د. محمد ناصر
تؤكد جميع الدراسات أن مفهوم الخطاب – وهو مصطلح حديث –غير متفق عليه لتعدد الموضوعات التي يطرحها([1][1])،لذلك فقد بدأتُ بتوضيح معنى هذا المصطلح اعتماداً على معاجمنا العربية،ثم انتقلت إلى توضيح معناه عند أوائل من درسه من أعلام الغرب، وأنهيت هذه الزاوية بتعريف بعض الدارسين العرب لهذا المصطلح.
فالخطاب لغة هو مراجعة الكلام([2][2])، وهو الكلام والرسالة([3][3])،وهو المواجهة بالكلام، أو ما يخاطب به الرجل صاحبه ونقيضه الجواب([4][4])، وهو مقطع كلامي يحمل معلومات يريد المرسل (المتكلم أو الكاتب) أن ينقلها إلى المرسل إليه (أو السامع أو القارئ)،ويكتب الأول رسالة ويفهمها الآخر بناءً على نظام لغوي مشترك بينهما([5][5]).
وبذلك يكون المعنى الذي تُوصلُنا إليه المعاجم متمثلا ًفي"الحوار"، الذي يرتبط بدوره بوجود ثلاثة عناصر:.المرسل،المستقبل، الرسالة.
أما بالنسبة لأوائل الغربيين الذين حاولوا دراسة هذا المصطلح وتعريفه،فيكاد"يجمع كل المتحدثين عن الخطاب،وتحليل الخطاب على ريادة ز. هاريس (1952) في هذا المضمار من خلال بحثه المعنون بـ"تحليل الخطاب"،فهو أول لساني حاول توسيع حدود موضوع البحث اللساني بجعله يتعدى الجملة إلى الخطاب.
وببقائه ضمن حدود المجال اللساني،عرّف الخطاب بأنه"ملفوظ طويل أو هو متتالية من الجمل تكون منغلقة، يمكن من خلالها معاينة سلسلة من العناصر، بواسطة المنهجيّة التوزيعيّة، وبشكل يجعلنا نظل في مجال لساني محض"([6][6]).
أمّا الفرنسي" إميل بنفنست" فقد عرّف الخطاب من منظور مختلف له أبلغ الأثر في الدراسات الأدبيّة التي تقوم على دعائم لسانية فهو عنده"الملفوظ منظوراً إليه من وجهة آليات وعمليات اشتغاله في التواصل، وبمعنى آخر هو كلّ تلفظ يفرض متكلماً ومستمعاً، وعند الأوّل هدف التأثير على الثاني بطريقة ما"([7][7]).
وانطلاقاً من هذا التعريف تتنوع الخطابات الشفوية، التي تمتد من المخاطبة اليوميّة إلى الخطبة الأكثر صنعة وزخرفة، والى جانب الخطابات الشفويّة نجد أيضاً كتلة من الخطابات المكتوبة التي تعيد إنتاج الخطابات الشفويّة، وتستعيد أدوارها، ومراميها من المذكرات والمسرح، وباختصار كل الأنواع الأدبية التي يتوجه فيها متكلّم إلى متلق، وينظم ما يقوله من خلال مقولة الضمير([8][8]).
وقد طرح "ميشيل فوكو" نظرة متميّزة للخطاب حين ربطه بالسلطة،فهو عنده شيء بين الأشياء، وهو ككلّ الأشياء موضوع صراع من أجل الحصول على السلطة، فهو ليس فقط انعكاساً للصراعات السياسية بل هو المسرح الذي يتم فيه استثمار الرغبة فهو ذاته مدار الرغبة والسلطة([9][9]).
إنّ خطورة الوسائل القمعيّة التي تمارسها السلطة بواسطة الخطاب، ليست راجعة في نظر فوكو، وكما نتصّور لأوّل وهله"، إلى وسائل التحكم الخارجية التي عرفتها الكلمة المكتوبة عبر تاريخها العصيب منذ عهود الظلام، وحتى بدايات عصر الديمقراطية الحديثة، وإنما إلى عملية التنظيمات الداخلية للخطاب نفسه، التي تقتضي في ظل ضروب من الإقصاء والاستبعاد بإقامة مساحات من الصمت، والإضمار، ومساحات من الإفصاح والإعلان، تحكم ما يجب أن يقال، وما يخضع للتحديد والكشف والابتكار، وما يتبع نظم التعقيب والتبرير، والتكرار، وذلك وفقاً لمعايير ضمنية من الخطأ والصواب والحقيقة والزيف، لعل أبرزها ما يتجلى من التحريات التي تنصّب على موضوعات السلطة والجنس"([10][10]).
وإذا كان هناك ارتباط وثيق بين السلطة والخطاب، كما يذهب فوكو، فإنّ ذلك ليس مجرّد تخطيط، وتنظيم من قبل السلطة فحسب، وإنما علاقة انطولوجيّة إن صحّ هذا التعبير يجمع بين اللغة وأنماط الهيمنة الاجتماعية([11][11]).
وفي عام 1985 عرّف" موشلر" الخطاب على أنه"الحوار" ثم قام بإجراء تحليلاته للخطاب (الحوار)، وكانت توحي بتأثره بآراء مدرسة بيرفكام التي حصرت الخطاب في "الحوار"، والتي أثرت في تعريفات العديد من اللسانيين الذين يكتبون بالإنجليزية مثال ذلك مايكل هوو في كتابه" حول ظاهر الخطاب" الذي أكد بأنه سيتعامل مع الخطاب باعتباره "المونولوج" شفوياً كان أم كتابيّاً([12][12]).
ومن الجدير بالذكر أنّ هذا المصطلح (الخطاب) قد دخل مجالاً آخر من مجالات الفكر الإنساني، وهو المسرح، فهذا مارك لوبو يقول: إنّ النص والصورة في الثقافة الغربية منفصلان منذ الأزل؛ حيث تتبع الصور النص، وتخضع له عادة، ولكن هل يمكننا حقاً فصل الصورة عن الخطاب؟ يجيب المسرح بالنفي، فالصورة والخطاب في المسرح متصلان([13][13])، هما جسد الممثل، هما تكوينه الحي، أو "الهيروغليفي" .
وهكذا يمكننا القول أنّ الدلالات والمفاهيم الخاصة بـ (الخطاب) قد تعددت عند الدارسين الغربيين، بتعدد مجالاتهم واختصاصاتهم هذا مع ضرورة الإشارة إلى تداخل العديد من هذه التعريفات([14][14]).
وكما انتقل إلينا عدد من المصطلحات الغربيّة، كالبنيوية، والتفكيكية، أو التشريحية… إلخ، انتقل إلى ساحتنا العربيّة، مصطلح الخطاب مؤكداّ أثناء عملية انتقاله فروقات واضحة في الفهم والتعريف من دارس إلى آخر.
فقد فهم عبد السلام المسدي"الخطاب" على انّه الكلام أو المقال، وعدّه "كياناً أفرزته علاقات معينة بموجبها التأمت أجزاؤه، وقد تولّد عن ذلك تيار يعرّف الملفوظ الأدبي بكونه جهازاً خاصاً من القيم طالما أنه محيط ألسني مستقل بذاته، وهو ما أفضى إلى القول بأن الأثر الأدبي بنيه ألسنية تتحاور مع السياق المضموني تحاوراً خاصاً([15][15]).
وأما "الخطاب" عند جابر عصفور فهو" الطريقة التي تشكل بها الجمل نظاماً متتابعاً تسهم به في نسق كلي متغيّر ومتحد الخواص، أو على نحو يمكن معه أَنْ تتآلف الجمل في خطاب بعينه لتشكّل خطاباً أوسع ينطوي على أكثر من نصٍّ مفرد، وقد يوصف الخطاب بأنّه مجموعة دالة من أشكال الأداء اللفظي تنتجها مجموعة من العلاقات أو يوصف بأنّه مساق العلاقات المتعينة التي تستخدم لتحقيق أغراض معينة([16][16]).
وليس الخطاب عند سعيد يقطين" غير الطريقة التي تُقدَّم بها المادة الحكائية في الرواية، قد تكون المادة الحكائية واحدة، لكن ما يتغيّر هو الخطاب في محاولته كتابتها ونظمها، فلو أعطينا لمجموعة من الكتاب الروائيين مادة قابلة لأن تحكى، وحددنا لهم سلفاً شخصياتها وأحداثها المركزية، وزمانها وفضاءها لوجدناهم يقدمون لنا خطابات تختلف باختلاف اتجاهاتهم، ومواقفهم وإن كانت القصة التي يعالجون واحدة([17][17]).
وقد وسع مصطفى ناصف نطاق الخطاب، حين أشار إلى "وجود خطابات كثيرة، وطرق مختلفة لدراستها" ([18][18])مؤكداً أنّ العلاقات الاجتماعية لا يستوعبها خطاب واحد، ولا يمكن أن يعتبر الخطاب الأدبي خلاصة واقعية لنشاط اللغة الكثيف المتقاطع([19][19]).
وتعد دراسة محمد عابد الجابري، للخطاب إحدى الدراسات التي نقلت هذا المفهوم من دائرة الدراسات النقديّة إلى حيّز الدراسات الاجتماعية والأيديولوجيّة.
فالخطاب عنده، باعتباره مقولة الكاتب أو أقاويله –بتعبير الفلاسفة العرب القدماء-، هو بناء من الأفكار إذا تعلّق الأمر بوجهة نظر يعبّر عنها تعبيراً استدلاليّاً، وإلا فهو أحاسيس ومشاعر، فن أو شعر يحمل وجهة نظر، أو هو هذه الوجهة من النظر مصوغة في بناء استدلالي أي استعمال مواد (مفاهيم) ولا بد من إقامة علاقات معينة بين تلك المواد حتى يصبح بناء يشد بعضه بعضاً ("الاستدلال" أو "المحاكمة العقلية")، وسواء تعلّق الأمر بالمواد أو بطريقة البناء فلا بد من تقديم أو تأخير، ولا بد من تضخيم أو بتر… إلخ، فالخطاب من هذه الزاوية، إذا كان يعبّر عن فكرة صاحبه فهو يعكس أيضا مدى قدرته على البناء، وبعبارة أخرى لما كان كل بناء يخضع لقواعد معينة تجعله قادراً، على أداء وظيفته، فإن الخطاب يعكس كذلك مدى قدرة صاحبه على احترام تلك القواعد، أي على مدى استثماره لها لتقديم وجهة نظره إلى القارئ بالصورة التي تجعلها تؤدي مهمتها لدى هذا الأخير، مهمة الإخبار والإقناع… إلخ([20][20]).
أما الخطاب باعتباره مقروء القارئ -أو مقول القوْل بتعبير المناطقة القدماء- فهو ذلك البناء نفسه، وقد أصبح موضوعاً لعملية إعادة البناء، أي نصاً للقراءة، وكيفما كانت درجة وعي القارئ، بما يفعل فإنه ولا بد أن يمارس في ذلك النص ما يمارسه صاحب الخطاب عند بناء خطابه (إبراز أشياء والسكوت عن أشياء، تقديم أشياء وتأخير أشياء) فيسهم القارئ هكذا في إنتاج وجهة النظر، بل إحدى وجهات النظر، التي يحملها الخطاب صراحة أو ضمناً، والقارئ عندما يسهم في إنتاج وجهة نظر معينة من الخطاب، يستعمل هو الآخر أدوات من عنده هي في جملتها وجهة نظر أو جزء منها عناصر صالحة لتكوينها ومن هنا يأتي اختلاف القراءات وتعدّد مستوياتها([21][21])
فالخطاب الشعري نصٌ مثقلٌ بالرموز، متعدّد الأبعاد ينهض بفعل الإيحاء وطاقات اللغة التعبيرية، وقدرتها على إنتاج المدلولات لذلك ظل "بول فاليرى" يردد أن الشعر لون من الرقص بالكلمات " ونظام من الأفعال لها هدفها في حد ذاته" وفعل ينزع إلى البقاء في ذاكرتنا بما يثيره من انفعالات على خلاف الكلام العادي الذي يذهب إلى التلاشي بمجرد تحقق الإبلاغ([22][22]).
وعلى حين يبقى النثر- في أغلب تجليّاته- موصولاً إلى مرجعه، فإن الخطاب الشعري غالباً ما يذهب في اتجاه مفارق للواقع بفعل اللغة التي يجعلها مادة أساسية في تشكيل عالمه، ويضيف عليها حياةً جديدة([23][23]).
وبما أن النص الشعري فعل كلامي بالأساس فإنّه يتجه إلى توظيف العلاقة اللغويّة في مستوياتها الصوتية، والمعجمية، والتركيبية والرمزّية المختلفة، وبهذا يغدو النص نسيج كلام وحوار بين العلاقة والعلاقة، وتصبح اللغة الأداة والجوهر، فهي أداة لتبليغ الرسالة شأنها في ذلك شأن الكلام المألوف بيننا، أو الخطاب العلمي، أو الخطاب القضائي الذي من المفروض أن يُفهم دون لبس، ولكنها أيضا تتمتع بوظيفة في ذاتها بما تنتجه من تراكيب وصور وأخيله([24][24]).
فالشعر- إذن- خطاب متميّز يُضمر أكثر مما يصرّح، يوحي، يأبى أن يفصح عن ظاهره أو حقيقته للوهلة الأولى، بل تراه يمعن في التخفي والتحكم والخداع وراء شعريّة الكلمات([25][25]).
فالخطاب رسالة من مرسل إلى مستقبل لغاية التأثير عليه، لغاية إقناعه بها عن طريق التأثير عليه بوسائل متعددة .
([1][1])فوزي، نوريّة صالح. الخطاب المسرحي في النقد الأدبي في الخليج العربي فصول.مج(16).ع(3).1997.ص189.
([2][2]) جمال الدين، ابن منظور، لسان العرب.دار صادر:بيروت.مادة خطب.
([3][3])مجمع اللغة العربية.المعجم الوسيط.أخرجه إبراهيم مصطفى و آخرون. طهران: المكتبة العلمية.ج1.مادة خطب
([4][4])العدناني، محمد.معجم الأخطاء الشائعة. بيروت: مكتبه لبنان. ط(2).1980مادة(خطب)
([5][5])يعقوب، إميل.قاموس المصطلحات اللغوية والأدبية.ط(1) بيروت: دار العلم للملايين. 1987.مادة(خطب)
([6][6])يقطين سعيد. تحليل الخطاب الروائي. بيروت: المركز الثقافي العربي. ط1. 1989. ص17.
([7][7])المصدر نفسه.
([8][8])المصدر نفسه.
([9][9])الكردي، محمد علي، الخطاب والسلطة عند ميشيل فوكو، فصول، مج (11). ع(1) 1992. ص38.
([10][10])المصدر نفسه.
([11][11])المصدر نفسه.
([12][12]) يقطين سعيد ، تحليل الخطاب الروائي، ص24-25.
([13][13])اوبرسفيلد، آن. خطاب الممثل: الايماء. فصول. مج (13) ع(4). 1995. ص128.
([14][14])يقطين سعيد ، تحليل الخطاب الروائي. ص26.
([15][15])المسدي، عبد السلام. الأسلوبية والأسلوب. ليبيا: الدار العربية للكتاب. 1997. ص110.
([16][16])عصفور، جابر. عصر البنيويّة. من ليفي شتراوس إلى فوكو. بغداد: دار الأفاق العربية، 1985،
ص269.
([17][17])يقطين، سعيد ، تحليل الخطاب الروائي، ص7.
([18][18])ناصف، مصطفى ، اللغة والتفسير والتواصل، سلسة عالم المعرفة، 193، 1995. ص332.
([19][19])المصدر السابق نفسه
([20][20])الجابري، محمّد عابد. الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقديّة، الدار البيضاء: المركز الثقافي الغربي-. بيروت: دار الطليعة، 1982. ص17 وما بعدها.
([21][21])المصدر السابق نفسه.
([22][22])حميد، رضا. الخطاب الشعري من اللغوي إلى التشكّل البصري. فصول مج(15). ع(2). 1996،
ص95.
([23][23])المصدر السابق، ص96.
([24][24])المصدر نفسه.
([25][25])المصدر نفسه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق