د. سمير أمين
لعل أول سؤال يتبادر إلى ذهن من يطلع على رؤيتى هنا سيكون عن العنوان نفسه. فقد يراه البعض مبالغاً أو متعسفاً أو "أيديولوجيا" أكثر مما ينبغى .. الخ، ولكنى فى الحقيقة أعنيه تماما، ولدى ما يكفى من المبررات والحقائق فى هذا الصدد.
إننى أتعمد هنا هذا الطرح الحاسم لكى يتسنى لنا مواجهة ركام الأفكار السائدة والمروَّج لها بقوة عن "مناخ العصر" لتقول لكافة الشعوب والمجتمعات أن الرأسمالية "نظام أبدى" وأن التاريخ قد انتهى عندها وبها، فلا مجال- عندهم- لصراع أو تناحر أو تغيرات نوعية، سواء أكان هذا على مستوى المجتمع أم الاقتصاد أم الثقافة أم حتى النظام الدولى.
فى زعمهم أن "أبدية" الرأسمالية تنبثق من مرونتها الفائقة وقدرتها على التكيف الفعال واستيعاب أى تغيير محتمل أو متصور. سواء تعلق هذا التغيير أو تلك الطفرة بالتكنولوجيا أو بموازيين القوى الاجتماعية أو بتناسب القوى على الصعيد الدولى.
ويتجلى هزال هذا المنهج فى تشبثه بالسببية التكنولوجية (وهو منهج بائس مقارنة بالمادية التاريخية مثلاً) حيث يرى أن التقدم التكنولوجى هو المحرك الأساسى الذى يحكم تطور المجتمعات. ووفقاً لهذا الطرح فإن القيادة الأمريكية المحققة تنبثق من التفوق الساحق فى التكنولوجيا (العسكرية وغيرها)، وهو السبب أو المصدر الأكبر لما تسمى "المعجزة" الاقتصادية الأمريكية، ومن ثم استحقاقها لممارسة الهيمنة على ما عداها.
ما أحوجنا إلى طرح مضاد يكشف خواء تلك الرطانة المكرسة للهيمنة والأحادية والاستعلاء. وربما كانت نقطة البدء الهامة لهذا الخطاب المضاد هى اكتشاف والكشف عن دخول الرأسمالية مرحلة الترهل الكبير. وحتى يفهم ما أقصده بذلك الترهل أود أن أشير أولاً إلى أن عملية التراكم لها شقان أو بعدان، أحدهما خلاق وإبداعى- تقدمى، والآخر هدام وتدميرى. ولقد كان تفوق البعد الخلاق ملحوظاً خلال المراحل السابقة للتوسع الرأسمالى، حيث تمثل هذا أساساً فى حدوث اندماج متزايد ومتعمق لقطاعات متكاثرة من المجتمعات على صعيد قطرى وعالمى، مع تهميش "أقليات" فقط، ولم يمنع ذلك حدوث إبادة لبعض الشعوب مثل سكان أمريكا الأصليين من الهنود.
أما الآن فإن البعد الهدام هو البارز والمتفوق. ولعل أهم مثال على ذلك هو ما تؤدى إليه العولمة الراهنة من تهميش وإفقار ثلاثة مليارات فلاح لصالح إثراء حوالى خمسين مليون مزارع فى العالم الثالث يضافون إلى العشرين مليون الموجودين في المجتمعات الصناعية. ولكن البعد التدميرى الهدام لا يتوقف عند هذا حيث أفرز ظواهر عديدة فى جميع المجالات الاقتصادية والأيديولوجية/ الثقافية.
فقد أصبح طابع الاستعمار "جماعيا" يضم أطراف الثالوث (الولايات المتحدة- أوربا الغربية- اليابان) فى معسكر موحد، وهو التغيير الذى منح الولايات المتحدة وضعية "رأس الحربة" كى تفرض هيمنتها من خلال عسكرة العولمة. فمن المعروف أن الولايات المتحدة لا تتمتع "بتفوق" فى أهم مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية، غير أنها تتمتع بتفوق ساحق فى المجال العسكرى ومن ثم فهى تعمل بشراسة لتوظيف هذا التفوق الاحتفاظ بالقيادة ومواصلة "الهيمنة".
ومن السهل تصور أن الولايات المتحدة تتبنى استراتيجية كبرى تستهدف تحقيق غرضين محددين. أولهما ممارسة ضغط مستمر على روسيا والصين للحيلولة دون تبلور أيهما فى مستقبل غير بعيد كقوى عظمى، إلى جانب الضغط المتواصل على بعض القوى الإقليمية غير المطواعة أو حتى "المارقة" مثل الهند وإيران من أجل الإبقاء على كل التفاعلات الإقليمية فى إطار العولمة والهيمنة الأمريكية. وفى هذا السياق يجب أن نفهم الهدف الحقيقى من حرب آسيا الوسطى والاستعداد لغزو العراق، بصرف النظر عن القشور والأقنعة الدعائية التى تضفى على هذه الأنشطة العسكرية العدوانية تحت ذريعة ما يسمى "الحرب على الإرهاب" أو "الحيلولة دون انتشار أسلحة التدمير الشامل".
أما الهدف الأكبر الثانى فهو الوقوف حجر عثرة فى وجه تحول الدول الأوربية واتحادها إلى قوة عظمى بازغة تهدد المصالح الأمريكية. وتستغل الولايات المتحدة هنا الخلافات والاختلافات بين دول أوربا لتبديد قواها، وتلعب بريطانيا الدور الأول لحسابها فى هذا الصدد.
على ضوء هذا التحليل أزعم أن البديل يتطلب بناء جبهة عالمية واسعة مناهضة للمشروع الرأسمالى الليبرالى ولعسكرة العولمة ولهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، وهى عناصر ثلاثة لا يمكن الفصل بينها. وخاصة بناء جبهة الجنوب، فبلدان الجنوب هى الضحية الأولى للعولمة، ومعنى هذا رفض التركيز على "الخصوصيات الإقليمية"- وليس نفيها طبعاً- فى مواجهة عسكرة العولمة الرأسمالية الليبرالية.
إن الاستعمار مثله مثل أى ظاهرة تاريخية يمر بمراحل متعددة، ويكتسب دوماً المزيد والجديد من السمات التى يجب على القوى المناهضة له أن تستوعبها أولا بأول وفى وقت مناسب حتى لا تجرفها مفاجآت أو تسئ تقدير الظروف المرحلية. وفى هذا الصدد فإننى انطلق هنا من نقد خطاب فكرى سائد يركز على "الثورة التكنولوجية" وما تجره من احتمالات عن طابع "غير استعمارى" مزعوم. غير أن من المؤكد أن الطابع الاستعمارى هو طابع ثابت ومرادف لجميع مراحل التوسع الرأسمالى، رغم ما تنطوى عليه كله مرحلة من متغيرات وسمات خاصة. ولسنا هنا بصدد استعراض تاريخى لتلك المراحل، وإنما نؤكد أساسا أن المرحلة السابقة الأخيرة (الاستعمار التقليدى أو الكلاسيكى) قد قامت على التضاد بين المراكز والأطراف، وهو انقسام يكاد يكون مساويا للانقسام بين الأقطار المصنعة والاقطار غير المصنعة.
والآن لم يعد الحال كذلك. فقد دخل العديد من بلدان العالم الثالث عصر التصنيع بفضل الانتصارات التى حققتها حركات التحرر الوطنى. أما المرحلة القادمة (تحت البناء) فهى ما أسميها مرحلة "التصنيع التابع" ("التحديث التابع") وذلك بفعل آليات الاحتكارات الخمسة للمراكز فى مجالات التكنولوجيا والهيمنة على رأس المال والهيمنة على الموارد الطبيعية واحتكار وسائل الاتصال الحديثة وأخيراً احتكار أسلحة التدمير الشامل. والنتيجة الطبيعية لهذا أن تصبح الصناعات فى الأطراف نوعاً من الأنشطة الإنتاجية التى تعمل من الباطن لصالح رأس المال المهيمن فى المراكز.
ويفرز هذا التطور مجموعة من السمات الجديدة. أولها كما ذكرنا من قبل الطابع الجماعى للاستعمار. لقد قامت الأشكال السابقة للاستعمار على التعددية، أى تعددية المراكز وتجلياتها المتمثلة فى أن المنافسة الاقتصادية والسياسية بينها قد أنتجت أعظم الحروب على مدى خمسة قرون. وهو ما يؤكد أن الحروب داخل منطقة "الغرب" الثقافى لم تكن صراع حضارات وإنما صراعات المصالح بين المراكز.
وأصبح من الملحوظ بقوة الآن وجود تضامن ظاهر بين أطراف الثالوث. لقد انتهى التضامن العسكرى والسياسى فى مواجهة الشيوعية ، وذلك بعد أن سقط حائط برلين وتفكيك المنظومة الاشتراكية "الواقعية". إلا أن الطابع الجماعى للاستعمار اليوم يستمد جذوره من التحولات التى طرأت فى مجال آليات تراكم رأس المال والتى تتحكم فى أشكال المنافسة الاقتصادية فى الأسواق.
ومن أهم هذه التحولات أن الشركات العملاقة لم يعد باستطاعتها أن تفرض نفسها إلا من خلال هيمنتها على السوق العالمية (أى درجة أعلى من التركز فى رأس المال). ومن ثم هناك مصالح مشتركة فى "فتح السوق العالمية"، وهى مصالح تتجاوز التناقضات "التجارية" الثانوية.
أما السمة الجديدة الثانية فهى بروز الطابع الطفيلى للاستعمار الجماعى الجديد. لقد تمثلت اشكال الاستعمار القديمة فى استعمار "توسعى" بمعنى أن المراكز تصدر رأس المال إلى الأطراف، ومن ثم تقوم بدور فعال فى "قولبة" الاطراف طبقا لمقتضيات التراكم على صعيد عالمى. وهنا نلحظ الطابع الخلاق لهذه العملية إلى جانب طابعه التدميرى المتمثل فى تفكيك المجتمعات السابقة على الرأسمالية.
أما الشكل الجديد للاستعمار فلم تعد المراكز بمقتضاه تصدر أموالا إلى الاطراف (ربما باستثناء الصين)، وإنما أصبحت المراكز هى التى تمتص الفائض المنتج عالميا، وبالأخص الولايات المتحدة. والمعنى النهائى لذلك هو تغلب الجانب التدميرى لعملية التراكم (نشير مرة أخرى إلى مثال: 50 مليون مزارع فى الأطراف فى مواجهة ثلاثة مليارات فلاح مهمش). والطابع التدميرى هو طابع طفيلى وسلاب. ولعل المثل الآخر البارز فى ذلك هو آلية الديون الخارجية كوسيلة لامتصاص الفائض الاقتصادى فى الأطراف دون مقابل يتجسد فى صورة إنماء للقدرات الإنتاجية.
وبدون التحليل السابق لن يتسنى لنا فهم قضية عسكرة العولمة وتصاعد الهيمنة الامريكية. وإذا كان الخطاب الأيديولوجي السائد ينسب الهيمنة الامريكية إلى تفوقها فى جميع المجالات من الإبداع العلمى إلى المبادرة الاقتصادية مروراً بالتفوق العسكرى وانتهاء بالتفوق "الثقافى"، فإن تفحص حقيقة الأمور لا يساند بالمرة تلك النظرة شديدة التبسيط.
يزعم الخطاب السائد أن تفوق أمريكا الاقتصادى قد تمظهر خلال عقد التسعينيات فيما سمى "بالمعجزة"، أى تحقيق معدلات نمو أعلى من أوربا. غير أن أولئك الذين يجترون هذه الحجة بلا ملل يتجاهلون عمدا أن هذا التفوق قد تجسد بالأساس فى ارتفاع معدلات نمو القطاع المالى ("الفقاعة المالية"). وبالنظر الى القطاعات الإنتاجية من الزراعة والصناعة والخدمات نتوصل إلى استنتاجات مختلفة تماما، ففيها لم تكن معدلات النمو القطاعى الأمريكية أعلى من المعدلات الأوربية، بل إن الميزان التجارى الأمريكى فى هذه القطاعات (بما فيها قطاعات ما يسمى الاقتصاد الجديد) قد شهد اتجاها سلبيا متصاعداً.
إنها "معجزة" وهمية. فإلى جانب أبعادها الاجتماعية الكريهة مثل تصاعد التفاوت فى التوزيع وتفاقم مظاهر الفقر.. الخ، نجدها تقوم بالأساس على تضخيم "أمولة" بورصة نيويورك، علماً بأن هذا التضخيم لا يمثل زيادة فى القدرة الإنتاجية وإنما هو مجرد انعكاس للتفاوت المتصاعد فى توزيع الدخل.
وغنى عن التنويه أن منهج الحسابات الأمريكية قد أصبح "مزيفاً" بهدف إخفاء واقع التدهور وليس "المعجزة"، وهو- ياللسخرية- نموذج قريب من الممارسة السوفيتية فى عهد بريجنيف.
ولكن السؤال الهام كيف تمكنت أمريكا من سد هذا العجز رغم استمرار تدهور أوضاعها؟ كان المصدر الأساسى هو جذب تدفقات الأموال السائلة إليها، حتى أصبحت الولايات المتحدة تمتص معظم (أو قدراً كبيراً) من الفائض المنتج عالمياً. ونتجت هذه السيولة المتزايدة عن الخيار النيوليبرالى (أى "أميلة" النظام financialisation) وهو بدوره نتاج خيار يفرضه تفوق مصالح الشركات العملاقة للثالوث على المصالح الاقتصادية والاجتماعية الأخرى ("سياسات انكماشية").
ولكن لماذا تذهب هذه السيولة إلى الولايات المتحدة بالذات؟ لأنها مركز المراكز، ومن ثم تمثل الملجأ المأمون.. بيد أن الأموال الخليجية المهولة المستثمرة في أمريكا قد أصبحت مرهونة بقرار من جانب واحد، ولا شك أنها سوف "تصادر" يوماً ما.
وهناك مصدر آخر ثانوي لتدفق الأموال إلى الولايات المتحدة، من خلال تدفقات مبيعات الأسلحة المفروضة على "حلفاء" ضعفاء. ولما كان هؤلاء الحلفاء لا يستطيعون استخدام هذه الأسلحة بشكل فعال أو خارج حدود الهيمنة الأمريكية، فإن هذه المبيعات تأخذ طابع "الإتاوة" التى تشارك فى تخفيف عجز الميزان الأمريكى، لا غير.
ولعل الاستنتاج الحاسم من هذا كله أن عسكرة النظام هى خيار إستراتيجي أمريكي يسعى الى تعويض التدهور الأمريكي فى مجال القدرة على الاستمرار فى المنافسة بالوسائل الاقتصادية وحدها.
تهدف هذه الاستراتيجية الأمريكية أولا إلى توظيف التفوق العسكري لتدعيم قدرة الولايات المتحدة على الاستمرار فى الضغط على روسيا والصين (بالإضافة الى الهند وإيران...) والحد من حرية حركتها ومناورتها فى المجال الدولى. وفى هذا الصدد لم تكن حروب الخليج والبلقان وأفغانستان (وقريبا العراق) موجهة بالأساس ضد نظم إقليمية إلا فى تلك الحدود السابقة. وقد برعت الإدارة الأمريكية فى توظيف حجة "مقاومة الإرهاب" فى هذا الإطار.
ثانيا، تستهدف الاستراتيجية الأمريكية تكريس تضامن الثالوث بالشكل الذى يفرض موقعا ضعيفا ومكشوفا نسبيا لأوربا، وذلك من خلال انفراد الولايات المتحدة بالسيطرة على مصادر النفط الحيوية بالنسبة لأوربا، ومن ثم تحجيم المشروع الأوربي. ويضاف هنا الدور الذي تلعبه بريطانيا "كحصان طروادة" فى الاتحاد الأوربي. والمعنى الهام هنا أن الولايات المتحدة لم تختر منطقة الشرق الأوسط أو منطقة وسط آسيا للمبادرة فى تنفيذ مشروعها الخاص لأن هذه المنطقة أو تلك تمثل "العدو الأساسى" لها، وإنما لأنها غنية بالنفط أولاً، ولأنها تعانى من ضعف هيكلي حاسم فهي الحلقة الضعيفة في المنظومة العالمية. وهنا تتلاقى أو تتطابق المصالح بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
كما تستهدف الاستراتيجية الأمريكية، ثالثا، توظيف وترسيخ الدور الأمريكى بوصفه رأس الحربة العسكرية المطلوب بقوة من أجل فرض مشروع العولمة الليبرالية المشتركة، وتعويض النواقص الأمريكية فى المجالات الأخرى.
هكذا استطاعت الولايات المتحدة تثبيت موقعها المهيمن رغم تزايد الطابع الطفيلي لنظامها (استمرار التدهور، معدل ادخار أصبح صفرا...)
لكن هل يظل هذا النمط قابلا للاستمرار والثبات؟ أو ما هى احتمالات نجاح أو انهيار المشروع الأمريكى؟ وما هى شروط البديل العالمى؟
لن أتناول هنا بالتفصيل جوانب عديدة من الإشكالية لأنها أضحت معروفة للكافة، إلا أنه من الواجب التذكير بها
أولا، إن الأساليب التى تستخدمها الولايات المتحدة لتطوير مشروع هيمنتها تنحى تماما قواعد ما تسمى "الشرعية الدولية" جانبا (مثل دور الأمم المتحدة، وحق الدول فى السيادة...)، بل إنها أساليب شبيهة حقا بأساليب النازية.
ثانيا، إن تلك الأساليب تقتضي حدوث ردة خطيرة فى الممارسة الديمقراطية، فها هى المكارثية الجديدة تتبلور فى الولايات المتحدة نفسها، وفى المقابل نجد شخوصا مثل "بن لادن" و"صدام حسين" أصبحت "رموزا" للصمود أمام المشروع الأمريكى، ولعلها الرموز المعادية التى تفضلها تماما الولايات المتحدة.
ثالثا، إن هذه الخيارات توفر البيئة المواتية تماما فى منطقتنا لتدعيم وتوسيع المشروع الصهيوني الإسرائيلي بلا شروط ولا تحفظ.
رابعا، إن الخيارات الأمريكية تشجع- موضوعيا و بوعي كبير من مخططي هذه الاستراتيجية - "التقوقع الثقافي" والعزلة بين الشعوب ضحايا هذا المشروع. فهى تبدل القيم الإنسانية عالمية الطابع بأيديولوجيات مغرقة فى تكريس "الخصوصيات". وهو فى جوهره تحرك نحو الخلف، حيث يمثل تخليا عن أصول "عالمية" القيم البرجوازية. ولا شك أن هذا الملمح يمثل إحدى ظواهر دخول الرأسمالية فى مرحلة الترهل. ومما يلفت النظر بقوة أن العولمة الاقتصادية يرافقها تفتت ثقافى/ سياسى على الصعيد العالمى.
ومع ذلك نقول إنه رغم وحشية المشروع الامريكى وظلاميته، ورغم الاختيار الموضوعى لمنطقتنا الضعيفة لتكون موقع الضرب والمبادرة فى تنفيذ المشروع، فإن هناك العديد من المعالم التى تشير الى حتمية احتدام التناقضات والخلافات مستقبلا بين الولايات المتحدة من جانب، وأوربا وروسيا والصين/ الهند والعالم الثالث (البرازيل؟) من الجانب الآخر. وبالتالى احتمال تبلور شروط موضوعية لتقارب (إن لم يكن تحالفا) بين تلك الاطراف الأربعة فى مواجهة مشروع الهيمنة الأمريكية.
اولا: التناقض الأمريكى الأوربى المتصاعد. وليس أساس هذا التناقض هو الاختلاف فى المصالح الأعم لقطاع رأس المال المهيمن (المتعدى للجنسيات) الحاكم حاليا فى مراكز الثالوث، وإنما يكمن جوهر الاختلاف فى مجال التكوين السياسى- الأيديولوجي- الثقافى- التاريخى بين المجتمع الأمريكى من جانب والمجتمعات الاوربية بمختلف تلويناتها من جانب آخر . فالأيديولوجية الأمريكية تقوم على مبدأى الحرية والملكية، ومن ثم تتبنى مفهوما مطلقا لحقوق الملكية. هذا فى مواجهة معضلة أوربية تحاول تحقيق التوازن بين قيمتى الحرية والمساواة فتتبنى مفاهيم أخرى للملكية تفترض ممارسة قدر من التقنين والتضبيط لتحقيق مقتضيات نسبية للعدالة الاجتماعية. وهو الاختلاف الذى أصبح موضع وعى متزايد وسط "الرأى السياسى العام" فى أوربا، لا سيما فى فرنسا وألمانيا. ويضاف على ذلك أن الدوائر السياسية الأوربية أخذت تدرك أن خيار أمريكا- أي الإدارة العسكرية للعولمة – أمر غير ضروري، إنه مضر بالنسبة إلى مصالح أوربا الجيوستراتيجية.
ونستنتج من هذا وجود احتمال "إنهاء انفراد رأس المال المهيمن فى التحكم بأمور المجتمع كلية"، وفرض "حل وسط تاريخى" متجدد.
ثانيا، احتمال التقارب بين أوربا وروسيا، حيث تتبلور بشكل متزايد "مصلحة مشتركة" بين الطرفين. إذ إن معظم تجارة روسيا (وكذلك تدفق الاموال والاستثمارات) مع أوربا وليس مع الولايات المتحدة. كما أن أوربا تمثل المنفذ الرئيسى للنفط الروسى، وتأتى أهمية هذا لأوربا من زواية أنه يتيح لها فرصة تخفيف فعالية التهديد الأمريكى بالسيطرة على نفط الشرق الأوسط ووسط آسيا.
ثالث، احتمال التقارب بين روسيا والصين والهند، ولعل السبب الرئيسى فى هذا التقارب سيكون مواجهة التهديد المترتب على إقامة قواعد عسكرية أمريكية فى آسيا الوسطى والشرق العربى. غير أن هناك عوائق خطيرة تقف بوجه هذا الاحتمال، مثل الصراع الصينى/ الهندى، وتوظيف "الإرهاب الإسلامى" ضد الصين والهند وروسيا، فضلا عن متطلبات استمرار "المعجزة الاقتصادية الصينية" والتى تحدوها الى الامتناع عن إثارة أسباب التوتر مع الولايات المتحدة بوصف الأخيرة المنفذ الرئيسى للصادرات الصينية، إلا إذا استطاعت الصين إيجاد بديل حقيقى مثل الاعتماد على توسيع السوق الداخلية.
رابعا: احتمال إعادة بناء جبهة تضامن أفريقى/ آسيوى وعلى صعيد القارات الثلاث.
وربما يكون الميدان الرئيسى لإرهاصات هذه الجبهة هو الصراع داخل "المنظمة العالمية للتجارة" وبالذات فى مجال الزراعة (وذلك فى مواجهة المشروع الليبرالى الذى يعتبر الأرض سلعة والإنتاج الزراعى إنتاجا سلعيا). فهل يمكن أن يؤدى هذا التقارب إلى انعاش روح مماثلة لروح باندونج أو انعاش روح التضامن بين القارات الثلاث؟ وهو سؤال كبير، خاصة فى ضوء شراسة المشروع الأمريكى، وهشاشة دول ومجتمعات الجنوب، والمصاعب التى تواجهها الاحتمالات الثلاث الاولى، ناهيك عن موقع الجنوب فى عمليات التقارب الثلاثة المحتملة سابقة الذكر وعن قدرته على الاستفادة منها- إن تحققت- كهامش جديد للمناورة.
خلاصة ما نريد قوله إن الماضى/ الحاضر فى سبيله للاختفاء، والمستقبل لم يتبلور بعد، بينما فى الظلال ترتسم الوحوش، واحتمالات الفوضى قائمة فى كل الاحوال.
ولا نملك الا النضال من أجل بديل عالمى فى سبيله الى التبلور، ومن العبث محاولة تقديم تصور كامل له، فهو سيكون محصلة صراعات وتبدلات شديدة التعقيد. غير أن هناك محورين أساسيين يبرزان الآن بقوة، ويجب تعميق وتوسيع النضال من أجل المزيد من استيضاحهما:-
أولا: جبهة عالمية ضد الليبرالية الجديدة (وليس الرأسمالية بالضروة)، وضد العسكرة والهيمنة الامريكية.
ثانيا، إحياء التضامن الأفرو- آسيوى وتجاوز الانحباس فى المناطق "الحضارية" (فهو من صلب استراتيجية العدو) والعمل من أجل التضامن على صعيد القارات الثلاث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق