أثر جورج زيميل على النظرية السوسيولوجية الأمريكية وعلى علم اجتماعها عامة، يختلف تماماً من ذلك الأثر للمنظرين ، دوركايم وفيبر، اللذان بالرغم من أهميتهما المتاخرة، كان لهما اثر قليل نسبياً على النظرية الأمريكية في بداية القرن العشرين. زيميل كان معروفاً أكثر لدي علماء الاجتماع الأمريكيين الأوائل، خاصة أولئك المرتبطين بمدرسة شيكاغو. ألبينو سمول وروبرت بارك ، اثنان من القوي الأساسية المحركة لمدرسة شيكاغو درسا مع زيميل في ألمانيا وكانا السبب في تقديم أفكاره إلى الجمهور الأمريكي. في السنوات الأخيرة خسف نجم زيميل بسبب ماركس، دور كايم وفيبر، بالرغم من أن تاثيره تواصل في العديد من المجالات (نظرية الصراع والتفاعلية الرمزية مثلاً)، في حين أن زيميل هو "الشريك الثانوي" في هذا الرباعي اليوم، وبقي تأثيره قوياً وربما يعود مرة أخرى بسبب ترجمة أحد أهم أعماله للغة الإنجليزية مؤخراً (فلسفة النقد) .
اهتمامات زيميل الأساسية
في نظرية الصراع ذات المنظور الأكبر عرف جورج زيميل أكثر كعالم اجتماع المنظور الأصغر، ولعب دوراً هاماً في دراسات المجموعات الصغرى مثل التفاعلية الرمزية ونظرية التبادل. عرض روبرت نيسبت (1959) هذه الرؤية عن مساهمة زيميل في عالم الاجتماع كما يلي: "إنها ميزة عالم اجتماع المنظور الأصغر، وكتابات زيميل هي التي أعطته دائماً موقعاً بين الرواد الآخرين إنه لم يستخف بالعناصر الصغرى والحميمية في المشاركة الإنسانية، كما أنه لم يفقد الرؤية أبداً عن أولية الكائن البشري والأفراد الملموسين في تحليله للمؤسسات"118.
لكن دائماً ما ينسى أن كتابات زيميل ذات المنظور الأصغر عن أشكال التفاعل متضمنة في نظرية أوسع عن العلاقات بين الأفراد والمجتمع الكبير. لزيميل نظرية عن الواقع الاجتماعي أكثر تعقيداً وصقلاً من ما أعطى عليه الاستحسان في النظرية السوسيولوجية الأمريكية المعاصرة .
يرى توم بورتومور وديفيد فرسباي119 أن هنالك مستويات اهتمام أربعة أساسية في كتابات زيميل. أولاً افتراضه ذو المنظور الأصغر عن المكونات السايكولوجية للحياة الاجتماعية، ثانياً على مستوى أوسع قليلاً، اهتمامه بالمكونات السوسيولوجية في العلاقات بين الأشخاص، ثالثاً على مستوى المنظور الأكبر كتاباته عن بنية وتغير الروح الاجتماعية والثقافية في عصره، لم يعمل زيميل بهذا التصور ذي الثلاث طبقات عن الواقع الاجتماعي لكنه أخذ بمبدأ الانبثاق أي الفكرة التي تقول أن المستويات العليا تنبثق من الدنيا "التطورات الإضافية تحل محل فورية القوى المتفاعلة مع خلق تشكيلات فوق فردية و التي تبدو كتمثيلات مستقلة لتلك القوى وتمتص وتتوسط العلاقات بين الأفراد"120. يتخطى هذه الطبقات الثلاثة مستوى رابع يتضمن المبدأ الميتافيزيقي للحياة، وهذه الحقائق المستمرة أثرت على كل كتابات زيميل وكما سنرى قادت إلى تصوره عن اتجاه العالم مستقبلاً .
الاهتمام بالمستويات المتداخلة للواقع الاجتماعي ينعكس في تعريف زيميل لثلاث مشاكل – مناطق منفصلة في علم الاجتماع – الأولى وصفها بعلم الاجتماع (المحض) في هذه المنطقة تتحد المتغيرات السايكولوجية مع أشكال التفاعل، بالرغم من أن زيميل يفترض بوضوح أن للفاعلين مقدرات عقلية خلاقة فقد أبدى القليل من الانتباه الواضح لهذا الجانب من الواقع الاجتماعي .
معظم كتاباته ذات المنظور الأصغر كانت عن الأشكال التي يأخذها التفاعل وكذلك أنماط الناس الذين يدخلون في التفاعل. الأشكال تشمل الخضوع، الإخضاع، التبادل، الصراع و الاختلاط الاجتماعي. في كتاباته عن الأنواع ميز بين مواقع في البنية التفاعلية مثل (المنافس) ، (العابث )، والتوجهات نحو العالم مثل (البخيل ) ، (العابث) ، (المبذر) ، (الغريب) و (المغامر). في مستوى متوسط يوجد علم اجتماع زيميل العام ويتناول المنتجات الاجتماعية والثقافية للتاريخ البشري. هنا يبدي زيميل اهتمامه ذو المنظور الأكبر بالمجموعة وبنية وتاريخ المجتمعات والثقافات. أخيراً في علم اجتماع زيميل الفلسفي تناول رؤيته عن الطبيعة الأساسية والقدر المحتوم للجنس البشري. خلال هذا الفصل سنلتمس كل هذه المستويات (وعلوم الاجتماع)، وسنجد أنه بالرغم من أن زيميل أحياناً يفصل المستويات المختلفة و(علوم الاجتماع) لكنه دائماً ما يمزجها في كل واسع .
التفكير الجدلي في علم اجتماع زيميل
طريقة تناول زيميل للعلاقات المتداخلة بين ثلاثة مستويات أساسية من الواقع الاجتماعي أعطت علم اجتماعه خاصية جدلية تذكّر بعلم اجتماع ماركس، المنهج الجدلي كما هو معروف، متعدد التعليل ومتعدد الاتجاهات، يدمج الحقائق مع القيم، يرفض فكرة أن هنالك خطوط تقسيم صلبة وثابتة بين الظواهر الاجتماعية، يركز على العلاقات الاجتماعية، لا ينظر فقط إلى الحاضر وإنما نحو الماضي والمستقبل أيضا ويهتم بعمق الصراعات والتناقضات .
على الرغم من أوجه الشبه بين ماركس وزيميل فيما يختص باستخدامهما للمنهج الجدلي إلا أن هناك اختلافات هامة بينهما. من الأهمية بمكان حقيقة أنهما ركزا على جوانب مختلفة من العالم الاجتماعي كما قدما تصورات مختلفة جداً عن مستقبل العالم. فبدل تفاؤل ماركس الثوري لزيميل رؤية عن المستقبل قريبة لتصور فيبر عن القفص الحديدى الذي لا مهرب منه .
أبدى زيميل التزامه بالجدل في طرق مختلفة. فقد كان دائماً يميل إلى الثنائية، الصراعات والتناقضات في أي مجال من العالم الاجتماعي تعامل معه. رونالد ليفين ذكر أن ذلك يعكس اعتقاد زيميل أنه "يمكن فهم العالم بشكل أفضل في إطار الصراعات والتناقضات بين فئات متعارضة"121. بدل المحاولة من تناول هذا النمط من التفكير عن أعمال زيميل دعنا نوضح ذلك من خلال عمله عن واحد من أشكال التفاعل، الموضة. استخدم زيميل نمطاً مماثلاً من التفكير الجدلي في معظم مقالاته عن الأشكال والأنماط الاجتماعية، لكن مناقشته عن الموضة توضح بإسهاب طريقته في تناول تلك الظواهر .
الموضة
في واحدة من مقالاته الخلاّبة الثنائية عرض زيميل التناقضات في الموضة بطرق عديدة. من ناحية الموضة شكل من العلاقة الاجتماعية يسمح للذين يودون الاستجابة لمتطلبات المجموعة فعل ذلك، من ناحية أخرى توفر الموضة أيضاً المعيار الذي يمكن للذين يودون أن يكونوا متفردين أن ينحرفوا عنه. الموضة تتضمن عملية تاريخية أيضاً. في البداية يقبل الجميع كل ما هو متماش مع الموضة، لكن حتماً ينحرف بعض الأفراد من ذلك. أخيراً في عملية الانحراف ربما يتخذون رؤية جديدة كاملة عن ما هو مع الموضة. الموضة جدلية أيضاً بمعنى أن نجاح وانتشار أي موضة يقود إلى سقوطها النهائي .
ذلك أن تميز شئ ما يؤدي إلى اعتباره متماشياً مع الموضة، لكن عندما يتقبله عدد كبير من الناس فإنه يفقد تميزه وكذلك جاذبيته. كما أن هنالك ثنائية أخرى تشمل دور قادة حركات الموضة، وهؤلاء الأشخاص يقودون المجموعة وياللمفارقة، باتباعهم الموضة بشكل أفضل من أي شخص آخر وبتحديد أكثر. أخيراً يقول زيميل ليس فقط اتّباع الموضة هو الذي يتضمن الثنائية لكن أيضاً المحاولات في أن يكون الفرد جزءاً من بعض الناس الذين هم خارج الموضة. الناس الذين لا يتبعون الموضة يرون أن الذين يتماشون مع الموضة مقلدون ويعتبرون أنفسهم خوارج. لكن زيميل يرى أن هؤلاء أنفسهم داخلين في شكل من التقليد العكسي. ربما يتجنب الأفراد الموضة لأنهم يخشون أن يفقدوا تفردهم، لكن زيميل يرى أن مثل هذا الخوف لا يشكل دليلاً على قوة الشخصية أو الاستقلال. خلاصة يرى زيميل أننا نجد في الموضة" كل الميول القائدة المتناقضة ممثلة بشكل أو بآخر"122.
تفكير زيميل الجدلي يمكن رؤيته على مستوى أكثر عمومية أيضاً في كتاباته عن الثنائي والثلاثي. لقد كان أكثر اهتماماً بالصراعات والتناقضات التي تحدث بين الفرد والبنيات الاجتماعية والثقافية الكبرى التي يبنيها الأفراد، تلك البنيات يكون لها في النهاية حياة خاصة بها ليس للفرد عليها سيطرة تذكر.
الثنائي والثلاثي
بالنسبة لزيميل هناك اختلاف جوهري بين الثنائي، مجموعة من شخصين ، والثلاثي مجموعة من ثلاثة أشخاص، فإضافة الشخص الثالث تشكل تغيراً جذرياً وأساسياً . زيادة الأعضاء أكثر من ثلاثة لن يكون لها نفس الأثر الذي أحدثته إضافة العضو الثالث، على خلاف المجموعات الأخرى، لا يحقق الثنائي معنى يتجاوز الفردين المعنيين. لا توجد بنية مجموعة في الثنائي و ليس هناك شئ أكثر للمجموعة غير الفردين المنفصلين. لذلك فإن كل عضو في الثنائي يحقق مستوى عالياً من الفردية، هذه الفردية لا يمكن إنزالها إلى مستوى المجموعة و هذا الوضع لا ينطبق على مجموعة الثلاثي.
مجموعة الثلاثي تتميز بتحقيق معنى يتجاوز الأفراد فيه. وفى الغالب أن يكون الفرد مستوعباً أكثر فى مجموعة الثلاثي والتي غالباً ما تتطور إلى بنية مجموعة مستقلة. نتيجة لذلك هنالك الكثير من التهديد لفردية الأعضاء و من الممكن أن يكون لمجموعة الثلاثي أثر تعادلي على الأعضاء .
بإضافة طرف ثالث إلى المجموعة فإن عدداً من الأدوار الاجتماعية الجديدة يصبح ممكنا، مثلاً يمكن أن يأخذ الطرف الثالث دور الحكم أو الوسيط في النزاعات داخل المجموعة. بعد ذلك يمكن للطرف الثالث استخدام النزاعات بين العضوين الآخرين من أجل مكاسبه هو أو ربما يكون موضوع منافسة بين الطرفين الآخرين .
الطرف الثالث ربما يكرس وعن قصد الصراع بين الطرفين الآخرين من أجل الحصول على التفوق (فرق تسد) بعد ذلك من الممكن ظهور نسق للتراتب وبنية السلطة. الانتقال من الثنائى للثلاثي ضرورة لتطور بنيات اجتماعية تصبح منفصلة عن الفرد ومسيطرة عليه،و مثل هذه الإمكانية غير متوفرة في الثنائي .
الثقافة الفردية والثقافة الموضوعية
يرى زيميل أن الناس يتأثرون ومحددين ليس فقط بالبنيات الاجتماعية وإنما بمنتجاتهم الثقافية أيضا. ميز زيميل بين الثقافة الفردية والثقافة الموضوعية. الثقافة الموضوعية تعني تلك الأشياء التي ينتجها الناس (الفن، العلوم، الفلسفة، وما إلى ذلك) الثقافة الفردية هي مقدرة الفاعل الفرد على إنتاج، استيعاب والسيطرة على عناصر الثقافة الموضوعية. المشكلة هى أن الثقافة الموضوعية صارت لها حياتها الخاصة بها. يقول زيميل "عناصر الثقافة تكتسب هويات ثابتة ومنطق وقانونية خاصة بها، هذه الصرامة الجديدة تضعها بالضرورة بعيداً عن الحيوية الروحية التي أنتجتها والتي جعلتها مستقلة"123. وجود المنتجات الثقافية يخلق تناقضاً مع الفاعلين الذين أنتجوها بما أنها "مثال للخصومة والجفوة التي توجد بين العمليات العضوية والإبداعية للروح ومحتوياتها ومنتجاتها: تذبذب الحياة المضطربة للروح الخلاقة الذي يتطور إلى تعارض غير نهائي مع المنتجات الثابتة وغير القابلة للتغير وأثرها التبادلي المرعب الذي يعتقل ويصلب تلك الحيوية. كثيراً ما يبدو وكأن الحركة الإبداعية للروح الخلاقة تموت بسبب منتجاتها نفسها"124. وكما قال ك.بيتر أتزكون " في جدل زيميل الإنسان دائماً معرض لخطر الذبح بواسطة تلك المواضيع التي ينتجها والتي فقدت درجتها الإنسانية العضوية"125 .
حياة أكثر وأكثر من حياة
مجال آخر من تفكير زيميل هو علم اجتماعه الفلسفي الذي يبرز تفكيره الجدلى أكثر. في مناقشته لبزوغ البنيات الثقافية والاجتماعية ، ياخذ زيميل موقفاً شبيها جداً لبعض أفكار ماركس. استخدم ماركس مفاهيم تشيؤ ومادية البضائع إلى الدرجة التي أدت إلى الانفصال بين الناس ومنتجاتهم. بالنسبة لماركس يصل هذا الانفصال مداه الأقصى في الرأسمالية، ويمكن تجاوزه في المجتمع الاشتراكي لذلك فهو ظاهرة تاريخة محددة لكن بالنسبة لزيميل هذا الانفصال جزء أصيل من طبيعة الحياة الإنسانية. فلسفياً ، هناك تناقض جوهري ولا يمكن تجنبه بين (حياة أكثر) وأكثر من حياة. مفهوم حياة أكثر يعني أن الناس من خلال أفكارهم وأفعالهم ينتجون الحياة الاجتماعية وأثناء ذلك يعيدون إنتاج أنفسهم وهذه عملية خلاقة لا تعرف التوقف. لكن في إنتاجهم للحياة الاجتماعية ينتج الناس بالضرورة حزمة من المواضيع- أكثر من حياة – والتي يصبح لها حياتها بذاتها. بمعنى آخر الحياة الاجتماعية، تخلق من نفسها وتطلق شيئاً ليس هو الحياة ولكن له أهميته الخاصة ويتبع قوانينه الخاصة أيضا.ً بالنسبة لزيميل فإن الناس بالضرورة يستعبدون بمنتجاتهم الاجتماعية والثقافية، لذلك نسبة لمفهومه الميتافيزيقي وصل زيميل إلى تصور عن العالم أقرب كثيراً جداً لتصور فيبر عنه من تصور ماركس. زيميل مثل فيبر، يرى أن العالم أصبح قفصاً حديدياً من الثقافة الموضوعية ولدى الناس فرص للهروب منه ولكنها تتناقص باستمرار. سيكون لدينا الكثير الذي سنقوله عن هذه القضايا في الفقرات القادمة التي تتناول أفكار زيميل عن المكونات الأساسية للواقع الاجتماعي .
وعي الفرد
على مستوى الفرد ركز زيميل على أشكال التفاعل وأبدى اهتماماً قليلاً نسبياً بموضوع وعي الفرد، والذي لم يتناوله مباشرة إلا نادراً. بالرغم من ذلك فقد عمل زيميل على أساس ما يعنى بوضوح أن البشر يمتلكون وعياً خلاقاً. هذا الاهتمام بالخلق يظهر في مناقشة زيميل عن الأشكال المختلفة للتفاعل، مقدرة الفاعلين على خلق بنيات اجتماعية إضافة إلى الأثر التدميري لتلك البنيات على مقدرة الفرد الخلاقة
كل مناقشة زيميل عن أشكال التفاعل تتضمن أن الفاعلين يجب أن يتجهوا بوعي إلى بعضهم البعض. ذلك، التفاعل في شق تراتبي مثلاً يتطلب أن السادة والتابعين يوجهون أنفسهم نحو بعضهم البعض. سيتوقف التفاعل وينهار النسق التراتبي إذا انعدمت عملية التوجه هذه، وهذا ينطبق على كل أشكال التفاعل الأخرى.
الوعي يلعب أدواراً أخرى في أعمال زيميل. فمثلاً ، بالرغم من أن زيميل يعتقد أن البنيات الاجتماعية والثقافية أصبحت لها حياة خاصة، فقد أدرك أنه يجب على الناس فهم تلك البنيات من اجل أن يكون لها اثراً على الأفراد. أوضح زيميل أن المجتمع ليس ببساطة "هنالك في الخارج ، لكنه أيضاً ما اتمثله، شئ يعتمد أيضاً على نشاط الوعي"126.
كان لزيميل أيضاً مفهوم عن الضمير الفردي وعن حقيقة أن المعايير والقيم في المجتمع تستبطن في وعي الفرد. وجود المعايير والقيم داخلياً وخارجياً "يوضح الشخصية الثنائية للأوامر الأخلاقية، من ناحية فهي تقابلنا كأمر غير شخصي علينا ببساطة الخضوع له، من الناحية الأخرى لا توجد قوى خارجية لكن فقط دوافعنا الخاصة والداخلية تفرضها علينا. هذه واحدة من الحالات التي يقوم فيها الفرد، ضمن وعيه الذاتي، بإعادة العلاقات التي توجد بينه وبين المجموعة كشخصية كاملة"127 .
هذا المفهوم الحديث جداً عن الاستنباط هو افتراضات غير مطورة نسبياً في أعمال زيميل. إضافة إلى ذلك كان لدى زيميل مفهوم عن مقدرة الناس على التصدي لأنفسهم عقلياً ووضعها بعيداً عن أفعالهم. هذا شبيه جداً برؤى جورج هيربرت ميد والتفاعليين الرمزيين. يمكن للفاعل أن يأخذ حوافز خارجية، يقيمها ، يحاول طرقاً مختلفة للفعل ثم يقرر ماذا يفعل. لكن هناك تناقضاً في مفهوم زيميل عن مقدرات الفاعل العقلية. العقل يمكن أن يمنع الناس من ان يستبعدوا بواسطة الحوافز الخارجية، لكن له أيضاً المقدرة على جعل الواقع الاجتماعي ماديا وعلى خلق المواضيع التي تستبعده. وكما قال زيميل "لدى عقلنا المقدرة الملحوظة على التفكير عن المحتويات باعتبارها مستقلة عن فعل التفكير"128. لذلك بالرغم من أن ذكاء البشر مكنهم من تجنب الاستبعاد بواسطة المحفزات الخارجية التي تقيد الحيوانات الدنيا، فقد خلق أيضاً بنيات ومؤسسات تقيد أفكارهم وأفعالهم. بالرغم من أنه يمكننا إيجاد العديد من التجليات عن الاهتمام بالوعي في أعمال زيميل فهو في عدة مواقع لم يفعل شيئاً أكثر من افتراض وجوده .
التفاعل الاجتماعي
اشتهر جورج زيميل في علم الاجتماع المعاصر بمساهمته في فهمنا لنظم وأشكال التفاعل الاجتماعي، وقد عبر عن اهتمامه بهذا المستوى من الواقع الاجتماعي كما يلي "نتناول هنا العمليات ذات المستوى الأصغر والجزئي داخل المادة الإنسانية. هذه العمليات هي واقع فعلي يتسلسل ويتمدى في تلك الوحدات والأنساق الكونية الراسخة. الناس ينظرون إلى بعضهم البعض ويغيرون من بعضهم كما أنهم يتبادلون الخطابات أو يتناولون الغداء سوياً، ذلك أنهم بعيداً من كل المصالح الملموسة يصفون بعضهم باللطف أو غيره. ذلك أن العرفان للأفعال الإيثارية يخلق اتحاداً غير قابل للفصل. فالفرد يسأل فرداً آخر عن شارع معين ، ذلك أن الناس يرتدون الملابس ويتزينون لبعضهم البعض ، هذه نماذج قليلة من مجال واسع من العلاقات التى تدور بين فرد وآخر. ربما تكون لحظية أو ثابتة، بوعي أو بدون وعي، سريعة الزوال أوذات نتائج خطيرة ، لكنها باستمرار تربط الناس مع بضعهم البعض. في كل لحظة هذه الخيوط تغزل، تسقط، تؤخذ مرة أخرى، تزاح من البعض، تنسج مع آخرين، هذه التفاعلات بين ذرات المجتمع يمكن الوصول إليها بالتحليل النفسي المجهري"129 .
أوضح زيميل هنا أن واحداً من اهتماماته الأساسية التفاعل بين فاعلين واعين وأنه يريد أن ينظر في القطاع العريض من التفاعلات التي تبدو بدون قيمة في بعض الأحيان لكنها مهمة جداً في أحيان أخرى. اهتمامه ليس (دوركايمي) يعبر عن الاهتمام بالحقائق الاجتماعية وإنما إعلان عن منظور علم الاجتماع ذى المستوى الأصغر.
لأن زيميل يتخذ أحيانا موقفا مبالغا فيه عن أهمية التفاعل في علم اجتماعه، لم يلتفت العديدون لرؤاه عن الجوانب ذات المستوى الأكبر من الواقع الاجتماعي. أحيانا، فقد ساوى مثلا المجتمع بالتفاعل "المجتمع هو النتاج أو المحصلة النهائية لتلك التفاعلات المحددة. المجتمع مطابق لمجموع كل تلك العلاقات"130. مثل هذه المقولات أخذت كتأكيد عن اهتمامه بالتفاعل ولكن وكما سنرى في علم اجتماعه العام والفلسفي كان لزيميل مفهوم واسع عن المجتمع وكذلك عن الثقافة.
أشكال التفاعل
أحد اهتمامات زيميل الغالبة "شكل" وليس "محتوى" التفاعل الاجتماعي. هذا الاهتمام نابع من ارتباط زيميل بالفلسفة الكانتية والتي تهتمم كثيراً بالاختلاف بين الشكل والمضمون. موقف زيميل مبسط جداً. فهو يرى أن العالم الحقيقي مكون من عدد لا يحصى من الأحداث، الأفعال، التفاعل وما إلى ذلك. لتدارك هذه المتاهة من الواقع، فإن الناس ينظمونها بفرض النظم أو الأشكال عليها. لذلك فبدلاً من مجموعة مربكة من الأحداث المحددة فإن الفاعل يواجه بعدد من الأشكال، وحسب رؤية زيميل فإن مهمة عالم الاجتماع أن يفعل ما يفعله الشخص العادي تحديداً، أي فرض عدد محدد من الأشكال على الواقع الاجتماعي، خاصة التفاعل ليمكن تحليله بصورة أفضل. هذا المنهج يتضمن بشكل عام استخراج ما هو مشترك في النظام الواسع من التفاعلات المحددة. مثلا الخضوع والإخضاع كأشكال للتفاعل موجودان في العديد من المواقع "في الدولة كما في مجموعة دينية، في عصابة من المتآمرين كما في رابطة اقتصادية في مدرسة للفنون كما في الأسرة"131. دونالد ليفين، أحد محللي زيميل المعاصرين وصف منهجه في علم الاجتماع التفاعلى الشكلي كما يلي:" كان منهجه أن يتناول ظاهرة محددة من العالم المتغير، يختبر مجموع العناصر التي تكونها، ثم يحدد أسباب تماسكها بالكشف عن تشكلها. بعد ذلك يبحث في أصل ذلك الشكل وتبعاته البنيوية"132
اهتمام زيميل بأشكال التفاعل الاجتماعي كان عرضة للعديد من الانتقادات، فقد أتهم مثلا أنه يفرض النظام حيث لا نظام، أو إنتاج عدد من الدراسات لا علاقة بينها لا تفرض في النهاية نظاما أفضل على تعقيد الواقع الاجتماعي أكثر من الذي يفعله الشخص العادي. تكون هذه الانتقادات صحيحة إذا ركزنا على اهتمام زيميل بأشكال التفاعل فقط، علم اجتماعه الشكلي وتجاهلنا الأنواع الأخرى من علم الاجتماع التي مارسها.
لكن هناك العديد من الطرق التي يمكن الدفاع بها عن تناول زيميل لعلم الاجتماع الشكلي. أولا إنه أقرب للواقع كما ينعكس ذلك في الأعداد التي لا تحصى من نماذج الحياة الواقعية التي استخدمها زيميل. لم يفرض فئات صارمة أو إعتباطية على الواقع الاجتماعي وإنما بدل ذلك حاول أن يتتبع الأشكال من الواقع الاجتماعي. ثالثا، تناول زيميل لم يستخدم مخططاً نظرياً عاماً أقحمت فيه كل جوانب العالم الاجتماعي. أخيراً، علم الاجتماع الشكلي يتجنب التجريبية فقيرة المفاهيم التي هي ميزة للكثير من علم الاجتماع. ومن المؤكد أن زيميل استخدم معلومات ميدانية لكنها أخضعت لمحاولاته لفرض بعض النظام على العالم المرتبك للواقع الاجتماعي.
الهندسة الاجتماعية
في علم اجتماع زيميل الشكلي تبدو بوضوح محاولته لتطوير "هندسة" للعلاقات الاجتماعية. اثنان من المترابطات الهندسية التي اهتم بها هي الأعداد والمسافة. واهتمامه بأثر عدد الناس على نوعية التفاعل رأيناه في مناقشته للاختلافات بين الثنائي والثلاثي. في مستوى عام جداً نجد توجه زيميل المتناقض نحو أثر حجم المجموعة. من ناحية فقد اتخذ موقفاً يرى فيه أن الزيادة في حجم المجموعة أو المجتمع تزيد من حرية الفرد، فمجموعة صغيرة أو مجتمع صغير غالبا ما يسيطر على الفرد بالكامل. لكن في مجتمع كبير غالبا ما يدخل الفرد في عدد من المجموعات يسيطر كل منها على جزء صغير من شخصيته، وبمعنى آخر "الفردية وجود وفعل يتزايد إلى درجة أن الدائرة الاجتماعية المحيطة بالفرد تتوسع"133. لكن زيميل يرى أن المجتمعات الكبرى تخلق مجموعة من المشاكل التي تهدد في النهاية حرية الفرد. كان يرى مثلا، أن الجماهير غالبا ما تسيطر عليها فكرة واحدة وبسيطة، فالقرب الجسماني للكتل الجماهيرية يجعل الناس أسهل إقناعا وأكثر ميلا لاتباع الأفكار المبسطة والدخول في أفعال عاطفية غير عقلانية.
ما هو مهم فيما يخص اهتمام زيميل بأشكال التفاعل، أن الزيادة في الحجم والتباين تعمل على تحلل الروابط بين الأفراد وتترك في مكانها علاقات متباعدة غير شخصية وجزئية. ومن ما هو متناقض، أن المجموعة الكبرى التي تحرر الفرد تهدد في نفس الوقت فرديته. كما هو متناقص أيضا اعتقاد زيميل أن واحدة من الطرق لتلافي تهديد المجتمع الكبير للأفراد هو انغماسهم في المجموعات الصغرى مثل الأسرة.
أحد اهتمامات زيميل الأخرى بالهندسة الاجتماعية هو المسافة، حيث قدم ليفين تلخيصاً جيداً عن رؤية زيميل عن دور المسافة في العلاقات الاجتماعية "إن ميزات الأشكال ومعاني الأشياء تتوقف على المسافات النسبية بين الأفراد والأفراد الآخرين وبين الأفراد والأشياء"134. هذا الاهتمام بالمسافة يظهر في العديد من المواقع في مؤلفات زيميل. سنناقشه في إطارين مختلفين في عمل زيميل الضخم (فلسفة النقد) وفي واحدة من مقالاته الذكية "الغريب".
في (فلسفة النقد) عبر زيميل بوضوح عن بعض المبادئ العامة عن القيمة- وعن ما يجعل الأشياء قيمة- والتي اتخذها كمبادئ في تحليله للنقد. بما أننا سنتناول ذلك المؤلف بالتحليل في نهاية هذا الفصل، سنناقش هنا هذا الموضوع باختصار. النقطة الأساسية أن قيمة الشيء تتحدد بمسافته عن الفاعل. فلن يكون ذا قيمة إذا كان قريبا جداً وسهل المنال أو بعيد جداً وصعب المنال، فالأشياء التي يمكن الحصول عليها بجهد كبير هي الأشياء الأكثر قيمة.
تلعب المسافة دوراً مهماً أيضا في مقال زيميل "الغريب" عن نوع من الفاعل ليس قريباً جداً ولا بعيدا جداً. إذا كان قريبا جداً فلن يكون غريبا وإذا كان بعيدا جدا لن يكون له أي اتصال بالمجموعة. التفاعل الذي يدخل فيه الغريب مع المجموعة مزيج من القرب والبعد. المسافة غير المألوفة من المجموعة للغريب تتيح له سلسلة من نظم التفاعل غير المعتادة مع الأعضاء. مثلا، الغريب يمكن أن يكون أكثر موضوعية في علاقته مع أعضاء المجموعة، وبما أنه غريب فإن أعضاء المجموعة الآخرين يشعرون بالراحة في التعبير له عن أسرارهم بهذه الطريقة وبطرق أخرى يظهر نسقاً من التنسيق والتفاعل الثابت بين الغريب وأعضاء المجموعة الآخرين. الغريب يصبح عضوا عضويا في المجموعة، لكن زيميل لم يناقش فقط الغريب كنمط اجتماعي وإنما اعتبر الغربة شكلاً من التفاعل. إن درجة من الغربة تتضمن مزيجاً من القرب والبعد تدخل في كل العلاقات الاجتماعية حتى تلك الأكثر حميمية. وهكذا يمكننا اختبار نطاق واسع من التفاعلات المحددة من أجل اكتشاف درجة الغربة الموجودة في كل.
بالرغم من أن الأبعاد الهندسية تدخل في عدد من أنماط زيميل وأشكاله فهي تتضمن ما هو أكثر من الهندسة. فالأنماط والأشكال تشييد استخدمه زيميل للحصول على فهم أكثر لنطاق عريض من أنساق التفاعل. وفي الفقرة القادمة سننظر الى أمثلة عن انماط وأشكال التفاعل.
الأنماط الاجتماعية
لقد سبق ان صادفنا أحد أنماط زيميل "الغريب". الأنماط الأخرى تشمل البخيل، المبذر، المغامر والرجل الشريف. ولعرض طريقة تفكيره في هذه الناحية سنركز على أحد هذه الأنماط: الفقير.
الفقير
عرّف زيميل الفقير في إطار العلاقات الاجتماعية، كمتلق للمساعدة من الآخرين، أو على الأقل له الحق في تلك المساعدة. هنا وبوضوح تام فإن زيميل لا يتمسك بالرؤية التي تعرّف الفقر بكمية أو نقص كمية من المال.
بالرغم من أن زيميل ركز على الفقير في إطار العلاقات المميزة وأنساق التفاعل فقد استغل مناسبة ذلك المقال "الفقير" لتطوير قطاع عريض من الأفكار المثيرة للاهتمام عن الفقراء والفقر. فقد ذكر زيميل مثلا، أن هناك حزمة تبادلية من الحقوق والواجبات تعرف العلاقة بين المحتاج والمعطي. من حق المحتاج الحصول على العون وهذا الحق يجعل الحصول على العون أقل ألما. المعطي عليه واجب هو إعطاء المحتاج. اتخذ زيميل موقفا وظيفيا بأن العون للفقراء بواسطة المجتمع يدعم النسق الاجتماعي، فالمجتمع بحاجة إلى مساعدة الفقراء "حتى لا يصبح الفقراء أعداء نشطين وخطرين على المجتمع وحتى يجعل طاقاتهم أكثر إنتاجية وليتمكن من منع إعادة إنتاجهم"135. لذلك فإن العون للفقراء من أجل المجتمع وليس من أجل الفقراء في ذاتهم. وتلعب الدولة دوراً اساسياً فيه. كما أن معاملة الفقراء أصبحت غير شخصية بشكل متزايد عندما أصبحت آليات تقديم العون أكثر بيروقراطية.
كان لزيميل رؤية نسبية للفقر، فالفقراء ليسوا هم الذين يقفون في قاع المجتمع. وهو يرى أن الفقر موجود في كل طبقات المجتمع، هذا المفهوم مهد للمفهوم السوسيولوجي المتأخر عن "الحرمان النسبي". إذا كان هناك أناس أعضاء في الطبقات العليا لديهم أقل من رصفائهم فغالبا ما يشعرون أنهمم فقراء بالمقارنة معهم، لذلك فإن البرامج الحكومية لإزالة الفقر لن تنجح أبداً حتى إذا رفع الذين هم في القاع فإن العديد من الناس في كل النسق التراتبي يظلون يحسون بالفقر مقارنة مع رصفائهم.
الأشكال الاجتماعية
مثل ما فعل مع الأنماط الاجتماعية فإن زيميل نظر في قطاع واسع من الأشكال الاجتماعية تشمل التبادل، الصراع، البغاء والمشاركة الاجتماعية. يمكننا عرض أعمال زيميل عن الأشكال الاجتماعية من خلال نقاشه عن الهيمنة- الاخضاع والخضوع.
الإخضاع والخضوع
الإخضاع والخضوع لهما علاقة تبادلية. القائد لا يود أن يحدد بالكامل أفكار وأفعال الآخرين وإنما تمثيلهم إما إيجابياً أو سلبياً. ومثل هذا الشكل من التفاعل أو غيره لا يمكن أن يوجد بدون علاقات تبادلية حتى في أكثر أنواع الهيمنة قسوة فإن للخاضعين على الأقل درجة من الحرية الشخصية.
للعديد من الناس يتضمن الإخضاع مجهوداً لإزالة استقلال المخضعين بالكامل، لكن زيميل يرى أن العلاقة الاجتماعية ستنعدم في تلك الحالة. يرى زيميل أن الفرد يمكن أن يكون خاضعا لفرد آخر، مجموعة أو قوى موضوعية. القيادة التي تتكرس في فرد واحد تؤدى إلى مجموعة متماسكة جدا إما دعما أو معارضة للقائد. حتى لو نشأت المعارضة في مثل هذه المجموعة فإن الخلاف يمكن حله بسهولة أكثر بين الأطراف التي تقف تحت سلطة عليا واحدة. الإخضاع تحت مجموعة يمكن أن يكون له أثر غير متعادل، فمن ناحية، موضوعية الحكم بواسطة المجموعة ربما تساعد على نشوء وحدة داخل المجموعة أكثر من حكم الفرد الاستبدادي. ومن ناحية فإن الكراهية غالبا ما تتولد وسط المخضعين إذا لم يجدوا الاهتمام الشخصي من القائد.
وجد زيميل أن الخضوع لمبدأ موضوعي أكثر قسوة ربما لأن العلاقات الانسانية والتفاعل الاجتماعي قد حذفا. يحس الناس أنهم ملزمون بقانون غير شخصي ليس لهم المقدرة على التأثير فيه. ويرى زيميل أن الخضوع لفرد أكثر حرية وتلقائية. "الخضوع لشخص له عنصر من الحرية والكرامة مقارنة بطاعة القوانين التي تتضمن شيئا ميكانيكياً وسلبياً"136. أسوأ من ذلك الخصوع لمواضيع، والذي وجده زيميل "نوع من الخضوع مزل، قاس واستسلامي"137. بما أن الفرد مهيمن عليه بشيء "ينحدر هو نفسه سايكولوجيا إلى مجرد شيء"138.
مرة أخرى، تناول زيميل العديد من أنواع التفاعل خلال مؤلفاته، وهذا النقاش عن الهيمنة قصدنا منه توضيح نوع العمل الذي قام به زيميل في هذا المجال.
البنيات الاجتماعية
ذكر زيميل القليل نسبياً عن بنيات المجتمع الكبرى. في الحقيقية، أحيانا، نسبة لتركيزه على أنساق التفاعل فقد أنكر وجود ذلك المستوى من الواقع الاجتماعي. مثال جيد لذلك موجود في محاولته لتعريف المجتمع عندما رفض الموقف الواقعي الذي يمثله إميل دوركايم الذى يرى أن المجتمع كينونة مادية حقيقية، فقد لاحظ لويس كوسر "زيميل لم يعتبر المجتمع كشيء أو كائن عضوي"139 لم يكن زيميل مرتاحا للمفهوم الصورى أن المجتمع ليس أكثر من مجموع الأفراد المعزولين. واتخذ موقفا وسطا يرى المجتمع حزمة من التفاعلات "المجتمع هو مجرد اسم لعدد من الأفراد يربطهم التفاعل"140.
بالرغم من أن زيميل عبر بوضوح عن موقفه التفاعلى، في الكثير من كتاباته عمل كواقعي كأنما المجتمع بنية مادية حقيقية. هناك إذن تناقص أساسي في أعمال زيميل على المستوى البنائي الاجتماعي، فقد لاحظ زيميل أن "المجتمع يتجاوز الفرد ويحيا حياته الخاصة التي تتبع قوانينه الخاصة أنه يواجه الفرد أيضا بحزم إلزامي تاريخي"141. أمسك كوسر بجوهر هذا الجانب في فكر زيميل "البنيات الكبرى فوق الفردية-الدولة، العشيرية، الأسرة المدينة أو النقابة- تحولت إلى بلورة لذلك التفاعل، حتى ولو حققت استقلالا وثباتا فهى تواجه الفرد كقوى مستلبة"142 .رودولف هيبرل أورد ملاحظة شبيهة "من الصعوبة تجاوز الانطباع أن زيميل يرى المجتمع كتفاعل من العوامل البنائية يبدو فيها البشر مواضيع سليبة وليسوا فاعلين أحياء لهم إرادة"143.
الإجابة عن هذا التناقص تقع في الفرق بين علم اجتماع زيميل الشكلي، والذي التزم فيه برؤية تفاعلية عن المجتمع وعلمى اجتماعه التاريخي والفلسفي وفيهما كان أكثر ميلاً لأن يرى المجتمع كبناء اجتماعي مستقل وقاهر. في علمي اجتماعه التاريخي والفلسفي رأى زيميل المجتمع كجزء من العملية الواسعة من تطور الثقافة الموضوعية التي أزعجته. بالرغم من أن الثقافة الموضوعية تعتبر جزءاً من المجال الثقافي، فقد أدخل زيميل نمو البنيات الاجتماعية ا لكبرى كجزء من تلك العملية. هذا و كون أن زيميل ربط نمو البنيات الاجتماعية الكبرى بانتشار الثقافة الموضوعية واضح في المقولة التالية: "الموضعة المتزايدة لثقافتنا والتي تتكون ظواهرها من العناصر غير الشخصية المتزايدة وتمتص الكلية الذاتية للفرد بشكل متناقص .. تتضمن أيضا بنيات سوسيولوجية"144. إضافة إلى توضيح العلاقة بين المجتمع والثقافة الموضوعية يقود هذا أيضا إلى موضوعنا القادم في هذا الفصل، وهو أفكار زيميل عن المستوى الثقافي من الواقع الاجتماعي.
الثقافة الموضوعية
أحد مجالات تركيز علم اجتماع زيميل التاريخي والفلسفي هو المستوى الثقافي من الواقع الاجتماعي، أو ما أطلق عليه" الثقافة الموضوعية". حسب رؤية زيميل ينتج الناس الثقافة، لكن نسبة لمقدرتهم على تشيئ الواقع الاجتماعي، فإن العالم الثقافي والعالم الاجتماعي أصبح لهما حياتهما المستقلة، حياة صارت تهيمن وباستمرار على الفاعلين الذين خلقوها ويخلقونها يوميا. " المواضيع الثقافية تصبح مرتبطة أكثر وأكثر مع بعضها البعض في عالم محتو على ذات لها احتكاك يقل باستمرار بنفسية الفرد ورغباتها ومشاعرها"145. بالرغم من أن الناس يحتفظون بالمقدرة على خلق وإعادة خلق الثقافة، فإن مجرى التاريخ الطويل للثقافة يعمل من أاجل إبداء المزيد والمزيد من القوى القاهرة للفرد. "إن تفوق الثقافة الموضوعية على الثقافة الفردية الذي تطور في القرن التاسع عشر، هذا التباين يبدو في توسع مستمر. كل يوم ومن كل الجوانب تزداد ثروة الثقافة الموضوعية لكن عقل الفرد يستطيع أن يغني شكل ومحتوى تطوره الخاص فقط من خلال الابتعاد أكثر من تلك الثقافة وتطوير ثقافته الخاصة بخطوات أبطا"146.
في العديد من المواقع حدد زيميل عدداً من مكونات الثقافة الموضوعية مثل: الأدوات، وسائل النقل، منتجات العلوم، التكنولوجيا، الفنون، اللغة، المجال الفكري، التقاليد، الأنساق الفلسفية، النظم القانونية، الأخلاق، المثل العليا- أرض الأجداد وهلمّ جرّا. كل هذه وغيرها تكون المستوى الثقافي الموضوعي في كتابات زيميل. الثقافة الموضوعية تنمو وتتوسع بطرق مختلفة. أولا، حجمها المطلق ينمو مع زيادة التحديث، هذا يمكن رؤيته بوضوح في مجال المعرفة العلمية التي تتوسع باستمرار بالرغم من أن ذلك ينطبق على معظم الجوانب الأخرى في المجال الثقافي. ثانيا، عدد المكونات المختلفة للمجال الثقافي ينمو أيضا. أخيرا وربما الأكثر أهمية، أن عناصر العالم الثقافي المختلفة معزولة في عالم قوي هو باستمرار خارج سيطرة الفاعلين. ولم يكن زيميل مهتما فقط بوصف نمو الثقافة الموضوعية لكنه كان منزعجا منها أيضا. "لقد تعجب زيميل- إن لم يكن قد اكتأب- بالعددية والنوعية المربكة للمنتجات الإنسانية التي تحيط بالفرد في العالم المعاصر وتصطدم به باستمرار"147.
ما أزعج زيميل أكثر التهديد لثقافة الفرد من قبل نمو الثقافة الموضوعية. تعاطف زيميل الشخصى كان مع عالم تسوده الثقافة الفردية، لكنه رأى أن مثل هذا العالم غير ممكن. (سوف نعلق على هذا بالتفصيل عند مناقشتنا( لفلسفة النقد). تحليل زيميل المحدد عن نمو الثقافة الموضوعية على حساب الثقافة الفردية هو ببساطة مثال واحد لمبدأ عام هيمن على كل حياته" القيمة الكلية للشىء تتزايد بنفس مقدار تناقص قيمة أجزائه الفردية"148.
يمكننا ربط حجة زيميل العامة عن الثقافة الموضوعية بتحليله الأساسي عن أشكال التفاعل. في واحدة من أشهر مقالاته "المدن الكبرى والحياة العقلية" حيث حلل زيميل أشكال التفاعل التي تحدث في المدن الحديثة معتبراً المدن الحديثة "الساحة الأصلية" لنمو الثقافة الموضوعية وتدني الثقافة الفردية. إنها فورة سيطرة الاقتصاد النقدي والمالي التي كان لها الأثر الأكبر على طبيعة العلاقات الإنسانية. الاستخدام الواسع للنقد قاد للتركيز على القابلية المحاسبية والعقلنة في كل مجالات الحياة، و لذلك تدنت العلاقة الإنسانية الأصلية وصارت العلاقات الاجتماعية تتميز باللامبالاة والسلوك المتحفظ. في حين أن المدن الصغيرة تتميز بمشاعر وعاطفية أكثر، فالمدن الحديثة تتميز بذهنية سطحية تناسب القابلية الحسابية الضرورية للاقتصاد النقدي. والمدينة هي أيضا مركز تقسيم العمل وكما رأينا يلعب التخصص دوراً أساسياً في إانتاج الثقافة الموضوعية المتوسعة دائما، مع التدهور في الثقافة الفردية المصاحب. المدينة "أداة مساواة مخيفة" فيها يختزل الجميع إلى التركيز على القابلية الحسابية غير المحسوسة. ويصبح من الصعوبة استمرار المحافظة على الفردية في مقابل توسع الثقافة العضوية.
واحدة من تجاهلات تأثير زيميل على تطور علم الاجتماع أن كتاباته ذات المنظور التحليلي الأصغر تستعمل، ولكن انعكاساتها العريضة عادة ما يتم تجاهلها. خذ مثلا كتابات زيميل عن تبادل العلاقات، فقد اعتبر أن التبادل "أنقى وأكثر أنواع التفاعل تطورا"149. و بالرغم من أن كل أنواع التفاعل تتضمن تضحية فهي تحدث بوضوح أكثر في تبادل العلاقات. ويرى زيميل أن كل أنواع التبادل الاجتماعي تتضمن "ربحاً وخسارة". مثل هذا التوجه كان جوهرياً في علم اجتماع زيميل ذى المنظور الأصغر وتحديداً لتطور نظريته عن التبادل. لكن تبقى الحقيقة أن أفكاره عن التبادل عبر عنها في كتاباته العريضة عن النقد. ويرى زيميل أن النقد هو أنقى أشكال التبادل. فهو على النقيض من الاقتصاد التبادلي عندما تنتهي الدائرة بتبادل شيء بآخر، فإن الاقتصاد المبنى على النقد يسمح بسلاسل من التبادل لانهائية. هذه الامكانية جوهرية بالنسبة لزيميل لأنها تشكل الأساس للانتشار الواسع لتطور البنيات الاجتماعية والثقافة الموضوعية، نتيجة لذلك فإن النقد كشكل للتبادل يمثل لدى زيميل واحداً من الأسباب الأساسية لاستلاب البشر المعاصرين في بنيات اجتماعية متشئية.
في تناوله للمدينة والتبادل يمكن رؤية أناقة أسلوب زيميل عندما ربط الأشكال السوسيولوجية الصغرى للتبادل مع تطور المجتمع الحديث في كلياته. في حين أن هذا الربط يمكن وجوده في مقالاته المحددة، فهو أكثر وضوحا في (فلسفة النقد).
فلسفة النقد
(فلسفة النقد) يوضح جيداً شمول وتعقيد تفكير زيميل، حيث إنه يؤكد بوضوح أن زيميل يستحق تقديراً على نظريته العامة مثل ذلك التقدير الذي لقيه عن مقالاته في علم الاجتماع ذى المنظور الأصغر والتي تمثل تعبيراً عن نظرته العامة.
بالرغم من أن العنوان يوضح أن زيميل يركز على النقد، فإن اهتماماته بتلك الظاهرة متضمنة في حزمة من اهتماماته النظرية والفلسفية العريضة. مثلا فقد رأينا أن زيميل مهتم بالقيم كموضوع عريض، والنقد يمكن اعتباره شكلاً محدداً من القيمة. في مستوى آخر فإن زيميل لم يكن مهتما بالنقد في حد ذاته وإنما بأثره على قطاع عريض من الظواهر الاجتماعية كعالم داخلي للفاعلين والثقافة الموضوعية ككل. وفي مستوى آخر أيضا، اعتبر النقد ظاهرة محددة مرتبطة مع العديد من مكونات الحياة مثل "التبادل، الملكية، الجشع، الإسراف، الاستخفاف، الحرية الفردية، نمط الحياة، الثقافة، قيمة الشخصية وما إلى ذلك"150.
أخيرا وبشكل عام، اعتبر زيميل أن النقد مكون محدد للحياة له المقدرة على مساعدتنا لفهم الحياة بأسرها.( فلسفة النقد) يشترك في الكثير مع مؤلفات ماركس، فهو مثل ماركس ركز على الرأسمالية والمشاكل التي خلقها الاقتصاد النقدي. و بالرغم من ذلك فإن الاختلافات بينهم كبيرة جداً. فقد رأى زيميل مثلا أن المشاكل الاقتصادية في زمنه انعكاس محدد لمشاكل ثقافية أكثر عمومية، استلاب الثقافة الذاتية بواسطة الثقافة العضوية. بالنسبة لماركس هذه المشاكل خاصة بالرأسمالية لكن زيميل يرى أنها جزء من مأساة عامة- تزيد من عجز الفرد على مواجهة نمو الثقافة العضوية، في حين أن تحليل ماركس محدد تاريخياً، نجد أن تحليل زيميل يسعى لاستخلاص الحقيقة السرمدية من التغير المستمر للتاريخ البشري، هذا الاختلاف في التحليل يرتبط باختلاف جوهري سياسي بين زيميل وماركس. بما أن ماركس يرى أن المشاكل الاقتصادية مرتبطة بوقت محدد، نتاج المجتمع الرأسمالي فقد كان يعتقد في إمكانية حلها في المستقبل، و يرى زيميل أن المشاكل الأساسية جزء أصيل من الحياة الانسانية ولم يرأى أمل فى الاصلاح في المستقبل. في الحقيقة يرى زيميل أن الاشتراكية بدلاً عن تحسين الوضع فإنها ستعمق نوع المشاكل التي ناقشها في (فلسفة النقد). وعلى الرغم من التشابه الملموس مع نظرية ماركس فإن، أفكار زيميل أقرب كثيرا لأفكار فيبر و "قفصه الحديدي" فيما يخص تصوره عن العالم الحديث والمستقبل.
(فلسفة النقد) يبدأ بنقاش عن الأشكال العامة للنقد والقيمة. لاحقاً يتحول النقاش إلى أثر المال على "العالم الداخلي" للفاعلين وعلى الثقافة عامة. هذا ولأن الحجة معقدة جداً فإننا سنلقي الضوء هنا على مكوناتها البارزة.
واحد من اهتمامات زيميل في ذلك العمل هو العلاقة بين النقد و القيمة. وبشكل عام ذكر أن الناس ينتجون القيمة بصنعهم للأشياء، فصلها بعيداً عنهم ثم محاولتهم تجاوز "المسافة، المعوقات، والصعوبات"151. كلما عظمت صعوبة الحصول على شيء كلما عظمت قيمته، لكن صعوبة الحصول لها "حد أدنى وآخر أعلا"152. المبدأ العام هو أن قيمة الأشياء تأتي من مقدرة الناس على إبعاد أنفسهم عن الأشياء بطريقة صحيحة. الأشياء القريبة جداً، وسهلة المنال ليست قيمة جداً. بعض المجهود ضروري لاعتبار شيء ما له قيمته. وعلى العكس، الأشياء البعيدة جداً، صعبة المنال أو مستحيلة ليست قيمة جداً أيضا. الأشياء التي تتحدى معظم أو كل جهدنا للحصول عليها لا تكون قيمة بالنسبة لنا أما الأشياء الأكثر قيمة فهى ليست بعيدة ولا هي قريبة. ضمن العوامل الداخلية في المسافة بين الشيء والفاعل الوقت الضروري للحصول عليه، ندرته، الصعوبة المتضمنة في الحصول عليه والحاجة للتخلص من أشيا ءأخرى من أجل اقتنائه. يحاول الناس وضع أنفسهم في مسافة صحيحة من الأشياء التي يجب الحصول عليها لكن ذلك ليس أمراً سهلاً.
في هذا الإطار العام للقيمة ناقش زيميل المال. وفي المجال الاقتصادي يعمل المال على خلق المسافة من الأشياء ويوفر الوسائل لتجاوزها. القيمة النقدية المتعلقة بالأشياء في الاقتصاد الحديث تضعها على مسافة منا، لا يمكننا الحصول عليها بدون مالنا الخاص. الصعوبة في الحصول على المال و بناءً عليه الأشياء، تجعلها قيمة بالنسبة لنا. في نفس الوقت، عندما نحصل على المال الكافي يكون بإمكاننا تجاوز المسافة بيننا وبين الأشياء، ويؤدي المال إذن وظيفة مثيرة للاهتمام بخلقه للمسافة بين الناس والأشياء وتوفير الوسائل لتجاوز تلك المسافة.
في عملية خلق القيمة، وفّر النقد الأساس لتطور السوق، الاقتصاد الحديث، وفي النهاية المجتمع الرأسمالي. وفّر النقد الوسائل التي عن طريقها اكتسبت هذه الكينونات حياتها الخاصة المستقلة عن الفاعل والقاهرة له. هذا يقف في تعارض مع المجتمعات السابقة والتى لم يؤد فيها التبادل والتجارة إلى تشيؤ العالم، ذلك الإنتاج المميز للاقتصاد النقدى. جعل النقد هذه التطورات ممكنة بطرق مختلفة فمثلا يرى زيميل أن النقد سمح "بحسابات طويلة المدى، منشئآت ضخمة وقروض طويلة الأجل"153. مؤخراً أضاف زيميل أن النقد "طور أكثر الممارسات موضوعية، أكثر المعايير منطقية وحسابية والحرية المطلقة من كل ما هو شخصى"154. اعتبر أن عملية التشيؤ هذه جزء من العملية العامة التي جسد فيها العقل نفسه ورمز لها في أشياء. في عملية التجسيد هذه البنيات الرمزية التي تشيئت أصبحت تمارس قوى مسيطرة على الفاعلين.
لم يساعد النقد فقط في خلق عالم اجتماعي متشيئ وإنما ساهم في العقلنة المتزايدة لذلك العالم الاجتماعي. هذا أحد الاهتمامات التي يشترك فيها زيميل مع فيبر. كرس الاقتصاد النقدي التركيز على العوامل الكمية وليس الكيفية. يقول زيميل: "واحد من اتجاهات الحياة الأساسية- تخفيض النوعية مقابل الكمية- حقق أعلا وأكثر تمثلاته تفرداً في النقد، هنا أيضا يكون النقد ذروة سلسلة ثقافية تاريخية من التطورات التي تحدد بدون أي غموض توجهاته"155.
من البديهى أن النقد ساهم فى العقلنة بزيادة أهمية النشاط الفكري في العالم الحديث. من ناحية فإن تطور الاقتصاد النقدي يفترض مسبقاً توسعاً مهماً في العمليات العقلية. مثال لذلك أشار زيميل إلى العمليات العقلية المعقدة الضرورية للتعامل النقدي مثل تغطية الأوراق المصرفية بالاحتياطات النقدية. من ناحية أخرى فإن الاقتصاد النقدي يساهم في التغير الكبير في معايير وقيم المجتمع. وهو يساعد في "إعادة التوجه الأساسي للثقافة نحو النشاط الفكري"156. جزئيا وبسبب الاقتصاد النقدي فإن القوى العقلية أصبحت تعتبر قيمة في طاقاتنا العقلية.
يرى زيميل أن أهمية الفرد تتضاءل عندما أصبحت التعاملات النقدية جزءاً مهما من المجتمع وعندما تتوسع البنيات المتشيئة. هذا جزء من رؤيته العامة عن تدني الثقافة الفردية الذاتية في مقابل توسع الثقافة الموضوعية.
أحيانا يبدو من الصعوبة رؤية كيف أمكن للنقد أخذ هذا الدور الأساسي في المجتمع. سطحيا يظهر النقد كوسيلة من أجل غايات متعددة، أو كما وصفه زيميل "أنقى أشكال الأدوات"، لكن النقد أصبح أحد النماذج المتطرفة لوسيلة أصبحت غاية في نفسها.
المجتمع الذي يصبح فيه المال غاية في ذاته، الغاية المطلقة والنهائية له عدد من التأثيرات السلبية على الأفراد. اثنان من أكثر تلك الآثار إثارة للاهتمام هما الاستخفاف واللامبالاة، حيث يفرض الاستخفاف عندما تكون أعلا وأدنى جوانب الحياة الاجتماعية معروضة للبيع، عندما تختزل إلى قاسم مشترك- المال- لذلك يمكننا "شراء" الجمال أو الحقيقة او الذكاء بنفس السهولة التي نشتري بها الكورنفلكس أو مزيل العرق. هذا التخفيض لكل شيء إلى قاسم مشترك يقود إلى السلوك الاستخفافي. إن لكل شئ ثمنه وكل شيء يمكن بيعه وشراءه في السوق. الاقتصاد النقدي فرض سلوكا لامبال "كل شيء أصبح مملا ورماديا ولا يستحق الاندهاش"157. الشخص اللامبالي يفقد المقدرة تماما على تمييز القيمة بين الأشياء القابلة للشراء. بمعنى آخر، المال هو العدو المطلق للمبادئ الجمالية، يختزل كل شيء إلى اللامضمون، إلى ظاهرة كمية خالصة.
أثر سلبى آخر للاقتصاد النقدي هو تزايد العلاقات غير الشخصية بين الناس، فبدلا عن التعامل مع أفراد بشخصياتهم فإننا نتعامل باستمرار مع مواقف فقط، البقال، الخباز، وما إلى ذلك، بغض النظر عن من يحتل ذلك الموقع. فى تقسيم العمل الحديث الذى يميز الاقتصاد النقدي نجد موقفاً متناقضاً فى أن اعتمادنا على الآخرين من أجل البقاء يتزايد لكننا نعرف القليل جداً عن هؤلاء الآخرين الذي يحتلون تلك المواقع. الشخص المحدد الذي يشغل موقعاً معيناً أصبح غير مهم باستمرار. الشخصيات صارت تختفي خلف المواقع التي تحتاج إلى جزء صغير منها. وبما أنها تتطلب منهم القليل فإن العديد من الأفراد يمكنهم شغل نفس المواقع بشكل جيد. وهكذا أصبح البشر أجزاء قابلة للتبديل.
على علاقة بذلك، أثر الاقتصاد النقدي على حرية الفرد. مما هو متناقض فإن الاقتصاد النقدي يقود إلى الزيادة في حرية الفرد والزيادة في استبعاده. ومن ناحية فإن الأفراد أحرار من قيود مجموعاتهم الاجتماعية في الاقتصاد التبادلي مثلا، يقيد الأفراد بشدة بواسطة مجموعاتهم الاجتماعية لكن في العالم الحديث حلت تلك القيود وأصبح الأفراد أحراراً تجاه إنجاز صفقاتهم. ومن العادة أن يجتمع الناس من أجل مفاوضات وترتيبات محددة ثم يذهب كل إلى سبيله. الجانب الايجابي لهذا أن الأفراد قد تحرروا من استبداد المجموعة، والجانب السلبي أن الفرد في العالم الحديث أصبح معزولا ولم يعد جزءا ضمن مجموعة، حيث يقف الفرد وحيداً في مواجهة ثقافة موضوعية متمردة ومتزايدة القهر باستمرار، لذلك فإن الفرد في العالم الحديث تحرر من سيطرة المجموعة فقط ليستبعد بالثقافة الموضوعية الكثيفة.
أثر آخر للاقتصاد النقدي هو اختزال كل القيم الانسانية الى لغة دولار "النزوع إلى اختزال قيمة الانسان إلى تعبيرات مالية"158. مثال لذلك التعويض عن القتل بالمال في المجتمع البدائي، أو مبادلة الجنس بالمال. توسع البغاء يمكن إرجاعه جزئيا إلى نمو الاقتصاد النقدي.
بعض آراء زيميل الأكثر إثارة موجودة في أفكاره عن أثر النقد على نمط الحياة. فالمجتمع الذي يهيمن عليه الاقتصاد النقدي مثلا، يميل إلى اختزال كل شيء إلى خيط من الارتباطات السببية يمكن فهمها عقليا وليس عاطفيا. على ارتباط بذلك ما أطلق عليه زيميل "الخاصية الحسابية" للحياة في العالم الحديث. النوع المحدد من التفكير الذي يناسب الاقتصاد النقدي هو التفكير الرياضي "الحسابي" وهذا بدوره يرتبط بالنزوع نحو التركيز على العوامل الكمية دون النوعية في العالم الاجتماعي. خلص زيميل إلى أن "حياة العديد من الناس امتصت بذلك التقييم، الوزن والحساب والاختزال للقيم النوعية إلى أخرى كمية"159.
المدخل إلى نقاش زيميل عن أثر النقد على نمط الحياة هو نمو الثقافة الموضوعية على حساب الثقافة الفردية والفجوة بين الاثنين التى تتزايد بوتائر متسارعة.
سبب هذا التباين المتزايد هو زيادة تقسم العمل في المجتمع الحديث. التخصص المتزايد يقود إلى تحسين المقدرة على خلق المكونات المختلفة للعالم الثقافي، لكن في نفس الوقت فإن الشخص عالى التخصص يفقد الاحساس بالثقافة الكلية ويفقد المقدرة علىالسيطرة عليها. وكلما نمت الثقافة الموضوعية كلما ضمرت الثقافة الفردية. أحد الأمثلة التي أعطاها زيميل في (فلسفة النقد) أن اللغة في كليتها قد توسعت جداً لكن المقدرات اللغوية للأفراد تبدو في تدن. كذلك مع نمو التكنولوجيا والميكنة فإن مقدرات العامل الفرد ومهاراته الضرورية تدنت بشكل كبير. أخيرا بالرغم من أن هناك توسع كبير في المجال الفكري، يتناقص باستمرار عدد الأفراد الذين يستحقون صفة مفكر. الأفراد مرتفعوالتخصص مواجهون بعالم مغلق ومتصل باستمرار من المنتجات التي لهم عليها سيطرة قليلة أو تنعدم سيطرتهم عليها تماما. العالم الممكنن المجرد من كل روح أصبح يسيطر على الأفراد وأنماط حياتهم تأثرت به بطرق مختلفة . الإنتاج كفعل أصبح تمريناً بلا معنى لا يرى فيه الأفراد أدوارهم في العملية الإنتاجية الكلية أو في المنتج النهائي. العلاقات بين الأفراد أصبحت متخصصة جداً ولا شخصية. الاستهلاك صار أكثر قليلا من افتراس منتجات بلا معنى الواحد بعد الآخر.
التوسع الكثيف للثقافة الموضوعية كان له أثر كبير على ايقاع الحياة. وبشكل عام، عدم التعادل الذي ميز الحقب السابقة تمت تسويته واستبدل في المجتمع الحديث بنسق حياة أكثر تماسكاً وانسجاماً. نماذج لذلك:
في الماضي كان استهلاك الغذاء دائري ودائما غير مضمون، وأنواع الأغذية التي تستهلك ووقت توفرها كانا يعتمدان على الحصاد. اليوم وبالوسائل المحسنة في الحفظ والنقل يمكننا استهلاك أي غذاء في أي وقت، إضافة إلى ذلك، المقدرة على حفظ وتخزين كميات ضخمة من الغذاء ساعدت على القضاء على الاضطرابات التي يسببها الحصاد السيئ، الكوارث الطبيعية وما إلى ذلك.
في الاتصالات، عربة البريد غير المنتظمة والتي لا يمكن التنبؤ بوقت مجيئها استبدلت بالتلغراف، التلفون، خدمات البريد اليومي جعلت الاتصال متاحا طول الوقت.
في الماضي النهار والليل اعطيا الحياة إيقاعاً طبيعياً. اليوم مع الاضاءة الصناعية تغير الإيقاع الطبيعي بشكل كبير، والعديد من النشاطات التي كانت سابقاً قاصرة على ساعات النهار يمكن ممارستها ليلا أيضا.
التنشيط الفكري الذي كان في الماضي حكراً على مناقشة عرضية أو كتاب نادر أصبح متوفراً اليوم في كل الأوقات بسبب توفر الكتب والمجلات. في هذا المجال، كما في كل المجالات السابقة نما الموقف بصورة متزايدة منذ عصر زيميل. مع الراديو، التلفزيون، اجهزة الفيديو، الكومبيوتر، الانترنت، وفرة وامكانية التنشيط الفكري نمتا أكثر كثيراً جداً من ما تصوره زيميل.
بالتأكيد هناك عناصر ايجابية في كل هذا، وعدم التقيد بالإيقاع الطبيعي للحياة سمح بالمزيد من حرية الفرد. بالرغم من المكاسب الإنسانية، نشأت المشاكل بسبب أن كل هذه التطورات كانت على مستوى الثقافة الموضوعية وجزءاً أساسياً من العملية التي عن طريقها نمت الثقافة وزادت من إفقار الثقافة الفردية.
في النهاية أصبح النقد رمزاً وعاملا مهما في تطور نمط الوجود النسبى. سمح لنا النقد باختزال أكثر الظواهر تباينا إلى عدد من الدولارات مما جعل مقارنتها مع بعضها البعض ممكنة. بمعنى آخر، لقد مكننا النقد من جعل كل شيء نسبياً. طريقة حياتنا النسبية تقف في تعارض مع الطرق السابقة في الحياة التي كان يعتقد فيها الناس في عدد من الحقائق الازلية. الاقتصاد النقدي حطم تلك الحقائق الأزلية. المكاسب التي حققها الناس في زيادة حريتهم من الأفكار المطلقة لا يمكن مقارنتها بالخسائر. الاستلاب المصاحب لتوسع الثقافة الموضوعية في الاقتصاد النقدي الحديث يشكل خطراً كبيراً جداً كما يرى زيميل مقارنة بشرور الأفكار المطلقة. وربما لا يود لنا زيميل العودة إلى الماضي البسيط لكنه يحذرنا بالتأكيد من الأخطار المغرية المصاحبة لنمو الاقتصاد النقدي والثقافة الموضوعية في العالم الحديث.
لقد ركز معظم انتباهنا على الآثار السلبية للاقتصاد النقدي الحديث، لكن هذا الاقتصاد له جوانب تحررية أيضا، منها أولا: سمح لنا بالتعامل مع أناس عديدين جداً في سوق متوسع باستمرار. ثانيا: التزامنا تجاه بعضنا الآخر اصبح محدوداً جداً يتعلق فقط ببعض الخدمات والمنتجات وليس التزاماً شاملاً كما كان في الأزمنة السابقة. ثالثا: سمح الاقتصاد النقدي للبشر بتحقيق درجة من الاشباع لم تكن متوفرة في الأنظمة الاقتصادية السابقة. رابعاً: أصبح للناس حرية أكبر في تلك البيئة لتطوير فرديتهم إلى مداها الأكبر. خامسا: اصبح الناس في وضع أفضل للمحافظة على مركزهم الذاتي وحياتهم بما أنهم يدخلون في علاقات محددة جداً. سادسا: الفصل بين العامل وأدوات الإنتاج أعطى بعض الحرية للفرد مقابل القوى المنتجة. أخيرا فإن النقد مكن الناس من التحرر المتزايد من قيود المجموعة الاجتماعية. لكن في حين أن زيميل كان حريصاً على إبراز عدد من الآثار التحريرية للاقتصاد النقدي والحداثة بشكل عام، فإننا نعتقد أن جوهر عمله يقع في مناقشته للمشاكل المصاحبة للحداثة خاصة "مأساة الثقافة".
السرية: دراسة حالة في علم اجتماع زيميل
في هذه الفقرة الأخيرة نتحول إلى أحد اسهامات زيميل المميزة، كتاباته عن شكل محدد من التفاعل - السرية. تعرّف السرية بأنها الوضع الذي يتعمد فيه أحد الأشخاص إخفاء شيء ما بينما يحاول الشخص الأخر كشف ذلك الشيء المخفى. في هذا النقاش هدفنا ليس فقط إبراز العديد من أفكار زيميل عن السرية وإنما العديد من أفكاره الأخرى التي تناولناها في هذا الفصل.
بدأ زيميل بالحقيقة الأساسية أنه يجب أن يعرف الناس بعض الأشياء عن الآخرين من أجل التفاعل معهم. مثلا، يجب أن نعرف مع من نتعامل (صديق، قريب، بقال). ربما يمكننا معرفة الكثير عن الآخرين لكنه لا يمكننا أبداً معرفتهم بشكل مطلق. بمعنى أننا لن نستطيع معرفة كل أفكار وأمزجة الناس الآخرين. لكننا نشكل مفهوماً موحداً عن الناس الآخرين عن طريق المعلومات الصغيرة التي نعرفها عنهم. إننا نكون صورة عقلية منسجمة عن الناس الذين نتفاعل معهم. يرى زيميل أن هناك علاقة جدلية بين التفاعل والصورة العقلية التي نكونها عن الآخرين "علاقاتنا إذن تتطور على أساس من المعرفة المتبادلة وهذه المعرفة تتطور على أساس العلاقات الفعلية، وكلاهما متداخل بشكل لا يمكن فصله"160 في كل جوانب حياتنا، إننا لا نحتاج فقط إلى الحقيقة وإنما إلى الجهل والخطأ ايضا، لكن في التفاعل مع الناس الآخرين يكتسب كل من الجهل والخطأ خاصيتهما المميزة. هذا يتعلق بالحياة الداخلية للأفراد الذين نتفاعل معهم. الناس بخلاف موضوعات المعرفة الأخرى، لديهم المقدرة على كشف الحقائق عن أنفسهم بقصد الكذب وإخفاء تلك المعلومات.
في الحقيقة إذا كان الناس على استعداد لكشف كل شيء (وغالبا ما لا يفعلون ذلك) فإنهم لا يستطيعون عمل ذلك لأن معلومات بذلك الحجم "ستدفع بالكل إلى مستشفى الأمراض العقلية"161. لذلك يجب على الناس أن يختاروا الأشياء التي يفصحون عنها للآخرين. ومن وجهة نظر زيميل واهتمامه بالقضايا الكمية فإننا نفصح عن "قطع صغيرة من حياتنا الداخلية". إضافة إلى ذلك فإننا نختار القطع التي نفصح عنها و تلك التي نبقيها سرية. لذلك ففي كل تفاعلنا نفصح عن أجزاء من أنفسنا، والجزء الذي نفصح عنه يعتمد على كيفية اختيار القطع المفصح عنها وكيفية تنظيمها.
هذا يقودنا إلى الكذب، شكل من التفاعل يتعمد فيه الكاذب إخفاء الحقيقة من الآخرين. في الكذب ليس فقط الآخرون هم الذين تركوا في مفهوم مغلوط وإنما يمكن متابعة الخطأ في حقيقة أن الكاذب قصد غش الآخرين.
ناقش زيميل الكذب على ضوء الهندسة الاجتماعية، تحديدا أفكاره عن المسافة. مثلا يرى زيميل أننا يمكن أن نقبل ونفهم كذب الذين هم بعيدون عنا. لذلك لن تكون لدينا صعوبة كبيرة في معرفة أن الساسة عادة ما يكذبون لكن على النقيض من ذلك "إذا كذب شخص قريب منا تصبح الحياة غير محتملة"162. إن كذب الزوج، الزوجة، الأبناء له علينا تأثير مدمر أكثر من تأثير كذب موظفي الحكومة الذين نراهم على شاشات التلفزيون. بشكل عام، فيما يتعلق بالمسافة، كل الاتصال اليومي يتضمن عناصر معروفة للطرفين وحقائق معروفة لواحد فقط أو للآخر. الحقائق غير المعروفة لكلا الطرفين هي التي تقود إلى "المسافة" في العلاقات الاجتماعية. إن زيميل يرى أن العلاقات الاجتماعية تحتاج إلى النوعين من العناصر تلك المعروفة للمتفاعلين وتلك غير المعروفة لأحد الطرفين. بمعنى آخر، حتى أكثر العلاقات حميمية تتطلب القرب والبعد، المعرفة المتبادلة والإخفاء، ولذلك فإن السرية جزء أساسي في كل العلاقات الاجتماعية، بالرغم من أن علاقة قد تنتهي إذا أصبح السر معروفاً للشخص الذي أخفى منه.
السرية ترتبط بحجم المجتمع، ففي المجموعات الصغيرة يكون من الصعوبة تطوير أسرار "كل فرد قريب جداً من الفرد الآخر" وأوضاعه وتكرار وحميمية الاتصال تتضمن الكثير من النزوع نحو الإفصاح"163. إضافة إلى ذلك، ففي المجموعات الصغيرة ليست هناك أسرار لأن الجميع متشابهون جداً. في المجموعات الكبرى، على العكس من الصغرى تتطور الأسرار بسهولة وتكون الحاجة إليها أكثر لأن هناك اختلافات هامة بين الناس.
حول موضوع الحجم، في أكثر المستويات أهمية، يجب ان نلاحظ أن السرية ليست فقط شكلاً للتفاعل (وهو كما رأينا يؤثر في أشكال اخرى كثيرة) لكن ربما تميز مجموعة بأسرها. خلافا للسر الذي يحتفظ به فرد واحد، إن السر في "الجمعية السرية" مشترك بين كل الأعضاء ويحدد العلاقات التبادلية بينهم، مثل وضع الفرد، فإن السر في الجمعيات السرية لا يمكن إخفاءه إلى الأبد. في مثل تلك الجمعية هناك دائما التوتر الثابت بسبب احتمال كشف السر ومعه يمكن زوال كل الاسس التي قامت عليها تلك الجمعية.
درس زيميل العديد من أشكال العلاقات الاجتماعية من وجهة نظر المعرفة المتبادلة والسرية. مثلا، جمعينا داخل في قطاع من مجموعات المصالح التي نتفاعل فيها مع أناس آخرين في مستويات محدودة جداً، والشخصيات الكلية لأولئك الأفراد لا تهمنا كثيراًُ في تعاملنا المحدد. لذلك يهتم الطلاب في الجامعة بما يقوله الأستاذ وما يقوم به في قاعة المحاضرات ولا يهتمون بكل جوانب حياته وشخصيته. في ارتباط مع أفكاره عن المجتمع الكبير، يرى زيميل أن موضعة الثقافة تحمل معها مجموعات مصالح محدودة باستمرار وكذلك نوع العلاقات المصاحب لها. مثل تلك العلاقات تتطلب القليل جداً من الكلية الذاتية للفرد (الثقافة الفردية) مقارنة بالتفاعل في المجمعات قبل الحديثة.
في العلاقات غير الشخصية المميزة للمجتمع المموضع الحديث، الثقة كشكل للتفاعل تصبح ذات أهمية متزايدة . يرى زيميل "أن الثقة مرحلة متوسطة بين معرفة الشخص والجهل به"164. في المجتمعات قبل الحديثة غالباً ما يعرف الناس الكثير جداً عن من يتعاملون معهم، لكن في العالم الحديث لا نعرف ولا يمكننا أن نعرف الكثير عن معظم الناس الذين نتعامل معهم، لذلك فإن الطلاب لا يعرفون الكثير عن أساتذتهم (والعكس كذلك) لكن يجب أن يكون عندهم الثقة فى أن أساتذتهم يأتون في المواعيد المحددة ويتحدثون عن القضايا التي يجب مناقشتها.
شكل آخر من العلاقات الاجتماعية هو المعرفة، نحن نعرف معارفنا ولكننا لا نعرفهم معرفة شاملة "يعرف الواحد عن الآخر ما هو بارز، إما من خلال التمثيل الاجتماعي النقي، أو عن طريق ما اطلعنا عليه هو"165، لذلك فإن هناك الكثير من السرية بين المعارف مقارنة بتلك التي بين الذين تربطهم علاقات حميمة.
ضمن المعرفة ناقش زيميل شكلاً آخر من العلاقة وهو الحذر. فنحن نكون حذرين مع معارفنا "نقف بعيدا عن معرفة كل ما لم يرد الآخر كشفه لنا فإن الحذر لا يتعلق بأي شيء محدد غير مسموح لنا بمعرفته وإنما تحوط عام فيما يتعلق بالشخصية الكلية"166. بالرغم من أننا نكون حذرين، لكننا عادة نعرف عن الآخرين أكثر مما يكشفونه لنا طواعية. أكثر تحديدا، عادة ما نعرف أشياء لا يود الآخرون أن نطلع عليها. هنا قدم زيميل نموذجا فرويدياً عن كيف نعرف تلك الأشياء "للشخص الذي يتميز بأذن سايكولوجية جيدة يخون الناس، وفي مرات لا يمكن إحصاؤها أكثر أفكارهم وخواصهم سرية. ليس فقط بالرغم وإنما بسبب قلقهم على محاولتهم إخفاءها"167. يرى زيميل أن التفاعل الأنساني يعتمد على الحذر وعلى حقيقة أننا دائما نعرف أكثر من ما يجب معرفته.
عندما انتقل إلى شكل آخر من العلاقات، الصداقة فقد ناقض زيميل الافتراض الذي يقول إن الصداقة مبنية على الحميمية الكلية والمعرفة المتبادلة الكاملة. نقص الحميمية الكلية يصدق بشكل خاص على الصداقات في المجتمع التراتبي الحديث. "فالانسان المعاصر لديه الكثير جداً ليخفيه ليحافظ على الصداقة بالمعنى القديم"168. لذلك لدينا سلسلة من الصداقات المتباينة تبنى على أشياء مثل الاهتمام الفكري المشترك، الدين والتجارب المشتركة. هناك نوع محدود من الحميمية في مثل هذه الصداقات وقدر جيد من السرية. لكن على الرغم من أوجه القصور هذه فإن الصداقة ما زالت تتضمن شيئاً من الحميمية.
ثم هناك ما يعتقد أنه أكثر العلاقات حميمية وأقلها سرية- الزواج. يرى زيميل أن في علاقة الزواج نزوعاً نحو كشف كل شيء للشريك وأن لا تكون هنالك أسرار. لكنه حسب وجهة نظره أن ذلك خطأ لأن كل العلاقات الاجتماعية تتطلب "نسبة معينة من الحقيقة والخطأ"169. ولذلك يكون من المستحيل إبعاد كل الأخطاء من علاقة اجتماعية. أكثر تحديدا الكشف الكامل عن الذات (إذا افترضنا إمكانية حدوث ذلك) يجعل الزواج أمراً حقيقياً ويستبعد كل احتمالات غير متوقعة. أخيرا، إن لمعظمنا موارد داخلية محدودة وكشف كل شيء يقلل من مخزون الأسرار التي نعطيها للآخرين. القلة فقط لديها مخازن منجزات شخصية ضخمة وهم الذين يستطيعون كشف الكثير لشريك الزواج. يصبح الآخرون كلهم مكشوفين عن طريق الكشف الزائد عن الذات.
بعد ذلك انتقل زيميل إلى تحليل الوظائف والنتائج الإيجابية للسرية. فاعتبر أن السرية "إحدى إنجازات الأنسان العظيمة، حيث تنتج الأسرار سعة غير محدودة للحياة. والمحتويات الضخمة للحياة لا يمكن أن تبرز في ظل الكشف الكامل. السر يوفر إمكانية عالم ثان مواز للعالم المعلن عنه". بتحديد أكثر فيما يخص وظائفه فإن السر خاصة إذا كان مشتركا بين عدد من الناس يقوى من إحساس النحن"170 وسط الذين يعرفون ذلك السر. المكانة العليا أيضا تصاحبها الأسرار. وهنالك شيء غامض حول المواقع القيادية والإنجازات المتفوقة.
يتشكل التفاعل الإنساني عموما بالسرية ونقيضها المنطقي - الكشف أو الافصاح- الكشف يمكن أن يأتي من مصدرين: مصدر خارجى ربما يكتشف شخص آخر سرنا، و آخر داخلى فإن هناك دائما الامكانية أن نكشف سرنا للآخرين". يضع السر حواجز بين البشر، وفي نفس الوقت يخلق التحدي لاقتحامه عن طريق النميمة أو الاعتراف.. ومن بين التبادل بين هذين الاهتمامين في الإخفاء والكشف يظهر الفرق الطفيف واقدار التفاعل الأنساني الذي يتخلله في كليته"171.
ربط زيميل أفكاره عن الكذب برؤيته عن المجتمع الكبير في العالم الحديث. وهو يرى أن العالم الحديث يعتمد على الصدق أكثر من المجتمعات السابقة. من ناحية فالاقتصاد الحديث هو اقتصاد تسليف والتسليف يعتمد على حقيقة أن الناس سيدفعون ما وعدوا به. من ناحية أخرى في العلوم الحديثة يعتمد الباحثون على نتائج دراسات أخرى عديدة لا يستطيعون فحصها بالتفصيل. هذه الدراسات أعدت بواسطة عدد كبير من العلماء الآخرين الذين لا يعرفهم الباحثين بصورة شخصية. لذلك فإن العالم الحديث يعتمد على صدق كل العلماء الآخرين. وخلص زيميل إلى أن "في الظروف الحديثة أصبح الكذب أكثر تدميراً عما كان عليه في السابق وشيء يثير التساؤل حول أسس حياتنا الرئيسية"172.
يشكل عام ربط زيميل السرية بأفكاره عن البنيات الاجتماعية في المجتمع الحديث. من ناحية فإن المجتمع شديد التباين يسمح بدرجة عالية من السرية ويحتاجها، ومن ناحية أخرى، وجدليا، تعمل السرية على تعميق ذلك التباين.
ربط زيميل أيضا بين السرية والاقتصاد النقدي الحديث، فقد مكن النقد من مستوى من السرية لم يحقق من قبل. أولا، قابلية المال للضغط من أجل تقليل حجمه حيث وفرت إمكانية جعل الآخرين أغنياء بإعطائهم خفية شيكات من دون أن يلاحظ شخص آخر ذلك الفعل. ثانيا، الخاصية المجردة للنقد تجعل من الممكن إخفاء "التعاملات، الممتلكات وتغيير الملكية"173. وهي أشياء لا يمكن إخفاؤها في حالة تبادل مواضيع ملموسة. ثالثا، يمكن استثمار النقد في أشياء بعيدة جدا مما يجعل التعاملات خافية على من هم على مقربة.
يرى زيميل أن في العالم الحديث, قضايا عامة مثل تلك التي تتعلق بالسياسة فقدت سريتها وإمكانية تغطيتها. على النقيض فإن الأمور الخاصة أصبحت أكثر سرية مقارنة بالمجتمعات قبل الحديثة. وهنا يربط زيميل أفكاره عن السرية بتلك التي عن المدن عندما يقول الحياة الحديثة طورت وسط زحمة المدن الكبيرة تقنية حفظ الأمور الخاصة سرا"174. في النهاية "كل ما هو عام أصبح أكثر عمومية وكل ما هو خاص أصبح أكثر خصوصية"175.
في هذه الفقرة رأينا كيف أن كتابات زيميل عن السرية توضح العديد من جوانب توجهه الفكري العام.
تلخيص
كانت كتابات جورج زيميل مؤثرة في النظرية السوسيولوجية الأمريكية لعدة سنوات. تركيز ذلك التأثير يبدو أنه تحول من علم الاجتماع ذى المنظور الأصغر للنظرية السوسيولوجية العامة. علم اجتماع زيميل ذو المنظور الأصغر أصبح جزءا لا يتجزأ من نظرية جدلية عريضة تربط المستويات الثقافية بتلك الفردية. لقد حدننا أربع مستويات اهتمام في مؤلفات زيميل : السايكولوجي، التفاعلي، البنيوي المؤسسى ومبادئ الحياة الميتافيزيقية المطلقة.
عمل زيميل بتوجه جدلي على الرغم من أنه لم يفصح عنه جيدا كما فعل كارل ماركس. لقد عرضنا اهتمامات زيميل الجدلية في طرق مختلفة. أولا تناولنا الطرق التي تظهر فيها أشكال التفاعل وتحديدا الموضة. بشكل عام، تناولنا الصراعات والتناقصات التي تنتج كلما انتقلنا من مجموعات اجتماعية صغرى إلى أخرى كبرى. في هذا الإطار اختبرنا مؤلفات زيميل عن التحول الجوهري من الثنائي إلى الثلاثي. في الثلاثي رأينا تطور إمكانية بنيات كبرى يمكن أن تكون منفصلة عن الأفراد ومهيمنة عليهم، هذا يخلق إمكانية الصراع والتناقض بين الفرد والمجتمع الكبير.
بالرغم من أن زيميل كان مهتما بالصراعات بين الفرد والبنيات الاجتماعية، اهتمامه الأكبر كان بالصراعات التي تظهر بين الثقافة الفردية وتلك الموضوعية. لقد لاحظ عملية عامة فيها تتمدد الثقافة الموضوعية و تفقرالثقافة الفردية باستمرار في وجه ذلك التطور. اعتبر زيميل أن هذا الصراع بدوره جزءاً من الصراع الفلسفي العريض بين "حياة اكثر" و "أكثر من حياة".
مناقشة أفكار زيميل عن المستويات الأربعة للواقع الاجتماعي، بالرغم من أن له افتراضات مفيدة عن الوعي فقد استخدمها بصورة محدودة. وكان له الكثير الذي يقدمه عن أشكال التفاعل وأنماط المتفاعلين. في علم الاجتماع الشكلي هذا رأينا اهتمام زيميل الكبير "بالهندسة الاجتماعية" خاصة عدد الناس (ثنائي، ثلاثى) والمسافة (الغريب مثلا). اهتمام زيميل بالأنماط الاجتماعية يتضح في مناقشته عن الفقراء وأفكاره عن الأشكال الاجتماعية يظهر في مناقشته عن الهيمنة، الإخضاع والخضوع.
على المستوى الأكبر، كان لزيميل القليل نسبيا الذي يقوله عن البنيات الاجتماعية. في الحقيقة، أحيانا يبدو أنه يظهر ميلا مشوشا يختزل البنيات الاجتماعية إلى ما هو أكثر قليلا من نظم التفاعل. اهتمام زيميل الحقيقي على المستوى الأكبر كان الثقافة الموضوعية، فقد كان مهتما في آنٍ واحدٍ بتوسع هذه الثقافة وأثرها التدميري على الأفراد.
هذا الاهتمام العام يظهر في العديد من مقالاته المحددة مثل تلك عن المدينة والتبادل. مؤلف زيميل (فلسفة النقد) يجمع العديد من الأطروحات التي وردت في هذا الفصل. انتقل زيميل من مناقشة النقد إلى القيمة، إلى مشاكل المجتمع الحديث ومشاكل الحياة بشكل عام. لذلك فإن لزيميل توجهاً نظرياً معقداً ومصقولاً أكثر من ما حاز عليه الاستحسان من قبل أولئك الذين على معرفة فقط بمقالاته عن القضايا ذات المنظور الأصغر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق