لقد تميز عصر التنوير برفض الأفكار اللاهوتية والقدرية التي كانت تروج لها الكنيسة وتسيطر على أساليب التفكير التي تدعم من سلطتها في المجتمع.
وكانت فكرة التقدم مستحوذة على أذهان الفلاسفة في القرن الثامن عشر، ويعني التقدم هنا الارتقاء التدريجي في حياة المجتمعات الإنسانية التي تحتم عليها طبيعة التاريخ اتباع مسار موحد في الانتقال من مرحلة إلى أخرى.
ومن ثم اتخذ ذلك الاتجاه مداخل مختلفة لدراسة التقدم الاجتماعي فحاول بعض المفكرين أن يدرسه من خلال تطور العقل البشري أو عن طريق المراحل التي مرت بها الإنسانية في المجال الديني، بينما اهتم البعض الآخر بجانب التقدم المادي والتقني وعلاقته بتقدم النظم الثقافية والاجتماعية الأخرى.
اعتمد المفكرون في عصر التنوير على التاريخ الأوروبي القديم بصياغة افتراضاتهم النظرية والاستدلال عليها عن طريق الاستنباط والاستقراء والمقارنة.
وتجدر الإشارة إلى أن الاهتمام بالمجتمعات المسماة بالبدائية قد أضاف بعداً جديداً للمنهج المقارن الذي أصبح فيما بعد المنهج الرئيسي للدراسات الأنثروبولوجية التطورية لأن المقارنة في العلوم الاجتماعية هي بمثابة التجربة في العلوم الطبيعية، كما ذكر ذلك (أوجست كونت) أثناء تأكيده على الموضوعية في علم الاجتماع، وتمثل تلك الفترة الخطوات الأولى لتطبيق المنهج التجريبي في الدرسات الاجتماعية.
ويمكن اعتبار ما خلفه كتاب القرن الثامن عشر، في مجال دراسة التاريخ القديم، جزءاً هاماً وأساسياً في تراث الانثروبولوجيا وتكوين نظرياتها وقواعدها المنهجية.
إن العوامل البيئية والمادية هي من المؤثرات الهامة في النظم الاجتماعية والثقافية، لكنها لا تمثل العامل الوحيد.
كثيراً ما يوجه النقد لكتاب القرن الثامن عشر بأنهم اعتمدوا في صياغة فروضهم النظرية على التاريخ التخميني ومعلومات اثنوجرافية مشوهة عن المجتمعات التي سموها البدائية خارج أوروبا، حيث اعتمدوا على ما نقله لهم الهواة والرحالة والمكتشفون والمبشرون، وكل هؤلاء لم تكن لديهم تجربة في الأساليب العلمية.
نظريات الوفاق وهي تجمع بين طرفين حيث أنها تؤمن بفكرة التقدم وفي نفس الوقت تتمسك بمفهوم الاستمرارية في النظم التقليدية.
الملاحظ على الكتابات التي ظهرت فيما سمي بعصر التنوير أن فلاسفتهم لم يستخدموا كلمة تطور بل إن المفهوم السائد بينهم هو مصطلح التقدم.
انتقل الكتاب من الاهتمام بالأفراد إلى الاهتمام بالمجتمعات ومثال ذلك ما كتبه (فولتير) عن تاريخ النظم الاجتماعية والمؤسسات السياسية والتطلعات الاجتماعية والانتاج الفكري والفني في المجتمع، والعلاقات الخارجية بين المجتمعات، وعلى حد قول (فولتير) أنه يهدف إلى معرفة الخطوات التي انتقل خلالها الإنسان من مرحلة البربرية إلى الحضارة.
كما كان الرأي السائد بين مفكري عصر التنوير هو أن المراحل الأولى لتاريخ الإنسان كانت تتميز بالبساطة وغياب بعض النظم الاجتماعية مثل الملكية الفردية والحكومة المركزية والتقسيم الطبقي الواضح، سواء على أسس دينية أو اقتصادية أو عرقية مقارنة بالمجتمعات الأوروبية الحديثة ولذلك أطلقوا على تلك الفترة من التاريخ الإنساني (المرحلة الطبيعية) التي لم تعرف التعقيد والتمايز في النظم الاجتماعية.
الصراع مع الكنيسة:
ينطلق هذا الفكر اللاهوتي من تمسكه بالقوانين الإلهية التي تحكم الكون بما فيه الإنسان، وبالتالي لا يمكن أن يلعب العقل البشري دوراً في تغيير الواقع الاجتماعي الذي يجب أن ينظر إليه كإرادة (إلهية) واستمر ذلك الصراع بين الكنيسة والعقلانية اللتان تمثلان طرفي نقيض في الفكر الأوربي العقلاني.
هناك حدثان هامان في التاريخ الأوربي لعبا دوراً أساسياً في احتواء الصراع التقليدي بين العلم والكنيسة والانتهاء به إلى مرحلة الوفاق أو قبول الأمر الواقع وفرضه على الطرفين وهما : الثورة الصناعية في بريطانيا والثورة السياسية في فرنسا.
ومن نتائج الثورة الصناعية والثورة الفرنسية ظهور ما يعرف بنظريات الوفاق في الفكر الأوربي للجمع بين النظريات العقلانية المتطرفة والنظريات اللاهوتية التي تنادي بعودة الأخلاق الدينية، وكذلك تسمى بالنظريات الرومانسية.
نظرية دارون:
نشير هنا إلى أن دارون لم يأت بفكرة التطور (أي تطور الجنس البشري) من فراغ بل أقامها على أفكار من سبقوه في ألمانيا وفرنسا وأنجلترا بصفة خاصة، ومعلوم أن (تشارلز دارون) من مواليد عام 1808م وتخصص في علم الأحياء، بينما نجد أفكار (لامارك) الفرنسي في كتابه (فلسفة الحيوان) صدر في عام 1809م، وأيضاً الفرنسي (جفروي سنتيلير) الذي أصدر كتاباً بعنوان (أصل وحدة التركيب العضوي) في سنة 1828م، ولقد أشار دارون نفسه في كتابه (أصل الأنواع) الذي أصدره في عام 1859م إلى كثير من الباحثين الذين سبقوه في هذا المجال، ثم عاد كتابه الثاني بعنوان (أصل الإنسان) الذي أصدره في عام 1874م إلى تأكيد ذلك مرة أخرى، إن دارون يرى أن توالد الإنواع يتم بواسطة الانتخاب الطبيعي أو بواسطة حفظ الأصول الأكمل في تنازع البقاء ويقول في محاولة أولية إن جميع الأفراد من نبات وحيوان ميالة إلى التكاثر إلى درجة يقل معها الغذاء وتضيق بها الأرض، إن الانتخاب الطبيعي لا يكون إلا إذا كان للاختلافات الحاصلة في الفرد معنى في تنازع البقاء، فإنها تكون ضرورية على أحد الحالات الثلاث، إما نافع للمنازع أو مضرة أو لا نافع ولا ضارة.
إن الإنسان والحيوان وحتى النبات أيضاً لم تكن بينها فروق واضحة وأنها جميعاً كانت خلية واحدة أخذت في الانقسام التدريجي في عملية ارتقاء من أسفل إلى أعلى، واستغرق ذلك آلاف السنين حتى جاء الإنسان على قمة هذا التطور، وهذه المسألة تسمى النشوء والارتقاء، وهي تعتمد على الانتخاب الطبيعي وعلى عملية الصراع من أجل البقاء.
وبالرغم من تأثير الدارونية على دراسات تطور النظم الاجتماعية فهذا لا يعني أن فكرة التطور بشقيها البيولوجي والاجتماعي قد بدأ بدارون، فكثير من الكتاب يتصورون أن نظريات التطور الاجتماعي كانت نتاجاً مباشراً للدارونية، فهذا مفهوم يجب تصحيحه خاصة أن اقتران الأنثروبولوجيا بالدارونية قد أدى إلى تشويه الكثير من مفاهيمها الهامة التي كان يمكن أن تكون واضحة ومقبولة، ولكن التعتيم الذي لحقها نتيجة للتأكيد غير المؤسس على أنها جزء من الدارونية.
يعتبر (مالثيوس) هو أول من أورد مفهوم البقاء للأصلح حينما نشر مقالة حول (أسس السكان) قبل ظهور الدارونية بستين عاماً تقريباً، ولقد اعتمد دارون على هذا المفهوم في صياغة فروضه عن التطور البيولوجي من خلال الانتخاب الطبيعي، فبالرغم من أن آراء مالثيوس عن التقدم ورفضه لفكرة ارتقاء الإنسان، إلا أنه افترض أن أعداداً كبيرة من العنصر البشري محكوم عليها بالشقاء والانقراض كنتيجة حتمية لعدم الموازنة بين القدرات الإنتاجية لتوفير الغذاء من جانب والنمو السكاني من جانب آخر.
إذا الاعتقاد الذي يقول بأن الأنثروبولوجيا التطورية ظهرت بعد الدارونية لا يستند على حقائق تاريخية ولا يتسم بالموضوعية وفيه تبسيط لأهمية الفكر الاجتماعي ووصفه بالتبعية للعلوم الطبيعية، إن التقدم الإنساني مفهوم قديم زاد الاهتمام به في عصر التنوير.
هناك تزاوج مستمر بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية ولا يمكن الفصل بينهما، ولقد جاء مفهوم التطور سواء في العلوم الاجتماعية أو العلوم الطبيعية نتاجاً لهذا التزاوج.
ويمكن القول بأن أثر الدارونية قد كان قاصراً على الأنثروبولوجيين الذين جاءوا بعد دارون وخاصة بعد اتساع دائرة المعلومات عن المجتمعات المسماة بالبدائية والذي صاحب التوسعات الاستعمارية ومن هنا اتسمت دراسات أولئك الأنثروبولوجيين بالعنصرية، وقد أضفت الدارونية عليه الصبغة العلمية وأدت إلى تعميقه وتأسيسه في الفكر الأوروبي.
نظرية سبنسر:
هربرت سبنسر اقترن اسمه بدارون عند كثير من كتاب علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وهو خير من يمثل الصلة بين التطور الاجتماعي والتطور البيولوجي، إضافة إلى أهمية آرائه في توجيه الأنثروبولوجيا بدءاً بمفهوم التطور الثقافي وانتهاء بالمدارس الوظيفية والوظيفية البنائية فيما بعد.
لقد جاءت أفكار سبنسر ودارون متزامنة إلى حد ما، إلا أن السبق في مفهوم التشابه بين التطور البيولوجي والتطور الاجتماعي كان لسبنسر وهو قد استخدم كلمة تطور لأول مرة في عام 1857م في القوانين الأساسية للفيسيولوجيا.
واتبع ذلك بعمل آخر سماه (أسس علم الأحياء) في عام 1866 ثم أسس علم الاجتماع واشتهر بما يعرف بالتشبيه العضوي فهو قد شبه المجتمع بالكائن الحي وبالتالي فهو يرى أن المجتمعات تمر بمراحل تطورية شبيه بالتطور البيولوجي، وكانت آراءه شبيهة بآراء أوجست كونت، ولكنه أضاف أفكاراً جديدة تتصل بالتعقيد والتركيب والتمايز والتكامل في دراسة المجتمع الإنساني، فهو يفترض أن طبيعة المجتمعات الإنسانية لا تختلف عن طبيعة العضو الحي، والتي هي نتاج لعملية تطورية تعتمد على التكيف مع متطلبات البيئة الاجتماعية إذا أراد البقاء وتحمل الضغوط، واعتماداً على هذه المعايير افترض سبنسر أن الجماعات تنمو ويكبر حجمها وبالتالي تتحول من مجتمعات بسيطة إلى مجتمعات معقدة في تركيبها نتيجة للتمايز بين الوظائف المختلفة مما يؤدي إلى التكامل والتساند بين هذه الوظائف لضمان استمرارية المجتمع، ويرى سبنسر أن المجتمع الإنساني تطور من مرحلة حالة حرب، أي التنظيم البسيط الذي يعتمد على الصراع إلى المرحلة الصناعية التي برز فيها التنظيم المعقد القائم على التكامل والتساند وزيادة الاتجاه نحو الواقعية وضبط الحياة الاجتماعية عن طريق العلم الذي يؤدي بالضرورة إلى مزيد من الإنتاج واتساع في أوقات الفراغ.
ولقد قيد سبنسر مفهوم التقدم ولم يجعله تقدماً مطلقاً لا نهاية له، بل أخذ برأي النمو الدوري، كما هو الحال في الكائنات الحية، فالمجتمع ينمو حتى يصل مرحلة معينة من التعقيد والارتقاء، ثم بعد ذلك يبدأ في التفكك حتى يتلاشى بالتدريج فإذاً يكون التطور الاجتماعي متفقاً مع التطور البيولوجي الذي ينتهي بفناء العضو.
ووضع سبنسر إطاراً عاماً لتحليل تطور النظم الرئيسية معتمداً على فكرة التساند والتكامل بين أجزاء المجتمع مبتدئاً بالبحث في نشأة الوحدات الاجتماعية بدراسة الأسرة.
ولقد قرن سبنسر كل تلك التحولات التي حدثت في محيط الأسرة والزواج بتدرج المجتمعات في مجال التنظيم السياسي الذي يحقق حاجاتهم الأساسية، ومن ثم نشأ النظام السياسي لينظم معاملات الأفراد والجماعات مع بعضهم البعض مما أدى إلى خلق نوع من الأنماط الاجتماعية وصفها سبنسر بـ (القيود الاجتماعية) ولكن سماها علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا فيما بعد بـ (الضبط الاجتماعي) ومن هنا نشأ الارتباط بين الدين ووظائفه السياسية والاجتماعية وفق رأي سبنسر الذي يقول إن وظائف الدين أو (القيود الروحية) كانت مرتبطة بالضبط السياسي الذي اعتمد عليه التماسك الاجتماعي في مراحل التطور المختلفة إلى أن بلغ المجتمع مرحلة الصناعة.
وبالرغم من أوجه القصور الواضحة في آراء سبنسر التي اعتمدت على (التشبيه العضوي) إلا أنه أسهم كثيراً في تقدم الأنثروبولوجيا من حيث النظرية والمنهج، ونذكر هنا إسهامه في المنهج المقارن الذي استخدمه العلماء من بعده مثل (مرجان وتايلور) فلقد جمع سبنسر معلومات اثنوجرافية كثيرة من المصارد التاريخية وعن المجتمعات البدائية وصنفها في عمله (علم الاجتماع الوصفي) ويعتبر هذ العمل من القواعد الأساسية للمنهج المقارن الذي اعتبره سبنسر من صميم العلوم الاجتماعية، ولكن دور سبنسر في الأنثروبولوجيا لم يجد الاهتمام الكافي رغم أن كل أعماله تضمن معلومات غزيرة عن المجتمعات البدائية مما جعلها تدخل في نطاق ما يعرف الآن بالأنثروبولوجيا الثقافية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق