د. محمد أحمد الزعبي
مركز نوار للبحوث و الدراسات
"من البيّن الظاهر أن للطفل نفسا عالمة بالقوة ، ولها الحواس آلات إدراك ، وإدراك الحواس إنما يكون للجزئيات ، وعن الجزئيات الكليات ، والكليات هي التجارب على الحقيقة ... فإذا حصلت من هذه التجارب في النفس ، صارت النفس عاقلة . إذ العقل ليس شيئا غير التجارب ، ومهما كانت التجارب أكثر ، كانت النفس أتم عقلاً" (الفارابي / الجمع بين رأي الحكيمين ).
تدور الفلسفة العامة حول ثلاثة مباحث رئيسية هي : مبحث الوجود ، ومبحث الأخلاق ، ومبحث المعرفة . ويعتبر المبحث الأخير ـ برأينا ـ المبحث الأكثر أهمية ، ذلك أن المبحثين الآخرين ( الوجود ، الأخلاق ) إنما يتعلقان أساسا بمعرفة الإشكالات والمسائل المختلفة المتعلقة بمسألتي الوجود والأخلاق.
ويعود مفهوم المعرفة Knowledgeمن الناحية اللغوية إلى فعل عرف علم و/أو أدرك ، فنقول عرف عرفة (بكسر العين) وعرفانا ، ومعرفة الشيء علمه أو إدراكه بالحواس أو بغيرها . وبحسب الدكتور جميل صليبا في المعجم الفلسفي فإن القدماء قد ميزوا بين " المعرفة" من حيث هي إدراك الجزئي ( نقول عرفت الله وليس علمت الله) و " العلم" من حيث هو إدراك الكلي ( إن الله عليم خبير)، أو بتعبير آخر ، فإن مفهوم المعرفة يستخدم في التصورات ، ومفهوم العلم في التصديقات (أنظر مادة معرفة" في : جميل صليبا , المعجم الفلسفي , بيروت / القاهرة 1978 . )
ونرى من جهتنا أن الأمر يتعلق بمستوى وبنوع المعرفة المطلوبة ، إذ لا بد من التمييز في العملية المعرفية ، وفي المعرفة ذاتها بين :
- المعرفة القبلية ، التي تستند إلى الحدس والإلهام والغريزة .
- المعرفة البعدية ، التي تستند إلى الإحساس والتجارب والممارسة ، وبالتالي إلى الإستقراء والإستنباط ومستلزماتهما المنهجية ، وهي بدورها تنقسم إلى مستويين معرفيين هما :
§ المعرفة الدارجة : التي بإمكان كل الناس الحصول عليها بواسطة حواسهم وعقولهم وخبراتهم اليومية ،
§ المعرفة العلمية : التي تعتمد القياس والتجارب ، وتستعين بالآلات ، وتخضع للتحقق والمراجعة ، وتطبق قواعد المنهج العلمي ، وتتحول إلى مفاهيم ومقولات ونظريات وقوانين معترف بها ،وتمثل قاسما مشتركا بين بين أذهان كثيرة ، ويمكن بالتالي نقلها من واحد إلى آخر ، ومن جيل إلى جيل .
وجدير بالذكر هنا أن المعرفة العلمية ، تستند إلى مبدأي العليّة / السببية ، والحتميّة بمعنى أن كل ما يحدث ، إنما يحدث بعلة ، وأن نفس العلل لا بد أن تنتج نفس المعلولات في حال تساوي كافة الشروط والظروف المحيطة بالعملية المعرفية .
وبصورة عامة ، فإن مفهوم المعرفة عادة ما يشير إلى معنيين متداخلين ومتكاملين هما :
1- الفعل العقلي الذي يدرك الظواهر الموضوعية ( عملية انعكاس الظواهر في الوعي ) نتيجة ذلك الفعل ، أي حصول صورة الشيء في الذهن.
2- إن العملية المعرفية عملية معقدة ، وهي تتعلق أساسا بطرفين اثنين هما : العارف والمعروف ،المدرك والمدرك ( بكسر الراء وفتحها)
الوعي والواقع ، هذان الطرفان يمثلان وجها الميدالية المعرفية وظهرها ، ويخضعان لجدلية الوحدة والتما يز ، أي أن كل منهما يؤثر في الآخر ويتأثر به في نفس الوقت . وتدور نظرية المعرفة ، انطلاقا من هذه الإشكاليات ، حول عدد من التساؤلات التي حددها الفيلسوف الألماني عمانويل كانط بالثلاثة الأساسية التالية :
1- ماذا عليّ أن أعرف ؟
2- ماذا يمكنني أن أعرف ؟
3- ماهي وسائلي للمعرفة ؟
من متابعتنا الإجابات المختلفة التي أمكننا الإطلاع عليها يتبين :
- تعدد الاتجاهات والمذاهب الفلسفية والسوسيولوجية حول نظرية المعرفة.
- وجود عدد من المفاهيم المركزية التي يجري استخدامها بفهم متقارب من قبيل العديد من الفلاسفة وعلماء الإجتماع المهتمين بنظرية المعرفة
- التشابك بين الفلسفة والعلم ، ولا سيما على صعيد بعض العلوم الحديثة (الهندسة اللاإقليدية ، النسبيية ، السيبرنتيك ، علم النفس التكويني ، سوسيولوجيا العلم .. الخ)، الأمر الذي ترتب عليه ظهور ما بات معروفا بـ " فلسفة العلم Epistemologie
- التسليم بوجود علاقة جدلية بين الوعي ( بشقيه : الفردي والاجتماعي )، والواقع ( بشقيه : الطبيعة والمجتمع ) .
وباسخدامنا المنهج الذي أطلق عليه الكاتب منهج الإحالة (إحالة الأقل أهمية إلى الأكثر أهمية ، والعرضي إلى الجوهري ، والمؤقت إلى الدائم الخ ) فإنه يمكن إرجاع / إحالة الاتجاهات الفلسفية حول علاقة الوعي بالواقع إلى الإتجاهين الرئيسيين التاليين :
- الاتجاه المثالي ، الذي يلحق أتباعه المادة بالفكر ، سواء من حيث الأسبقية الزمنية ، أو من حيث التبعية ، حيث يمثل الفكر هنا المتغير المستقل ، والواقع المتغير التابع .
- الاتجاه المادي ، الذي يلحق أتباعه الفكر بالمادة ، ويقر بالوجود الموضوعي للمادة ، أي خارج الوعي وبمعزل عنه ، وبوجود قوانين داعلم اجتماع المعرفة
إن علم اجتماع المعرفة هو علم اجتماعي ـ فلسفي يقع عند نقطة تقاطع علم الإجتماع مع الفلسفة ، ويعتبر واحدا من السوسيولوجيات الخاصة التي تدور في فلك علم الإجتماع العام ، وحسب قاموس علم الإجتماع للدكتور محمد عاطف عيث ( القاهرة 1979 ) فإن بواكير هذا العلم تعود إلى عام 1909 حيث نشرت صحيفة جيروزاليم مقالا بعنوان " سوسيولوجيا الإدراك " ، ثم نشر بعد ذلك إميل دوركهايم في الحولية الفرنسية الاجتماعية مقالا بعنوان " الشروط الإجتماعية للمعرفة " . أما الذي استخدم تعبير سوسيولوجيا المعرفة ، فهو عالم الإجتماع الألماني ماكس شلر الذي نشر عام 1924 دراسة تحمل الإسم ذاته "سوسيولوجيا المعرفة "
هذا وقد أشار عالما الإجتماع البريطانيان بوتومور و ربل في كتابهما "سوسيولوجيا ماركس وفلسفته الإجتماعية " ( دمشق 1972 ) إلى أن كارل ماركس " كان في الحقيقة واحدا من مؤسسي سوسيولوجيا المعرفة " .
واقع الحال ان البعد الفلسفي لهذا العلم ، ولاسيما إشكالية العلاقة بين الواقع والوعي ، هي مسالة قديمة ، تعود بجذورها إلى الفكر الفلسفي اليوناني ، حيث كان الصراع محتدما بين المذهبين الحسّي والعقلي ، وأيضا بين مذهبي الثبات والتغير، وكان الموضوع الأساسي لهذا الصراع هو الصور المختلفة للإجابة على تلك الأسئلة المعرفية التلاث التي صاغها لاحقا كانط ، والتي تدور كلها حول العلاقة بين الوعي والواقع ، والتي حددها أفلاطون بـ : كيف يمكن التفريق بين 2+ 2= 4 (المعرفة العقلية ) و الثلج أبيض ( المعرفة الحسيّة )؟ وكان علينا أن ننتظر مجيء المفكرين الإسلاميين في العصر الوسيط ( أنظر : محمدغلاّب ،المعرفة عند مفكري المسلمين ، القاهرة ....) حتى نرى دخول المجتمع والظواهر الإجتماعية في إطار مفهوم الواقع ، أي أن مفهوم الواقع بات يشير إلى كل من الواقع الطبيعي والواقع الإجتماعي في آن واحد . ومع دخول الواقع الإجتماعي في معادلة نظرية المعرفة ، ظهرت مجموعة من المفاهيم المتصلة بالعلاقة بين الوعي والواقع الإجتماعي بالذات ، ولعل مفهوم الموضوعية كان من أبرز المفاهيم ـ الإشكالية في هذه العلاقة .
تمثل كل من نظرية المعرفة عند أرسطو ، التي حاولت التوفيق بين أحادية الإحساس عند بروتاغوراس ، وأحادية العقل عند أفلاطون ،( أنظر فؤاد زكريا ، نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان ، القاهرة بلا تاريخ ) ومتابعة الفارابي لهذه النظرية الأرسطية في الربط بين العقل والإحساس والتجارب ، وكذلك محاولة ابن رشد في التوفيق بين الحكمة والشريعة ( أنظر كتابه فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ) ، أقول تمثل هذه النظريات خطوة كبيرة وهامة في الإنتقال بنظرية المعرفة من التأمل الميتافيزيقي إلى الحالة العلمية ، الأمر الذي مهد الطريق لظهور علم العمران الخلدوني ، الذي كان الأساس لكثير من العلوم الإجتماعية، ومن بينها علم اجتماع المعرفة الذي نحن بصدده الآن .
· ولسوف نكتفي هنا بإيراد عدد من الشواهد من مقدمة ابن خلدون والتي تصب كلها في طاحونة سوسيولوجيا المعرفة . ( أنظر : تاريخ العلامة ابن خلدون ، المقدمة ، بيروت، مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني 1961 ط2 ، الصفحات المشار إليها في الشواهد)
· فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والإستحالة ، هو أن ننظر في الإجتماع البشري الذي هو العمران ، ونميز ما يلحقه من الأحوال بذاته وبمقتضى طبعه ( ص61 / 62)
· وإذا كانت كل حقيقة متعقّلة طبيعة يصلح أن يبحث عما يعرض لها من العوارض لذاتها ، وجب أن يكون باعتبار كل مفهوم وحقيقة علم من العلوم يخصه ...( ص63(
· لما كان الإنسان متميزا عن سائر الحيوانات بخواص اختص بها ، فمنها العلوم والصنائع التي هي نتيجة الفكر الذي تميز به عن الحيوانات ...( ص67)
· فالعصور تختلف باختلاف مايحدث فيها من الأمور والقبائل والعصبيات، وتختلف باختلاف المصالح ، ولكل واحدة منها حكم يخصه ( ص 374)
· إن العلوم تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة .( ص777 )
· وإنما الذي فضل به أهل المشرق أهل المغرب ، هو ما يحصل في النفس من آثار الحضارة ، من العقل ، المزيد كما تقدم من الصنائع... ولا شك أن كل صناعة مرتبة يرجع منها إلى النفس أثر يكسبها عقلا جديدا، تستعد به لقبول صناعة أخرى ، ويتهيأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف ( ص 775 / 776)
· ألا ترى إلى أهل الحضر مع أهل البدو ، كيف تجد الحضري متحليا بالذكاء ، ممتلئا من الكيس ، حتى أن البدوي ليظنه أنه قد فاته في حقيقة إنسانيته وعقله وليس كذلك . وما ذلك إلا لإجادته من ملكات الصنائع والآداب ، في العوائد والأحوال الحضرية ملا يعرفه البدوي . ( ص 776)
يتبين من مجمل هذه النصوص ، ونصوص أخرى كثيرة غيرها ، أن ابن خلدون قد ربط بين الفكر ( الوعي( والمجتمع ربطا محكما من خلال سلسلة الأفكار المترابطة التالية :
· يتميز الإنسان عن سائر الحيوانات بالفكر .
· تنبثق عن هذا افكر العلوم والصنائع .
· تنشأ داخل المجتمع بين العلوم والصنائع من جهة، والفكر من جهة أخرى ، علاقة جدلية يؤثر من خلالها كل طرف بالآخر ويتأثر به .
· يتطور المجتمع البشري في ظل هذه العملية الجدلية منتقلا بصورة متواصلة من حالة البداوة إلى حالة الحضارة .
· تختلف المستويات المعرفية بين الشعوب والمجتمعات باختلاف المستويات الحضارية لهذه الشعوب والمجتمعات .
إن هذا يعني أن نظرية المعرفة عند ابن خلدون تقوم على الربط الجدلي بين مثلث : الفكر ، العلوم والصنائع ، مستوى التحضر ، أو بشكل أدق ، بين الوعي والظروف الإجتماعية المحيطة به ( الواقع ) .
وليس علم اجتماع المعرفة الحديث سوى العلم الذي يقبل بهذه النتيجة المنطقية ، ويسعى بالتالي إلى الكشف عن القوانين والسنن السوسيولوجية التي تحكم علاقة الوعي بالواقع بصورة عامة ، وبالواقع الإجتماعي على وجه التحديد .خلية ( أو بتعبير ابن خلدون "طباع" تحكم حركته وصيرورته ومآله .
موضوع سوسيولوجيا المعرفة
إن الموضوع الأساسي لسوسيولوجيا المعرفة هو دراسة الأصول الإجتماعية للافكار ، والكشف عن كيفية ارتباط هذه الأفكار بالجوانب المختلفة للواقع الإجتماعي ( كالبنيتين التحتية والفوقية ) في فترة تاريخية محددة زمانا ومكانا ، وكيف تؤثر هذه الأفكار بدورها في ذلك الواقع ( العلاقة الجدلية بين البنية الإجتماعية والطبيعية والاقتصادية للممجتمع المعني ، والوعي الفكري الأيديو- سياسي المرتبط بهذه البنية سلبا وإيجابا )
وإذا ما ا ستثنينا الأهمية الريادية التي يكتسبها ابن خلدون في هذا المجال ، فإن الأسماء الأكثر بروزا المرتبطة بنظرية المعرفة هي : كارل ماركس ، إميل دوركهايم ، كارل مانهايم ،جورج غورفيتش (أنظر : فريدريك معتوق ،تطور علم اجتماع المعرفة من خلال تسعة مؤلفات أساسية ، بيروت ، دار الطليعة 1982( .
يقول كارك ماركس في مقدمة نقد الإقتصاد السياسي : " وكان أول عمل قمت به من أجل فض الشكوك التي كانت تهاجمني ، إجراء مراجعة نقدية لفلسفة القانون عند هيغل ، ... ووصلت في أبحاثي إلى النتيجة التالية : لا تستطيع الأحوال القانونية والأشكال السياسية أن تفسر نفسها بنفسها ، ولا عن طريق ما يدعى التطور العام للعقل البشري . إن أساسها بالعكس ، هو في ظروف الحياة المادية التي يطلق عليها هيغل ، وهو يحذو حذو الإنجليز والفرنسيين في القرن الثامن عشر إسما من نوع خاص هو " المجتمع المدني "، ويجب أن نبحث في الإقتصاد السياسي عن تشريح المجتمع المدني ، فأسلوب إنتاج الحياه المادية هو شرط العملية الإجتماعية والسياسية والعقلية للحياة بوجه عام . ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم ، ولكن وجودهم الإجتماعي هو الذي يحدد وعيها ....إذا لم يكن بالإمكان الحكم على فرد طبقا لما يراه هو عن نفسه ، فلن يكون بالإمكان الحكم على حقبة مشابهة من الثورة على أساس وعيها بنفسها ، وإنما بالعكس يجب تفسير هذا الوعي بمتناقضات الحياة المادية، أي بالصراع القائم بين القوى الإنتاجية الإجتماعية وأحوال الإنتاج . " ( نقد الإقتصاد السياسي ، القاهرة 1968 ص 6 )
وفي الإتجاه نفسه ، فإن إميل دوركهايم قد شدد بدوره على دور المجتمع في صياغة الفرد ، ودور الوعي الإجتماعي في صياغة الوعي الفردي حيث يقول في كتابه ( قواعد المنهج في علم الإجتماع ، القاهرة 1961 ) " إن الغالبية الكبرى من آرائنا وميولنا ليست من صنعنا ، وإنما تأتينا من الخارج " (ص54 ) ، ويتابع في مكان آخر من الكتاب " ولكن إذا نحينا الفرد جانبا ، لن نجد أمامنا سوى المجتمع وحينئذ لا بد لنا من الإتجاه إلى طبيعة المجتمع لكي نبحث فيها عن تفسير الحياة الإجتماعية . ففي الواقع لما كان المجتمع يفوق الفرد من حيث الزمان والمكان إلى ما لانهاية له ، فإننا نرى أن في استطاعته أن يفرض عليه ضروبا من التفكير وأن يخلع على هذه الضروب طابعا من القداسة " ص 211 / 212 ) . )
وأيا كانت أهمية مساهمات ابن خلدون وماركس ودوركهايم في التمهيد لعلم اجتماع المعرفة ، فإن النقلة النوعية اتي أدت إلى ظهور هذا الفرع الخاص من فروع علم الإجتماع العام ، إنما جاءت مع كارل مانهايم في كتابه الأيديولوجيا والطوبى Ideologie und Utopie الذي ظهرت طبعته الأولى عام 1929 ، والذي تضمن فصلا خاصا بعنوا ن سوسيولوجيا المعرفة ، وجورج غورفتش في كتابه" الأطر الإجتماعية للمعرفة " وذلك بغض النظرعن التفسيرات غير المقنعة ـ من وجهة نظرنا ـ للعلاقة بين الوعي والواقع الإجتماعي، وللحلول المقترحة لحل إشكالية الموضوعية في العلوم الإج التي تنطوي عليها نظرية كل من هذين العالمين .
إشكالية الموضوعية
إن تحول مجموعة من المعارف المبعثرة حول المجتمع والظواهر الإج إلى علم، إنما يعني تحويل المعرفة العفوية إلى محاولة "منظمة " لسبر الواقع واكتشاف الترابطات الضرورية والجوهرية التي تمتلك قدرا كبيرا من الثبات والاسمرارية بين عناصر هذا الواقع المختلفة ( الطبيعة ، المجتمع ، الفكر ) من جهة ، وبين الجوانب المختلفة للظاهرة الإج نفسها ( الجانب الإقتصادي ، والجانب السياسي والجانب الثقافي ) من جهة أخرى . فالعلم لا يبدأ ـ كما يرى ماركس بحق ـ " إلاّ حيث ينتهي التأمل الميتافيزيقي في الحياة الواقعية " . وحسب برتراند رسل ، فإن " كل معرفة محدودة تنتمي إلى العلم ، وكل معتقد يتجاوز المعرفة المحدودة ينتمي إلى اللاهوت ، وتنتمي المنطقة المشاع بين العلم واللاهوت إلى الفلسفة " . وإذا كان مفهوم العلم قد ارتبط أساسا بالعلم الطبيعي فإن النماذج الرئيسية الثلاثة للبحث العلمي باتت تعتبر شراكة بين العلم الطبيعي والعلم الإجتماعي , وهذه النماذج هي :
1- يقوم العلم أساسا على التصنيف
2- ويبحث عن القوانين
3- ويهتم بإيجاد الروابط السببية وتفسير تتابع الأحداث . ( أنظر : جون ركس ، مشكلات أساسية في النظرية الإجتماعية ،الإسكندرية 1973، ص 36)
ومن جهة أخرى فإن استحالة أن يقوم العالم ( بكسر اللام) بعملية استقراء "كامل " سواء لكافة الظواهر المعنية ، أو حتى لكافة جوانب الظاهرة المدروسة، ولجوئه إلى الاستقراء " الناقص " + " التعميم " اقتضت أن يفترض الباحث قبل الشروع في بحثه أن العالم من حوله خاضع " لحتمية " تجعل ما يصدق عليه هنا ، يصدق عليه هناك ، وما يصدق اليوم لابد أن يصدق غدا . وحسب ( صلاح قانصوه :الموضوعية في العلوم الإنسانية ، بيروت ط2 1984) ، فإن مبدأ الحتمية يتضمن افتراضات أخرى تستلزمه وتبرره وهي :
· أن ثمة نظاما في الطبيعة .
· إن هذا النظام متكرر الوقوع في " اضطراد " .
· أن هذا الإضطراد محكوم بالعلاقات العلّيّة ( بكسر العين ) .
وهو ما يؤكده البرت اينشتاين بقوله " إنه بدون الإعتقاد بان هناك انسجاما داخليا في عالمنا هذا لايمكن أن يقوم العلم .
إن انطباق مفهوم"العلم " على كل من العلوم الطبيعية والعلوم الإجتماعية ، لا يعني التطابق المطلق بين هذين الصنفين من صنوف المعرفة العلمية . فالباحث الذي يقوم بتحليل مادة صلبة أو سائلة يمكن أن يكون " موضوعيا " بصورة شبه كاملة ، أما الباحث الذي يقوم بتحليل البنية الطبقية أو عملية التغير الإجتماعي في مجتمع من المجتمعات ، لا يمكن أن يكون موضوعيا إلاّ بصورة نسبية ، وذلك لأن الباحث هنا ، هو نفسه جزء من المشهد الإجتماعي الذي يقوم بدراسته ، أي أنه يمثل واقع الحال ، كلا من الخصم والحكم في آن واحد . إننا هنا أمام إشكالية معرفية حقيقية ، هي إشكالية " الموضوعية ".
إنه أيا كان الخلاف أو الإتفاق حول المنهج العلمي والعلم ، فإن إشكالية الموضوعية تظل هي الإشكالية الجوهرية في مجال العلوم الاجتماعية عامة ، وعلم اجتماع المعرفة خاصة ، وتتماهى هذه الإشكالية هنا مع إشكالية أخرى هي إشكالية الأيديولوجيا التي تمثل من وجهة نظرنا الشر الذي لا مفر منه في العلوم الإجتماعية ، وهي تنجم أساسا عن :
كون العلم / الباحث هو نفسه جزء من المشهد الإجتماعي ، كما سبق وذكرناه أعلاه .
التداخل بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي في تكوين او تفسير الظواهر الإختماعية ، إذ لا يمكن النظر إلى هذه الظواهر كما لو كانت " أشياء " كما أراد لها دوركهايم ، ذلك أن كلا من الذات والموضوع يمثلان وجه الميدالية وظهرها ، على مانرى نحن ، إن المأزق الي ينجم عن هذه الإشكالية ، هو كيف يمكن عمليا الجمع بين " التحيز الأيديولوجي " المفروض ، وما تفترضه الموضوعية في البحث من النزاهة والحياد ؟ ، وكذلك مسألة التعدد الأيديولوجي التي تعكس ظاهرة التباين بين الأقوام والأدين والطوائف والطبقات الإجتماعية، وما يترتب عليها من اختلاف المصالح والمواقف .
هذا وللموضوعية في العلم أكثر من دلالة ، فهناك أولا دلالتها القيمية ، التي تعني النزاهة في القصد والتجرد من العواطف الذاتية ، وهناك ثانيا دلالتها المعرفية ، التي تشير إلى إلى أن تكون " الفكرة " انعكاسا صادقا وأمينا للواقع ، حيث ينبغي للباحث أن يفسح المجال للحقائق الواقعية أن تفصح عن مكنوناتها ، وتقول كل ماعندها . إن هذا لايعني بطبيعة الحال ، أن الحقائق العلمية يمكن أن تكون " نسخة طبق الأصل " عن الواقع ، أو أن هذه الحقائق هي حقائق مطلقة ونهائية ، فالحقيقة العلمية تظل بالنتيجة مايقررهالعلماء عن هذا الواقع . فالعلم حسب أينشتاين هو إعادة بناء لاحق للواقع ، إنه نظريات وتصورات تدنو من الحقيقة شيئا فشيئا ، ولكنها لن تصل إليها أبدا . والمهم في نظر بوانكاريه ، هو أن يكون العلمي والموضوعي تصورا مشتركا لأذهان كثيرة ، ويمكن بالتالي نقله من واحد إلى آخر . لقد كان مفهوم العلم ومسألة الموضوعية في نظرية الإنعكاس ( انعكاس الواقع في الوعي) مثار جدل وتعدد في الإتجاهات الفلسفية والسوسيولوجية ، وهذا بعضها ، على سبيل المثال لاالحصر :
فقد أعاد أفلاطون(ت 347 ق.م) عدم مطابقة الوعي للواقع إلى " اضطراب في الآلة الإنسانية " ، وبالذات إلى اضطراب في الحواس ( وعلاجه عند الطبيب )، و/ أو اضطراب في العقل ( وعلاجه في اتباع قواعد المنطق ) .
أما الإمام الغزالي (ت 1111 م) فقد رأى أن عدم المطابقة لايتعلق بخلل في المنطق ، بل بدوافع نفسية سابقة لكل تدبير ( الحقد ، الطموح ، حب التميّز ، الميل إلى العيش الرغد ) وبنقائص عقلية ( البله ، التكاسل ) وثالثا بغواية الشيطان .
ولقد كان عبد الرحمن بن خلدون أكثر شمولية وقربا من تشخيص هذه الإشكالية . يقول ابن خلدون " ولما كان الكذب متطرقا للخبر بطبيعته ، وله أسباب تقتضيه ، فمنها التشيعات للآراء والمذاهب ... ومن الأسباب المقتضية للكذب فالأخبار ايضا ، الثقة بالناقلين ومنها الذهول عن المقاصد .. ومنها توهم الصدق . ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل مايداخلها من التلبيس والتصنع فينقلها المخبر كما رآها .. ومنها تقرب الناس في الأكثر لصاحب التجلّة والمراتب بالثناء والمدح ..
ومن الأسباب المقتضية له أيضا وهي سابقة على جميع ما تقدم ، الجهل بطبائع الأحوال في العمران . فإن كل حادث من الحوادث ذاتا كان أو فعلا ، لابد له من طبعة تخصه في ذاته ، وفيما يعرض له من أحواله ، فإذا كان السامع عارفا بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها ،أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب ، وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض "( المقدمه ، ص 58 )
ولقد سلم فرنسيس بيكون بإمكانية المرء بلوغ المعرفة الصحيحة ، ولكنه كان يرى أنه ينبغي إصلاح منهج اكتساب هذه المعرفة .
ويتعين أن تكون الخطوة الأولى في هذا الإصلاح تطهير العقل من المفاهيم المسبقة والأحكام المبتسرة والتي أطلق عليها( الأوثان) التي تهدده (العقل ) بشكل مستمر . وترجع بعض هذه الأوهام إلى عادات العقل التي تميز الجنس البشري ككل ، ويرجع بعضها الآخر إلى عادات العقل التي تميز باحثا أو باحثين بعينهم ، وبعض آخر ناشئ عن نقص أو عدم دقة اللغة ، وأخيرا إلى القبول الأعمى للآراء ( أنظر : إشراف روزنتال ويودن ،ــ الموسوعة الفلسفية ، بيروت ، دار الطليعة ، ط2 1981 ،ص100 (
وفي نقده للأيديولوجية الألمانية ، أعاد كارل ماركس عدم توصل من سبقه من الفلاسفة الألمان إلى المعرفة العلمية،إلى أنه " لم يخطر على بال أحد من هؤلاء الفلاسفة أن يبحث في علاقة الفلسفة الألمانية بالواقع الألماني ، في علاقة نقدهم بالمحيط الألماني الذي يعيشون فيه ". لقد استخدم ماركس بداية ، تعبير الأيديولوجيا للإشارة إلى العي الزائف الذي ينجم عن الموقف الطبقي والمصلحة الطبقية للأفراد الإجتماعيين ، وهو ما يشمل :
· ـصورة الطبقة عن نفسها ( أنا الصح ، أنا العقل)
· صورة الطبقة في عيون الآخرين ( صحّي هو الصح العام)
· صورة الآخرين في عيون الطبقة ( من ليس معنا فهو ضدنا)
بيد أن هذا الفهم الأيديولوجي للأيديولوجيا ، تم تعديله لاحقا ، ولا سيما على يد لينين ، بحيث بات يشير إلى نوعين من الأيديولوجيا :
الأيديولوجيا البرجوازية غير العلمية وحاضنة الوعي الزائف ، والأيديولوجيا البروليتارية ، العلمية ، التي ليس فقط لاتتنافى مع حقائق ومنطق العلم ، وإنما تعتبر شرط المعرفة العلمية والموضوعية .
وجاء كارل مانهيم(K. Mannheim , Ideologie Und Utopie Frankfort / Mein 1985 ) لينظر لمسألة الأيديولوجيا من زاوية جديدة تتقاطع مع الفهم الماركسي للمسألة ، ولكنها لا تتطابق معه . إنه يقبل أن المصلحة الطبقية تمثل جرثومة سامّة في نظرية المعرفة ، ولكنه يرى أن هذا النقص أو الخلل ينطبق على كافة الطبقات الإجتماعية بما في ذلك البروليتاريا التي برّ أ ت الماركسية ساحتها . وإذن فإنه لاتوجد أيديولوجيا علمية ، وأخرى غير علمية ، وإنما توجد أيديولوجيا واحدة تمثل رؤى وأفكار الطبقة المسيطرة ، سواء أكانت البرجوازية أم الطبقة العاملة، وذلك في مقابل رؤى وأفكار الفئات غير المسيطرة ( المعارضة ) . ولما كانت أفكار المعارضة غالبا غير واقعية ، فقد نعتها مانهايم بالطوباوية . إن هذا يعني أن كلا من الفئات المسيطرة والمعارضة عاجز عن تقديم معرفة علمية وموضوعية لأن كلا منهما ينظر إلى الظاهرة الإجتماعية من الزاوية التي هو متواجد فيها ، ومن الطبيعي أن تختلف صورة الشيء باختلاف زاوية النظر .
وقد حاول مانهايم الخروج من هذا المأزق المعرفي ، باعتماده مقولة"المثقف الحر"المتحررمن الإنتماءات الأيديولوجية والطوباوية معا ، وبالتالي من التحيز الطبقي . إن لجوء مانهايم إلى مقولة المثقف اللامنتمي ، هو ــ بحسب تقديرنا ــ كالمستجير من الرمضاء بالنار ! . إذ أين يمكن إيجاد مثل هذا المثقف المرّيخي المنزه عن المصلحة من أي نوع كانت ؟ . ويعتبر أنطونيو غرامشي ( قضايا المادية التاريخية ، بيروت 1971 ) أكثر قربا من الواقع ومن الحقيقة حين دعا إلى مقولة المثقف العضوي أي الغارق حتى شحمة أذنيه في قضايا وهموم الناس والمجتمع ، ولا سيما قضايا وهموم الطبقات الفقيرة والمحرومة ، وهو مايمثل رأيا نقيضا لرأي مانهايم . بل إن تالكوت بارسونز في دعوته الباحث إلى العمل على ترك " مسافة عقلية " بينه وبين الموضوع الذي يبحثه ، والذي يقرب بارسونز من مقولة " شيئية الظواهر الإجتماعية " الوضعية الدوركهايمية ، يعتبر أقرب إلى الموضوعية من كارل مانهايم .
إن نظرية كارل مانهايم حول " المثقف الحر " تلتقي عمليا مع نظرية ماكس فيبر في " التحرر من القيم" ، وكلاهما أقرب إلى التمني منه إلى الواقع .
يقول بليخانوف في كتابه تطور النظرة الواحدية إلى التاريخ " يجب أن نقربأن العلم الإجتماعي قبل ماركس لم يكن وما كان في استطاعته أن يكون علما دقيقا . فطالما ظل العلماء يلجؤون إلى الطبيعة الإنسانية كمرجع أعلى ، كان عليهم بالضرورة أن يفسّروا العلاقات الإجتماعية للناس بأرائهم ، بنشاطهم الواعي .
لكن النشاط الواعي للإنسان يجب أن يبدو له بالضرورة نشاطا حرّا ، والنشاط الحر يستبعد مفهوم الضرورة ، أي التوافق مع القانون . والتوافق مع القانون هو الأساس الضروري لأي تفسير علمي للظواهر . لقد حجبت فكرة الحرية مفهوم الضرورة ومن هنا عاقت تطور العلم . " (ج. بليخانوف ، تطور النظرة الواحدية إلى التاريخ ،ترجمة جورج طرابيشي ، بيروت ، دار الطليعة 1975 ص164(
ويقول بليخانوف في مكان آخر من الكتاب ، إن مسألة العلاقة بين الوجود والفكر قد انتصبت كأبي الهول أمام مفكري عصر الأنوار لتقول لكل منهم " إكشف عن سرّي وإلاّ التهمت مذهبك ! " ( نفس المرجع ، ص (108.
إن كشف سر العلاقة بين الوجود والفكر ، التي تعتبر حجر الأساس لنظرية المعرفة ، وبالتالي لعلم اجتماع المعرفة ، إنما يعود فضله إلى كل من هيغل من جهة ن وماركس وإنجلز من جهة أخرى ، بيد أن بليخانوف يحذر من أن الإعتراف بوجود علاقة جدلية بين الوعي والواقع ، لايعتبر وحده كافيا للوصول إلى المعرفة العلمية في مجال العلوم الإجتماعية ، ولا سيما السوسيولوجيا ( علج) منها .
إن المنهج الجدلي والتفكير الجدلي يعتبران شرطا لازما ولكنه ليس كافيا للوصول إلى الحقيقة ، ذلك أن الإعتراف بوجود تاثيرمتبادل بين كل من الآراء والبيئة الاجنماعية لايجيب عن سؤال معرفي هام هو: ماالذي يحدد كلاًّ من تطور البيئة الاجتماعية وتطور الآراء ؟
إنها مسالة خلافية جوهرية في ميدان نظرية المعرفة ، وهي التي تمثل الخط الفاصل بين الإتجاهين المثالي والواقعي في هذا العلم.
9
لابد لسوسيولوجيا المعرفة من أن تقف على أرض نظرية صلبة يمكنها ان تنطلق منها نحو تحقيق أهدافها بثقة وموضوعية . ولسوف نورد هنا مجموعة من الأفكار التي نرى أن القبول بها وتمثلها هو مسالة ضرورية لعلم الإجتماع ، سواء على المستوى النظري أو على المستوى التطبيقي . هذا مع العلم أن قسما أساسيا من هذه الأفكار بات يمثل قاسما مشتركا بين الإتجاهين المثالي والمادي ولعل الأصوات التي شرعت منذ مدّة تنادي بالجمع بين ماركس وفرويد ، أو بين ماركس وفرويد وفيبر ( مدرسة فرانكفورت ، رايت ميللز ، على سبيل المثال لا الحصر) . ( أنظر : رايت ميلز ،الخيال العلمي الاجتماعي ، اللإسكندرية 1987 ) إنما تصب في هذا الإتجاه . إن أبرز هذه الأفكار ، من وجهة نظر الكاتب هي :
1- تمثل الطبيعة والمجتمع والفرد وحدة جدلية مترابطة .
2- الظواهر الإجتماعية والطبيعية موجودة وجودا موضوعيا ، أي خارج الوعي وبغض النظر عنه.
3- الحركة شكل وجود المادة ، وتعبير عن جوهرها الداخلي ، وهي حركة جدلية ولانهائية .
4- تأخذ هذه الحركة ، سواء في مجال الطبيعة أو المجتمع أو الفرد شكلا قانونيا يجد انعكاسه في قواين الجدل الثلاثة المعروفة :
· قانون وحدة وصراع المتضادات
· قانون النفي ونفي النفي
· قانون الإنتقال من الكم إلى الكيف بالطفرة .
وفي المقولات الجدلية المستندة الى هذه القوانين ، والتي أبرزها مقولات: العام والخاص ، العرض والجوهر ، النسبي والمطلق ،الشكل والمضمون ، الحركة والسكون ، الضرورة والمصادفة ، الحتمية والحرية ، المجرد والملموس ، الذات والموضوع ..الخ
- تعبر المفاهيم والمقولات والقوانين ،وبالتالي النظريات ، وبحكم طابعها التجريدي التعميمي ، عن العام والجوهري في الظواهر الاجتماعية، أي أنها لاتستغرق لانظريا ولا عمليا كافة خصائص وجوانب الظواهر ، الأمر الذي يظل معه الخاص أكثر خصبا من العام ، ويجعل بالتالي الظاهرة الملموسة أغنى من المفاهيم والمقولات والقوانين بل ومن النظرية المتعلقة بها ، وهو ما عبر عنه غوته بالقول " النظرية رمادية اللون ، وشجرة الحياة هي الخضراء " .
- إن الإحساس هو الأساس الموضوعي للعملية المعرفية، بيد أنه لايمكن تصور هذا الإحساس بمعزل عن الإدراك والتخيل والتصور والتذكر . أي أن اللحظتين الحسية والعقلية تمثلان بالنسبة للعملية المعرفية وجه الميدالية وظهرها ، وهو مايجد النعكاسه في التشابك الجدلي بين لحظتي الإستقراء والا ستنباط في عملية البحث السوسيولوجي .
- إن الكائن البشري ( صاحب اللحظتين الحسية والعقلية ) و هو يقوم بمعرفة و تغيير محيطه الطبيعي والاجتماعي ( بالعمل والإنتاج) إنما يقوم أيضا بتغيير نفسه ، أي ينمي وعيه بذاته وبمحيطه معا ، وهذا يستلزم ألاّ يكون الإنسان هو محك الحقيقة الموضوعية وإنما الحياة الواقعية نفسها ، وبالتالي الممارسة التي يتغير بها ومعها كل من الذات والموضوع معاً .
- ويترتب على ذلك ان الذات ( الوعي ) لايمكنها أن تقع على الموضوع ( الواقع ) دفعة واحدة ،وإنما عبر عملية متواصلة من النفي ونفي النفي ، الأمر الذي يعني " نسبية " كافة الآراء والنظريات في كل زمان ومكان ، اي نسبية " المطلق " نفسه .
- لا يواجه الإنسان الواقع بما هو فرد منعزل وخاص ، وإنما بما هو كائن إجتماعي ينتمي إلى بيئة اجتماعية متقدمة عليه زمنيا ، وهي التي تمنحه الإسم والأسرة والقبيلة واللغة والدين والثقافة ومنظومة القيم ..الخ ، الأمر الذي يعني أن الوعي الفردي هو الإبن الشرعي للوعي الإجتماعي .
- الإنسان كائن بيولوجي ،وإذ ن فلابد له قبل أن يشتغل بالسياسة والعلم والأدب والفن ...الخ أن يأكل ويشرب ويلبس ويجد المأوى الأمر الذي يعني أن إنتاج مقومات الحياة المادية ، وبالتالي التطور التكنولوجي والاقتصادي الذي يحققه مجتمع ما ، يمثل الأساس الذي تقوم وتستند إليه كل أشكال الوعي والإدراك الفردي والاجتماعي .
- إن الدور الجوهري للتطور المادي في الحياة الفردية والاجتماعية لايعني بحال أن الإنسان / الفرد عبارة عن ريشة في مهب الحياة الإقتصادية والتطور التكنولوجي ، فالأمر كما يقول ماركس " ليس بالسهولة التي يحاول بها الناس تخيله عادة ، إذ يعتقدون أن الظروف الإقتصادية تُحدث آثارا بطريقة آلية ، لكن الأمر ليس كذلك ، إن الناس يخلقون تاريخهم بأنفسهم ، إلاّ أنهم يفعلون ذلك في بيئة معينة تكون بمتابة الشرط الذي يحدد كيفية ذلك ، وعلى أساس من العلاقات الفعلية القائمة سلفا " ( أنظر: أوسيبوف ، قضايا علم الإجتماع ، دار المعارف بمصر 1970 ، ص 22 ـ 23 (
- تعبر المفاهيم والمقولات والنظريات والقوانين ، غالبا، وبحكم طابعها التجريدي والتعميمي، عن العام والجوهري في الظواهر الاجتماعية ، أي أنها لا تستغرق لا نظريا ولا عمليا كافة خصائص وجوانب هذه الظواهر، الأمر الذي يظل معه " الخاص" أكثر خصبا وثراء من " العام" ويجعل بالتالي الظاهرة نفسها أغنى من النظرية التي تعكسها وتنعكس عنها
- لا يعتبر الإنسان نفسه محكا للحقيقة ، وإنما الحياة الواقعية ذاتها ، أي "الممارسة "
البحث السوسيولوجي
ــ يحتل البحث السوسيولوجي ، النظري منه والتطبيقي مكانا جوهريا في العملية المعرفية، والوصول إلى نتائج علمية موضوعية ، ولكي يمكن تحقيق أكبر قدر ممكن من هذه العلمية والموضوعية نرى أنه لابد للباحث السوسيولوجي الجاد من أن يلتزم بـ :
قواعد المنهج العلمي في السبر والبحث والتّقصّي ، وذلك بدءا بوضع فرضيات البحث ، وانتهاءً بكتابة التقرير النهائي .
أن يكون الباحث من النوع الذي أطلق عليه أ. غرامشي صفة " المثقف العضوي " أي أن يكون ملتحما وملتزما بقضايا وهموم مجتمعه ،
أن يعتمد في تحليله وفهمه لظاهرة إجتماعية ما ، كلا من المنهجين الكمي والكيفي معا .
ان يتحلى باليقظة الوجدانية والنزاهة والإلتزام الواعي بالحياد والموضوعية ، أي أن يترك مابينه وبين بحثه ، ماأطلق عليه تالكوت بارسونز " المسافة العقلية " وهو مايلتقي إلى حد بعيد مع مطلب ماكس فيبر في " التحرر من القيم " ومع مطلب فرنسيس بيكون في " التحرر من أوثان العقل" ، وبما أن النتائج التي سيصل إليها البحث ، لا تعدو أن تكون نوعا من الحقائق النسبية ، فإن "الممارسة"تظل هي الفيصل النهائي الحقيقي والعادل في الحكم على مدى صحة هذه النتائج .، وهو ما عبر عنه لينين بقوله : " من التأمل الحي ، إلى الفكر المجرد ، ومنه إلى الممارسة ، هذا هو الطريق الديالكتيكي لإدراك الحقيقة ، لإدراك الواقع الموضوعي " ( أنظر:محمد الزعبي، علم الإجتماع العام والبلدان النامية ، ص 125 (
أن يكون الباحث مقتصدا في تعميمه لنتائج الباحث ، انتظارا لما ستثبته أو تعدله أو تنفيه الممارسة والحياة العملية
-------------------------------------
ملاحظة : لقد سبق أن نشرت ( بضم النون) هذه الدراسة قبل عشر سنوات في مجلة دراسات عربية ( مارس/ أفريل 1997 ) وقد قام الكاتب هنا بإجراء بعض التعديلات التي رآها ضرورية في هذه الصيغة الجديدة .
الجمعة : 03/08/2007 الساعة 19.50
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق