساخ ) منتمياً إلى الحزب القومي الليبرالي ، وخالط الساسة المخضرمون وبات من المؤسسين لبعض الحركات السياسية في ألمانيا لكنه كان لا يتماشى مع كل نشاط سياسي وانتماء عقائدي لكي لا يؤثر على أو يصدع مركزه السياسي ضمن النظام القائم في ألمانيا لأنه لا يريد التضحية به أما والدته فقد كانت متدينة كالفينية المذهب ( معتنقة المذهب اللاهوتي الفرنسي البر وتستنني 1509-1564 القائل بأن قدر الإنسان مرسوم قبل ولادته ) فلم تكن تعيش يومها بل لآخرتها ، ناسكة متعبدة في حياتها وملتزمة بتعاليم مذهبها .
كما كان خاله المؤرخ الألماني المشهور هيرمان بما جرتن
هذه الحالة الأسرية الملتزمة أثرت على حياة ماكس فيبر الشخصية والفكرية بين هذين النقيضين ( تزمت أمه الديني وتزمت والده السياسي ) .
كان ماكس في بداية حياته خجولا في علاقاته مع الآخرين يكثر من شرب البيرة ويستمتع بالأمور التي تجلب له السرور والبهجة .
وعندما بلغ سن الثامنة عشرة ترك منزل والديه ليدرس في جامعة هايد لبرك .
اختلط مع زملائه الطلبة فاتسعت دائرة علاقاته بالآخرين واستفاد من سمعة والده السياسية فتأثر بها مما دفعه ذلك للاختصاص بالقانون ( الحقوقي ) لكن بعد ثلاثة فصول دراسية ترك جامعة هايد برك ليخدم في الجيش وفي عام 1884م عاد إلى برلين ليدرس في جامعتها ( برلين ) إذ بقى فيها ثماني سنوات لحين انتهاء دراسته وحصوله على شهادة دكتوراه فلسفة ( التي اعتمد في دراسته هذه على مساعدة والديه المالية طيلة دراسته في جامعة برلين ) بعدها اشتغل محامياً ومن ثم عمل في جامعة برلين كمدرس وكان اهتمامه الأكاديمي يتراوح بين الاقتصاد والتاريخ وعلم الاجتماع .
بعدها تأثر بحياة والدته الناسكة الملتزمة بالمذهب اللاهوتي الكالفيني فكانت حياته بعيدة عن اللهو بل ملتزمة بالتعاليم الدينية ومتقيدة بها .
ثم عمل أستاذا في علم الاقتصاد في جامعة هايد برك عام 1896م إنما من كثرة تزمته والتزامه الديني أدى به للانهيار العصبي الذي دام معه ثماني سنوات لم يستطيع طيلتها العمل الذهني والنوم على السواء .
بيد أنه بعد عام 1903م استعاد بعضاً من قدراته الذهنية وفي عام 1904م استعادها كاملة وفي عام 1905م نشر أفضل مؤلفاته "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية " في هذا العمل أبرز فيبر تأثره بزهد أمه وتمسكها بالحياة فأعلنه على المستوى الأكاديمي ثم كرس جل عمله الأكاديمي لدراسة الأديان القديمة مثل الديانة الصينية والهندية والإسلامية واليهودية القديمة على الرغم من أنه غير متدين وليس برجل دين .
لم يكتف بعمله داخل الجامعة بل عمل خارجها إذ كان منزله ملتقى الفلاسفة والمفكرين والنقاد أمثال جورج زمل وروبرت ميتجل وجورج لوكاس ليس هذا فحسب بل ساهم في تأسيس جمعية علماء الاجتماع الألمان وكتب في مواضيع سياسية عكست عصرها فضلا عن أعمال أخرى تركت غير منجزة بسبب وفاته .
لكن على الرغم من تماثله للشفاء بقيت صحته النفسية معتلة تواجهه بين الفينة والأخرى مؤثرة على إنتاجه العامي تؤخره تارة وتعيقه تارة أخرى وأخيراً توفى كما سبق عام 1920م
ومما سبق من ذكر سيرة حياة ماكس فيبر يتضح لنا بعض العوامل التي ساهمت في تشكيل فكر ماكس فيبر ولكن لابد من الإشارة أيضاً إلى المناخ الفكري وخاصة الفلسفي والعلمي منه الذي ساد ألمانيا في مطلع القرن العشرين فقد كانت النظرية الماركسية تشكل جزءً من هذا المناخ وكان ماكس فيبر من ألد أعداء الماركسية فقد أعلن عن ذلك سواء في مؤلفاته أو محاضراته العامة أو في النصائح التي كان يقدمها للسلطة في ألمانيا في وقته أنه من أشد المدافعين عن النظام الرأسمالي البرجوازي ومن ألد أعداء الماركسية وكان يجد كل الأدلة لإثبات أنه أفضل النظم التي عرفتها البشرية ولكي يحقق هذا الهدف كان عليه أن يهاجم أيضاً الفكر الاشتراكي الراديكالي الذي أنتشر بفعل الحركات الاشتراكية في أوروبا .
وقد عبر ماكس فيبر ربما أكثر من غيره من علماء الاجتماع الأوائل عن مواقفه الأيدلوجية والسياسية بوضوح كامل ، فقد قرر مثلا في إحدى محاضراته التي كان يلقيها في فراي يورج في عام 1905م عن هذه الآراء بقوله
" أنني عضو في الطبقة البرجوازية وأنا أشعر بذلك وقد نشأت في أحضان هذه الطبقة وتبنت آراءها ومثلها العليا
ولكنه كان أيضاً من أشد المدافعين عن الامبريالية أو الاستعمار وعبر بوضوح عن ضرورة أن يكون لألمانيا دور استعماري في العالم وكذلك أوروبا .
وكان من العوامل التي أثرت في فكر ماكس فيبر انتعاش الفلسفة الكانطية التي أكدت بطبيعتها وجود فارق شاسع بين عالم الظواهر المادية وعالم الروح الذي يبدو أساساً في القيم فيما يتعلق بالعالم المادي ساد الاعتقاد بأن العلوم الطبيعية تستطيع بل يتعين عليها أن تصوغ القوانين التي تنظم الظواهر الطبيعية والقواعد التي تحكم الانتظام الثابت والدائم .
مؤلفات ماكس فيبر :
ترك ماكس فيبر تراثاً متعدداً أو متنوعاً ، ولا يزال جزء كبير من تراثه مختفياً في المكتبات الألمانية والأوروبية والأمريكية ، كما حرص فيبر على أن يعيد كتاباته ومؤلفاته إلا أن هذا لم يتم نظراً لوفاة فيبر تاركاً ورائه عدد من المؤلفات التي شهرت علماء بارزين ومنهم تالكوت بارسونز على سبيل المثال لا الحصر ونلاحظ أن كل بضع سنوات تظهر مؤلفات لماكس فيبر لم يكتب عنها من قبل مثل إسهاماته في مجال علم اجتماع التربية والدراسات البيئية على سبيل المثال وفيما يلي أهم المؤلفات التي وضعها فيبر أو قام بتجميعها وترجمتها وتصنيفها ونشرها بواسطة عدد من العلماء البارزين ومن أهمها :
1. تاريخ الاقتصاد العام 1927م
2. الاقتصاد والمجتمع 1930م
3. علم الاجتماع المعرفي 1942م
4. مقالات في علم الاجتماع 1946م
5. نظرية التنظيم الاقتصادي والاجتماعي 1947م
6. علم الاجتماع الديني 1957م
7. الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية 1930
8. منهجية العلوم الاجتماعية 1949م
9. الأسس العقلانية والاجتماعية 1958م
10. المدينة 1968م
كما يجب أن نوضح أن بعض هذه الكتابات جاءت مجتمعة لعدة أعمال أو مقالات متعددة كما نشرت في بعض الأحيان في سنوات متفرقة، و ذلك بسبب تأخر ترجمتها من اللغة الألمانية إلى الانجليزية ، كما أن لديه كتابات في السياسة الاجتماعية و التربية و القانون و الإدارة و التنظيم تعتبر من الاهتمامات الأكاديمية المتنوعة التي أسهمت في وضع جذور فروع علم الاجتماع و العلوم الاجتماعية الأخرى .
أهم الإسهامات المنهجية لدى ماكس فيبر
علم الاجتماع عند ماكس فيبر
اهتم فيبر بعلم الاجتماع خاصة و أنه عاصر فترة ظهور هذا العلم سواء ً في ألمانيا أو فرنسا أو العديد من الدول الأوربية الأخرى ، و خاصة أنه عاش في النصف الأخير من القرن التاسع عشر حتى الربع الأول من القرن العشرين ، و جاءت اهتماماته الاجتماعية في علم الاجتماع لتحليل النظريات السوسيولوجية و تطويرها و انتقادها لتصورات و تحليلات ماركس وخاصة تصوراته الاقتصادية و الدينية و السياسية و وقف بينها موقفا ً معارضا ٌ بصورة ملحوظة ، و هذا ما جاء على سبيل المثال في تصور ماركس للدين و انتقاد فيبر له و اعتباره الدين من أهم العوامل التي نشكل الحياة الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية .
و لقد اهتم فيبر بتعريف علم الاجتماع و ذلك في العديد من مؤلفاته مثل تعريفه لعلم الاجتماع بأنه : العلم الذي يحاول أن يصل إلى فهم تفسيري للفعل الاجتماعي ، لكي يتمكن من تقديم تفسيرا ً سببيا ً لمجراه و نتائجه "
كما حاول فيبر أن يوضح أن موضوع علم الاجتماع يكمن في مهمته المتخصصة في تفسير السلوك في ضوء المعنى الذاتي ، كما يهتم هذا العلم ( علم الاجتماع ) بدراسة الظواهر و الحقائق التي يمكن فهمها و تحليلها بصورة ذاتية علاوة على ذلك حرص فيبر على أن يقدم عددا ً من المناهج و المفاهيم المثالية النموذجية التي يمكن الاستعانة بها بواسطة الباحثين في دراسة الظواهر الواقعية و هذا ما جاء في تصوراته عن النماذج المثالية المختلفة .
كما تكشف تصورات فيبر و معالجته للظواهر الاجتماعية مثل البيروقراطية و الرأسمالية و الطبقات الاجتماعية و العلاقة بين الدين أو المذهب البروتستانتي و نمو و ازدهار الرأسمالية و غيرها من الدراسات الأخرى ، و التي تكشف عن حرصه على استخدام نظريته عن الفعل الاجتماعي لدراسة هذه الظواهر أو النظم الاجتماعية بصورة سوسيولوجية متميزة ، كما حرص فيبر على أن يربط بين علم الاجتماع و دراسة الثقافية ، و هذا ما يعتبر نوع من الإسهام الفيبيري في مجال علم الاجتماع و تطوره و وضع الجذور الأولى سواء ً لفرع علم الاجتماع الثقافي أو المعرفي .
كما ركز فيبر على دراسة النظم الدينية و جعلها واحدة من أهم اهتماماته و هذا ما جعله يعتبر أول من أسس الجذور الأولى لنشأة علم الاجتماع الديني ، فلقد اهتم بدراسة الديانات السماوية الثلاث ، اليهودية و المسيحية و الإسلام ، علاوة على دراسة الديانات الأرضية مثل الهندوسية و البوذية و غيرها من الديانات الأخرى التي ظهرت في بلاد الشرق الأقصى ، و حاول أن يربط بين ظهور هذه الديانات و نشأة و تطور الحضارات بها و كيف أثر الدين في الحضارة و المدنية في هذه المجتمعات و أثر على نشاطها الاقتصادي والثقافي ككل .
و لقد ركز فيبر على العلاقة بين الدين المسيحي و لا سيما المذهب البروستانتي و ظهور و تكور النظام الرأسمالي و خاصة في المجتمع الأوربي الغربي ، و كيف أدى الدين عموما ً على ظهور الحضارة الغربية كلها .
بإيجاز لقد تبنى فيبر كل من الدراسات المقارنة و المنهج التاريخي و غير ذلك من المداخل التفسيرية عند دراسته لقضايا و موضوعات علم الاجتماع و لهذا يمكن أن نصنف فيبر على أنه أول من استخدم المدخل التفسيري بين العلوم الاجتماعية الأخرى .
و بالطبع كان لفيبر قدرات تفسيرية فائقه لاهتمامه ليس فقط بعلم الاجتماع و لكن بعلم الاقتصاد و السياسة و النفس و التاريخ و غيرها من العلوم الاجتماعية الأخرى التي ينادي أصحابها الآن بضرورة الاهتمام بالدراسات البيئية ( بين العلوم الاجتماعية ) لما فيها من إنجاز لتطوير هذه العلوم و تحديثها مثل العلوم الطبيعية .
النماذج المثالية :
ترتبط اسهامات ماكس فيبر في علم الاجتماع بطرحه مجموعة من النماذج المثالية التي ارتبطت بتحليلاته وأفكاره و ميزته عن غيره من علماء الاجتماع بصورة عامة .
و لقد حرص فيبر على أن يطرح هذه النماذج كمحاولة منه لتعزيز الأدوات المنهجية ، التي يمكن أن يستخدمها الباحثين و يسترشدون بها عند دراستهم و تحليلاتهم للظواهر و المشكلات و التي يهتمون بمعالجتها .
كما هدف فيبر من هذه النماذج بأن يسهم في فهم الفعل الإنساني و تقديم تفسيرات سببية لهذا الفعل و مجموعة السلوك و الأنشطة ، التي تتم داخل الجماعات أو في إطار المجتمع البشري الذي تظهر فيه .
وحاول فيبر أن يوضح ما المقصود بالنموذج المثالي ، و يجيب على ذلك عندما يشير إلى هذا النموذج بأنه ما هو إلا بناء أو تشييد عقلي يظهر من خلال وجود سمة أو خاصية أو علاقة أو وجهة نظر يمكن للباحث ملاحظتها في الواقع .
و النموذج ما هو إلا فكرة ذهنية مجردة يطرحها الباحث بصورة مثالية ، و يقوم باختبار هذه الفكرة المثالية التي يضعها من خلال تصوره الذهني أو الذاتي ، و يحاول بعد ذلك أن يقارن بينها و بين الظواهر الواقعية التي يسعى لدراستها و تحليلها ، و لذا فإن هذا النموذج المثالي يتم تشييده بصورة عقلية خالصة و يهدف إلى تقديم صورة ذهنية و ذاتية عن موضوع أو ظاهرة معينة يسعى الباحث بعد ذلك لاختبارها و مماثلتها بما هو موجود في الواقع.
كما أكد فيبر على أن النماذج المثالية لا يمكن أن توجد في الواقع بصورة كلية فقد تتماثل بصورة جزئية لما هو موجود بالفعل ، و هذا النموذج ليس فرضا ً علميا ً يطرحه الباحث ليتحقق منه بقدر ما هو أداة أو وسيلة تسهم في تحليل الأحداث و الظواهر و الشواهد الواقعية، أو هي بمثابة أداة تحليلية توجه الباحث في دراسته ليكون أكثر دقة عندما يسترشد بمثل هذه النماذج ، إذن فالنموذج المثالي يتكون من مفهوم أو مجموعة من المفاهيم التي يمكن مقارنتها في الواقع عند دراسة الحياة الاجتماعية أو الأفعال و السلوك البشري ، و معرفة الأسباب التفسيرية لكيفية حدوثها و تكرارها .
النماذج المثالية للبيروقراطية
يتميز مصطلح النموذج المثالي للبيروقراطية لدى فيبر كنوع من التنظيم التسلسلي و البعد العقلاني الذي يتضمن قطاعات كبيرة و خاصة في المجالات الإدارية الكبرى ، و قد استعمل هذا المفهوم ليميز به نوع معين من البناء و بصفة خاصة التنظيم العقلاني باعتباره الشريط الأحمر أو الخط الفاصل عبر معرفة العناصر البعيدة عن الكفاءة و الفعالة و لرفضه للتعريفات الشائعة عن البيروقراطية التي ظهرت في العديد من الكتابات المختلفة ، ففيبر يرمي لتكوين نمط مثالي خالص للتنظيم العقلاني للبيروقراطية كصفة مجردة لها محاكاة و مقاييس معينة تستخدم من قبل الباحثين و الدارسين في مجال التنظيمات البيروقراطية .
و يعرض فيبر الخصائص أو العناصر العامة التي يتميز بها نموذجه المثالي للبيروقراطية كما يلي :
يرتبط التنظيم بالقواعد الوظيفية و بمستوى خاص أو معين من الكفاءة الإدارية كما أنه يقوم على مبدأ أو أسلوب تقسيم العمل و هذا بالضرورة يحتاج إلى إجراءات و قواعد لخضوع الأعضاء و امتثالهم في جميع الحالات و الظروف التي تحيط بظروف العمل الوظيفية و المهنية ، كما يتألف من خلال أعضاء الجهاز الإداري أو هيئته التسلسل الذي يتم اختيارهم وفقا ً لنظام التعيين و الانتخاب ، يخضع هؤلاء الأعضاء في التنظيم جميعا ً لمبدأ التسلسل حيث يخضع كل عضو من أعضاء التنظيم إداريا ً و وظيفيا ً للفرد الذي يعلوه ويفوقه في المرتبة الوظيفية .
وهذا التسلسل بالطبع يأخذ طابعا ً أو شكلا ً هرميا ً ، و القواعد و الإجراءات الوظيفية تقوم على أسلوب رتيب خاص ، حيث توجد القواعد التكنيكية المعيارية و وجود الخبرة التخصصية القائمة على نوع خاص و معين من الترشيد بالإضافة إلى أن وضع أفراد أو أعضاء التنظيم بعيدين كل البعد عن امتلاك وسائل السيطرة و الإنتاج أما القواعد بصفة عامة فهي صارمة و جامدة .
و تكون مسجلة أو مكتوبة حتى في الحالات التي تكون فيها المناقشات بين الأعضاء شفوية ، فيكون لها طابع الإلزام أو صفة الجبرية ، مثل غيرها من القواعد و الوثائق المكتوبة .
ويوضح فيبر أهم العناصر أو الخطوط الرئيسية التي تظهر وضع الموظف الإداري و علاقات الداخلية الوظيفية سواء ً بينه وبين الأعضاء أنفسهم أو بينه وبين التنظيم ككل و هذه العناصر كما يلي :
1 ــ يكون الفرد في حرية شخصية و لكن امتثاله واحترامه للسلطة يكون طبقا ً للقواعد اللاشخصية .
2 ــ تكون العلاقة التنظيم للفرد واضحة محددة المعالم و حسب نظام التسلسل الداخلي للتنظيم ، كما أن وضع الفرد مرتبط حسب المكانة الوظيفية و الإدارية التي يشغلها .
3 ــ كل موظف أو فرد له قدر معين من الكفاءة الإدارية و الاقتدار .
4 ــ يكون الموظف بعيدا عن التعاقد الشخصي و العلاقات الشخصية داخل العمل غير موجودة .
5 ــ الموظف يعامل كفرد .
6 ــ يختار الموظفين حسب أسس تصنيفية مميزة مثل اختبار مميز أو الحصول على شهادات أو خبرة فنية أو كليهما .
7 ــ كل موظف يتقاضى راتبا محددا حسب مقدرته و كفاءته و انجازه و وضعه الإداري الداخلي في التنظيم و ليس حسب مكانته الاجتماعية .
8 ــ يخضع الموظف بحذر لأسلوب و نظام العمل حسب القواعد الوظيفية المكتوبة .
يؤكد فيبر أنه يمكن الاسترشاد بهذا النموذج المثالي للتنظيم البيروقراطي في دراسة العديد من المجالات الكبرى ، و التنظيمات المعقدة أو التنظيمات الخاصة ، مثل الأحزاب و الكنائس و المدارس ، فالنموذج المثالي قادر على التطبيق بسهولة في التنظيمات بأنواعها في المجتمع الحديث .
و يتناول فيبر بعض القضايا الهامة التي ترتبط بكتاباته عن البيروقراطية عموما فيوضح أن للبيروقراطية نوعين من المظاهر أو الأشكال التي تظهر من خلالهما ، و هما حكم الفرد و البناءات الكليلة ، و هي تنظيمات بيروقراطية تميل للأخذ بالديموقراطية و التعاون في ممارسة الحكم ، و تظهر كفاءات أو تنظيمات في مراحل التغير أو التحول الروتيني ، و لكن لها خصائصها البيروقراطية العقلانية .
و كليهما يخضعان للتغير و التعديل فالنوع الأول يكون مفتوحا للتغير والتعديل و الثاني يظهر من خلال عمليات فصل القوة و تحديدها و تظهر كبناءات غير مستقرة .
النموذج المثالي للسلطة
لقد طرح فيبر مجموعة كبيرة من النماذج المثالية في تحليلاته السوسيولوجية التي استخدمها بصورة كبيرة ، مثل النماذج المثالية للسلطة، عندما طرح ثلاث أنواع من السلطة :
أولا ً : السلطة الكارزمية
و هي تقوم على الاعتقاد المطلق لفرد معين لديه صفات استثنائية ، أو غير عادية تفوق الأفراد الذين يوجدون معه في المجتمع .
و الأمثلة التي قدمها فيبر و تمثل هذا النوع من السلطة تشمل الأنبياء و القواد المشهورين و الزعماء السياسيين الناجحين ، و يوضح أنه لما كان هذا النوع من السلطة لا يستند على قواعد متفق عليها سواء عن طريق عقلاني أو تقليدي و إنما يستند على الزعامة المطلقة وصفات الحاكم الخارقة .
لذا كان هذا النوع من السلطة لا يتسم بالعقلانية و من ثم فإن شرعيتها متوقفة على استمرارية وجود هذه الصفات الخارقة و إلا انهار النظام .
و يمكن أن تتسامى بالروتين العادي و تضيف قيما ً راديكالية ، للحياة اليومية كما أنها دعوة إلى العنصر غير العقلي وهاتان السمتان تجعلان من الكرزما كما يقول فيبر : القوة الثورية المتميزة في التاريخ ، و تمنح الفرصة دائما لظهور الكرزما في حالات الضرورة و الظروف القاهرة و لهذا فإن القائد الكارزمي راديكالي بطبيعته ، يحاول تحدي النسق الثابت وذلك بمعالجة جوهر المشكلة ، فالقائد الكرزمي في تأثيره يقود حركة اجتماعية أو دينية جديدة و غالبا ما يقنع أتباعه بهدف جديد و من ثم فإنه عندما تدرك كرزمته في البناء الاجتماعي وفلسفته القيمة ، فإنه من المتوقع أن يتصفا بالثورية و يؤكد فيبر أنه من أجل تفتيت الوضع الراهن و خلق نسق قيمي جديد لإحداث التغير فإن المصلحة المادية لا تكفي لخلق أو تفسير ذلك مما يحتاج إليه قوة روحية أو كرزما دينية .
سلطة التقاليد
و هي تقوم على الاعتقاد بقدسية التقاليد القديمة المتوارثة و شرعية السلطة فيها كما انها تستمد مكانتها الاجتماعية من الأفراد الذين يتمتعون بالسلطة .
فالسلطة الأبوية و سلطة رئيس القبيلة و سلطة الأمير أو الملك على أفراد شعبه تمثل أنواعا مختلفة للسلطة التقليدية ، إذا أن الأساس الذي تستند عليه هذه السلطة هو اعتقاد الأفراد بوجود قواعد معينة لها قدسية أو قوة سحرية معينة بحيث يتعرض المخالف لها لعقاب دنيوي أو روحي .
السلطة العقلانية
يكون الاعتماد في هذا النوع من السلطة على قواعد معينة يعتقد بها الأفراد و الشخص الذي يأتي إلى السلطة استنادا إلى هذه القواعد بنصوص دستور أو قواعد معينة غير شرعية يؤمن بها الأفراد و الشخص الذي يصل إلى السلطة عن طريق هذه القواعد هو الذي تكون سلطته شرعية ، و يذهب فيبر إلى أن السلطة في المجتمع الغربي قائمة على أساس الاقتراب من النموذج العقلي .
المعنى و الفعل الإنساني :
كان فيبر حريصا على تقدم العلوم الاجتماعية و محاولتها للوصول إلى درجة كبيرة من مستوى فهم الظواهر الاجتماعية التي تقوم بدراستها و تحليلها ، كما حاول أن يتعرف على طبيعة هذا الفهم و معرفة معناه و أسبابه ، و هذا ما جعله يسعى لتحليل طبيعة الفهم السببي، لدراسة الظواهر الاجتماعية و ما هو الفهم و نوعيته و معناه والذي يساعده في دراسة القضايا التي يهتم بمعالجتها .
و يعرف فيبر الفعل بأنه سلوك إنساني ظاهر أومستتر يمنحه الفرد الفاعل معنا ً ذاتيا ً وعلم الاجتماع إذن هو العلم الذي يسعى على دراسة الفعل الموجه إلى سلوك الآخرين ، و يذهب فيبر إلى أن الفهم على المستوى الذاتي للفاعل يمكن التحقق منه في صورتين :
أ ) الأولى تتمثل في الفهم الذي يركز على الملاحظة المباشرة للمعنى الذاتي ، فنحن نفهم المعنى وراء استخدام بندقية لصيد حيوان ، و نفهم المعنى الذاتي للأفعال غير العقلية التي تصدر عن انسان غاضب ... الخ ، و هذه المعاني نستطيع أن ندركها ، لأننا على وعي و إدراك بالمقاصد الذاتية التي ترتبط بالأفعال المماثلة التي تصدر عنا .
ب ) أما الصورة الثانية فهي متمثلة في فهم الدافع أو التبرير الذي يقدمه الفاعل لسلوكه و ذلك عن طريق ما يسميه فيبر عملية التخصص الوجداني ، فعن طريق المشاركة التعاطفية يمكننا ان نفهم السياق العاطفي الذي أدى بالفاعل إلى سلك مثل هذا السلوك ، أو بمعنى آخر لفهم الفاعل يجب على الباحث أن يضع الفعل في سياق الدوافع و يكون فهمه لطبيعة هذا السياق و وضع الفعل داخله بمثابة تفسير للمجرى الحقيقي للسلوك .
و لتحليل السلوك و فهم المعنى الذي وراءه يمكننا تخيل الانفعالات التي تظهر بين الناس حيث يتعرضون لموقف معين أو حادث معين ، و علينا ان نتخيل الدافع الذي يكمن وراء الفعل الصادر عن الشخص أو الجماعة و علينا بعد ذلك أن نكشف و نحدد غايات الفعل التي ستكشف بدورها عن أن حالة الشعور التي نصف على أساسها فعلا معينا تخضع لتوجيه الشعور التي تفترض ظهورها بظهور موقف معين أو حدوث حادث بالذات و غالبا ما تثار مشكلة كيف ربط فيبر بين السببية و المعنى ؟
يقرر فيبر أن التفسير السببي للفعل النموذجي يعني أن العملية التي يصل بها الفعل إلى مرحلة النموذجية يجب أن تكون ملائمة على مستوى المعنى ، في الوقت الذي يكون فيه التفسير ملائما من الناحية السببية إلى حد ما ، فإذا كانت الملائمة على مستوى المعنى غير متوافرة ، فكيف إذا نستطيع أن نحدد بطريقة الدرجة و العالية من الانتظام ، فضلا عن درجة الاحتمال .
فالملائمة إذن ستمثل احتمالا احصائيا غير محدد بحيث يصعب فهمه ، فمن الصعب إذن الحصول على تفسير سببي ذلك إما بسبب صعوبة توافر التفسيرات ذات معنى أو بسبب أن الفاعل قد لا يكون على وعي كامل ببعض ضروب السلوك ، كما أن هناك أنواعا أخرى من السلوك يصبح الفرد فيها عاجزا تماما عن إدارك المعنى الذاتي خاصة في أنواع السلوك التقليدية ، أي التي تخضع للعرف و العادات الاجتماعية أو السلوك الوجداني ـ الذي يخضع للانفعالات الشخصية .
و الفعل الاجتماعي حسب تعبير ماكس فيبر و الذي يجب أن يكون موضوع دراسة علم الاجتماع هو أي سلوك إنساني يضفي عليه الفاعل معنى ذاتيا ، و الفاعل حين يقوم بهذا الفعل الاجتماعي فإنه وضع سلوك الآخرين دائما في اعتباره و يكون فعله بالتالي موجها ً نحو الآخرين .
و قد اعتبر ماكس فيبر أن وحدة التحليل الأساسية في المجتمع هي الشخص الفاعل ، و قد أقام فيبر نظريته على أساس التمييز بين أربعة أنماط أساسية من الفعل الاجتماعي هي :
أنماط الفعل الاجتماعي :
1 ــ الفعل العقلاني الذي يرتبط بهدف ما .
2 ــ الفعل العقلاني الذي يرتبط بقيمة ما .
3 ــ الفعل الوجداني أو العاطفي .
4 ــ الفعل التقليدي .
الفعل العقلاني الذي يرتبط بهدف ما يتصف بأن الفاعل فيه يدرك بوضوح هدفا معينا يريد تحقيقه و تكون لديه أساليب مناسبة لتحقق هذا الهدف ، ومثال هذا النوع من الأفعال ما يقوم به المهندس الذي يصمم بناء معينا أو الشخص المضارب في سوق الأوراق المالية الذي يهدف إلى تحقيق مكسب مادي .
أما الفعل العقلاني الذي يرتبط بقيمة ما فهو ذلك الفعل الذي لا يهدف إلى تحقيق هدف خارجي معين بالنسبة للفرد بقدر ما يهدف إلى التمسك بقيمة معينة لها أهمية عظمى عند الفرد و مثال ذلك الفعل ما يقرره قبطان السفينة من ألا يدعها تغرق وحدها بل يغرق معها .
أما الفعل الوجداني أو العاطفي فهو ذلك الفعل الذي ينجم عن حالة عاطفية أو نفسية مباشرة للفرد ، و مثال ذلك حين تصفع الأم طفلها لأنه أتى سلوكا سيئا و هذا ما يعني أن هذا الفعل مؤقت لا يصر عليه الفرد لفترة طويلة و هذه الأفعال أفعالا وجدانية وليست أفعالا عقلانية لأنها ليست موجهة إلى هدف و لا مرتبطة بقيمة معينة و لكنها عبارة عن ردود أفعال عاطفية للتفاعل الذي يجد نفسه في ظروف معينة .
أما الفعل التقليدي ، فإنه ذلك الفعل الذي تمليه التقاليد و العادات الجمعية و المعتقدات و الفاعل في هذه الحالة لا يأتي فعله من أجل تحقيق هدف ما أو من أجل تمسكه بقيمة معينة أو لأنه مثار انفعاليا و لكن فعله يكون مجرد إطاعة الأفكار التي تم له اكتسابها من خلال عملية التطبيع الاجتماعي .
تعليق من الكاتبة حول أنماط الفعل الاجتماعي :
قسم فيبر الفعل إلى عدة أنماط أساسية أربعة و في رأيي أنه إذا ما نظرنا لهذا التقسيم قد لا ينطبق عليه ، و ذلك لسبب بسيط و هو ارتباط الفعل لدينا بالنية ، بحيث أن النية بحد ذاتها قد تحول الفعل العاطفي إلى فعل عقلاني ذو هدف ، فمثلا ً قد يبدو تعاطف أحدنا مع طفل يتيم و المسح على رأسه فعلا عاطفيا ، و لكننا نعلم أنه إذا ما ربطنا هذا الفعل بالنية الخالصة لكسب الثواب في حسن التعامل مع الأيتام لتحول هذا الفعل إلى فعل عقلاني يسعى لتحقيقه و يحمل قيمة يرتبط بها ، و إن لم يظهر هذا علانية .
و كذلك الفعل التقليدي ينطبق عليه نفس الأمر حتى على أبسط الأمور كالأكل و الشرب ، قد تتحول من فعل تقليدي إلى فعل عقلاني ، إذا ما ربط الإنسان المؤمن فعله بنية مثل أنني آكل و أشرب لأتقوى على العبادة و العمل فيما يرضي الخالق .
كما أنه يبدو أن الفعل العقلاني الذي يحمل هدف ما و الفعل العقلاني الذي يحمل قيما ما ، قد يختلطان أحيانا في ذهن الفاعل فيقدم القيمة على الهدف رغم أهمية الهدف لديه ، مما ينتج عنه عدم تحقق الهدف و أحيانا عدم تحقق القيمة ذاتها التي فعل الفعل لأجلها .
و كمثال على ذلك نجد أن سهى بشارة و هي الفتاة اللبنانية التي حاولت اغتيال العميل اللبناني انطوان لحد ، و فشلت في العملية لأنها قدمت القيمة على الهدف و ذلك أنها عند تنفيذها للعملية لم تطلق سوى رصاصتين حيث أرادت أن تحمل هاتين الرصاصتين رسالة للشعب اللبناني تدعوه إلى الوحدة ، و هذه القيمة التي أرادت اضفاءها على هذا الفعل جعلها تخسر الهدف ، و لكنها تقول اليوم أنها لو كتب لها أن تعيد تنفيذ العملية لحرصت على تحقيق هدفها أكثر من حرصها على تحقيق قيمة معينة .
و قد يكون من نافلة القول إضافة أن تصنيف هذه الأنماط قد يختلف من فرد لآخر و من مجتمع لآخر ، فما يكون في نظري فعلا عقلانيا قد يكون في نظر الآخرين فعلا عاطفيا و هذا ينطبق على سائر أنماط الفعل الاجتماعي .
ماكس فيبر و النظام الرأسمالي :
عرض فيبر لتطور الأساليب الصناعية و ظهور نظام المصنع الحديث و نوعية الآلات و الصناعات التي ظهرت في بريطانيا وعلاقتها بالانتاج والعمل و التوزيع و العرض والطلب و غير ذلك من العمليات التي مهدت لظهور الرأسمالية الحديثة ، كما يربط فيبر بين تلك المرحلة و ظهور مفهوم المواطنة و علاقته بمفاهيم الاقتصاد و السياسة و الطبقة الاجتماعية ، و الصراع بين الطبقات و ديموقراطية العصور الوسطى و الكلاسيكية ، و لقد سعى ماكس فيبر لبريهن على أن الرأسمالية تعد نظاما ً اجتماعيا و اقتصاديا في العصر الحديث ، و هي في مجملها نتاجا ً طبيعيا ً للدين البروتستانتي و ما يقوم عليه من مبادئ و قيم و معتقدات و تصورات دينين و مجتمعية خاصة لأنها تتوجه بفضل الأخلاق الكالفينية ، علاوة على ذلك أن كلا من الأخلاق الكالفينية و روح البروتستانتية توجه الحياة الاجتماعية اليومية العادية و لا سيما نحو الأنشطة الاقتصادية المنتجة مثال ذلك الادخار و الاستثمار و العمل والانتاج و احترام المهن و قدسيتها ، كما تنظم مجموعة من الواجبات و الحقوق و السلوك الاقتصادي و تنذر من عواقب الكسل و الخمول والاتكالية كما تحبب الفرد في تنمية علاقاته مع جماعات العمل عن طريق قيم علمية و دينية في نفس الوقت و لا سيما قيم الأمانة و الصدق و ضرورة اكتساب الخبرة .
من هذا المنطلق نجد أن فيبر قد ركز بوضوح على توجيه تحليلاته الدينية و ظاهرة الرأسمالية لمعرفة العلاقة بينهما ، كما وجهت معظم تحليلاته للبرهنة على أفكاره في تفسير الظواهر المجتمعية و الاعتماد فقط على العوامل المادية في فهم الواقع الاجتماعي المتغير و منتقدا العوامل المؤثرة في تشكيله بصفة عامة .
و من ثم فقد اهتم فيبر بدراسة الرأسمالية الصناعية و حاول أن يتعرف على ظروف نشأتها التاريخية و أسباب انتشارها و استمراريتها كما أنه رفض بعض التحليلات التي ترجع ظهور هذا النوع من الرأسمالية لأسباب تتعلق بزايدة السكان أو لتدفق المعادن النفيسة( الذهب والفضة ) إلى المجتمعات الغربية الأوربية مشيرا إلى أن هناك الكثير من أجزاء العالم الأخرى ظهرت فيها هذه الأسباب بوضوح ولكنها لم تنشأ أو تتطور فيها الرأسمالية عامة لذا يؤكد فيبر على أن السبب الأساسي وراء ظهور الرأسمالية كنظام اقتصادي و اجتماعي في المجتمعات الأوربية يرجع إلى ظهور الديانة البروتسانتية و خاصة المذهب الكالفيني الذي أسهم في تأسيس الظروف السيكولوجية التي أدت دورا في تبني الرأسمالية ، كما أنه يضيف أن ذلك المذهب اهتم أيضا بالنواحي الإدارية و البيروقراطية كأسلوب عقلاني في تنظيم علاقات العمل و الإنتاج في النظام الرأسمالي .
و بأسلوب فيبر التحليلي المميز ناقش العلاقة بين الاقتصاد الحر و الاشتراكي و الفوارق المختلفة بينهما ، و نوعية تحقيق و إشباع الرغبات الأساسية لهذين النوعين من الاقتصاد ، حيث يشير إلى أن الاقتصاد الجر أو اقتصاد السوق يكون الفعل الاقتصادي العقلاني فيه ، دائما على أساس تحقيق المصالح الخاصة و يحدث العديد من أوجه التعاون خلال ما يعرف بعملية التبادل في مقابل ذلك فإن الاقتصاد الاشتراكي يركز الفعل الاقتصادي العقلاني فيه لإقامة النظام بغض النظر للموافقة أو عدم الموافقة عليه .
نقد لأفكار ماكس فيبر
يعد ماكس فيبر واحدا من أعظم علماء الاجتماع الذين ظهروا خلال القرن العشرين و ذلك للأسباب التالية :
أولها و أهمها أن أعماله قدمت لنا أمثلة رائعة على الدراسة الدقيقة الجادة للمواقف الاجتماعية الملموسة و العمليات التي يجب أن تشكل أساس أي نظرية سوسيولوجية ملائمة .
ثانيا ً أنه أسهم بشكل واضح في توضيح الدور الهتم الذي تلعبه القيم في الحياة الاجتماعية في الوقت الذي ظل يؤكد فيه ضرورة أن تظل العلوم الاجتماعية متحررة من القيمة .
ثالثا ً أنه أوضح كيف أننا نستطيع أن نحقق الكثير باستخدام فكرة النموذج المثالي في العلوم الاجتماعية .
و أخيرا أنه أسهم بشكل كبير في فهم السببية الاجتماعية و ارتباطها بمشكلة المعنى في الموضوعات الإنسانية .
أما النقد الذي وجه إليه فمنه أنه كان يميل إلى تفسير الواقع الاجتماعي في ضوء الدافعية الفردية ، مايميع الحدود التي تفصل بين علم الاجتماع و علم النفس .
و يبدو أن فيبر قد غير من وجهة نظره هذه في أواخر حياته حينما أوضح إمكانية تغيير الأنساق القيمية و تبدلها ، و ما يترتب على ذلك من استحالة إقامة علم اجتماعي يتمتع بقدر كبير من الصدق و الثبات ، و على النقيض من وجهة النظر هذه من الممكن أن توجد قيم عامة صادقة ، و من الممكن أيضا دراسة التغير الاجتماعي و الثقافي بطريقة تعميمية .
و يعد ماكس فيبر مفكرا بارزا فأغلب أعماله في الواقع ليست سوسيولوجية بالمعنى الدقيق و لكنها تنتمي إلى العلوم الاجتماعية عامة .
و ترتبط كتاباته إلى حد كبير بمناقشة الظواهر التاريخية في ضوء مفاهيم علم الاجتماع أما الموضوعات التي ناقشها فيبر مناقشة سوسيولوجية خالصة ، فكانت موضوعات قليلة لعل أهمها : البيروقراطية و الدين و علم الاجتماع القانوني ، هذه المناقشات التي أسهمت في بداية حقيقية لهذه الفروع من الدراسة .
المراجع :
1 ــ بيومي ، محمد أحمد ، تاريخ التفكير الاجتماعي ، الاسكندرية ، دار المعرفة الجامعية ، 2000 م
2 ــ سمير نعيم أحمد ، النظرية في علم الاجتماع ، القاهر ة ، دار المعارف ، 1985م
3 ــ عبد الرحمن ، عبد الله ، تطور الفكر الاجتماعي ، الاسكندرية ، دار المعرفة الجامعية ، 1999
4 ــ غيث محمد عاطف ، تاريخ النظرية في علم الاجتماع واتجاهاتها المعاصرة ، الإسكندرية ، دارا لمعرفة الجامعية 1987م
5 ــ غيث محمد عاطف ، قاموس علم الاجتماع ، الإسكندرية ، دارا لمعرفة الجامعية 1997م
6 ــ عمر، معن خليل ، نظريات معاصرة في علم الاجتماع ، الأردن ، مطابع الأرز ، 1997م
7 ــ نيقولا تيما شيف ، نظرية علم الاجتماع طبيعتها وتطورها ، ترجمة د محمود عودة وآخرون ، الإسكندرية ، دار المعرفة الجامعية ، 1993م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق