مقدمة
ليست النظرية من كماليات البحث العلمي بقدر ما هيضرورة ملحة للباحث الاجتماعي، لذا فالدعوة إلى التخلي عنها أو التقليل من أهميتها يجب مواجهتها بالرفض التام حتى لا يُحرَم الباحث من الأرضية الرئيسية لتأسيس علمه، إذ أنه بدون نظرية تمثل رصيدا لأي علم فلا وجود لأي أساس للعلم. إذن أهمية النظريةتكمن في أننا نقرأها لا لنفهمها ونطورها فحسب بل لأن النظرية تمثل نمطا لبناء المعرفة العلمية وضرورة لكل ملاحظاتنا، إنها الشرط الضروري لانطلاق التفسيروالتحليل حتى وإن كانت غير كافية حينا لإحداث قطيعة تامة مع التفسيرات غير العلمية. فلماذا الاهتمام بالنظرية؟
يرى العلماء أن التقدم العلمي لا يمكن أن يتم إلا إذا أُنجز على مستوى نظري، بيد أن المعرفة العلمية ليست مجرد تراكم للمعارف، ذلك أن صياغة النظريات العلمية وتصوراتها وتنظيماتها إنما تتحكم فيها مجموعة من الفرضيات والمفاهيم التي يسميها،، توماس كوهين ( Thomas Kuhn )في كتابه الشهير عن " بنيةالثورات العلمية "،، بـ " الشكل التحليلي " ؛ هذا المفهوم الذي لم تحظ ترجمته بالرضى لدى الباحثين العرب. وفي واقع الأمر فإن التقدم في البحث العلمي والتنظير ليس مسالة متوازية المسير بل متلازمة. فالتقدم العلمي لا يتمثل بمجرد تجميع للحقائق فحسب بل هو عملية تبرز في التغيير النوعي في بنية الأنساق النظرية. فإذا كان هدفنا هو الوصول إلى خلاصات هامة تتجاوز ما هو متعارف عليه فلا يمكن تحقيق ذلك من الاعتماد على الجانب الامبريقي دون ضبط للجانب التنظيري وإلا باتت بنية الأنساق النظرية جامدة وفقيرة مثلما هو الحال في علم الاجتماع الأمريكي الذي يفتقد إلى الأسس النظرية في تفسير الظواهر الاجتماعية أو الربط بين خيوط الظاهرة.
يشير عالم الاجتماع الأمريكي تالكوت بارسونز ( T.Parsons ) إلى النظرية من حيث وظيفتها أيضا في البحث العلمي: " فالنظرية لا تصبح فقط ما نعرفه ولكنها تقول لنا أيضا ما نود معرفته، أي أنها تمدنا بالأسئلة التي تبحث لها عن الإجابة ". إذن النظرية لهاقدرة فسيحة على التعامل مع الأشياء.
لو انطلقنا من بناء البحث العلمي لاستطعنا القول أنه ينطلق من جملة من المعلومات التي تتخللها إشكاليات ما وتتجه إلى صياغة ابستيمولوجية ( معرفية ) للمشكلات المثارة، ومن هذه المشكلات ننتقل بعد ذلك إلى رصيد من الفرضيات التي تكوِّن القاعدة لكل عملية تنظير. ومن الواضح أن الوصول إلى مرحلة التنظير مسألة تستدعي المرور بعدة مراحل، فالبحث العلمي ما بين المعطيات الامبيريقية والسير نحو التنظير لا بد له من التوقف عند اقتراح الفرضيات العلمية مقابل استبعاد الفرضيات غير العلمية حتى يتسنى له الاقتراب من الاشكاليات.
ولكن ما أن نصل إلى النظرية حتى نكون أمام جدول متناسق من الحقائق المعروفة، وبهذا المحتوى والوضوح للنظرية نستطيع أن نتبيَّن كيف تم تنظيم وبناء تلك الحقائق، كما أن النظرية تفسر هذا البناء المعرفي وتمدنا بنقاط مرجعية تسهل علينا الانطلاق في البحثعن بنىً معرفية جديدة وحقائق جديدة.
في هذه الوثيقة المرجعية التي تتكون من جزأين سوف نتحدث عن بعض من أشهر رواد النظرية الاجتماعية بشقيها التقليدي والحديث، فما هي النظرية الاجتماعية؟
- بصفة عامة يمكن القول أن النظرية السوسيولوجية هي كل محاولة فكرية تفسر جانبا من الحياة الاجتماعية، فالنظرية السوسيولوجية في هذا الجانب يمكن اعتبارها امتدادا لما يسمى بالفكر الاجتماعي الذي ترجع جذوره إلى المفكرين والفلاسفة القدماء. وعندما نتساءل عن النظرية السوسيولوجية فالشيئ الذي يميزها عن المفاهيم هو أنها قادرة على أن توفر لنا نوعا من التفسير لملمح من ملامح الحياة الاجتماعية أو ظاهرة من الظواهر.
- ولكن هناك رؤية مختلفة، إذ يرى البعض أن النظرية الاجتماعية ليست سوى مجموعة من الفرضيات القادرة على الصمود في ساحة البحث الاجتماعي الميداني. وبمعنى من المعاني فالنظرية ليست إطارا نظريا يساعد على التفسير إنما يمكن تطبيقها على الساحة والحياة الاجتماعية، وبالتالي فهي عبارة عن مجرد فرضية مُعَدَّةٌ للاختبار.
- وفعليا ثمة الكثير من النظريات المعاصرة في علم الاجتماع ليست أكثر من مجموعة أفكار غير متماسكة، أي أنها ليست مجموعة منظمة من الفرضيات التي يمكن اختبارها.
- بهذا المعنى الذي يتحدث عن النظرية الاجتماعيةبوصفها تفسيرية لأحد مناحي الحياة الاجتماعية أو مجرد فرضية قابلة للاختبار ميدانيا لن يكون أمامنا إلا التسليم بغياب النظرية الاجتماعية، وما النظريات الشائعة إلا مجموعة من الأفكار لم تصل بعد إلى مستوى النظرية.
- أخيرا فإذا كانت النظرية بوصفها حصيلة لتعميم يستوحيه الباحث الاجتماعي من حقائق معروفة تمثل بطريقة حاسمة وكاملة قدر الامكان مجموعة من القوانين والفرضيات المختبرة إمبيريقيا فإن أحسنالنظريات السوسيولوجية هي تلك التي تمدنا بأحسن أداة للتعامل مع واقع اجتماعي معين وفي علم الاجتماع المعاصر ثمة نوعين من النظريات:
- النظريات الكبرى، ومثالها النظرية الماركسية ذات الطرح الشمولي أو التحليل الماكرو سوسيولوجي.
- ولكن هناك تصنيفات أخرى للنظرية الاجتماعية على أساس نظريات البنية ( النظريات البنيوية الأنثروبولوجية والاجتماعية ) أو نظريات الفعل كالنظرية التفهمية لـ ماكس فيبر.
الجزء الأول:
النظرية الاجتماعية التقليدية
الوضعية 1 -
سان سيمون S. Simon
( 1825 - 1760 )
المقاربة الوضعية هي منهجية تحليله تقوم على استبعاد لأنماط الفكر والتحليل اللاهوتي ( الديني ) والميتافزيقي ( التجريدي = الطبيعة ) من أي تحليل مقترحة بديلا عنهما الإنسان الذي بات يتمتع بقيمة مركزية في الكون، بهذا المضمون سنكون على إطلالة لمعادلة جديدة تحكم سير الحياة الاجتماعية برمتها على النحو التالي:
الظاهرة الظاهرة الظاهرة
مرجع لاهوتي مرجع ميتافزيقي مرجع إنساني / الوضعية
الدين الطبيعة = التجريد العقل
هذه المعادلة التي ستمثل لدى أوجست كونت المراحل التي مرت به الإنسانية ومصدر قانون الحالات الثلاث تبين لنا أن الإنسان لم يكن موضع ترحيب في المرحلتين السابقتين , إذ أن الإنسان عجز عن أن يجد له موقع او مكانة فيما مضى لذا فقد استبعد من أي تحليل للظواهر مفسحا المجال أمام القوى الدينية أو قو ى الطبيعة. وبما انه لم يكن للإنسان أية قيمة فلم تكن أيضا للمجتمع آية قيمة, ولهذا تطورت الوضعية العلمية التي تناولت ظواهر طبيعية بينما لم تتطور ذات الوضعية حينما كانت تتناول ظواهر متعلقة بالإنسانوالمجتمع , وسنرى كيف وضع أوجست كونت حدا لهذه الازدواجية في التفكير والتي يسميها الفوضى العقلية التي تسببت في ثلاث ثورات برجوازية وقعت في أعقاب الثورة الفرنسية 1789 حتى سنة 1848، ولكن قبل الوصول إلى أوجست كونت علينا العودة الي جذور الوضعية لدى أستاذ كونت وهو المفكر سان سيمون.
عاش سان سيمون في نظام إقطاعي سليلا لأسرة أرستقراطية، ويحمل لقبا اجتماعيا هو الكونت وكان ضابطا برتبة ملازم أول لما كانت فرنسا تخوض حربا ضد الإنجليز في شمال القارة الامريكية، وقد نضج فكره حلال الثورة الفرنسية التي كانت بمثابة ثورة على النظام الاجتماعي والاقتصادي في أوروبا عامة وفرنسا خاصة وثورة على النظام المعرفي التقليدي السائد في فرنسا وثورة على النظام السياسي الملكي.
بداية المقاربة الوضعية:
بدأت المقاربة الوضعية في مرحلة الفكر الموسوعيالذي عرفه في القرن 18 واتخذت عند سان سيمون طابعا تطبيقيا عمليا وليس نظريا مثلما كان سائدا في المرحلة التجريدية أي العلم النظري المجرد، ففي القرن 18 طور الفكر الموسوعي آليات تحليل جديدة تقوم على الترابط بين المعرفة والواقع الإنساني لذا سيمثل هذا الفكر مرجعية سان سيمون. فمن أين البداية إن لم تكن من المقاربة الوضعية للدين؟
أ. تعريف سان سيمون للدين:
في كتابة الشهير ( المسيحية الجديدة ) يعرف الدين بأنه:
"جملة تطبيقات العلم العام التي يمكن بواسطتها أن يحكم الرجال المستنيرون غيرهم من الجهلة ".
بهذا المضمون فان الديانة عند سان سيمون هي أداةمدنية للحكم المستنير لغير المستنيرين. وبما أن الدين يلعب دورا في التربية لذا فان التربية هي العنصر الذي يساعد على توطيد المشاعر الديموقراطية وتحقيق القيمالأساسية.
مفهومي " السياسة " و " الديموقراطية = الحرية "
· السياسة هي علم الانتاج.
· الحرية هي نبذ الميز العرقي والثقافي والسياسي.
فما الذي يحدث عندما يلتقي المفهومان؟ سنلاحظ تغييرا في مفهوم الأمة. وإذا أعطينا هذين المفهومين مدلولا وضعيا وتصورا موضوعيا ( أي محاكمة المفهومين وتحليلهما علميا وليس دينيا ولا تجريديا ). فالذي سيحدث أن أمة جديدة ستنبثق.هذه الأمة متحررة من الميز الديني والانغلاق مثلما ستكون متحررة من تبعات الإقطاعية. ومثل هذه الامة الجديدة يسميها سان سيمون بـ " الأمة العاملة ".
استنتاج أولى:
من الملاحظ أن تغير القاعدة المعرفية تسبب في تغير النتائج. فلو نظرنا إلى المفهومين في المراحل السابقة على الوضعية فلا يمكن الحديث عن أمة عاملة بالمعنى السان سيموني لان السياسة كانت حكرا على طبقة معينة ولان المجتمع ليس حرا ولا يتمتع بأية عدالة , ومثل هذه السياسة والعبودية كانتا تجدان لهما شرعية ذات طابع ديني او طبيعي. بيد أن الوضعية بوصفها استعمال للعقل ورفع من مكانة الإنسان قدمت السياسة كأداة حيوية في تنشيط الحياة الاجتماعية والاقتصادية ونقلت الأمة من طور الخمول والكسل الي طور العقل والإنتاج ووضعت الجميع على قدم المساواة واصبحالإنسان سيد نفسه حرا من ا ي تمييز عرقي او ثقافي او سياسي.
هكذا فالانتقال من المرحلة الإقطاعية اللاهوتية الى المرحلة الصناعية العلمية هو انتقال من ساحة العلمالنظري الي ساحة العلم التطبيقي العملي. فالوضعية تأبى الاعتراف بفواصل مابين النظري والعملي إذ ثمة ترابط بين المعرفة والواقع الا نساني.
المواطنة والعدالة الاجتماعية:
يربط سان سيمون بين مفهوم المواطنة الذي جلبه معه من أمريكا حيث كان يقاتل الجيش الإنجليزي في بلد تعج فيه الثورات الأهلية الكبرى والعارمة وبين العدالة الاجتماعية بل انه ينحاز الى مفهوم المواطنة معلنا فيكتابه ( المسيحية الجديدة ) تخليه عن لقبه الكونت:
[ لم يعد ثمة أسياد.نحن جميعا متساوون.وأعلمكم بهذه المناسبة أنني أتخلى عن صفتي الكونت التي اعتبرها وضعية جدا أمام صفتي كمواطن..]
تبع هذا الإعلان حسما لتردد سان سيمون في تأييدهللثورة الفرنسية في البداية ثم نال لقب المواطن الصالح مرتين متتاليتين مما يعني انه بات رمزا للتحرر والمساواة والتجديد. هذه النقلة في حياة سان سيمون – المواطن الصالح – ليست نقلة سياسية فحسب بل نقلة اجتماعية وفي هذا الأساس نقلة فكرية ومعرفية في ذات الوقت. كما أن هذه النقلة أيضا جهد سان سيمون في ترجمتها من خلال عمله الدؤوب من اجل تغير مضمون المسيحية من الداخل وإكسابها مضمونا جديدا علميا يقوم على مبدأ الحرية والمساواة. هكذا يبدو الدين هو العلم العام كما يصرح سان سيمون.
عودة إلى مفهوم الدين:
إذن الدين ليس حالة ثابتة بقدر ما هو حالة تطورية ولما يتساءل عن الدين وماهية الأديان نراه في كتاب ( المسيحية الجديدة ) يقول بتطورية الأديان وعدم بقائها على حالها.
[ الأديان مثلها مثل بقية المؤسسات تتمتع بطفولة وفترة قوة ونشاط وأيضا مرحلة انهيار وحين تكون في مرحله انهيار فأنها تكون ضارة ,أما في مرحلة الطفولة فهي غير كافية..]
ب. قراءة في المقاربة الوضعية للأديان عند سان سيمون:
السؤال: لماذا ينظر الكثير إلى سان سيمون على انه من مؤسسي علم الاجتماع الديني؟
لانه في واقع الأمر ساهم ولو بشكل محدود في تأسيس هذا العلم. ومن حيث الجوهر لان سان سيمون قدم الأديان بوصفها ظواهر اجتماعية وإنسانية من الممكن تحلياها تحليلا علميا كبقية الظواهر الأخرى. بل أن سان سيمون قاربها كما فعل ابن خلدون في نظريته حول تداول الحضارات التي تنشأ ثم تقوى ثم تنهار, وهكذا بدا له الدين. إذن الوضعية تخلصت من كل الثوابت المقدسة.
ت. ما هو الدور الذي تلعبه الفلسفة الوضعية؟
يلاحظ أن الوضعية الجديدة كما مارسها سان سيمون لا تهدف فقط الى تغيير شروط إنتاج المعرفة بل الى تغيير النظام السياسي والمؤسساتي والاقتصادي. بمعنى أن الوضعية تمثل نقلة جذرية في النظام السياسيوالاجتماعي القائم. وما لم تحدث هذه النقلة فمن المستحيل أن نتحدث عن أمة عاملة.
إذن ثمة تغييرات تجعل من المجتمع عنصرا إيجابيا.
والسؤال هو: ما هي مستويات التغيير الجديد بحسب المقاربة الوضعية؟
أولا: تحقيق العدالة في مضمونها السياسي والاجتماعي واستبعاد الدين من الحياة الاجتماعية ثمة مبدأ يحكم تحقيق العدالة المنشودة ذو بعد شخصي وعلمي لدى سان سيمون. هذا المبدأ هو وجوب جبر الهوة الفاصلة بين النظري والتطبيقي للوصول الى علاقة تكاملية بينالمستويين، ودون ذلك سيظل هناك ازدواجية تحافظ على استمرارية الهوة الفاصلة لذا لابد من إنجاز منظومة ابستمولوجية ومعرفية جديدة تقوم على التكامل بين البعدين النظري والتطبيقي ولعل أوضح مثال هو ما طبقه سان سيمون على نفسه تعلق في دعوته إلى تحقيق العدالة تخليه عن لقب الكونت وإعلائه لشأن المواطنة ( لم يعد بيننا أسياد…).
هذه المقاربة الوضعية الباحثة عن العدالة السياسية والاجتماعية ستسعى عمليا الى:
· هدم العناصر السياسية والمؤسسية المكونة للنظام السياسي والاجتماعي القديم والتي من بينها التميزات الطبقية والاجتماعية والمسيحية في شكلها التقليدي · لذا فان سان سيمون سيرسي دعائم تعامل معرفي جديد مع الظاهرة الدينية بمختلف تنظيماتها ومؤسساتها، تعامل يقوم على اعتبار الظاهرة الدينية ظاهرة اجتماعيةإنسانية من خلال إخراجها من دائرتها المقدسة والنظر إليها باعتبارها ظاهرة إنسا نية، هذا المبدأ المعرفي الجديد تجاه الظاهرة الدينية سنجده حاضرا وقائما في كتابات الكثير من العلماء مثل غاستون لبلوسG.lebles و هنري و دوركايم و مارسيل موس , هذهالأسماء بالإضافة الى ماكس فيبر سيكونون أهم المتخصصين في علم الاجتماع الديني مستنيرين باطروحات سان سيمون ومفهومه للدين ومنهج التعامل معه.
ولكن لماذا يجهد سان سيمون لاستبعاد الدين من الحياة الاجتماعية ويشدد على تشجيع التعامل الجماعي بين أفراد المجتمع؟ ثم لماذا تنقل سان سيمون بين الكنائس مبشرا بالمسيحية الجديدة؟
مجتمع سان سيمون
إن مجتمع سان سيمون هو مجتمع صناعي علمي , ومثل هذا المجتمع يبحث عن دماء جديدة لضخها في عروقه كما انه يحتاج الى وحدة معرفية ومعياريةوبالتالي لابد من القضاء على مخلفات النظام القديم بكل منظوماته وتشكيلاته ومعتقداته وتصوراته وبناه وأنماط تفكيره وتحليله إذا ما أردنا تحقيق العدالة والتقدم فكيف العمل؟ وما العلاقة بين الدين والمجتمع الجديد؟
يحرص سان سيمون على تجاوز الدين اعتقادا منه انه العقبة التي تشجع الفراغ. ولانه ثمة تناقض بين الفراغ والعمل الجماعي المنتج لذا ينبغي أن نغير مضمون الدين بان نكسبه مضمونا جديدا يتمثل في نظام بشري جديد. ولان الإنتاج الجماعي او الخلق الجماعي تحديدا يقوم على الانتاج البشري، لذا ينبغي فك التناقضات التي يعاني منها مجتمع ما بعد الثورة – أي المجتمع الصناعي – إذ يلاحظ سان سيمون أن المجتمع ما زال في حالة صراع قائم على:
· معرفة لاهوتية ومعرفة علمية.
· سلطة إقطاعية وسلطة صناعية.
إذن ثمة تحالف بين المعرفة اللاهوتية والسلطة الإقطاعية ضد المعرفة العلمية والسلطة الصناعية ولفك هذا التناقض أو التحالف ينبغي استبعاد الدين للسماح بمرور العمل الجماعي المنتج وقتل الفراغ.
ثانيا: تشجيع العمل والإنتاج
إن التغيير الجديد التي تريد إرساءه المقاربة الوضعية يقوم أساسا على العمل والإنتاج كيف ذلك؟
بانتشار الأفكار الوضعية بفعل انتشار الصناعة.
إذ يعتقد سان سيمون أن انتشار الأفكار الوضعية ستساعد وستشجع على انتشار الصناعة التي هي الشرط الأساسي والوحيد لقيام مجتمع وضعي ومعرفة وضعية،فالصناعة بطبيعتها تخلق مجتمعا وضعيا وتصورات وضعية في نفس الوقت استنادا الي مبدأ يعتبر أنالمعرفة العملية تعني المعرفة العلمية. إذن الصناعة هي مبدأ مركزي في كل النظريات المعرفية،هذا المبدأ نجده لدى الفكر الاشتراكي الطوباوي الذي يشمل ويعبر عنه سان سيمون و قودوين و بودون.إذ أن الفكر الاشتراكي الذي يعد سان سيمون عميده بني على مركزية مبدأ الصناعة. بمعنى أن الصناعة تشجع بطبيعتها على خلق القيم الوضعية المستقلة عن الفكر الديني والكنسي في نفس الوقت. كما نجد مركزية مبدأ الصناعة عند دوركايم من خلال كتابيه " تقسيم العمل الاجتماعي "و" الانتحار " وكذا مع ماكس فيبر في كتابه " الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية ".
قيمة الصناعة ومكانتها:
إذن الصناعة في الفكر السياسي والاجتماعي الغربيعامة والفرنسي خاصة هي شرط كل التحولات النوعية والفكرية والاجتماعية.
مثال 1: العقلانية كما عبر عنها ماكس فيبر هي قيمة بيروقراطية وصناعية قبل كل شيئ فالمجتمع الذي لا يملك بيروقراطية و أبنية صناعية لا يمكن ولا يحق له أن يدعي العقلانية.
مثال 2: يقيم سان سيمون مقاربة بين الانتاج والكسل وأمة كسولة وأمة عاملة ويتساءل في إطار المقاربة الوضعية: هل يمكن أن يحصل تعايش بين الأمتين؟ لذا يطالب سان سيمون بالحزم مع الأمة الغير منتجة بضرورة إزاحتها ولتحل محلها الأمة المنتجة ولكن ما هي أداة التغيير؟
وفي المجتمع الإقطاعي يعود سان سيمون ليؤكد علىاستعمال أدوات المعرفة الوضعية والعمل على القضاء على الهوة الفاصلة بين البعد النظري والبعد التطبيقي للوصول الى وحدة المعرفة , هذا هو جوهر المقاربة الوضعية. لذا نجد سان سيمون يصر على استبدال المضمون القديم للمسيحية بمضمون جديد يعمل علىتطويرها من الداخل، هذا المضمون الجديد يتمثل في كتابه " النظام الصناعي " من خلال:
· التأكيد على سعيه الى تكوين مجتمع حر.
· التأكيد على نشر المبادئ والقيم التي ستكون أرضية النظام الجديد.
· التأكيد على إن النظام الاجتماعي يستند على ثلاث فئات:
أ. الفنانون لأنهم يفهمون قيم التغير ويشكلون أداة تشجيع للمجتمع حتى يغير أوضاعه القائمة.
ب. العلماء الذين يقترحون تصورات وبدائل ووسائل عامة يمكن استعمالها لتحسين حال الأغلبية.
ت. الصناعيون الذين يشجعون المجتمع على القبول بالمؤسسات الجديدة.
أما منطق الترتيب أعلاه فهو التقاء الإلهام مع التفكير ومع الإبداع والمهم في هذا التصنيف أن الصناعيين يتربعون على قمة المجتمع الصناعي وفي أعلى مراتب النظام الاجتماعي الجديد. ولنقرأ أهميه المقولة التالية لـ سان سيمون:
[ لو حدثت في ليلة صماء فاجعة مفاجئة ذهبت بأكثر الشخصيات الكبرى من الأسرة المالكة والوزراء وكبار القضاة…وسواهم ممن هم في هذه الطبقة , فان الشعبالفرنسي سيبكيهم حتما لانه شعب حساس , ولكن هذه الفاجعة لا تبدل شيئا مهما أو تغير تغييرا ذا اثر في أعماق الشعب , أما لو ذهبت هذه الفاجعة برؤوس العلماء والصناعيين وأرباب المصارف والبنوك … فان خسارة المجتمع فيهم كبيرة جدا لان مثل هؤلاء لا يمكنتعويضهم بسهولة !!] ( راجع: تاريخ السوسيولوجيا / غاستون بول ).
استنتاجات
أ.) في مجتمع العدالة والمساواة، هو المجتمع الحر الذي يقوم على حركة جمعانية أي مجموعة من المواقف لم يعد الفرد فيه خاضعا
· هذا المجتمع أُخرج الفرد من مرحلة الفكرة ليصبح مواطنا. وهذه نقلة سياسية واجتماعية.
· أشرك الفرد مع الآخرين ( المجتمع ) في عمل جماعي واحد وإبداع واحد وخلق واحد.
هذا يعني أن الوضعية بالمضمون السان سيموني تعبر عن مردودية الفرد وليس فقط تغيرا في الأوضاعالاجتماعية والسياسية. كما يعني أن سان سيمون يراهن على دور المجموعة على التغير، هذه المجموعة التي تبنى على ثلاث مستويات وهي:
· الانتاج
· التقنية
· الصناعة
ب.) العناصر الأساسية التي اعتمدتها المقاربة الوضعية مع سان سيمون هي:
1. تحييد الدين والفكر اللاهوتي عن كل مشاركة في الحياة العملية.
2. وضع أسس مشروع علمي وفكري ومعرفي يقوم على مبدأين أساسين هما:
· مبدأ العلمية ؛ فلا تعامل بعد الآن مع الظواهر والأشياء الا من منظور علمي.
· مبدأ العلمنة وفيه تحييد وإقصاء صريح للدين.
هذه هي آليات التحليل العلمية التي ضمنها سان سيمونللمقاربة الوضعية وهي الآليات التي سنجدها مستعملة في النص الكونتي بطريقة او بأخرى. هذه أيضا هي الأرضية المعرفية والعلمية التي سينطلق منها اوجست كونت ليجعل من المقاربة الوضعية اكثر قربا من الواقع والتحليل. ومبدئيا فالمقاربة الوضعية ستجمع بين مستويين رئيسيين:
1. المستوى النظري: عبر قراءة العلوم وتنظيمهاوتثبيتها وهو ما قام به سان سيمون.
2. المستوى التطبيقي: وهو تطبيق عناصر المقاربة الوضعية في تحليل واقع المجتمع.
ومن هذه الأرضية المعرفية سينطلق اوجست كونت في ترتيب بيت العلوم
الوضعية - 2
أوجست كونت / A. Comt
(1857 – 1798)
أولا: حياته
عمل اوجست كونت سكرتيرا لسان سيمون وتأثر به اشد التأثر. واتصل بتقاليد القرن 18 الموسوعية فكان ذو سعة معرفية. وقد امتاز مجتمعه بالاضطراب والفوضى حيث المرحلة الانتقالية بين التقليد والحداثة. ونجد أن عصره امتاز بشيوع ظاهرتي النماء (التنمية )والتقدم (التحديث). وأشد مايؤثر عنه سعيه إلى بناء شجرة المعرفة حيث صنف العلم تصاعديا: الرياضيات – الفلك - الفيزياء –الكيمياء –الأحياء وأخيرا السوسيولوجيا.
ثانيا: تأسيس علم الاجتماع بين الضرورة والحاجة
إن قيام علم الاجتماع في عصر كونت جاء كضرورة اجتماعية وحاجة علمية ملحة حتمتها الرغبة في إصلاح المجتمع وإنقاذه من الفوضى الضاربة فيه.ذلك أن حالة المجتمع الفرنسي بعد الثورة اتسمت بـ:
· فوضى عقلية فاضطراب خلقي وفساد عام
· وإن انسجام المصالح المادية والمنافع المتبادلة لن تحقق الاستقرار والتقدم.
لذا فإن تنظيم أي شأن من شئون الاجتماع والأخلاق والسياسة والدين لن ينجح إلا إذا سبقه تنظيم عقلي للآراء ومناهج البحث وطرق التفكير.
ماهية فوضى العقل:
وجد أوجست كونت أن الفوضى العقلية ناجمة عن وجود أسلوبين متناقضين للتفكير وفهم الظواهر:
· الأسلوب الأول:
هو الأسلوب العلمي الذي يستعمله الناس للتفكير في الظواهر الكونية والطبيعية والبيولوجية.
· الاسلوب الثاني:
هو التفكير الديني الميتافزيقي الذي يستعمله الناس للتفكير في الظواهر المتعلقة بالإنسان والمجتمع.
السؤال هو: كيف يمكن التوفيق بين نمطي تفكير متناقضين في وقت يسعى كونت الى تحقيق وحدة المعرفة الإنسانية.
ثلاث مقترحات لمواجهة الفوضى:
أولا: التوفيق بين التفكيرين الوضعي والميتافيزيقي بلا أي تناقض،فما هو محتوى التفكيرين؟
المنهج الوضعي
· يقوم على الملاحظة وتقرير طبائع الأشياء كما هي
· يدرس الحقائق الجزئية وعناصر الظواهر بحثا عن أسبابها المباشرة
· يؤمن بخضوع الظواهر لقوانين يمكن الكشف عنها
· منهج نسبي غايته كشف القوانين العلمية
المنهج الميتافزيقي
· يقوم على التأمل النظري والبحث المطلق.
· يدرس الحقائق الكلية بحثا عن العلل الأولى
· لا يؤمن بخضوع الظواهر لقوانين يمكن الكشف عنها
· منهج مطلق غايته وضع مبادئ فلسفية لاسبيل الى تصورها
من الواضح أن مقاربة هذين النمطين من التفكير أو أي محاولة للجمع بينهما ستؤدي الى اضطراب عقلي في أذهان الناس. لذا ينبغي التخلي عن هذه المقاربة المستحيلة بسبب الفرو قات الحادة بين الفكرين.
ثانيا: صرف النظر عن التفكير الوضعي وإنجازاته وإخضاع كل العقول والعلوم إلى المنهج التيولوجي الميتافزيقي كمنهج عام وشامل.
هذا الحل قد يعيد إلينا الوحدة العقلية ولكن هل يمكن تحقيقه علميا؟
· من استحقاقات هذا الحل القضاء ليس على الطريقة الوضعية فحسب بل إنكار كل الانتصارات العلمية التي تحققت في التاريخ الإنساني انطلاقا من التفكير الوضعي. مثلا علينا أن نتنكر لاختراع الطباعة وإنجازات كوبرنيك وجاليليو و ديكارت و بيكون و نيوتن وغيرهم ممن اشتغلوا بالأبحاث الوضعيةوأوصلوا لنا تراثا عقليا أورثونا إياه.
· من جانب آخر فإذا تراجعنا عن الوضعية كنمط للتفكير فهل سننجح في تجميد القدرة على التفكير؟ هل نستطيع الحد من تطور التفكير وابقائه جامدا على حاله؟ وهل نستطيع أن نتحكم في قوانين الطبيعة التي حكمتعلى المراحل السابقة بالفساد فنمنعها من ان تحدث النتيجة نفسها؟ من المؤكد أن جعل التفكير الوضعي شيئ من قبيل العدم مستحيل شكلا ومضمونا.
ثالثا: تعميم النهج الوضعي وجعله منهجا كليا عاما وشاملا لكل ظواهر الكون [= وحدة المعرفة الوضعية ]
من استحقاقاته القضاء على ما تبقى من الفكر الميتافيزيقي ومظاهره وأن يفهم الأفراد ظواهر الاجتماع اعتمادا على المنهج الوضعي بما في ذلك ظواهر الإنسان والمجتمع التي كانت تستبعد من التحليل الوضعي قبل اوجست كونت.
ولكن ثمة شرطين لفهم الظواهر على الطريقة الوضعية:
1. أن تكون هذه الظواهر خاضعة لقوانين بحيث لا تسيرها الأهواء والمصادفات. وهذا شرط متوفر في الظواهر الاجتماعية كون المجتمع جزء من الطبيعة الكلية كما أن جميع نواحي الطبيعة خضعت لقوانين ثابتة أمكن الوصول إليها.[ هذه هي جواهر الصراع بين علماء الاجتماع حول وجود قوانين للظاهرةالاجتماعية أم لا؟]
2. هو معرفة الناس لقوانين الظواهر وهو أمر لا يتوفر إلا اعتمادا على الدراسة الوضعية عبر باحثين مهمتهم الكشف عنها. وهذه مسألة تتطلب قيام علم جديد وهو علم الاجتماع.
هكذا يمكن القضاء على الفوضى العقلية والاجتماعيةوالأخلاقية وتحقيق الإصلاح المنشود.
ولادة علم الاجتماع الحديث
أول اسم أطلقه كونت على العلم الجديد كان " الطبيعة الاجتماعية = الفيزياء الاجتماعية = physique social " ثم اسماه بعلم الاجتماع sociology.
مفهوم الظاهرة الاجتماعية:
لم يعطها تعريفا على الرغم انه عني بتعريف الظاهرة الطبيعية والكيميائية والبيولوجية. لماذا؟
لأنه كان يرى أن علم الاجتماع يدرس كل الظواهر التي لم تدرسها العلوم السابقة عليه. ولأنه يرى من العبثتعريف الظاهرة الاجتماعية او تحديدها باعتبار كل الظواهر الإنسانية بما في ذلك ظواهر علم النفس هي ظواهر اجتماعية
موضوع علم الاجتماع
مثل الظاهرة الاجتماعية لم يحدد كونت موضوعا لعلمالاجتماع معتبرا ان الإنسانية هي موضوع العلم وهي الحقيقة الجديرة بالدراسة والبحث. ولكن إذا كانت الإنسانية هي موضوع علم الاجتماع. فكيف؟ وأية علاقة بفلسفته العامة؟
إن الإنسانية كموضوع لعلم الاجتماع يدرسها كونت في حالتين:
· الحالة الأولى: الد يناميك الاجتماعي
في هذه الحالة تهتم السوسيولوجيا بدراسة قوانينالحركة الاجتماعية والسير الآلي للمجتمعات الإنسانية والكشف عن مدى التقدم الذي تخطوه الإنسانية في تطورها.أي دراسة الاجتماع الإنساني برمته وانتقاله من حال الى حال. هذه الحالة تقوم على أساس فكرة التطور والتقدم.
· الحالة الثانية:الستاتيك الاجتماعي
موضوعها هو دراسة المجتمعات الإنسانية في حالة استقرارها في فترة معينة من تاريخها وكذلك الاجتماع الإنساني في تفاصيله وجزيئاته وفي نظمه وقواعدهالسياسية والقضائية والاقتصادية والأخلاقية والدينية …الخ
وفي عناصرها ووظائفها بهدف الكشف عن القوانين التي تحكم التضامن بين النظم الاجتماعية ( فكرة التضامن والنظام ).
أ. الحالة الأولى: الديناميك الاجتماعي
تدور أبحاث كونت في هذه الحالة حول نظريتين أساسيتين هما قانون الأدوار الثلاثة وتقدم الإنسانية.
أولا: قانون الحالات الثلاث
يجيء ثمرة لدراسة كونت للديناميك الاجتماعي الذي رأى فيه:
[ دراسة قوانين الحركة الاجتماعية والسير الآلي للمجتمعات الإنسانية والكشف عن مدى التقدم الذي تخطوه الإنسانية في تطورها ]
إن ملخص القانون قانون الأدوار الثلاثة هو:
" إن العقل الإنساني أو التفكير الإنساني قد انتقل في إدراكه لكل فرع من فروع المعرفة من الدور الثيولوجي ( الديني اللاهوتي ) الى الدور الميتافزيقيوأخيرا إلى الدور الوضعي او العلمي ".
معنى هذا الملخص:
· يعني أن تاريخ الفنون والنظم والحضارة إجمالا وتطورها ومظاهر القانون والسياسة والأخلاق وما إليهالا يمكن فهمه إلا إذا وقفنا على تاريخ التطور العقلي بوصفه المحور الأساس الذي تدور حوله كل مظاهر النشاط الاجتماعي والسبب في ذلك أن الفكر هو الدعامة لكل نواحي الحياة الاجتماعية.
· ولما كان الفكر / العقل بهذه الأهمية الحاسمة فلا بد إذن أن يتبعه تطور منسجم معه في جميع نواحي الحياة الاجتماعية، وهذا يعني أن كل تغيير في الحياة الاجتماعية إنما يكون نتيجة للتطور التفكير.
محتوى القانون:
أ. الدور اللاهوتي:
يقصد فيه كونت أن العقل سار على أساس التفسير الديني، فقد كانت الظواهر تفسر بنسبتها الى قوى مشخصة ابعد ما تكون عن الظاهرة نفسها كالآلهه والأرواح والشياطين وما الى ذلك كتفسير ظاهرة النمو في النبات بنسبتها الى الله عز وجل او الى أرواح النبات وعدم الأخذ بأسباب النمو الدنيوية.
ب. الدور الميتافزيقي ( الفهم التجريدي ):
في هذا الدور نسب تفسير الظواهر الى معاني مجردة او قوى خيالية او علل اولى لا يمكن إثباتها كتفسير نمو النبات بقوة ارواح النبات.
ج. الدور الوضعي ( العلمي ):
الدور العلمي هو أن يذهب العقل في تفسير الظاهرة بنسبتها الى قوانين تحكمها وأسباب مباشرة تؤثر فيها كتفسير ظاهرة النمو النباتي بالعوامل الطبيعية والكيميائية والقوانين المؤلفة لهذه الظاهرة.
مدى صحة قانون الحالات الثلاث:
أ. القانون صحيح من حيث العودة الى تاريخ العلوم من ناحية وتاريخ الإنسانية من ناحية أخرى، وقد ثبتبالدراسة والبحث لدى اوجست كونت أن كل فروع المعرفة مرت بصدد تفسيرها للظواهر من الدور اللاهوتي الي الدور الميتافزيقي انتهاء بالدور العلمي.
ب. يعقد كونت موازنة بين أدوار الإنسانية الثلاثة وبين الأدوار التي يمر بها الفرد في نشأته:
· المرحلة البيثولوجية = تشبه مرحلة الطفولة لدى الفرد.
· المرحلة الميتافيزيقية = تشبه مرحلة الشباب والمراهقة.
· المرحلة الوضعيـة = تشبه مرحلة الرجولة والاكتمال.
هكذا تغدو الإنسانية شأنها شأن الفرد في مراحل نموهاوتقدمها.
ثانيا: نظرية التقدم
الفكرة السائدة لدى أسلاف كونت من المفكرين حول الوضع الاجتماعي هي:
[ انهم درسوا الحركات الاجتماعية بوصفها اضطرابات او ذبذبات تحصل في المجتمعات ].
فكرة اوجست كونت هي:
[ إن السير الاجتماعي لابد أن يكون خاضعا لقوانين ] لذا فان كونت يفهم من معنى كلمة ( التقدم ) سيرا اجتماعيا نحو هدف معين لايمكن الوصول إليه إلا بعد المرور بأدوار ضرورية محددة. هكذا تفطن كونت الىالقول بأن المجتمعات تسير وفقا لقوانين ضرورية تحدد بالضبط سير تقدمها والشروط او الظروف الضرورية لذلك. وهو الأمر الذي لم يتوصل له سابقوه مثل بسكال و كوندرسيه و هلفيتيوس.
التقدم او التحسن المصاحب للانتقال من مرحلة الى أخرى:
ثمة مظهرين مصاحبان الإنسانية في الانتقال وهما متلازمان:
1. تحسن في الحالة الاجتماعية:
هو تقدم مادي وهو أوضح وأسرع حركة واسهل حدوثا و اقرب تحقيقا. ويتوقف حدوثه على مقدار معرفتنا بقوانين الظواهر الاجتماعية والتدخل على ضوئها لتحقيق الإصلاح او التقدم المنشود، وبمقدار ما تعجل الإنسانية بتدخلها بمقدار ما تختصر الزمن لان عملية التقدم شاقة وبطيئة وتعترضها الكثير من الصعاب والأزمات.
2. التحسن في الطبيعة الإنسانية:
هو تحسن بيولوجي وعقلي. فالتحسن البايولوجي أدى الي زيادة عمر الإنسان او تقدم القواعد الصحية وفن الطب. أما التقدم العقلي فأدى الى كشف وسائل جديدة للسيطرة على الطبيعة وتسخيرها لخدمة الإنسان لانالعقل والذكاء عبارة عن آلة يمكن استعمالها بصفة مطلقة في توسيع نطاق التدخل الإنساني والإشراف على الكون ومظاهره.
ب. الحالة الثانية: الستاتيك الاجتماعية
في هذه الحالة يتصدى كونت للمجتمع من خلال الستاتيك الاحتماعي الذي يعرفه بـ:
· دراسة المجتمعات الإنسانية في حالة استقرارها كونها ثابتة في فترة معينة من تاريخها.
· كذلك دراسة هذه المجتمعات في تفاصيلها وجزيئاتها من حيث العناصر والنظم الاجتماعية المكونة لها.
أما نظرة كونت للمجتمع
فهي نظرة أسست لعلم الاجتماع الدوركايمي ؛ بل لجوهر علم الاجتماع فيما بعد. فما هي نظرية كونت فيالمجتمع؟
ينظر كونت الى المجتمع باعتباره كلية اجتماعية تتكون من جميع الأفراد الأحياء منهم والأموات أو ما يمكن تسميته بالذاكرة الاجتماعية الحية والماضية بكل ما تشتمل عليه من بنى ومؤسسات وعلاقات وتراث وسلوكات وثقافات تعبر بانصهارها جميعا عن كلية اجتماعية أو ما يمكن تسميته بالتعبير الفلسفي بـ " الوجود الاجتماعي ". ويشدد كونت في بحوثه على تحليل القدرة الاجتماعية ليثبت أن الاجتماع الإنساني هوالحالة الطبيعية للإنسان وبالتالي فان المجتمع مقدم على الفرد ولا يزول بزوال أفراده.
نظرة كونت هذه للمجتمع تنسف نظريات العقد الاجتماعي التي تتعامل مع المجتمع وكأنه مركب صناعي تكون عن قصد بين الأفراد في صيغة عقد اجتماعي بينهم انتقلوا بموجبه من الحياة الوحشية \العدوانية الى الحياة المدنية.
مكونات المجتمع - مصدر القوة الاجتماعية؟
التحليل الستاتيكي للمجتمع حسب كونت يتكون من تحليله لثلاث مكونات هي:
· الفرد ( نفي للعبقرية الفردية كمؤثر في تقدم البشرية )
فالفرد لا يعتبر عنصرا اجتماعيا ولا قيمة لقوته الطبيعية لأن القوة الاجتماعية مستمدة من تضامن الأفراد ومشاركتهم في العمل وتوزيع الوظائف بينهم، كما أنه لا قيمة أيضا لقوة الفرد العقلية الاباتحادها مع غير من القوى. ولا قيمة أيضا لقوة الفرد الأخلاقية وليدة الضمير الجمعي والتضامن الأخلاقي في المجتمع. وفيالمحصلة فإن الفردية لا يتحقق فيها أي شئ من المظاهر الجمعية دون امتزاج العقول وتفاعل وجدانات الأفراد واختلاف وظائف وتنوع الأعمال ذات الأهداف الواحدة والغايات المشتركة.
· الأسرة:
هي أول خلية في جسم التركيب الجمعي وهي ابسط وسط يتحقق فيه مظاهر الحياة الاجتماعية من امتزاج للعقول وتفاعل للوجدانات واختلاف في الوظائف وتنوع في الأعمال وهي أيضا اتحاد له طبيعة أخلاقية لان المبدأالاساسي في تكوينها يرجع في نظر كونت الى وظيفتها الجنسية والعاطفية، إذ ثمة ميل متبادل بين الزوجين من جهة وعطف متبادل بينهم والأبناء من جهة أخرى.فالمشاركات الوجدانية موجودة بين افراد هذالمجتمع الصغير وثمة واجبات على كل فرد في الأسرة ثمة وتربية ونزعة دينية يغرسها الوالدان في أولادهم.
· المجتمع:
هو وحدة حية ومركب ومعقد أهم مظاهره التعاون والتضامن لذا فهو من طبيعة عقلية ووظيفية أخلاقية تابعة لها ولاحقة ومترتبة عليها. أما مبدأ التعاونوالتضامن فهو الذي يحكم المجتمع ويسيطر عليه. هذا المبدأ يسمى " تقسيم العمل وتوزيع الوظائف الاجتماعية " لدى المفكرين المحدثين.
يرى كونت أن التضامن الاجتماعي مبدأ لا يمكن أن يتحقق بصورة كاملة إلا إذا وجه المسؤولون عنايتهم الى إصلاح ثلاث نظم اجتماعية أساسية هي:
1. نظام التربية والتعليم
يعتقد كونت أن النظام التربوي والتعليمي ينبغي أنيكون نظاما وضعيا مبنيا على أسس علمية مرنة وبديلا عن النظام الميتافزيقي ذو النظرة المجردة.وهذا يستوجب فصله عن السياسة لإبعاده عن النفاق والإثارة للخصومات وإفساد الطبائع. كما يرى ضرورة تقسيم مراحل التعليم الى ثلاثة مراحل هي الابتدائية والثانوية والعالية.
2. إصلاح نظام الأسرة
دعا كونت لأن تبنى الأسرة على أساس الأخلاقالكاثوليكية وترويض الأفراد على تقبل مبدأ التضامن الاجتماعي ونبذ الأنانية. ولهذا الغرض منح ألام دور كبير في التنشئة الاجتماعية والتربية وغرس مبادئ الدين الوضعي في الأطفال او ما اسماه كونت بـ" عبادة الإنسانية ".
3. إصلاح النظام السياسي
الحكومة هي دليل على تقدم المجتمع وليست شرا لابدمنه مثلما كان سائدا في القرن 18 لأن تقدم المجتمع مرهون بمدى انقياد الأفراد للحكومة ومدى بسط سلطتها عليهم، أما وظيفتها فهي تحقيق مبدأ التضامن الاجتماعي والحرص على وحدته، وعلى الحكومة أن ترعى وظيفتها المادية والروحية أي الجمع بينالسلطتين الزمنية والدينية وأن تعمل على حفظ الدين وحمايته وغرسه في قلوب الأفراد.
ويجدر التذكير أن كونت درس النواحي الاقتصادية والأخلاقية والدينية في المجتمع، ونقد النظريات الاقتصادية السائدة في عصره وكذا الأخلاقية والحاجة الماسة الى مجموعة منظمة من العقائد.
ثالثا: أسس الدراسة ومنهج البحث
أهم أسس البحث الوضعي
1. تشدد الوضعية كنمط تفكير علمي على إحلال فكرة القانون محل فكرة القوى الخارقة للعادة التي تحكمتطويلا بتفسير الظواهر العلمية.
هكذا فان الوصول الى القانون العلمي الذي يحكم سير الظاهرة ويفسرها سيكون في إطار الوضعية المطلب الأول والمحور الأساسي الذي تدور عليه الدراسة والبحث.
2. إن من مبادئ الفلسفة الوضعية أيضا إخضاع التخيل او التصوير الفلسفي الذي كانت تقوم عليه المناهج القديمة الى الملاحظة. وهكذا ضُرِبت الفلسفة الثيولوجية والميتافيزيقية في الصميم.
3. يستند منهج البحث الوضعي الى إعطاء العلاقات التي تربط بين الظواهر الاجتماعية أهمية كبرى انطلاقا من أن الفلسفة الوضعية تعتبر نفسها مفسرة للكون ومظاهره وتسعى الى الكشف عن طبائع الأشياءوالقوانين التي تحكمها وهذا بخلاف المناهج القديمة التي لم تعطينا فكرة واضحة عن تحديدها للعلاقات بين مختلف الظواهر وعن الارتباط الحقيقي بينها.
4. إذا كانت المناهج القديمة تنزع في تفسيرها للظواهرالى المعاني المطلقة والمبادئ الكلية والعلل الأولى مما يجعلها منتجة لمفاهيم جامدة غير قابلة للتطور فان الوضعية كفلسفة تهتم بتحديد دائرة المعاني المطلقة وجعلها معاني نسبية مرنة قابلة للحركة والتطور بما يستجيب لنمو العقل ومستحدثات العصر ومتطلبات الظروف
يتبع ....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق