منهج البحث
ثمة نوعين من البحوث التي تؤدى الى كشف الحقائق في ميدان الظواهر الاجتماعية، ويستعمل أحد هذه الانواع ما يسميه كونت بالوسائل المباشرة والآخر بالوسائل غير المباشرة.
· الوسائل المباشرة:
وهي الخطوات المنهجية التي نستخدمها لكشف القوانين التي تخضع لها الظواهر الاجتماعية في نشأتها وتطورها ووظائفها ومجموع هذه الخطوات تكوِّن قواعد منهج البحث الاجتماعي.
· الوسائل غير المباشرة:
تنتج هذه الوسائل التي لا تقل أهمية عن المباشرة من رحم العلاقات الضرورية التي تربط علم الاجتماع بما عداه من العلوم الوضعية الأخرى التي تمده بصفة دائمة بنتائج وحقائق وقضايا لها أهميتها في ميدان البحث الاجتماعي.
الوسائل المباشرة:
1. الملاحظة
ليست هي الإدراك المباشر للظاهرة او وصف للحوادث. اذ ثمة وسائل أخرى تكون مصاحبة لهذه التقنية بحيث تطور وتعمق من فهمنا للظاهرة الملاحظَة:
مثلا:
· دراسة العادات والتقاليد والآثار ومظاهر التراث الأخرى.
· تحليل ومقارنة اللغات.
· الوقوف على الوثائق والسجلات التاريخية.
· دراسة التشريعات والنظم السياسية والاقتصادية.
· الاهتمام بكل مصادر المعرفة التي تساعد على الكشف العلمي.
السؤال: هل الملاحظة وسيلة أم أسلوب علمي؟
v لان الظواهر الاجتماعية هي ظواهر عادية ومنتشرة ومتداخلة في صميم الحياة الفردية بحيث يكون الباحث نفسه مشاركا فيها إن قليلا او كثيرا...
v ولان الظواهر الاجتماعية معقدة او كثيرة التغير ودائمة التفاعل بحيث أن الباحث قد لا تتوفر له الفرصة للإحاطة واليقظة بالظاهرة والإشراف عليها وملاحقتها...
v ولان الباحث قد يخطئ في تأويل او إدراك ما يلاحظه في الظاهرة مما ينعكس على الاستنتاجات وبالتالي اختلاف عقول الباحثين في ملاحظة الظاهرة إياها...
فإن كونت يرى انه لا باس من اعتبار الملاحظة عاملا مساعدا للكشف العلمي عن قوانين الظواهر ولكن بدون الإسراف البالغ في الاعتماد عليها وتحويلها من وسيلة الى أسلوب.
2. التجربة:
يميز كونت في هذا السياق بين " التجربة الاجتماعية " التي تطبق على ظواهر المجتمع وبين " التجربة العلمية " التي تُجرى على الظواهر الطبيعية كالكيمياء والبيولوجيا. وما يهمنا ويهم كونت هو التجربة الاجتماعية.
جوهر التجربة الاجتماعية؟ وصحتها؟
في البحوث العلمية حيث تجرى التجارب على الظواهرالطبيعية ؛ وبهدف استخراج القوانين يلجأ الباحث عادة الى إجراء تجارب مقارنة بين ظاهرتين متشابهتين في كل شيء ولكنهما مختلفتين في حالة واحدة وهذا الاختلاف بين الظاهرتين يرجع الى هذه الحالة فقط. ومهمة الباحث هي معرفة هذا العامل ( القانون ) الذي تسبب باختلاف الظاهرتين ثم دراسة مدى تأثير العامل الطارئ هذا على ظاهرة أخرى.
السؤال هو: هل لدينا وسائل تمكننا من إجراء تجارب من هذا القبيل في علم مثل علم الاجتماع؟ بمعنى: هل يمكن استعمال التجربة كوسيلة في معاينة الظواهر الاجتماعية؟
الجواب: يعتقد كونت إن المجتمع مثل جسم الإنسان لا بد وأنه يتعرض الى حالات مرضية سابقة من حين إلى آخر بفعل عوامل طارئة وتيارات ظرفية كالثورات والفتن والانقلابات، وهي حالات تحدث بلا شك طبقا للقوانين الستاتيكية والديناميكية. ولا ريب أن دراسة الحالات الباثالوجية هذه في المجتمع ستؤدي الى تكون رصيد معرفي يساعد في إعادة المجتمع الى سيره المعتاد.
سؤال آخر: الى أي حد تصلح التجربة كوسيلة فعالة في دراسة الظواهر الاجتماعية؟
جواب: إذا تمكن الباحث من الوقوف من قبل على القوانين التي تخضع لها الظواهر في حالتها العادية حتى يمكن الكشف عن العامل الطارئ الذي سبب الحالة المرضية. ومع ذلك ليست التجربة وسيلة مجدية ولا مواتية في كل الظروف والمناسبات وبالتالي فهي غير فعالة.
3. المنهج المقارن:
- مفهوم المقارنة
المقارنة الاجتماعية هي وسيلة منهجية تتأسس على تحديد اوجه الشبه واوجه الاختلاف بين الظاهرتين، ويبين كونت ثلاثة أشكال للمقارنة الاجتماعية كما سنوضح.
- أشكال المنهج المقارن:
أولا: مقارنة في مستوى الماكرو وسوسيولوجي " مقارنات واسعة "
مقارنة المجتمعات الإنسانية ببعضها.
مقارنة ظاهرتين في مجتمعين إحدهما تطورت بسرعة وأخرى بطيئة التطور.
ملاحظة وجود مجموعة من النظم في مجتمع بينما لاتؤدي الظاهرة نفس الوظيفة في مجتمع آخر أو ليست بالدرجة نفسها.
ثانيا: مقارنة في مستوى الميكرو وسوسيولوجي " مقارنات أضيق نطاقا "
مثلا كأن تقع مقارنة في مجتمع واحد بين الطبقات او الهيئات والمؤسسات او في مستوى المعيشة، والأخلاق، الأذواق العامة، اختلاف اللهجات...الخ، درجة التحضر والتريف.
ثالثا: مقارنات اكثر شمولا وعمومية وأوسع نطاق
مثلا مقارنة جميع المجتمعات الإنسانية في عصر ما بالمجتمعات الإنسانية نفسها في عصر آخر للوقوف على مدى التقدم الذي تخطوه الإنسانية في كل طور من أطوارها ومعرفة درجة التطور ما بين الشعوب الإنسانية.
4. المنهج التاريخي " المنهج السامي "
- هو آخر حجر في بناء المنهج الوضعي و يقصد به كونت:
" المنهج الذي يكشف عن القوانين الأساسية التي تحكم التطور الاجتماعي للجنس البشري باعتبار أن هذا الجنس وحدة واحدة تنتقل من مرحلة الي أخرى أرقى منها ".
- وهو المنهج الذي أقام كونت على أساسه " قانون الأدوار الثلاثة ".
- وهو منهج يعبر عن فلسفة كونت نفسها أكثر مما يعبر عن حقائق علمية، لان كونت نفسه يقدم وسائل منهجية لدراسة الظواهر الاجتماعية والإنسانية تنسف ما يدعيه لا سيما أن الظواهر تتطور او تبطئ او تؤدي وظائف مختلفة في مجتمعات مختلفة، كما انه يقر بالتباينوالاختلاف لنفس الظواهر وما بين المجتمعات.
- فلماذا ينظر الى الإنسانية كوحدة واحدة في التطور والتقدم؟ وكيف يفسر كونت الآن وجود دول متقدمة وأخرى متخلفة وأخيرة بدائية إذا كان خط التقدم والتطور واحدا؟
المدارس الاجتماعية ما بعد الوضعية
بعد شيوع الوضعية وتأسيس علم الاجتماع ظهرت العديد من المدارس الاجتماعية التي نشطت في جمع المعلومات عن الظواهر الإنسانية والاجتماعية أو حاولت تفسيرها وتحليلها، ومن هذه المدارس نعرض لبعض منها:
- المدرسة الاجتماعية البايولوجية:
لا تعترف هذه المدرسة باستقلالية الظاهرة الاجتماعية بل تعتبرها مظهرا من مظاهر الحياة اليومية. كما ترى أن الظاهرة الاجتماعية في نشأتها وتطورها تسير وفق القوانين التي تسير عليها الظواهر البيولوجية.
- المدرسة الفرنسية في علم الاجتماع:
يتزعمها إميل دوركايم واتباعه مثل مارسيل موس و ليفي بروهل و دي سوسير وبولجيه وهاليفاكس وكوهين وغيرهم. وقد التزمت هذه المدرسة بحدود الوضعية الكونتية بل أنها أرست الوضعية الصحيحة. واعترفت باستقلال علم الاجتماع و الظواهر الاجتماعية وقدمت دراسات ميدانية ممتازة. وتميزت أبحاثها بالدقة العلمية وبذلت جهدا نظريا ضخما في إقامة دعائم علم الاجتماعوتحديد مناهجه وميادينه.
- المدرسة المادية التاريخية ( كارل ماركس )
تذهب هذه المدرسة الى اعتبار أن كل ما يحدث في المجتمع وما ينشأ فيه من ظواهر ونظم انما يرجع الى الطبيعة الاقتصادية. فالظروف الاقتصادية هي العامل الوحيد الذي يشكل نظم الاجتماع والسياسة والأخلاق والدين وبالتالي فالمادة الاقتصادية هي قطب الرحى فيالتطور السياسي والأخلاقي والاجتماعي.
- المدرسة الجغرافية ( برون و ميشليه )
تعتبر هذه المدرسة ان ظواهر المجتمع هي وليدة البيئة وظروفها العمرانية والطبيعية. لهذا فقد فسرت كل ما يحدث في المجتمع بالرجوع الى الظواهر الجغرافيةوقامت بهذا الصدد بتطبيقات تعسفية.
- المدرسة النفسية ( جابرييل تارد وغوستاف لوبون )
وهي المدرسة التي خسرت خصومتها التاريخية مع إميل دوركايم واتباعه. لماذا؟ لأنها لا تعترف باستقلال علم الاجتماع بل تلحقه بعلم النفس وبالتالي فهي تفسر الظواهر الاجتماعية بمبادئ وأصول سيكولوجية. هذه المدسة تعتبر الظواهر الاجتماعية وليدة الارادة الفردية في التقليد والمحاكاة.
- المدرسة الاثنولوجية ( تين: Tain، ميشليه: Michelet، ممن: Momen )
تفسر الظواهر الاجتماعية بالرجوع الى فكرة الجنس
- مدرسة الانثربولوجيا الاجتماعية = دراسة المجتمعات البدائية:
مدرسة واسعة تزعمها الكثير من العلماء امثال فريزر وستمارك Frezer Westrmarek و Maclenanوlang وTaylor و Rivers و B. smith و Gillen.وقد اهتمت هذه المدرسة بدراسة المجتمعات البدائية وأشكالها التي ما تزال قائمة سواء في أمريكا او استراليا او أفريقيا واسيا فتعرف روادها على النظم الاجتماعية الأولى، واتسم الرواد بأنهم جمّاعين مهرة للمعلومات غير انهم اقل قدرة على التحليل، هذا النقص الذي بدأته المدرسة الأنثروبولوجية تداركته مدرسة دوركايم.
المدرسة الاجتماعية البيولوجية
هر برت سبنسر / H. spensser
( 1820 - 1903)
أولا: حياته العلمية
- بدأ حياته مدرسا ثم مهندسا. ولكنه ترك وظيفتهواشتغل بالسياسة والأدب والاجتماع واعتنق مذهب التطور " في النشوء والارتقاء " ووصل الى حقائق دقيقة قبل أن ينشر داروين بحوثه. ولما نشر سنة 1850 كتابه " الستاتيك الاجتماعية " اخذ نجمه يسطع فكتب بعد ذلك في علم الحياة، وعلم النفس، وعلمالاجتماع، والتربية، والسياسة.
- حاول تطبيق فكرة " النشوء العضوي والتطور " على الكائنات الحية في ميدان علم الأحياء وعلى الإنسان في ميدان علم النفس والأخلاق وعلى المجتمع في ميدان علم الاجتماع والسياسة.
ثانيا: المبادئ العامة لفلسفته
أ. يتحدث سبنسر عن نفسه قائلا:
[ " أن جرثومة فلسفتي ظهرت عندما توصلت الىحقيقة بيولوجية أساسها:
إن الأنواع الدنيا من الحيوان تتألف أجسامها من أجزاءمتماثلة لا يتوقف بعضها على بعض واما الانواع العليا من الحيوان فتتألف أجسامها من أعضاء متباينة تعتمد في أعمالها ووظائفها على بعضها البعض. وهذه نتيجة استقرائية وصلت إليها من بحوثي وتجاربي في ميدان الدراسات البيولوجية. وهذه الحقيقة تصدق كذلك على جماعات الأفراد.فكأن المجتمع شأنه شأن أي كائن حي يبدأ متجانسا ثم يميل الى التفرد والانتقال من المتجانس الى اللا متجانس " ].
تشتمل مقولة سبنسر عن نفسه المبادئ العامة لفلسفته، وهذه المبادئ تقوم على التكامل / التجانس والتباين /اللاتجانس والعلاقة بينهما. كيف؟
انطلاقا من مبدأ " النشوء والارتقاء " يمكن القول:
أن الارتقاء في جميع مسالك الطبيعة من نبات وحيوان واجتماع إنساني وما يتصل بهذا الاجتماع من شؤون تتعلق بالأخلاق، السياسة، الفنون والعادات إنما يقومعلى أساس واحد هو " الانتقال من التماثل والتشابه الى التباين وعدم التجانس ". كيف؟
حقائق بيولوجية:
نماذج الأنواع
أ. نماذج التماثل والتشابه او التجانس:
إن الانواع الدنيا من النبات يكون التشابه فيها اكثر وضوحا من الاختلاف في حين أن الانواع العليا من النبات يكون الاختلاف فيها بارزا. كما أن الانواع الدنيا في الحيوان تكون هي الأخرى متماثلة كالأميبيا والإسفنج.
ب. نماذج الاختلاف والتباين او اللاتجانس:
في النباتات الراقية يمكن ملاحظة الاختلاف في ميدانالتذكير والتأنيث. وفي الحيوان يعتبر الإنسان هو الأرقى ولاشك أن الاختلاف اشد وضوحا.
مميزات الأنواع
في الأنواع الدنيا من النبات والحيوان فان الجزء يؤدي حصرا وظيفة الكل فإذا قطعنا جزء من جسم الإسفنج فالحياة مستمرة لان باستطاعة الجزء أن يعيش ويقاوم حتى يصل الى حالة التماثل الأولى وكذلك الأمر في بعض النباتات. هذا يعني أن التطور لن يصل في احسن الأحوال إلا الى حالة التجانس أما اللاتجانس فلا. هذا يعني أيضا أن الجزء مستقل عن الكل حيث قوى النمو والتوالد كامنة فيه.
أما في الانواع العليا من النبات والحيوان فان الجزء لا يؤدي وظيفة الكل كما أن الجزء مستقل عن الكل نسبيا غير أن التباين والاستقلالية لا تعني الانفصال بلالتكامل كما أن العضو مثلا في الإنسان لا تكمن فيه قوى النمو والتوالد لذا فهو يؤدي وظيفة معينة الى جانب وظائف الأعضاء الأخرى بحيث أن عملية التكامل الوظيفي تؤدي الى وحدة القصد والهدف.
القانون العام:
من هذه الحقائق البيولوجية يستخلص سبنسر القانون التالي:
" أن في الحياة ميلا الى التفرد والتخصص والانتقال من المتجانس الى اللامتجانس ومن المتشابه الى المتباين. فالجماد او الجسم غير الحي كذرات التراب، النار والهواء يكون متماثلا وغير متخصص في حين أن الجسم الحي يتمتع بذاتية وينفرد بشخصيته ويؤدي وظيفة خاصة ومحدودة يتعين عليه أن يؤديها وكلما زاد الكائن الحي ارتقاءا زاد تفرده وتخصصه ظهورا ".
وهكذا يقرر سبنسر أن التخصص هو غاية كل تطور وارتقاء في الموجودات.
دعائم القانون:
حسب تحليل سبنسر فالقانون يقوم على دعامتين:
أولا: كلما ازداد المركب الحيوي تعقيدا ازداد تخصصا وتفردا.
ثانيا:كلما ازدادت الأعضاء تفردا واختصاصا ازدادت استقلالا
من الحقائق البيولوجية الى الحقائق الاجتماعية
"من ميدان البيولوجيا الى ميدان الحياة الاجتماعية "
نشط سبنسر في تطبيق ما توصل إليه في الميدان البيولوجي على الميدان الاجتماعي:
1. الأفراد وحياة الفطرة
اتسمت حياة الجماعات البشرية الأولى بالتشابه والتماثل في انتسابهم الى مجتمع تتشابه فيه طرق المعيشة والحاجات والغايات ووسائل العيش والاقتصاد والنمو والدفاع والأمن والزواج والدين والمعتقداتوالأساطير...الخ
وفي مرحلة ما حدث تطور في الحياة الاجتماعية والانتقال من سذاجة الفطرة الى مرحلة اكثر ارتقاء لوحظ فيه ظهور الفوارق بين الأفراد وتقاسم وظيفي لشؤون الأسرة والعمل وما الى ذلك من شؤون الحياة الاجتماعية.
وفي مرحلة اكثر تطورا ورقيا لوحظ ازدياد في التخصص والاستقلالية الفردية.
2. انقسام المجتمعات:
- كلما ازداد التخصص والتفرد كلما انقسمت المجتمعات الى طبقات اكثر.
- شيوع ظاهرة التخصص والتفرد في أدق مظاهرها.
تعقيب / تساؤل: هل التخصص والتفرد يشكلان مصدر قوة أم ضعف للمجتمع؟ تماسك أم تفكك؟
إن الإسراف في التخصص لا يعني استقلال كل كائن عن الآخر او كل طائفة اجتماعية عن بقية الطوائف الأخرى في المجتمع وعلى العكس من ذلك فالتخصص ينطوي على التضامن والتعاون ويتجه نحو التآلف ؛فالعدالة تستوجب ضمانات لتحقيقها كالقضاة والمحامون ووكلاء الدفاع والكتاب والمحضرون بحيث ينصرف كل الى عمله ليتحقق القصد والهدف العام كما أن التآلف ينسحب على الدور التكاملي الذي يؤديه كل من التاجر والصانع والطبيب والمدرس وعامل النظافةوالمزارع والجندي والشرطي بحيث ينصهر الجميع في بوتقة واحدة تنزع نحو وحدة القصد والهدف رغم التفرد والاختصاص.
ملخص نظرية سبنسر
تتلخص النظرية التطورية عند سبنسر في:
- الانتقال من التشابه الى التباين او من التعميم الى التخصص او من الاستقلال الانعزالي ( فوضى الشيوع ) الى النظام والتدرج.
- هذه المعاني لا تتغير، فهو شرحها في كتابه " المبادئ الأولى " وفي كتبه الأخرى " مبادئ علم النفس وعلم الحياة وعلم الاجتماع ".
ثالثا: نظريته في طبيعة المجتمع
أ. المحددات النظرية:
إن نظرية سبنسر في المجتمع تنبع أصلا من فلسفته في التطور الاجتماعي هذه الفلسفة ستؤدي حتما الى مماثلة بين المجتمع والكائن الحي ولكن بشرط. أي أن المجتمع فقط يشبه الكائن الحي ولكنه يتطابق معه. كيف؟
عبر ثلاث ماهيات.
1. ماهية المجتمع:
حسب داروين و هيغل بصفة خاصة يتفق سبنسر على اعتبار المجتمع جزء من النظام الطبيعي للكون وبالتالي فهو يرفض الفكرة التي تعتبره شيئا خارجا عن هذا النظام.
2. ماهية علم الاجتماع:
إن اعتبار المجتمع جزء من النظام الطبيعي للكون يستوجب، حسب سبنسر، النظر إليه كفرع من منظومةالتفسير الطبيعي التي تطبق على سائر مظاهر الكون وليس على المجتمع فقط. وعلى هذا الأساس فإن علم الاجتماع هو محاولة لمعرفة نشأة المجتمع وتركيبه وعناصره وهيئاته ومراحل نموه وتطوره وما الى ذلك من المظاهر التي تخلفها العوامل الطبيعية والنفسيةوالحيوية بوصفها عوامل تعمل متضافرة في عملية تطورية موحدة.
3. ماهية التطور الاجتماعي:
هكذا فان التطور الاجتماعي ليس إلا عملية تطورية عضوية ليس بالمعنى البيولوجي النصوصي بل بالمعنى الاصطلاحي الذي يخلص سبنسر الى تسميته بالتطور فوق العضوي.
ب. التطور فوق العضوي: ما هو؟ = التطور العضوي؟
إن التحدث عن تطور عضوي ( بمعنى بيولوجي ) وتطور فوق عضوي ( بمعنى اصطلاحي ) يعني أن سبنسر بصدد الحديث عن مقارنة الكائن الحي من جهة والمجتمع من جهة أخرى. وبما أن المنهج المقارنيستوجب ضبط التشابهات ( التماثلاث ) والاختلافات ( التمايزات ) فمن الواضح أن سبنسر عندما يتحدث عن عناصر تشابه بين المجتمع والكائن الحي إنما يتحدث أيضا عن فروقات لذا نراه دقيقا في اختياره للمصطلحات والمفاهيم بالقدر الذي يسمح له ببناء نظريةتجد لها موقعا ملائما بين النظريات الاجتماعية التي أعقبت ظهور علم الاجتماع على يد اوجست كونت.
السؤال: ماهي طبيعة الفرو قات بين التطور العضوي والتطور فوق العضوي؟
جواب: لدى مقارنته للمصطلحين في نطاق المجتمعات الحيوانية يرى سبنسر أن التطور فوق العضوي وإن كان موجودا في مجتمعات النمل والنحل مثلا بوصفها مجتمعات راقية إلا انه يبقى اقل وضوحا. إذن المسألة تتعلق بمدى تعقد المجتمعات المدروسة، أي بمدى تخصصها، وفي هذا السياق يعقد سبنسر مقارنة بين المجتمعات الحيوانية والمجتمعات البشرية، فماذا يلاحظ؟
يلاحظ أن المجتمعات الحيوانية ليست معقدة كالتعقيد الذي يمكن ملاحظته في المجتمعات البشرية. لماذا؟ وأين يكمن التعقيد؟ مبدئيا فإن الاجتماع الحيواني يشتمل على ضرب من السلوك والأثر ما هو أشد تعقيدا مما لدى الاجتماع الإنساني، غير أن الاجتماع الإنساني ينطوي على تفاعل في مستوى العلاقات الإنسانيةوتشابك المصالح والرغبات بين الأفراد مما ينجم عنه ضروبا من السلوك والآثار أشد تعقيدا وأشد تنوُّعا الى الحد الذي يجعله أرقى صورة للتطور العضوي.
ج. محتوى المماثلة البيولوجية
المجتمع كائن حي؟
في ضوء ما سبق، وحسب سبنسر، فإن:
- المجتمع عبارة عن كائن عضوي أو مركب عضوي يشبه الجسم الحي.
- عناصر المجتمع وهيئآته تشبه نظائرها في الكائن الحي. كيف؟
1. من حيث التشابهات:
فالمجتمع كالفرد مزود بجهاز للتغذية يتمثل في هيئاته وطبقاته المنتجة، ومزود بدورة دموية تتمثل في نظم التوزيع وطرق المواصلات، ومزود بجهاز هضمي وإخراجي يتمثل في نظام الاستهلاك، ومزود بجهاز عصبي يتمثل في الحهاز التنظيمي والادارة والحكوميةالتي تتولى قيادة المجتمع والاشراف على مصالحه.
2. من حيث الفروقات:
v ان عناصر الكائن الحي تكون كلا متماسكا ومتحددا بصفة مباشرة.هذه الكلية تتمظهر في اتحاد مادي محسوس لجميع العناصر.
v ولكن في المجتمع فان العناصر / العوامل إنما تؤدي الى الوحدة / الكلية لانها عناصر خارجية وليست عضوية كما هو التركيب العضوي للفرد. وهذه العوامل تتجلى باللغة والعواطف والانفعالات والافكار والمعتقدات والتقاليد والعرف...الخ
v ان الجهاز العصبي ـ مثلا ـ في عقل الكائن يشغل جزء صغيرا من التركيب البيولوجي \العضوي للفرد، بينما في المجتمع نجده ممثلا بالجهاز التنظيمي والادارة والقيادة. أي أنه موزع بين الافراد ولكل انسان الحق في المساهمه فيه في اطار توجيه المجتمع.
v المجتمع يشبه الفرد من حيث النشأة والتكوين، حيثينشأ بصورة بسيطة ضيقة النطاق ثم يأخذ حجمه بالنمو وعدد افراده بالتكاثر. اذن المجتمع يشبه الكائن الحي في حالة النشأة أي في الحالة التي يتبعها تميز في الهيئاتوالاعضاء والتركيب المعقد [ انتقال من التجانس اللامحدود الي التباين المحدود ] ولكن نمو المجتمع لا يكون عن طريق التزايد البسيط الضيق بل من خلال اندماج هيئاته واتحاد بعض المجتمعات الصغيرة وتفاعل اتجاهاتها والتيارات التي تسودها، هنا تبدأ حالة التعقيد في بنية المجتمع وتركيبه.
المجتمع بين الاستقرار والانحلال
يقضي قانون النشوء والارتقاء بخضوع الكائنات الحية لوجهي القانون. فاذا كان الكائن الحي ينشأ وينمو فهو ايضا ينحل. وهكذا المجتمع حين يشبهه سبنسر بالكائن الحي فهو حتما خاضع للوجه الاخر للقانون وهو الضعف والانحلال.
1. استقرار المجتمع:
ان نشوء المجتمع مرحلة تتواصل مع مرحلة النمو، وما بين اكتمال نمو المجتمع وتعقيده من جهة وانحلاله من جهة اخرى ثمة مرحلة استقرار يبلغ فيها المجتمع من القوة ما يزيد من اندماج عناصره وهيئآته وتماسكها. في هذه المرحلة يكون المجتمع في أوج استقراره. فما الذي يحدث عند استقرار المجتمع؟
ما ان تستمر الحياة لاجتماعية الى حد ما حتى تاخذ الظواهر والنظم الاجتماعية في الارتقاء والتطور، وهذه العملية تعني الانتقال من حالة التجانس الى حالة التباين والتخصص. وخلال انتقالها من حالة الى حالة فإن الظواهر والنظم الاجتماعية ستتاثر بنوعين من العوامل:
- العوامل الداخلية:
تتعلق هذه العوامل بالناحية الفردية. أي كل الخواص الفردية ذات الصلة بالتكوين الطبيعي والتكوين العاطفي العقلي للافراد الذين يكوِّنون المجتمع. فالظواهر التي تقوم في المجتمع تنشأ في واقع الامر متاثرة بالخواص الفردية هذه. بمعنى ان الافراد يشكلون ظواهر المجتمع وفق الخواص المشار اليها.
- العوامل الخارجية:
هي كل العوامل التي تقع خارج نطاق الخواص الفردية ولكنها تؤثر على الافراد تأثيرا مباشرا وعلى الظواهر الاجتماعية بوصفها نتاج لأوجه نشاط الافراد.هذهالعوامل هي البيئة: كالبيئة الجغرافية والطبيعية وظروف المجتمع المناخية وموقعه وما الى ذلك من المؤثرات البيئية.
2. انحلال المجتمع:
ان ارتقاء وتطور المجتمع عملية تنسحب على شتى مناحي الحياة الاجتماعية من نمو في الوحدة السياسية ( الاسرة، قبيلة، مدينة، دولة، هيئة، أمم...الخ ) والوحدة الاقتصادية (صناعة منزلية، مهن، ثورة صناعية آلية ثم ثورة صناعية كهربائية، وكذلك نظم الشركات المساهمة والاحتكار والاستعمار...الخ ) ونمو في الوحدة السكانية (عائلة ثم قرية ثم مدينة...الخ )...الخ
ان التطور كان وما يزال مصحوبا بظاهرة ملازمة هي ظاهرة " تنافر القوى وتنوع الوظائف وتفرع الاختصاصات ". فالعامل الاجتماعي ازداد تنوعا فيما ازدادت المهن والصناعات تخصصا وخضعت مظاهر الانتاج الاخرى لهذه المبادئ. لا بل نجد تنوعا بينخصائص الريف والمدن وبين دولة وأخرى او بين وحدة اقليمية واخرى، وفي كل ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية نجد تطبيقات صحيحة لهذه المبادئ في السياسة والدين والاخلاق والعلم والفن والاقتصاد.
وفي المقابل نجد انحلال يعقب التطور. إذ ثمة مجتمعات تضعف بعد قوة ومدنا تتقوض وتنحل وتفقد مكانتها، ودولا يحل بها الظلم والهوان والفقر والتخلف بعد مجد وسلطان وأخرى تقوم من جديد وتأخذ بأسباب النشوءوالارتقاء في عملية خلق متجددة في الحياة الانسانية.
تعقيــب
ولكننا نلاحظ دولا وشعوبا وقبائل تأبى الانعتاق من تخلفها وبدائيتها مقابل دول وشعوبا تصر على ديمومة الارتقاء وعدم الانتكاس.
رابعا: نظريات سبنسر في شؤون المجتمع
كثيرة هي النظريات التي يعرض لها سبنسر في فلسفته الاجتماعية، منها ما يتعلق بالشؤون السياسية والاقتصادية وبعضها يتعلق بالشؤون الاخلاقية والدينية.
نظريته في تصنيف المجتمعات
يقسم سبنسر المجتمعات باعتبارين:
1. من ناحية التكوين المورفولوجي: مجتمعات بسيطة أومركبة
في هذا النوع تكون الوحدات الاجتماعية أو التجمعات البشرية متجانسة بما يشبه الفوضى البدائية شأنها في ذلك شأن الانواع الدنيا من الحيوان ثم تاخذ في النمو كما ينمو جسم الانسان فترتقي وتتجه بالتدريج نحو التعقيد في التركيب والتنوع في الوظائف والظواهر والنظم ومن ثم الاستقرار. ومن الضروري أن يحدث اتحاد بين هذه التجمعات إما عن إرادة وقصد وإما عن طريق القهر والتغلب لكي يحصل الانتقال من حالة التجمعات البسيطة الساذجة الى حالة التعقيد والتركيب.
2. من ناحية الوظيفة: مجتمعات حربية أو صناعية
يرى سبنسر أن بعض المجتمعات من يعيش سكانها رغبة في القتال كالتي سادت نظم الحياة الاقطاعية فيأوروبا سابقا وهو حال المجتمعات الحربية. وهناك من المجتمعات من يقتصر عيشها على مكافحة المتاعب في الحياة والصراع في معركتها. مثل هذه المجتمعات ليس لها غاية الا العمل للتغلب على مصاعب الحياة وهو حال المجتمعات الصناعية.
الموجز في النظريات الاجتماعية التقليدية والمعاصرة - 10
10-النظرية الوظيفية
اولا: جذور النظرية
لما نتعرض للوظيفية بالدرس والتحليل والفهم علينا اولاان نأخذ بعين الاعتبار ان للنظرية الوظيفية:
1. جذورا ابستيمية ومعرفية تسبق تحول الوظيفية الى نظرية، ولما نبحث عن الجذور فاننا في الواقع نقوم بمقاربة للوظيفية كمفهوم قبل ان نقف عليها كنظرية هذه الجذور المعرفية نجدها لدى علماء الاجتماع الاوائل امثال سان سيمون و اوجست كونت و اميل دور كايم و مارسيل موس وحتى كارل ماركس و ماكس فيبر. وهي في وضعها هذا لا تعدو ان تكون مجرد مقاربة ولكنهاقابلة للارتقاء الى مستوى النظرية.
2. ان النظرية الوظيفية هي نظرية جزئية وليست نظرية كلية في علم الاجتماع وهذا هو حالها فيما لو قارناها بالنظرية الماركسية التي تقدم نظرة شاملة للمجتمع.
3. بدء من العقود الاولى للقرن العشرين اخذت الوظيفية بالهيمنه على ساحة علم الاجتماع خاصة بعد ان نشطت المدرسة الانجلو سكسونية التي ضمت كلا من روبرت ميرتون و راد كليف براون و تالكوت بارسونز ومالينوفسكي في انجاز ابحاث استندت الى النظرية الوظيفية او ما عرف بالبنائية الوظيفية.
هكذا علينا أن نقر انه من العبث فهم هذه المقاربة الجديدة قبل ان نرجعها الى جذورها المعرفية الاولى، أي الى المقاربة الوضعية التي انبثقت منها. كيف؟
لقد اوجد اوجست كونت قطيعة بين ما يسميه هو بقرون الميتافيزيقيا والقرن التاسع عشر او ما يسميه بالقرن الوضعي العلمي. هذه القطيعة ترتب عليها بروز تصورات جديدة تتعلق بالنظام السياسي والنظام الاجتماعي والنظام المعرفي. كما ان كونت بشر بوراثة العلماء والفلاسفة والصناعيين لرجال العهد الميتافيزيقي البائد، أي انه بشر بنظام اجتماعي وسياسي سيرتكز على العلم والفلسفة والصناعة. وهكذا، فكلما تغيرتالمعرفة بالاتجاه العلمي والوضعي كلما امكن التوصل الى اقامة نظام سيلسي وضعي.
السؤال: ما هي قيمة التصور الوضعي للاجتماع والسياسة والمعرفة؟
قيمة التصور الوضعي تنعكس على علاقة المعرفة بواقعها.أي ان المعرفة لم تعد نظرية مجردة بالقدر الذي ستصبح فيه تطبيقية. في هذا الاطار من التصور الوضعي سيكون دور المقاربة الوظيفية هو التعامل الواقعي مع الظواهر الاجتماعية. فهل حصل مثل هذا التعامل؟
في واقع الامر نعم. فقد بدأ هذا التعامل الواقعي مع الظواهر مع سان سيمون لما اعترف – مثلا - بمفهوم المواطنة وأعلى من شأنه على حساب مفهوم الكونت، ثم لما اعتبر الدين ظاهرة اجتماعية وجردها من كل مقدس. ولكن مع اوجست كونت كان التعامل الواقعيمع الظواهر ابلغ اثرا حيث جعل من ظاهرة الدولة ظاهرة نمطية فقسمها الى ثلاثة اقسام / انماط تعبر عن ثلاث مراحل هي:
- الدولة الثيولوجية تعبير عن المرحلة اللاهوتية.
- الدولة الميتافيزيقية تعبير عن المرحلة الفلسفية \الميتافيزيقية – الطبيعية.
- الدولة العلمية تعبير عن المرحلة الاخيرة / الصناعية او الفكر الوضعي العلمي.
بعد هذه التجربة المعرفية في تنميط مراحل التطور البشري الفكري توصل كونت الى تجاوز الفلسفة النظرية المجردة التي اخفقت لانها عجزت عن تحليل واقع الانسان وشرع كونت في بناء شجرة المعرفة متوجا اياها بعلم الاجتماع الذي كان عليه ان يلعب دورا اساسيا في تحليل وافع الانسان. وهكذا ستكون المقاربة الوظيفية ترجمة لكل التصورات التي حصلت داخل المقاربة الوضعية.
ثانيا: المرجعية العلمية للمقاربة الوظيفية
حين نبحث عن المحددات العلمية المرجعية للوظيفية سيكون امامنا اثنتيين من المرجعيات هما:
- الاولى: هي العلوم الطبيعية
- الثانية: هي العلوم البيولوجية
ستأخذ الوظيفية هاتين المرجعيتين بعض العناصر الاساسية:
العنصر الاول: هو القوانين
فالطبيعة تقوم على عدد من القوانين التي تتحكم بظواهرها فاذا ما حدثت تطورات جيولوجية معينة فمن الطبيعي ان يصاحبها او يتولد عنها عددا من الظواهر الطبيعية. وثمة قوانين طبيعية تندثر بفعل عوامل طبيعية اخرى لذا نجد اوجست كونت يعرف الظواهر الاجتماعية تماما مثل تعريفه للظواهر الطبيعية ومثال ذلك تعريفه للدين كظاهرة اجتماعية تولد وتنمو وتكبر ثمتشيخ. أي تبدأ مرحلة التآكل والاندثار.
العنصر الثاني هو: الوظيفة الكامنة في التحليلات البيولوجية للمجتمع
اذ نلاحظ ان مفهوم الوظيفة هو مفهوم قديم في علمالاجتماع، فقد بدأ التفكير فبه مع هربرت سبنسر ثم تواصل مع اوجست كونت وتطور مع اميل دوركايم و مارسيل موس وايضا مع سان سيمون. كل هؤلاء هم ممثلي المدرسة الوظيفية الفرنسية.
لا شك أن هاتين المرجعيتين ( الطبيعية والبايولوجية ) أرستا مبدأين أساسيين انطلقت منهما المقاربة الوظيفية هما:
الاول: ان المجتمع مثل الجسم البشري كلية متكاملة.
الثاني: ان كل عضو من اعضاء هذا الجسم لا يمكن فهمه الا في اطار كلية.
السؤال: ما هي النتيجة التي يمكن ان نستلخصها بداية من هذين المبدأين؟
الجواب: إن العضو جزء من كل، والعلاقة الرابطة بينهما هي حصرا علاقة تكاملية.
والنتيجة القابلة للاستخلاص تبين أنه ثمة تكامل بين الوظيفة و الكلية.
ثالثا: المجتمع من منظور وظيفي
في إطار هذا التكامل نستطيع القول أن المجتمع يتحدد من خلال وظيفته أو وظائفه. بمعنى أن الوظيفة تتحدد داخل المجتمع، لذا نجد أنثروبولوجي بحجم راد كليف براون يشير في كتابه " الوظيفة العامة " إلى هذهالاخيرة بأنها تلك التي تشمل بقية الوظائف الاخرى و لكن هذه بلا ريب نظرة حتمية. وفي هذا السياق ينبغي الاشارة إلى أن مفهوم الوظيفة حين انبثق في القرن 19 اتخذ طابع الحتمية متأثراً بأطروحات المدرسة الاجتماعية البيولوجية التي ترى أنه طالما أن كل جسم بشري يتمتع بعدد من الوظائف الثابتة والحتمية الثابتة فالمجتمع أيضاً يتمتع بعدد من الوظائف الثابتة.
مثل هذا الطرح نجده لدى هربرت سبنسر وخاصة لدىأوجست كونت، وفيما بعد سنجد هذا المنطق الحتمي الذي يرى أن مبدأ الوظيفة العامة يتحكم في بقية الوظائف الاخرى شائعا عند رواد المدرسة الانجلو سكسونية في علم الاجتماع امثال مالينوفسكي و راد كليف براون و تالكوت بارسونز.
هكذا كان لابد من العودة إلى دوركايم لإخراج المفهوم من إطار الحتمية إلى إطار النسبية، فالحتمية والاطلاقية ليست ولا يمكن أن تكون من سمات الوضعية التي تنظر الى الظواهر نظرة نسبية. لهذا يشار الى المدرسة الفرنسية لعلم الاجتماع بجهود دوركيم التي نحتبالوضعية التقليدية نحو ما عرف بـ الوظعية الصحيحة.
رابعاً: مفهوم الوظيفة لدى دوركايم
يميل دوركايم إلى جعل مفهوم الوظيفة مفهوما نسبيا خاليا من الحتمية. فاذا لم يكن من الضروري اعتبار كل وظيفة تعبير عن حاجة الجسم فليس من الضروري ايضا أن تكون لكل حاجة وظيفة في الجسم. فما هي أسباب هذه النسبية الوظيفية لدى دوركايم؟
ثمة ثلاثة اسباب تفسر النسبي عند دوركايم:
1. يريد دوركايم ان يحتكر تأسيس العلم الجديد. لذا لن يكون بإمكانه تبني نفس التعريفات التي نجدها عند كلا من كونت و سيمون و سبنسر. ولايجب ان ننسى ايضا أن دوركايم يعتبر الكونتية ( أ. كونت ) ضربا من ضروب الفلسفة المجردة في حين انه يدعي لنفسه تأسيس العلم الجديد.
2. رغب دوركايم ان يتميز في اطروحاته عن كونت مبينا ان علم الاجتماع لا يقوم على مبدأ الحتمية ولايستند اليها.
3. اراد دوركايم ان يتخلص من هذه المرجعيات غيرالاجتماعية وان تكون للظاهرة الاجتماعية مرجعيتها المحضة وليست المرجعية البيولوجية او الطبيعية.
في المقابــــل:
4. بدا المجتمع عند كونت و سبنسر على انه كلية اجتماعية، وعليه فان الحياة الاجتماعية والحياة العضوية ستكونان خاضعتين لنفس القانون، قانون التطور.
مثال:
فالمؤسسات مثلا تملك نفس الاهداف والوظائف التي تمثل اعضاء الانسان وهو ما يرفضه دوركايم كون سبنسر يختزل النشاط الانساني في الوظيفة التي تقوم بها كل ظاهرة اجتماعية والتي يتم ارجاعها الى حاجيات الجسم الانساني.
أية استنتاجات؟
ان الاستنتاجات الرئيسية التي يمكن الخروج بها:
- أن الوظيفية كانت قبل دوركايم تعرف على انها حالة من التطابق ما بين الجسم وحاجاته، فكلما عبر الجسم عن حاجة ما الا واستشعر الحاجة الى وظيفة ما.
- ان المقاربة الوظيفية انطلقت من هذا التطابق الكلي مابين الوظيفة والحاجة. لماذا؟ لان علوم البيولوجيا كانت تشكل نوعا من مرجعيات علم الاجتماع لدى دوركايم و كونت و سيمون... الخ.
- اراد دوركايم ان يقصي العلوم البيولوجية والطبيعية من أي تاثير في علم الاجتماع، وحرص على استقلاله والحد من تدخل علوم البيولوجيا فيه، لذا ستتخذ الوظيفية عند دوركايم منحىً آخر غير التطابق وهو المنحى المعرفي.
- يعتبر دوركايم ان الممارسة السوسيولوجية لا ينبغي ان تعتمد على الحتمية لذا يؤكد على نسبية الوظيفة " فليس الشعور بالحاجة يستوجب الوظيفة ".
- من جهة اخرى هناك اعتبارين لدى دوركايم يقفان خلف تنسيبه للظاهرة الاجتماعية:
الاعتبار الاول: هو صعوبة اعتماد التحليل الحتمي في علم الاجتماع. فالظاهرة الاجتماعية نسبية بحكم ظروفنسبية انتاجها وظروف التحكم فيها.
الاعتبار الثاني: هو ان الظواهر المعتلة والشاذة هي ايضا لها وظائف ولايمكن القول بانها ظواهر غير طبيعية. وهذا يعني ان علم الاجتماع لا يبحث في علة الظواهر بقدر ما يبحث عن الوظيفة التي يمكن ان تؤديها ( في العلاقات والادوار ).
خامسا: قضايا الوظيفية وتصوراتها
للوظيفية قضايا كبرى تشكل منطلقات لها في أي تحليل سوسيولوجي.اذ يمكن الحديث عن بعض المفاهيم التي ينبغي التعرف عليها بالنسبة للوظيفية كرؤية سوسيولوجية. فما هي ابرز هذه القضايا او المفاهيم؟
اولا: تصورها للمجتمع
والسؤال هو: كيف تنظر الوظيفية الى المجتمع؟ وكيف تتصوره؟
المجتمع عند الوظيفية هو:
- نسق من الافعال والبنى المحددة والمنظمة. هذا النسق المجتمعي يتألف من متغيرات مترابطة بنائيا ( بنى )ومتساندة وظيفيا ( وظائف ).
- وذو طبيعة متسامية ومتعالية تتجاوز وتعلو كلمكوناته بما فيها ارادة الانسان.
- هذا التجاوز او التعالي الذي تتحدد شروطه من خلال الضبط والتنظيم الاجتماعيين اللذين يُلزمان الاشحاص بالانصياع لهذه الطبيعة المتسامية والالتزام بها. اذ ان أي انحراف عنها يهدد اسس بناء المجتمع التي تعدالمحافظة عليه وصيانته وتدعيم استمراريته غاية بحد ذاتها.
شروحـات:
ان عبارة التصور الاجتماعي ذو الطبيعة المتعالية هي عبارة ذات جذور دوركايمية توازي مقولة دوركايم الممثلة بـ ( الضمير الجمعي ) ؛ فللمجتمع ضمير يسمو ويتعالى على ضمائر الافراد مجتمعين او منفردين.
وحسب الوظيفية فالمجتمع مجموعة لا متناهية من البنى وكل منها يقوم بوظيفة فاذا تساءلنا مثلا: لماذا بنية المجتمع الاسرية صغيرة؟ نجيب بأن المجتمع يحتاج الى مثل هذا النوع من الاسر كونها تلبي حاجات ووظائفاجتماعية. ان الضبط الاجتماعي هو أية وسيلة يستعملها المجتمع للتحكم بسلوك الافراد سواء عن طريق اللغة، الاعراف، التقاليد …الخ فهذه العملية تمثل رقيب اجتماعي. فالافراد الذين يتكلمون لغة معينة او يختصون بعادات وتقاليد واعراف وتصورات معينة يصبحوا تلقائيا مقبولين في المجتمع ومعبرين عنه وعن احتياجاته ووظائفه وضميره الجمعي.
ان التنظيم الاجتماعي هو نتيجة للضبط الاجتماعي. وهاتان الآليتان ( التنظيم و الضبط ) هما المسؤولتان عن الزام الافراد والجماعات بالانصياع لهما والالتزام بهما. واي انحراف عنهما سيهدد الاسس الاجتماعية. ولا شك أن الوظيفية تمتاز بحساسية كبيرة تجاه عوامل التغير في المجتمع. فالتغير الاجتماعي ليس غاية انما هو تهديد في حين ان الوظيفية تستهدف المحافظة على المجتمع وتحقيق الاندماج الاجتماعي.
ثانيا: مسالة التوازن الاجتماعي
توصف الوظيفية في بعض الاحيان بانها:
- اتجاهات للتوازن. أي انها ترى التوازن واقعا وهدفا يسعى المجتمع الى أداء وظائفه وبقائه واستمراره.
- اذا كانت الوظيفية عبارة عن اتجاهات للتوازن فان هذا التوازن يتحقق بعمليات التناسق بين مكونات البناء الاجتماعي والتكامل بين وظائفه الاساسية.
- هذا التوازن يعمل على تحقيقه شريط مفاهيمي تشترك فيه القيم والمعايير الثقافية والافكار التي يرسمها المجتمع لافراده وجماعاته الذين لايملكون حق الخروج عليها والا وقعوا تحت وطأة جزاءات الضبط الاجتماعي الرسمي وبالتالي تصنيفهم في عداد المنحرفين الخارجين عن مسيرة المجتمع.
سؤال: اذا ما تحدثنا عن بارسونز، فما هي الآلية التي تحافظ على حالة التوازن في المجتمع؟
الإجابة: نجدها لدى الكثيرين من الوظيفيين. والمسألة تتصل بالنسق الثقافي الذي يشتمل على القيم والافكار والمعايير والاساطير كما يسميها بيير برديو او بالرموز. لذا يؤكد بارسونز على أهمية التوازن الثقافي لتحقيق التوازن الاجتماعي والا فان اختلال النسقالثقافي سيؤدي الى فقد المجتمع لتوازنه وذلك يعني انهيار المجتمع.
البنيوية الوظيفية
اولا: مكانة البنيوية الوظيفية في علم الاجتماع
نالت هذه النظرية النصيب الاوفر من الكتابات التي تصدت لموضوع النظرية الاجتماعية. وحتى اواخرالستينات من القرن العشرين ظلت هي النظرية المهيمنة على ساحات علم الاجتماع بل انها اكثر النظريات انتشارا وهيمنة.
ومع انها شهدت تراجعا ملحوظا عن مكانتها منذالسبعينات من القرن العشرين بسبب ظهور نظريات اخرى كعلم الاجتماع الديناميكي وعلم اجتماع التنظيمات والفردوية المنهجية والبنيوية التكوينية إلا ان هذا التراجع لا يبرر عدم التوقف عندها ومحاولة فهمها لاسيما إزاء المدة الطويلة التي هيمنت فيها على الساحة الاجتماعية.
أيضا وقبل الدخول في ماهية النظرية ينبغي الاعتراف بان البنيوية الوظيفية هي نظرية كبيرة وليست نظرية صغيرة، فهي تنطلق من المجتمع ولا تعطي أهمية للفرد، ولكونها نظرية مجتمعية فهي غير مستوحاة من الفرد.
في اواخر ايامها تعرضت النظرية لموجة من النقد. فقد قام عالم الاجتماع الامريكي " الفن غولندر " سنة 1970 بتحليل نقدي لعلم الاجتماع الغربي من خلال نقده للبنيوية الوظيفية ذاتها. وثمة من نعتها بانها الطغيان الامبريالي. اما عالم الاجتماع الامريكي ( ويلبرت مور 1978 ) الذي ارتبط اسمه كثيرا بالنظرية الوظيفية فقد مثَّل شاهد من اهله حين اعترف بان استعمال البنيوية الوظيفية اصبح محرجا في علم الاجتماع المعاصر (النظري).
ثانيا: ما هي البنيوية الوظيفية؟
احيانا نكتفي باستعمال اللفظ " الوظيفية " للدلالة على النظرية. ولكن من اين اتت التسمية بـ" البنيويةالوظيفية "؟
لقد أسمى دوركايم المجتمع بالحقائق الاجتماعية. وعندما ننظر الى المجتمع بهذا المحتوى فاننا ننظر الى البنى الاجتماعية بما فيها المؤسسات والبنى الطبقية والنوع الديمغرافي للسكان باعتبار المجتمع مدني. فلو نظرنا الى البنية الاسرية [ اب، ام، اخ،...الخ ] كإحدى بنى المجتمع المدني وتساءلنا: ماهي وظيفة هذه البنية بالنسبة لاستقرار المجتمع؟ سنلاحظ اننا بصدد مواجهه عبارة " البنيوية الوظيفية " التي تفسر لنا الوظائف التي تؤديها البنى في المجتمع.
إذن البنيوية الوظيفية هي:
[ رؤية سوسيولوجية ترمي الى تحليل ودراسة بنى المجتمع من ناحية والوظائف التي تقوم بها هذه البنى من ناحية اخرى ].
هذا يعني ان البنى لم توجد بطريقة عشوائية لان لها وظائف سوف تقوم بتحقيقها. وبهذا المعنى فان للبنىالاجتماعية حتمية لامفر منها وهي وجود وظائف لها. هكذا فلكل بنية اجتماعية وظيفة تؤديها، وبما ان كل شئ محكم فسوف تسير الامور على ما يرام في المجتمع دون انتظار طويل للصراعات والثورات، فالمجتمع عبارة عن سيمفونية من الوظائف تتسم بالتناسقوالتوازن.
ثالثا: أشكال البنيوية الوظيفية
صحيح ان البنيوية الوظيفية تهتم بدراسة البنى ووظائفها بيد انها ليست نظرية سوسيولوجية ذات لون واحد بل يمكن الوقوف على ثلاثة اشكال لها:
1. الوظيفية الفردية
في هذا الشكل من النظرية فقد وقع التركيز على حاجات الفاعلين الاجتماعين والبنى الاجتماعية التي تظهر لتلبية هذه الحاجات.
مثال:
الاسرة النووية التي تتكون عادة من أبوين وبضعة أولاد ظهرت لتلبي بعض الحاجات الفردية كالتمتع بالحرية والعيش بالاستقلالية والعمل والتربية الخاصة في مقابل ذلك لم تعد الاسرة الممتدة المكونة من الابوين والابناء والازواج والزوجات وابناءهم ؛ لم تعد قادرة على تلبية الحاجات الفردية.
2. الوظيفية العلاقاتية
في هذا الشكل يقع التركيز على آليات العلاقات الاجتماعية التي تساعد في التغلب على التوترات التي قد تمر بها العلاقات الاجتماعية. هذا النوع نجده موضوع اهتمام لدى الانثربولوجين امثال راد كلييف براون ومالينوفسكي. فالوظيفية العلاقاتية تعمل، مثلا، عبر شعيرة طقسية من الشعائر، على التخفيف من التوترات في اطار العلاج النفسي.
3. الوظيفية الاجتماعية
هنا يقع التركيز على البنى والمؤسسات الاجتماعية الكبرى وعلى علاقاتها ببعضها البعض وتاثيراتها الموجهة لسلوكات الافراد والمجتمعات كالوظيفية التي تقوم بها مؤسسات كالجامعة او المستشفى او الاذاعة اوالتلفزيون او الاسرة او المسجد او المدرسة... فالمسألة تتعلق بالمجتمع لا بالافراد.
رابعا: الاصول الانثروبولوجية والبايولوجية للنظرية
ظهر مصطلح الوظيفية في الثلاثينات من القرن العشرين عند علماء الانثربولوجيا على الخصوص أمثال راد كليف براون و برونسلوي مالينوفسكي. وفي الاربعينات درَّس هذان العالمان في جامعة شيكاغو مما أدى الى انتشار مصطلح الانثربولوجيا الوظيفية في الولايات المتحدة الامريكية. وفيما بعد مثلت اعمال كل من تالكوت بارسونز و روبرت ميرتون البنيوية الوظيفية في أعمق ما كتب حول النظرية التي تنظر الى المجتمع باعتباره نظاما نسقيا يتمتع بالكثير من الانسجام بين مكوناته البنيوية. أما النظرية البايولوجية فتعد أحد مرجعيات الوظيفية، ومنها يمكن القول انه إذا كانت العناصر المكونة للجسم الانساني تكون وحدة بيولوجية متكاملة، أي سيفونية متكاملة تتسم بالانسجام، إلا أن الوظيفيين وكما هو الحال في النظرية الاجتماعية البيولوجية في ملاحظاتها لفروق بين الجسم البشريوالمجتمع لا يتجاهلون أيضا عنصر الصراعات في المجتمعات لكنهم ينظرون اليها بوصفها توترات بريئة. أي انها عبارة عن تمهيدات الى اقامة نظام اجتماعي افضل. فهي في منظورهم ايجابية وليست هدامة للمجتمع.
خامسا: الاصول السوسيولوجية للنظرية
ان البنيوية الوظيفية كنظرية سوسيولوجية تعتبر المجتمع مجموعة من التنظيمات المتراتبة التي يساهم كل منها في الاستقرار الاجتماعي للمجتمع هذا يعني أن الوظيفية تركز اكثر ما يكون التركيز على التوازن الاجتماعي للمجتمع وليس على التغير الاجتماعي. فالعناصر المكونة للمجتمع تُدْرَس من حيث الوظيفة الخاصة والمحددة التي تقدمها للحفاظ على ترابط النسق الاجتماعي لهذا المجتمع او ذاك. اما النسق الاجتماعيفهو عبارة عن مجموعة من العناصر المترابطة بعضها ببعض، وأي خلل في أحدها لابد وان يؤثر في باقي العناصر. وبدورهم يقول الوظيفيون ان النسق الاجتماعي يمكن ان يحافظ على الاستقرار طاما ان كل عنصر يقوم بوظيفة.
أخيرا يمكن القول ان كونت و دوركايم و سبنسر كانوا اهم ثلاثة رواداجتماعيين اثروا تاثيرا كبيرا على النظرية البنيوية الوظيفية.
1. اوجست كونت
نظر كونت الى المجتمع باعتباره وحدة تتمتع بالكثير من الاستقرار، وعلى الرغم من انه عارض الثورات والانقلابات والانتفاضات الا انه لم يبد قلقا على مصير المجتمع بما ان الاستقرار يغلب عليه. بل ان كونت كان مؤمنا بان المجتمع يتصف بالتوازن وليس بالصراعات. لذا رأى في الانساق الاجتماعية وكأنها أنساق عضوية او بيولوجية.
2. الوظيفية عند سبنسر
رأى سبنسر أن المجتمع في انساق يتشابه مع كثير من الانساق البيولوجية بل انه اكثر الرواد الذين شبهوا المجتمع بالانساق البيولوجية، فالكائنات العضوية والانساق الاجتماعية في المجتمع هي كائنات متشابهه من حيث قدرتها على النمو والتطور. ان ازدياد حجم الانساق الاجتماعية كازدياد الكثافة السكانية – مثلا - سيؤدي الى ازدياد انقسام المجتمع الى انساق اكثر تعقيدا وتمايزا وهذا هو حال الاعضاء البيولوجية او الكائن الحي.
وقد لاحظ سبنسر ان التمايز التدريجي للبنى في كل الانساق الاجتماعية والبيولوجية يقترن بتمايز تدريجي في الوظيفة. ولعل أهم ما جاء به سبنسر هو استعمالهلمصطلحي " البنية والوظيفة "هاتين الكلمتين بلورهما سبنسر اكثر من كونت.
أخيرا فان قانون التطور الاجتماعي الذي جاء به سبنسر قد اثر في نظريات التطور عند علماء الاجتماع الوظيفيين الذين جاؤوا بعده وفي طليعتهم تالكوت بارسونز و دوركايم.
3. الوظيفية عند اميل دوركايم
لـ اميل دوركايم دور موثر في تأسيس النظريةالوظيفية. ومبدئيا فان تاثيرات كونت و سبنسر في الوظيفية تجد امتدادتها عند دوركايم في الكثير من ابحاثه سواء المتعلق منها بـ" تقسيم العمل الاجتماعي " او " الاشكال الاولية للحياة الدينية ". اما فعليا فثمة معالجة لمفهوم الوظيفة وعلاقتها بالبنى الاجتماعية كالدين والعمل والثقافة والفرق بين السبب الاجتماعي والوظيفةالاجتماعية...الخ
بعض اسهامات دوركايم في تأسيس البنيوية الوظيفية
اولا:
ان اهتمام دوركايم بالوقائع الاجتماعية جعله يهتم ايضا بالاجزاء المكونه للنسق الاجتماعي من جهة وعلاقات الاجزاء ببعضها البعض ومن ثم تأثيرها على المجتمع. ففي حديثه عن الوقائع الاجتماعية وجد نفسه مضطرا لإعطاها اهمية كونها تندرج في اطار في بنى ومؤسسات سعى دوركايم الى البحث عنها.
ثانيا:
اعتنى دوركايم كثيرا بالبنى والوظائف وعلاقاتها بحاجيات المجتمع. وهذا يعني اهتمامه بالبنية والوظيفة كعنصرين هامين في التحليل السوسيولوجي.
ثالثا:
من اهم الامور التي قام بها دوركايم تمييزه بين مفهومين هما " السبب الاجتماعي " و " الوظيفة الاجتماعية ".
اذ ان دراسة " السبب الاجتماعي " سيعني الاهتمام بمبرارات وجود البنية. اما دراسة " الوظيفة الاجتماعية " فستعني الاهتمام بحاجيات المجتمع الكبيرة وكيفية تلبيتها من طرف بنية معينة.
مثال:
اذا درسنا سبب ظهور الاسرة النووية فسنفكر ما اذا كان التصنيع وانتقال الناس من حال الى حال هو السبب في ذلك، كما سنتساءل عن وظيفة الاسرة النووية كبنية جديدة في المجتمع الصناعي.
رابعا:
رفض دوركايم رفضا قاطعا فكرة اسطورية الدين، واكد في المقابل على انه ظاهرة عالمية وبالتالي لابد وان تكون له وظيفة في المجتمعات البشرية. فمن بين وظائف الدين عند دوركايم وابن خلدون العمل على توحيد الناس وخلق روح التضامن الاجتماعي بينهم عن طريق القيم الثقافية والاعتقادات الدينية التي يدعو اليها هذا الدين او ذاك.
مثال: وظيفة الشعائر الدينية
يقدم دوركايم في كتابه " الاشكال الاولية للحياة الدينية " نموذجا للمعنى الاجتماعي للشعائر الدينية او الحفلات المراسمية. ففي نظره تحقق الشعلئر الدينية التماسك الاجتماعي من خلال أدائها لاربع وظائف:
- مراسم الحفل، وهذه تهيئ الفرد للحياة الاجتماعية من خلال فرض الطاعة عليه.
- إن وظيفة الشعائر الدينية تتمثل في كونها تقوي من تماسك المجتمع وترابط العلاقات بين الافرادوالمجموعات.
- تجدد الشعائر الدينية لدى ممارستها التزام الفرد لتقاليدالمجتمع.
- يشعر الفرد بالراحة والحماس الاجتماعي اثناء مشاركته بالحفل الديني.
عبر هذه الحالات الاربع فإن الشعائر الدينية تساهم بتلبية الحاجات الدينية للفرد، ومن ثم يتضح من التفكير السوسيولوجي الدوركايمي ان كل وحدة اجتماعية فيالمجتمع لها علاقة بالمجتمع الكبير وفي كل الوحدات الموجودة فيه ويعتقد دوركايم ان الانسجام في المجتمع يصبح واقعا مجسما عندما تسود هذه الحالة الطبيعية. أي عند قيام هذه الوحدات الاربع بوظائفها في المجتمع ككل.
خــامسـا: مفهوم الوظيفة عند دوركايم
يعرفها كما يلي:
" تتمثل وظيفة العناصر الاجتماعية في مساهمتها فيالحفاظ على مجرى الحياة في المجتمع ".
فالثقافة هي التي تمثل جانبا من العناصر الاجتماعية فتشمل اللغة، العادات، والتقاليد، والعقائد الدينية، القيم الثقافية، وكل هذه العناصر تمثل مؤسسات اجتماعية لها وظيفتها ولايمكن الاستغناء عنها لاهميتها في مجرى الحياة الاجتماعية ولكونها تشكل العناصر البنيوية في المجتمع.
ومن ملامح الوظيفية النظرية انها تنظر الى المجتمع كنسق اجتماعي أي وحدات اجتماعية مختلفة نسبيا تساهم في وظائف مختلفة لدفع المجتمع وتقدمه. وحسب دوركايم فـ" ان الانسجام من ملامح الرؤية الوظيفية " لا بل انها تنظر الى المجتمع على اساس انه مستقر وليس هناك ما يعكر صفوه من صراعات ونزاعات بما ان اجزاءه تتكامل في القصد والهدف.
الوظيفية والصراع الاجتماعي عند دوركايم
من خلال كتاب: " تقسيم العمل الاجتماعي"
يعتبر الكتاب اهم النصوص المنهجية في علم الاجتماع والتي حللت التصورات الطارئة خلال القرنيين 18 و19 م، لذا خصص دوركايم الكتاب ليوضح رايه فيامكانيات تطبيق المقاربة الوظيفية انطلاقا من مبدأ دوركيمي يعتبر الوظيفية مبدأ نسبيا منهجيا.
اذن الوظيفية لدى دوركايم هي تطبيق نسبي.هذا ما يتوصل اليه انطلاقا من تجربة المجتمعات الاوروبية عامة وفرنسا خاصة حيث لا يتجاهل دوركايم وصفكونت الذي كان يعتبر القرن الـ18 تكريسا للقطيعة مع الفكر اللاهوتي والميتافيزيقي. أي قطيعة مع كل فكر إطلاقي حتمي.
يعتبر دوركايم الظاهرة نسبية بحكم ظروف نسبية انتاجها وظروف التحكم بها وفي نفس الوقت يرى ان الظواهر المعتلة والشاذة هي ايضا لها وظائف وليس صححيحا انها ظواهر غير طبيعية. فظاهرة الاختلال في عمل المؤسسات او في التجارة هي ظواهر معتلة وشاذة ولكنها ايضا طبيعية اما حالات الانخرام الكامل كانخرام النظام الاجتماعي فهذه – مثلا - حالة غير طبيعية لانها تعبر عن صراع مدمر وهوما يرفضه دوركايم الذي يعتبر فكرة الصراع المدمر هي حالة غير طبيعية بامتياز. ولكن لماذا هذه النظرة الرافضة لفكرة الصراع؟
لـ دوركايم تبريرا علميا، ذلك ان مفهوم الوظيفية عنده يتضمن اصلا بعدا اخلاقيا واضحا، ومن المهام العلمية التي يطرحها على نفسه هي تاسيس علم الاخلاق. فهذه الاخلاق هي اخلاق اجتماعية مدنية. كما أن دوركايم يربط بين الوظيفية وشيئ اخر هو " التجانس " وهو مفهوم مركزي لدى دوركايم. لذا نراه يصر على نسبية الظاهرة وعدم اطلاقيتها كون التحليل الاجتماعي لايبحث في علة الظواهر بل في وظيفتها. وهذه الوظيفة ذات بعد متجانس. كيف؟
في كتابه " التربية الاخلاقية "، المنشورات الاجتماعية بفرنسا 1966 " يعرف دوركايم المجتمع كما يلي:
1. المجتمع لايمكن ان يستمر الا اذا وجدت درجة كافية من التجانس والتربية ترسخ وتدعم هذا التجانس.
2. اما وظيفة المجتمع فهي تحقيق التجانس، وادوات التجانس هي التربية.
وفي نفس الكتاب نجد نفس الفكرة تقريبا: " ان المجتمع هو قبل كل شئ ضمير، وهو ضمير المجموعة الذي يجب ايصاله الى الطفل ".
يبدو من خلال هذين التعريفين أن الوظيفة التي يشير اليها دوركايم هي وظيفة اجتماعية بحتة تحقق تجانس المجتمع، وبما ان دوركايم يشتغل في حقل اجتماعي متكون " ناجز " فمن الطبيعي ان يُنَسِّب الوظيفة الاجتماعية بخلاف مالينوفسكي وراد كليف براون اللذان دافعا عن حتمية الوظيفية. فكيف نفسر هذا الاختلاف؟
الوظيفية في علم الاجتماع الامريكي
ان ظهور المدرسة الوظيفية عند بعض رواد علماء الاجتماع الغربيين ما لبث ان انتقل الى العالم الجديد وباتحديد الى المجتمع الامريكي حيث عرفت الوظيفية أوج نموها بين العديد من علماء الاجتماع الامريكي فيما بين الخمسينات 1956م والسبعينات 1975م من القرن العشرين، اذ اصبحت المدرسة السوسيولوجية تتمتعبسلطة لا تضاهى في هذه الفترة بالذات. أي انها كانت سيدة الموقف كنظرية سوسيولوجية معاصرة والاكثر انتشارا.
أولا: الوظيفية عند تالكوت بارسونز
يعد بارسونز اشهر عالم اجتماعي وظيفي في الولايات المتحدة الامريكية والعالم الغربي على العموم. وعلى امتداد اكثر من نصف قرن من الكتابة والبحث استطاع بارسونز طبع علم الاجتماع بتحليلاته الوظيفية، وهو مثل ألن تورين و بيير بورديو و جاك بيرك و آرون تتميز كتاباته بالاسلوب الصعب في حين ان كتابات روبرت ميرتون هي الاسهل في علم الاجتماع.
ان اكبر مساهمة جاء بها بارسونز في علم الاجتماع هي تركيزه في التحليل السوسيولوجي على المجتمع ككل. ويرى بارسونز ان هذا التركيز يساعد عالم الاجتماع على تحاشي الاهتمام بدراسة مواضيع معزولة مثل جنوح الاحداث او المشاكل العائلية. ويعتقد انه يجب دراسة تلك القضايا في اطار عمل النسق الاجتماعي ككل.
هذا الوظيفي العملاق يلاحظ ان الرؤية الوظيفية تبدأ من الكلي وتتجه نحو الاحداث. فعندما نرى جزئية في المجتمع فاننا سنحاول تفسيرها وليس العكس بان نفسر المجتمع من خلال جزيئاته. وفي توجهاته النظرية يتشابه بارسونز مع كارل ماركس في هذه النقطة بالذاتأي ان كلا منهما يركز تحليله على المجتمع ككل وهذا واضح في كتابات كارل ماركس الذي انطلق من المجتمع في طبيعته، من الناس ومن المجتمع ككل. لذا نرى بارسونز ايضا يتبنى منهج كارل ماركس الذي انطلق من الكل لتحليل الجزئيات.
ان علماء الاجتماع الوظيفيين الذين ساروا على خطى بارسونز جعلوا من الاستقرار الاجتماعي الهدف النهائي للتحليل السوسيولوجي. وهذا يعني انهم يركزون في المقام الاول على الظروف التي تؤدي الى علاقات اجتماعية متلاصقة والى الادماج السهل للعديد من الاجزاء المفصولة في المجتمع وترتيبها في وحدة مترابطة.
فتحليل بارسونز يفيد بان تركيبة المجتمع الامريكي تتكون من [ فئات بيضاء وسوداء واسيوية وامريكية لاتينية ] ومداخيل مختلفة [ اغنياء، وفقراء، متوسطو الدخل ومتدينون ] وفئات عمرية مختلفة [ كهول، شيوخ، اطفال...الخ ]. ويتساءل بارسونز: كيف تسطيع هذه الفئات المتباينة ان تتضامن مع بعضها بطريقة متناسقة نسبيا دون ان يذهب كل في طريقة بحيث تكون النتيجة الصراع الخطير؟
هذا التساؤل يطرح في واقع الامر قضية " التآلف " عند دوركايم او ما يعرف بالتضامن الآلي في المجتمعات البدائية والتضامن العضوي في المجتمعات الحديثة. هذا هو ما يشدد عليه بارسونز الذي يعتقد ان التحليل الوظيفي يؤكد انه رغم التباينات والاختلافات والفروقات فان المجتمع يؤمن لنفسه الاستقرار وبالتالي ينبغي الا نتخوف من تنوع التركيبة المجتمعية، فثمة نوع من الادماج الذي يتكون من اجزاء تترابط بفعل عوامل اللغة مثلا. فاللغة الانجليزية هي اللغة الرسمية وكل شخص يحضر الى الولايات المتحدة عليه واجب تعلم اللغة الانجليزية.
لقد عالج بارسونز بعض المؤسسات المحددة كالاسرة والاقتصاد والدين والحكومة ليبين كيف يساهم كل منها في الاستقرار الاجتماعي، ولو اخذنا الاسرة كنموذج لدراساته ووظيفتها في الاستقرار الاجتماعي فسنرى كيف يبين لنا بارسونز ان للاسرة النووية الامريكية وظيفتين هما:
1. التنشئة الاجتماعية للاجيال الجديدة، فلكي يقع دمج هذه الاجيال بالمجتمع الكبير ينبغي عليها ان تتعلم القيم الاجتماعية والثقافية والانشطة والمهارات الاجتماعيةلمجتمعها.
2. تعمل الاسرة النووية بنظر بارسونز على تمكين شخصية الكهول من الاستقرار. فالعمل والعلاقات الخارجية عن الاسرة في المجتمع يمكن ان تكون صعبةومصدرا للضغوطات على الافراد والكهول ومن ثم يعتقد بارسونز ان وظيفة الاسرة الحديثة تتمثل في التقليل من درجة التوتر الناتج عن المحيط الخارجي للاسرة وهكذا تحافظ الاسرة النووية على توازن واستقرار شخصية الكهول وهو ما لم تعد توفره الاسرةالممتدة في المجتمع الصناعي.
ثانيا: الوظيفية عند روبرت ميرتون [ = الوظيفيةالامبريقية المتوسطة ] و " الوظيفيون الجدد "
يعد مقال روبرت ميرتون " Toward the codification of Functional analyes in Sociology " أهم نقد وجه للبنيوية الوظيفية في علم الاجتماع. فما هو محتوى المقال؟
نقد ميرتون:
ينتقد ميرتون ثلاث مسلمات يتصف بها التحليل الوظيفي:
1. الوحدة الوظيفية للمجتمع
ترى هذه المسلمة ان كل العقائد والممارسات الثقافية والاجتماعية تؤدي وظيفة واحدة لكل من الافراد والمجتمع. كما تعتقد ان اجزاء النسق الاجتماعي تتمتع بدرجة عالية من التكامل. وفي هذه النقطة بالذات يشير ميرتون الى صحتها ولكن بالنسبة للمجتمعات البدائية الصغيرة وليس بالنسبة للمجتمعات الكبيرة المعقدة. لذا ينبغي عدم تعميم هذه المسلمات.
2. الوظيفية الشاملة
تعني هذه المسلمة ان كل الاشكال والبنى الثقافية والاجتماعية في المجتمع تقوم بوظائف ايجابية ويرى ميرتون ان هذا قد يكون مخالفا لواقع الحياة اذ ليس بالضرورة ان تكون كل بنية او تقليد اوعقيدة تتصف بوظائف ايجابية. ومن واقع المجتمعات العربية فإن فكرة الوحدة العربية على سبيل المثال ربما لا تصمد في بعض الأحايين امام الفكرة الوطنية التي تسعى الى ابراز الهوية القطرية على حساب الهوية القومية كما ان الفكرة قد تثير تحفظات بين العرب لا سيما لمنيحاولون احياء التراث القديم كالفرعونية والامازيغية وكذلك الامر ينطبق على فكرة الوحدة الاسلامية حيث يبدو الدين يلعب دورا وظيفيا متفاوتا بين الشعوب العربية والاسلامية.
3. ضرورة وجود الاجزاء
ترى هذه المسلمة ان الاجزاء المكونة للمجتمع لا تقوم بوظائف ايجابية فحسب بل هي تمثل عناصر ضرورية لعمل المجتمع ككل. وهذا يعني ان البنى الاجتماعية والوظائف ضرورية بالنسبة لمسيرة المجتمع الطبيعية أي انه ليس هناك بنى ووظائف اخرى قادرة على القيام بمسيرة المجتمع كالوظائف القائمة الان. وحسب ميرتون المتأثر بأستاذه بارسونز لابد من الاعتراف بوجود عدة بنى ووظائف داخل نفس المجتمع.
مشروعية النقد
يتلخص بطموح:[ نحو نظرية امبريقية متوسطة اكثر شمولية واقدر على تفسير الاحداث من الوظيفية التقليدية التي يعتبرها ميرتون جزئية وسطحية وغير قادرة على التفسير]
يرى ميرتون ان المسلمات الثلاثة السابقة لاتستند الى معطيات امبريقية بقدر ما هي مجرد افكار وانساق نظرية بحتة في حين ان واجب عالم الاجتماع فحص مدى مصداقية كل منها امبريقيا. لماذا؟ لان الاختبارالامبريقي وليس المقالات النظرية هو الذي يمكن التحليل الوظيفي من التوصل الى ارساء منظور او باراديقم او شكل تحليل يكون بمثابة مرجع لتكامل النظرية مع البحث الامبريقي.
لذا يرى ميرتون ان التحليل الوظيفي ينبغي ان يدرس ظواهر محدودة مثل الادوار الاجتماعية، الانماط المؤسسية، العمليات الاجتماعية،ا لانماط الثقافية، البنية الاجتماعية وادوات الضبط الاجتماعي. ومن الواضح ان ميرتون أولى اهمية للدراسات الامبريقية في النظرية الوظيفية بدلا من التركيز على الدراسات الامبريقيةلظواهر محدودة كجنوح الاحداث أو مدى علاقة ادوات الضبط الاجتماعي في الانحراف وما اذا كانت الانحرافات ناجمة عن خلل في التنشئة الاجتماعية او المنظومة القيمية والمعيارية كما ان ميرتون فرق بين " الدور" الذي يعالج فكرة الصراعات في المجتمع ويزداد تنوعا وتخصصا في المجتمعات المعقدة وبين " الوظيفية "، فالفرد مثلا يمكن ان يؤدي ادوارا معقدة ومتخصصة ولكنه يعجز عن القيام بكل الوظائف. لهذا تبرز فكرةالتخصص في الادوار عوضا عن القيام بشتى الوظائف.
العوق الوظيفي [ = الاختلال الوظيفي ]
يؤمن ميرتون بأن العناصر الاجتماعية يمكن ان تكون لها انعكاسات سلبية، ولاصلاح هذا السهو الخطير في النظرية الوظيفية لجأ ميرتون الى استعمال مفهوم "الاختلال الوظيفي ". اذ يرى ميرتون ان البنى والتنظيمات الاجتماعية مثلما تساهم في الحفاظ عل الاجزاء الاخرى للنسق الاجتماعي للمجتمع مثلما يمكن ان تكون لهما انعكاسات سلبية ايضا.
مثال:
كان للنظام العبودي في الولايات المتحدة آثارا ايجابية على المواطنين البيض لا سيما فيما يتعلق بتوفير الايدي العاملة الرخيصة التي ساعدت على تحسين اقتصاد القطن وحسنت من المكانة الاجتماعية للبيض، غير ان لهذه الميزة العنصرية آثارا سلبية جعلت السكان الجنوبيين في الولايات المتحدة يعتمدون كثيرا على الاقتصاد الزراعي مما أبقاهم غير مؤهلين "مهيئين " لتقبل التصنيع. فالفروق بين سكان الشمال وسكان الجنوب الامريكي يمكن ارجاعه الى العوق الوظيفيللنظام العبودي في الجنوب ففي حين أدى النظام العبودي وظيفة النمو الاقتصادي والاجتماعي في الشمال نراه أعاق عملية التقدم الاقتصادي في الجنوب.
تصنيفات ميرتون للوظائف
قسم ميرتون الوظائف في المجتمع الى نوعين:
1. الوظائف الظاهرة
وهي التي ترمي الى تحقيقه التنظيمات الاجتماعية. مثلا بأن تكون الجامعات مخصصة للدراسة والبحث العلمي والخدمة الاجتماعية.
2. الوظائف غير الظاهرة
وهي التي لاتأحذ التنظيمات الاجتماعية بالحسبان تحقيقها او العمل لاجلها، كأن تمارس الجامعة وظائف سياسية او اقتصادية او تمثل فضاءات اجتماعية للتسلية والترفية واضاعة الوقت او تحقيق مكانات اجتماعية...الخ
الخـــــــــلاصة
لاشك ان توضيحات ميرتون تمثل اضافات هامة بالنسبة لعلماء الاجتماع الذين يصرون على استعمال التحليلات الوظيفية في دراساتهم للوظائف الاجتماعية، فتعديلات ميرتون للصيغ القديمة للنظرية الوظيفية تعد تعديلات ضخمة بحيث يمكن تسمية علماء الاجتماع الذين تبنوا تفكيره بـ" الوظيفيين الجدد "
النظرية الاجتماعية المعاصرة
نظرية الصراع الاجتماعي
" رالف داهرندوف " R. Dahrendof
مفهوم الصراع الاجتماعي:
يحدث الصراع الاجتماعي نتيجة لغياب الانسجام والتوازن والنظام والاجماع في محيط اجتماعي معين. ويحدث ايضا نتيجة لوجود حالات من عدم الرضى حول الموارد المادية مثل السلطة والدخل والملكية اوكليهما معا.
اما المحيط الاجتماعي المعني بالصراع فيشمل كل الجماعات سواء كانت صغيرة كالجماعات البسيطة او كبيرة كالعشاثر والقبائل والعائلات والتجمعات السكنية في المدن وحتى الشعوب والامم.
والفكرة الاساسية تتجلى في القول ان قضية الصراع بين المجموعات البشرية هي في الواقع ظاهرة عضوية في الحياة الانسانية والعلاقات السائدة بينها. ويمكن ايراد نوعين من الأسباب حول استيطان الصراع الاجتماعي كظاهرة اجتماعية بين المجموعات البشرية:
1. ثمة ما يسمى بـ" الرموز الثقافية " وهو نوع منالاسباب التي تؤدي الى انسجام بين البشر او الى خصام. والخصام في هذا السياق قد يتجلى في الاختلاف على مفهوم السلطة المادية. فمن له الحق في السلطة وتملكها؟ ولماذا؟ هو سؤال يسمح بنشوب صراع.
2. ومن وجهة نظر ماركسية فان قضية العدالةالاجتماعية تعد متغيرا بنيويا في اثارة الصراعات الاجتماعية طالما ان هناك توزيع غير عادل للثروة.
بعض تعريفات الصراع الاجتماعي
يقدم علماء الاجتماع السياسي وعلماء الانثروبولوجيا بعض التعريفات التي تساعدنا في التعرف على معنىالصراع في ادبيات العلوم الاجتماعية، ولنأخذ اثنين من هذه الادبيات:
أولا: رالف داهرندوف
يقدم عالم الاجتماع الالماني هذا الصراع على انه "حصيلة العلاقات بين الافراد الذين يشكون من اختلاف في الاحداث ".
ثانيا: لويس كوزر
هو عالم اجتماع امريكي معاصر اهتم بالنظرية الوظيفية وقدم مساهمة في نظرية الصراع الا جتماعي.
هذه المساهمة تعرف الصراع بـ:
" انه مجابهة حول القيم او الرغبة في امتلاك الجاه والقوة او الموارد النادرة ".
وفي هذا السياق للتعريف فان الاطراف المتصارعة لا ينحصر اهتمامها بكسب الاشياء المرغوب فيها بل انها تهدف الى وضع المناوئين اما في حالة حياد او ان يقع الاضرار بهم او القضاء عليهم.
مشروعية الصراع الاجتماعي
- الجذور:
تهتم النظريات السوسيولوجية باستكشاف اسبابالصراع الاجتماعي وانعكاساتها، وتحاول ان تطرح رؤىً فكرية بخصوص امكاية نفي المفهوم او التحكم فيه. أي البحث في استعمال المفهوم وتوظيفه لتبرير غايات سياسية او اقتصادية او اجتماعية او حتى فلسفية. ولكن كيف؟
ان الفكر النظري حول الصراع الاجتماعي هو فكر قديم جدا ولعل نظرية كارل ماركس حول الصراع الطبقي تمثل حصيلة لتراكم الزاد المعرفي لهذه النظرية. فالصراع الاجتماعي عند ماركس له جذور اقتصادية تشكل الطبقات الاجتماعية اساسه عند المجموعات البشرية. فالصراع الطبقي حسبالماركسية هو القوة المحركة للتاريخ.
من جهة أخرى يرى البعض كـ " روبرت مالتوس "صاحب النظرية الشهيرة في السكان بان الثروات وقتل الملايين من الافراد عبر وسائل العنف المتعددة والمتنوعة هي مسألة ضرورية لتقدم البشرية. بعبارة اخرى فالصراع الاجتماعي من هذا المنظور اساسيا وضروريا لإحداث تغير اجتماعي ايجابي وكأن فلسفةالتقدم والتنمية التي اجتاحت اوربا في القرن 19م ما كان لها ان تنجح لولا البعد العنفي الكامن فيها. وفي هذا السياق يبدو أن للصراع وظيفة ايجابية.
- في علم الاجتماع
بالنسبة لنظرية الصراع في علم الاجتماع فيمكن الاشارة الى المعالم التالية:
فمن جهة تُعَدُّ نظرية الصراع الاجتماعي كطليعة للفكر الماركسي، ومن جهة ثانية تُعَدُّ بديلا للنظرية البنيوية الوظيفية، بل انها تمثل مخرجا للنظريتين فهي من جهة تحمل بذورالوظيفية وفي نفس الوقت تحمل بذور الماركسية لذا فهي تستعمل مضامين وجواهر كلا من الوظيفية والماركسية بحيث يستحيل ردّ اطروحاتها الى أي من هما منفردة.
كنا قد اشرنا الى النقد الذي تعرضت له البنيوية الوظيفية على عدة مستويات باعتبارها نظرية محافظة ذات طابع ايديولوجي وغير قادرة على التعامل معالتغيرات الاجتماعية كونها ركزت في انطلاقاتها علىاستقرار البنى الاجتماعية حتى فقدت القدرة على تحليل الصراع الاجتماعي. لذا يمكن القول بان نظرية الصراع الاجتماعي تمثل محاولة قام بها العديد من علماء الاجتماع للمحافظة على الاهتمام بمفهوم البنية والاعتناء بنفس الوقت بمفهوم الصراع.
ويعد كتاب عالم الاجتماع الامريكي " لويس كوزر" المنشور تحت اسم " وظائف الصراع الاجتماعي 1950 " أول محاولة تنظيرية في هذاالصدد. أي انه أول محاولة امريكية تتعامل مع الصراع الاجتماعيانطلاقا من رؤية البنيوية الوظيفية مما يعني ان كوزر انفرد نوعا ما بنظرة ايجابية للصراع الاجتماعي. ومع ذلك فالبعض يرى ان دراسة الصراع الاجتماعي يجب ان يتجاوز الوظائف الاجتماعية الايجابية لهذا الصراع. فما الذي يعنيه هذا البعض؟
المعنى يكمن في النظرية الماركسية. فلعل ابرز ضعف تشكو منه نظرية الصراع الاجتماعي هو فقدانها لارضية النظرية الماركسية، ولعل الاستثناء الوحيد في هذا الميدان هو عالم الاجتماع الالماني " رالف داهر ندوف " الذي حاول تلقيح نظرية الصراع الاجتماعيبأطروحة الفكر الماركسي فكان كتابه " الطبقة وصراع الطبقات " أهم عمل سوسيولوجي حول نظرية الصراع الاجتماعي.
ومع هذا فإن داهرندوف يكاد يستعمل نفس الاطار التحليلي الذي تبناه علماء الاجتماع الوظيفيون " البنى والتنظيمات الاجتماعية ". ومن ناحية اخرى فقد نبه داهرندوف الى أن عناصر النسق الاجتماعي يمكن ان تعمل معا متناسقة ويمكن ان تعرف صراعا وتوترات ذات بال، فالمجتمعات تتمتع بحركية والصراع هو أحدملامح هذه الحركية ومثلما ان هناك تناسق اجتماعي فثمة أيضا مجابهات وتوترات اجتماعية.
وفي النهاية يمكن النظر الى نظرية الصراع الاجتماعي على أنها مرحلة عابرة في تاريخ تكون النظرية السوسيولوجية. ويعود فشل تبلورها الى عدم الاستفادةالكافية من الفكر الماركسي الذي كان انتشاره ضئيلا قبل الخمسينات في القرن العشرين بين علماء الاجتماع الأمريكان ومع ذلك فالنظرية الصراعية هيأت الظروف المناسبة لقبول الفكر الماركسي بين المثقفين الأمريكان مع مطلع الستينات من نفس القرن.
ومما يؤخذ على نظرية الصراع الاجتماعي أيضا أنها تركز في تحليلاتها على البنى الاجتماعية مهملة بذلك دور الأفراد وتفكيرهم وسلوكاتهم، فالوظيفية أصلا لم تعط دورا للفرد ولا أهمية له. والواقع أن علم الاجتماع الأمريكي لم يعط الفرد أي دور في فهم وتفسير الظواهر خلا نظرية التفاعل الرمزي للأنثروبولوجي الأمريكي "جورج هر برت ميد ".
نظرية الصراع عند رالف داهرندوف
مكونات النظرية " الجهاز النظري = المعرفي "
تتكون نظرية داهرندوف من عدة افكار ومقولات يمكن عرض ابرزها في الملاحظات التالية:
1. كل مجتمع يظل عرضة بصفة دائمة الى عملية التغير.
2. ان العديد من عناصر النسق الاجتماعي تساعد على تفكك المجتمع وإحداث التغير فيه.
3. كل مجتمع له نظام اجتماعي قائم على سلطة القهر والتهديد التي يمارسها أفراد المجتمع المنتصبون على قمة الهرم الاجتماعي.
إلى هنا يمكن أن نطرح عدة تساؤلات:
فهل من الممكن أن يبقى المجتمع جامدا غير متحرك؟ وكيف نقيس سرعة التغير في المجتمع؟ هل هو بطئ؟ ام انه يسجل قفزات؟ أم انه ذو طبيعة شاملة؟ وما هي كثافة التغيير؟
ان تربع طبقة، فئة، شريحة ما على قمة السلطة ستدفع الى الهيمنة والتسلط وبالتالي ستمهد الى صراع مكشوف على السلطة او الحقوق.
4. حسب داهرندوف فالنظرية السوسيولوجية ينبغي أن تنقسم الى قسمين:
- نظرية الصراع: Conflect Theory وهذه تهتم بدراسة صراعات المصالح وأشكال القهر التي تحافظ على سلامة المجتمع.
- نظرية الوفاق: Consens Theory وهذه تركز على دراسة الدمج في المجتمع " مثل النظرية الوظيفية"
وهكذا يعترف داهرندوف أن المجتمع لايمكن أن يوجد بدون وجود الصراع والوفاق معا واللذان يكملان بعضهما البعض. ولأن الصراع يحدث في المجتمعالذي يسوده الاتفاق في جميع أجزائه فان الصراع أيضا يحدث طالما يولد الحاجة الى الوفاق.
ملخص نظرية الصراع عند داهرندوف:
ينبغي بناء النظرية السوسيولوجية على مبدأين:
- مبدأالصراع
- مبدأ الوفاق
هذا يعني حسب النظرية الصراعية أنه لن يكون هناك وجود لاي مجتمع بدون حضور المبدأين الضرورين لبعضهما البعض. فالمجتمع الذي يسوده الاتفاق بين أجزائه لطالما يحدث فيه صراع بين اجزائه والعكسصحيح، فالصراع طالما يؤدي الى اتفاق فيما بين اجزائه.
مناقشة النظرية
بداية، فان عالم الاجتماع الألماني غير متفائل بخصوص الوصول الى نظرية سوسيولوجية وحيدة تشمل مبدأي الصراع والوفاق بين الأجزاء المكونة للمجتمع.
أولا: مفهوم السلطة لدى داهرندوف
في معاينته لعنصر السلطة في المجتمع يناقشداهرندوف مبدأ نشوب الصراع الاجتماعي. فهو يرى ان المجتمع يحافظ على النظام بواسطة ما يسمية بالضغوط القوية. وهذا يعني ان بعض المواقع الاجتماعية في المجتمع تتفوق بقوة السلطة على مواقع اخرى في نفس المجتمع. هذه قضية تذكرنا بنظرية ابن خلدون في الصراع الاجتماعي حين تتخذ القبيلة الاقوى من العصبية مبررا للهيمنة والتسلط واخضاع القبائل الاخرى الاضعف وبالتالي إقامة الحكم، فالعصبية الغالبة هي التي تتفوق على العصبيات الاخرى الضعيفة وهي التي تنصب نفسها صاحبة القوة على قمة الهرم الاجتماعي وليس لها من وظيفة الا المحافظة على النظام الاجتماعي القائم في المجتمع.
اذن المحافظة على النظام الاجتماعي في المجتمع لا تتوفر الا من خلال الضغوط القوية. فما الذي يعنيه داهرندوف بوجود قوة مهيمنة عل القوى الاخرى؟
هذا الواقع التسلطي لبعض القوى على القوى الاخرى قاد داهرندوف الى الاعتقاد بان التوزيع التفاضليللسلطة يصبح، باستمرار، بمثابة العامل الحاسم في بلورة الصراعات الاجتماعية.وهذا الاعتقاد يطرح تساؤلات عديدة يبرزها الواقع الاجتماعي حول الجوهر الذي تدور حوله الصراعات الاجتماعية مثل: من له السلطة الاكثر في المجتمع؟ او من هو صاحب الامتيازالاكبر في احتكار السلطة؟
هل هو الثقافي؟
هل هو صاحب الرأسمال؟
من يتحكم بمن؟ ومن يسيطر على من؟
من الملاحظ أن إثارة التوزيع غير العادل للسلطة يقرب داهرندوف من الرؤية الماركسية للصراع الاجتماعي.
فكلما كانت السلطة موزعة تفاضليا بين شرائح المجتمع كلما مثلت العامل الحاسم في نشوء الصراعات. هذه الفرضية ستحمل داهرندوف على الولوج إلى قلب النظرية الماركسية التي تتحدث عن طبقات مهيمنةوطبقات مهيمن عليها. فما هي الفكرة الرئيسية؟
السلطة كواقع اجتماعي:
أولا: يتحدث داهرندوف في فكرته الرئيسية عن السلطة عن مواقع اجتماعية في المجتمع تتمتع بأحكام ورؤى مختلفة للسلطة، وهذه المواقع هي التي تمتلك السلطة. فماذا يقصد بالمواقع الاجتماعية؟
يقصد داهرندوف أن الأفراد في المجتمع بوضعياتهم الفردية في المجتمع لا يملكون السلطة. ولكن المواقع الاجتماعية التي يشغلها الأفراد هي التي تمتلك السلطة. فالسلطة إذن لا تأتى الى الفرد من حيث كونه فرد، إذ أن المجتمع هو في أحد مكوناته يمثل مجموع الأفراد وليس من المعقول أن يتولى مجموع الأفراد السلطة.لذا فان السلطة لا تأتى إلى الأفراد من مواقعهم الفردية إنما من خلال المواقع الاجتماعية.
ثانيا: لم يهتم داهرندوف ببنية المواقع الاجتماعية فحسب. فكما قلنا فإن لهذه المواقع أحكاما ورؤىً مختلفة تجاه السلطة وبالتالي ثمة تعارض فيما بينها.وهذا يعني أن داهر ندوف سيهتم حتما بالصراعات فيما بينها.
فأين تكمن هذه الصراعات؟
في واقع الآمر فإننا حين نتحدث عن مواقع اجتماعيةفلابد لنا أن نتحدث عن الأدوار الاجتماعية لأن كل موقع اجتماعي يؤدي دورا وهذه مسألة تحدَّث عنها الوظيفيون أو بعض من اهتم بالنظرية الوظيفية حينما جرى التمييز بين الوظيفة والدور، فالدين مثلا بنية تؤدي وظيفة اجتماعية ؛ ولكن الكاهن / الشيخ / القسيس يلعب دورا دينيا قد يكون مختلفا عن الوظيفة التي يؤديها الدين. كذلك الأمر فيما يتعلق بالسلطة، فالسلطة تؤدي وظيفية في المجتمع باعتبارها عنصرا بنيويا مركزيا فيه لا يمكن الاستغناء عنه ولكن المتمتع بموقع سلطوي يلعب دورا مختلفا عن الوظيفة التي تؤديها السلطة. وإذا كانت السلطة تمثل حاجة اجتماعية كما ترى الوظيفية فإن الدور لا يمثل حاجة اجتماعية إنما يعبر عن موقع اجتماعي يلعبه فرد ما.
لذلك فان داهرندوف يرى بأن الأصل البنيوي للصراعات الاجتماعية ينبغي البحث عنه في منظومةالادوار الاجتماعية التي تكشف عن مواقع الهيمنة ومواقع الخضوع. ولكي نفهم بنية سلطة مهيمنة ومهيمن عليها يجب أن نبحث عن طبيعة الأدوار الاجتماعية التي يضطلع بها كلا الفريقين. وعليه فإن المهمة الأولى عند داهرندوف في صياغته لنظرية الصراع تتمثلبتحديد أدوار السلطة المختلفة في المجتمع.
إذن السلطة الممنوحة الى المواقع الاجتماعية هي عنصر رئيسي في المنظور السوسيولوجي لداهرندوف وهؤلاء الأشخاص الذين يتمتعون بمواقع سلطوية يُنتظر منهم التحكم بأولئك الذين لا يملكونها، ونظرا لأنالسلطة تكتسب شرعية معينة فعلينا أن ننتظر معاقبة كل من يخالفها.
النظرية الكبرى للصراع
سيستعمل داهرندوف مقولات ماركسية في تحليل الصراع بين الفئات الاجتماعية المختلفة أو مكونات المجتمع البنيوية. ويمكن أن يتخذ التحليل طابع الماكرو سوسيولوجي كتحليل الصراع بين نمطين اقتصاديين عالميين كالرأسمالية والاشتراكية مثلا، ويمكن ان يتخذ التحليل طابع الميكرو سوسيولوجي كالتنازع بينالمجموعات المهيمن علها والمجموعات المهيمنة في إطار اجتماعي ما. ولأن داهرندوف عالم اجتماع ماركسي فهو يرى ان الصراع اساسه إما الميدان الاقتصادي أو ملكيات وسائل الانتاج. ولكن مثل هذه الصراعات باتت قديمة الطابع. ففي المرحلة الصناعية ظهرت صراعات جديدة مختلفة عن الصراعات القديمة، فما الذي سيفعله داهرندوف لصياغة نظريتهالكبرى حول الصراع؟
- إن العمليات الكبرى للرأسمالية التي تؤدي في نهاية المطاف إلى تنازع الطبقات فيما بينها هو ما تقول به النظرية الماركسية. ولكن التنازع حول ملكية وسائل الانتاج أي حول العوامل الاقتصادية لم يعد هو الصراع الوحيد، ذلك ان العنصر البشري والمعطيات الاقتصادية المادية هي عناصر أخرى للصراع.
- إذن منطلقات داهرندوف التي ظهرت في كتابه الشهير حول نظرية الصراع في المجتمعات الصناعية تتأسس، أولا وقبل كل شيئ، على تعميم عناصر الصراع الموجودة في نظريه كارل ماركس كمنطلق لبناء نظرية صراع كبرى. وهذا يعني أن محاولات داهرندوف تجاوزت المحتوى الماركسي لتبحث عن عوامل صراع جديدة والا كيف ينسجم داهرندوف مع نفسه حين يتحدث عن صراع ووفاق وحين يجعل من العلاقات الاجتماعية والقيم موضوعا لعلم الاجتماع الصراعي؟
محتوى النظرية الكبرى للصراع:
حسب هذه النظرية فالمجتمع يتكون من مجموعتينيتحدد موقع كل منهما بما يمتلك من قوة وهما:
- المجموعة المهيمنة
- المجموعة المهيمن عليها
سمات المجموعتين:
1. كل مجموعة من المجموعتين تكوِّن مجموعة مصالح مشتركة تجعلها تقف موقف العدو من المجموعة الأخرى، فحتى تحافظ كل من المجموعتين على وحدتها لا بد أن تخلق كل منهما بعض المصالح وإن كانت متناقضة.
2. تهتم المجموعة المهيمنة بالمحافظة على الوضع كما هو لأنها تقع في منطقة امتيازات أي مواقع اجتماعية نافذة بينما تهتم المجموعة المهيمَن عليها بالعمل علىتغيير الوضع لصالحها. مثلا كأن تكافح المرأة لتغيير الوضع القائم لصالحها، ففي هذا المثال يتضح أن المنظومة القيمية تحد من حرية المرأة وحقوقها بحيث يبدو مجتمع الرجال مهيمنا على مجتمع النساء في كافة مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية...الخ
3. وكمجموعات منظمة لكل منها مصالح مشتركة فمن الطبيعي أن يشعر أفرادها بالانتماء المشترك ويعملون على إنشاء وسائل مادية وأيديولوجية وقيادية للدفاع عن مصالحها الأمر الذي يؤدي الى تبلور الصراع بطريقة واضحة وظاهرة، أي أن الصراع سيتحرر من حالة الجمود " الخفاء " الى حالة البروز " الظهور" ليغدو صراعا مفتوحا.
4. يرى داهرندوف أن الصراع كظاهرة اجتماعية في المجتمعات الرأسمالية الصناعية من الممكن أن يؤدي الى التغيير في المجتمع، وهذا التغيير يحدث كلمااستطاعت المجموعة المهيمَن عليها أن تضعف قوة المجموعة المهيمِنة عند ذلك يصبح التغيير الاجتماعي اكثر احتمالا بما يلائم أهداف المجموعة الحقيقية. والفكرة الأساسية تتعلق في وظيفة الصراع كوسيلة من وسائل التغيير.
5. ولكن ما أن تنتصر المجموعات الضعيفة وتنتصب على قمة الهرم الاجتماعي حتى تظهر في المقابل مجموعات معارضة جديدة، وفي هذا السياق يتحدث داهرندوف عن حركية التغيير المستمر في المجتمعكونه متحرك غير جامد.
6. كما يعتقد داهرندوف أن الصراع بين مجموعتين فيالمجتمعات الرأسمالية والديموقراطية الحديثة ينتشر ليمس كل جوانب الحياة الاجتماعية في المجتمع كصراع المرأة ضد الرجل فيما يتعلق بالمشاركة في السلطة السياسية والمواقع الاقتصادية والأكاديمية والأسرية، وحتى الدين والعلوم والفنون باتت معرضةللصراع.
ويخلص داهرندوف الى التأكيد على انه كلما انتقلت هذه النظرية من تفسير الصراعات الخفية الى تفسير التغيير الاجتماعي كلما اصبح واجبا أن تأخذ النظرية بعينالاعتبار سلوكات الأفراد والجماعات في أوضاع اجتماعية معينة، إذ أن منطق الصراع تكمله حركية الصراعات. وهكذا فإن نظرية الصراع الكبرى لـ داهرندوف مثل نظرية كارل ماركس تعتمد على النشاطات الصغرى MICRO ACTIVE كمنطلق في تفسير العمليات التاريخية الكبرى المجسمة للتغيير.
* وثيقة لمساعدة الطلبة ولكنها غير صالحة للاقتباس، مايو / أيار 2002.
العدد 18، السنة الثانية (فبراير 2005)
د. أكرم حجازي: أستاذ علم الاجتماع المساعد في جامعـة تعـز- كلية الآداب- قسم علم الاجتماع- الجمهورية اليمنية.
20/2/2005
مجلة علوم انسانية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق