مجموعة اليسر للتدريب والاستشارات تأمل من زوارها الكرام المشاركة في الاستطلاعات التي تجريها بفعالية نظرا لفائدتها العالية
مجموعة اليسر للتدريب والاستشارات هي شركة تضامن لبنانية مسجلة تحت الرقم 489 تتنشط في مجال الدورات التدريبية والمؤتمرات العلمية والتربوية والاجتماعية والادارية والثقافية والتنمية والارشاد الاسري والاجتماعي ، واصدار المنشورات المتخصصة ، وتقديم الاستشارات في المجالات المذكورة وتوقيع الاتفاقيات مع الجامعات والمؤسسات والشركات الوطنية والعالمية على انواعها والقيام بالاستطلاعات والابحاث العلمية والدراسات المتخصصة في لبنان والخارج - نتمنى لكم زيارة ممتعة

09‏/12‏/2010

مفهوم الحقيقة بين الحداثة وما بعدها

د. توفيق شومر
قسم العلوم الإنسانية/ جامعة فيلادلفيا
سأركز في هذه المقالة على الأسباب التي دعت مفكري ما بعد الحداثة لتبني موقفهم الرافض للحقيقة، ولماذا اعتبر أن إجابتهم هي إجابة لا عقلانية عن أسئلة عقلانية.
خلال القرنين الماضيين توالت مساعي علماء الاجتماع للوصول إلى نظرية اجتماعية تقدم فهم متأصل للمجتمع الإنساني. ورابطت هذه النظريات تصوراتها مع فهم معين لمفهوم الحقيقة. وعلى الرغم من تنوع تعريف الحقيقة عند مختلف نظريات العلوم الاجتماعية على تنوعها الغني، إلا أنها كانت تلتقي عند نقطة واحدة أساسية هي المنطلق الذي تنطلق منه أفكار مرحلة التنوير في تعريف ماهية العلم وفي دور الحقيقة في هذا التعريف. ويمكن استثناء مفكر اجتماعي واحد (ومن تبع خطه) من هذه الدوامة (على حد تعبير فيلسوف ما بعد الحداثة ريتشارد رورتي)، ألا وهو كارل ماركس.
وبالرغم من هذا التنوع الهائل في المواقف الفلسفية من مفهوم الحقيقة خلال حقبة الحداثة، إلا أن وجهتي نظر محوريتين من كان لهما الحظوة الأكبر، وهما:
1) وجهة نظر الواقعيين والعقلانيين والذين يقولون بوجود "نظرية التطابق في الحقيقة The Correspondence theory of truth" والتي يمكن تلخيصها على الوجه التالي "إن نظرياتنا عن العالم الخارجي ما هي إلا انعكاس مرآوي عن ذلك العالم الخارجي المستقل عن ذواتنا العارفة."
2) ووجهة نظر الوضعية والتي تقول بأن مفهوم الحقيقة مرتبط فقط بالمشاهدات الامبريقية ولا يتعداها إلى نظراتنا عن العالم الخارجي. فهذا العالم الخارجي موجود باستقلال عن الذات العارفة ولن يتأثر بقناعتنا ونظرياتنا عنه. وبالتالي فمن غير المفيد التحدث عن الحقيقة بغير علاقتها مع المشاهدات الامبريقية.
والموقفين تعاملا مع مفهوم الحقيقة انطلاقاً من العلاقة بين الذات والموضوع. فالحقيقة لكليهما هي الانعكاس الذي يتركه الموضوع على الذات العارفة بغض النظر ما إذا كانت قناعتهم بأن هذه "الحقيقة" مهمة أم أنها غير مهمة. وبهذا التصنيف فإن وجهتي النظر تعتبران بأن الذات العارفة هي متلق مستقل للموضوع، وكأن الواقع أو العالم الخارجي مستقل تماماً عن الإنسان أو لنقل بشكل أصح بأن الإنسان مشاهد مستقل ومحايد لهذا العالم الخارجي. هذا الفهم الميكانيكي لمفهوم الحقيقة ترابط مع الفهم الميكانيكي لمفهوم المشاهد في العلم. فكما نعرف فإن الفيزياء الكلاسيكية تعتبر أن المشاهد مستقل عن العالم الخارجي. وانعكس هذا التصور بالضرورة على ما قدم من نظريات في العلوم الاجتماعية، والتي تبعت بشكل كبير تطورات العلوم البحتة. وللتذكير ببعضها: فهناك الاتجاه الذي تبنى الفردانية السيكولوجية، والتي ردت العلوم الاجتماعية إلى أساس سيكولوجي وبالتالي إلى علم النفس. ثم هناك موقف سبنسر بتأسيس علم التطور الاجتماعي بينما قام كونت بتبني الفيزياء الاجتماعية، وأسس مانهايم علم اجتماع المعرفة.
وكان العامل المسيطر في كل هذا هو عامل رد العلوم إلى الفيزياء. فالردية هي الشكل الذي أتفق عليه كل من الوضعيين والواقعيين في رؤيتهم لصورة العلم. وفي مواجهة هذه الردية التي تعتمد فيما تعتمد على فصل العلوم عن بعضها وعلى اعتبار أن العلوم غير متكافئة وهناك سيطرة وهيمنة لعلم الفيزياء على سائر العلوم. وفي المقابل كان هناك مواقف لا ردية تعتمد على مساواة فروع العلم المختلفة بعضها ببعض وعلى اعتبار أن هناك علم واحد يضم بداخله الفروع الاجتماعية والفروع البحتة على حد سواء ولكنها بقيت عاجزة أمام سطوة الردية.
أما عن الموقف من الحقيقة في ظل النزعة الردية فتمثل بالقول بأن الموقف النسبي من الحقيقة يتجلى بشكل أكبر في العلوم الاجتماعية عنه في العلوم البحتة وأن منهجية العلوم البحتة تغطي الكثير من إشكالاتها. ولكن، ونتيجة لما تمخض عن الفيزياء الحديثة (على اعتبار أن الفيزياء هي العلم المهيمن) من إشكاليات فلسفية، بدأ الكثيرون ينظرون بشيء من الريبة لهذه النزعة التفريقية بين طبيعة العلوم الاجتماعية وطبيعة العلوم البحتة. وقد يكون من أهم مخرجات هذا التحول المهم أن صار الموقف اللاردي موقفاً يمكن الدفاع عنه بشكل أكبر لكونه يستطيع تبرير عضوية العلاقة بين مختلف فروع العلم الواحد، اجتماعية كانت أم بحتة.
ولكن الجدل الكبير الذي تمخض عن هذين الموقفين من الحقيقة بكل تلاوينهم الداخلية (موقف الوضعيون وموقف الواقعيون) أدى بالبعض إلى نقد الاتجاهين من منطلق نقد أهمية "الفلسفة" النسقية، ووصل بهم الأمر إلى رفض تام لمفهوم الحقيقة. وهذا هو بالضبط موقف ما بعد الحداثة في تمثلها الإنجلو - ساكسوني. فإذا ما أخذنا قطب ما بعد الحداثة في التراث الإنجلو - ساكسوني وأقصد هنا ريتشارد رورتي فأننا نرى الخواص التالية لمفهوم الحقيقة[1]:
1) أن القضايا التي نتبناها في أعماق أنفسنا قد وضعناها هناك بأنفسنا، وليس هناك في داخلنا من تعريف أو تحديد لم نخلقه نحن. وأي منها ليس ناتج عن أي عوامل خارجية مستقاة من عالم موضوعي.
2) ولذلك فمفهوم الحقيقة هو مفهوم هلامي أضاع وقت الفلاسفة والعلماء كثيراً ولا يجب أن يضيع أي من وقتهم بعد اليوم.
3) أن المجتمع البشري يمكنه الحياة في مجتمع ثقافي ما بعد فلسفي دون أن يتأثر بمهاترات مفكري الحداثة حول أهمية المنهج والحقيقة والتمسك بترك الأثر للأجيال القادمة.
4) أن هدف هذا المجتمع "الثقافي المتعلم" هو الإمساك بأفكار زمانه فقط.
5) الحديث عن التعميم وعن الكليات يصبح في ظل هذا المجتمع جزء من الماضي العقيم.
6) يجب التعامل مع المعطيات أمامنا من خلال تجزئتها وأخذها كل على حدا.
وبهذا الموقف يحاول رورتي أن يتجاوز كل الخلافات القائمة بين الواقعيين والوضعيين حول الحقيقة الاجتماعية ويحول هذه الحقيقة إلى مجرد وهم يستبدله بموقف ذاتي ينطلق من فردانية مطلقة ويحول المجتمع إلى مجرد مجموع الأفراد المستقلين.
لكن هذا الموقف الذي يتبناه رورتي ينطلق من الرد على إشكاليات وجدت أصلاً كنتيجة لعملية الفصل القسري بين الذات والموضوع، والذي اصطبغت به معظم الأنساق الفلسفية لمفكري الحداثة، وهذا الموقف يعاني من معضلة حقيقية في أنه يتعامل مع الإنسان وكأنه ليس جزءًا من الواقع الذي يحيط به، وبالتالي فإن رؤية الإنسان الاجتماعية هي رؤية منفصلة وفاحصة لهذا المجتمع، كما هي حال العالم في الفيزياء الكلاسيكية والذي يفحص الطبيعة بشكل منفصل (مفهوم المشاهد المستقل).
لكن هذه المعضلة، أي معضلة الفصل بين الذات والموضوع، هي معضلة ليست جديدة في الفلسفة، وقد تم تقديم حلول عقلانية مناسبة لها في الماضي. وبالتالي وعلى الرغم من أهمية التساؤل الذي تطرحه ما بعد الحداثة حول العلاقة بين الذات والموضوع، إلا أن الإجابة المقدمة منهم هي إجابة لاعقلانية على تساؤل عقلاني. وقد يكون من أول الحلول العقلانية المطروحة هو الحل الذي قدمه كارل ماركس في منتصف القرن التاسع عشر، فنراه يؤكد على أن "الإنسان يصنع الظروف بالقدر نفسه الذي تصنع الظروف فيها الإنسان"، ويتساءل: "كيف يمكن لمعرفة الحقيقة التاريخية أن تكون ممكنة ما لم تعتبر أن ممارسة الإنسان النظرية والعملية هي جزء لا يتجزأ من هذه الحقيقة؟" وويوضح أن "السؤال حول ما إذا كان التفكير الإنساني مرتبط بالموضوع هو ليس سؤال نظري بل هو سؤال عملي. فالإنسان يجب أن يثبت الحقيقة، أي الواقعية والقوة المرتبطة بالفكرة، يجب أن يثبت ارتباط تفكيره مع الممارسة. وبهذا يصبح الخلاف حول الواقعية أو اللاواقعية حول الأفكار غير المرتبطة بالممارسة هو خلاف مدرسي بحت." أن هذه الجمل المجتزئة من أعمال ماركس خلال 1844-1846 تحتاج منا فقط القليل من الجهد كي نربطها مع هذا النقاش الدائر لكي نصل إلى حل عقلاني ينقض الحل اللاعقلاني المقدم من رورتي.
أن المعضلة الأساسية لدى لاعقلانيي فكر ما بعد الحداثة يتمثل بأنهم يقدمون حلول لا عقلانية لمشاكل صحيحة. وبالتالي دورنا يكون في أن نأخذ تلك المشاكل ونقدم لها إجابات عقلانية. فبالنسبة للفلسفة على سبيل المثال فهل يمكن للمجتمع أن يصبح مجتمعاً لا فلسفي؟ أو هل فعلاً أن العالم لا يحتاج إلى الفلسفة؟ فإذا ما أخذنا الدور التفسيري البحت للفلسفة باستقلال عن أي دور آخر، فمن الممكن للمرء أن يصل مع رورتي إلى ما وصل إليه من استنتاجات. لكن المهمة الأساسية للفلسفة لا تتوقف عند التفسير، على الأقل بالنسبة للفلسفة التي تصف وتعرف نفسها على أنها علم، وهي فلسفة تعتبر أن مهمتها يجب أن تتعدى تفسير العالم إلى عملية التدخل في تغييره. وهذا النوع من الفلسفة يقتنع بأن الفعل الفلسفي هو فعل علمي في مختلف الفروع الأخرى. وهذا ما قصده ماركس عندما قال "إن الفلاسفة إلى اليوم قد فسروا العالم لكن المهم هو تغييره". وليس كما يقرأ رورتي ذلك بادعائه بأن ليس هناك أهمية لعمل الفلاسفة لأنهم لا يفعلون سوى تفسير العالم والهدف الذي يجب أن يسعى إليه المجتمع هو تغيير العالم وبالتالي على المجتمع أن يتجاوز المرحلة الحالية من سيطرة الفلسفية "العقيمة" كما تمكن المجتمع من تجاوز مرحلة سيطرة اللاهوت.
أما عن معضلة التفريق بين الحقيقة "بالمستوى الأول والتي تقول بالتطابق مع الواقع والحقيقة بالمستوى الثاني والتي تحدد ما هو جيد أن نقتنع به" والتي يدعي رورتي بأنها تدخلنا بدوامة لعبة الدولاب فإنها معضلة يسهل حلها إذا ما وضعنا الإنسان في موقعه في منتصف العملية المعرفية لا كمشاهد مستقل وإنما كفاعل حيوي في هذا الفعل المعرفي وبالتالي تصبح الحقيقة ليست حقيقة لكل زمان ومكان بل هي حقيقة مرتبطة تاريخياً.
وهنا يكمون من الضروري التعامل مع الفكرة الكانتية (بالانتساب للمفكر الألماني لأمانويل كانت) التي سيطرة طويلاً على الأطر المعرفية في الفكر الإنجلو - ساكسوني والتي تتلخص بالقول بأن النظريات العلمية اجتماعية كانت أم بحتة هي نظريات خارج التاريخ تتعامل مع الواقع في لحظة سكونية ما، وتعالج تلك اللحظة. وإن كانت هذه الفكرة قد تم نقدها من قبل الفكرة الهيجلية (جورج ولهم هيجل) المقابلة والتي تقول بتاريخية النظرة العلمية فإن هذه الأخيرة قد لاقت الكثير من الانتقادات في التراث الإنجلو - ساكسوني ليس أقله انتقاد كارل بوبر للمنهج التاريخي في كتابه "عقم المنهج التاريخي". لكن رورتي والذي يدعي موافقته مع هيجل في أهمية النظرة التاريخي يتجاوز بنقده للكانتية، نقد هيجل لها ليصل إلى نفي المنهج ككل تاريخياً كان أم غير ذلك.
وإذا ما أعتقد رورتي بأن الممارسة الفلسفية القائمة تؤدي بالضرورة إلى الغيبية ينسى أن الأسلوب لحل هذه القضية يقبع بأن نحلل النشاط الاجتماعي لكي نستطيع أن ندرك سبب ظهور هذه الغيبية لا أن نقول بعدم جدوى التحليل ككل. وبالتالي فأن "كل الحياة المجتمعية هي حياة عملية. وكل الغموض الذي يؤدي بالنظرية للوقوع في شباك الغيبية تجد تفسيرها العقلاني في الممارسة الإنسانية وفي أدراك تلك الممارسة" (كارل ماركس). وبالتالي فالحقيقة الغائبة بالنسبة لرورتي تظهر بجلاء عند إعادة الإنسان إلى موقعه الصحيح في قلب الصورة الواقعية. فالإنسان جزء من هذا الواقع وليس مستقل بذاته.
أما عن موقف رورتي من النظريات الشمولية والقائل بأن المعطيات كما نراها في تجلياتها الواقعية تدعم القول بضرورة تبني نظرة تجزيئية مواضعية. فلكل قضية من القضايا التي تواجهنا تفسير مستقل نستطيع أن نفهم القضية من خلاله ولا يوجد تفسير شمولي لكل القضايا المتشابهة. إذا ما أخذنا بالفعل معطيات العلم الحديث بشقيه الاجتماعي والبحت لتمكنا من عرض أكثر من حجة لدعم الموقف الرافض للنظريات الشمولية، نظريات كل شيء. لكن هذا الرفض للنظريات الشمولية لا يعني بأي حال عدم الإقرار بوجود حقائق. فعدم اعتبار النظريات الشمولية ممثلاً للواقع لا يعني عدم وجود تمثيل نظري لهذا الواقع. فما يمكن استنتاجه من المعطيات الجديدة يعارض التمثيل النظري المتعالي الشمولي ولكن لا يعارض كل تمثيل نظري. فالنماذج الظاهراتية مثلاً يمكن اعتبارها تمثيل نظري محايث وهو تمثيل يحمل حقيقة في داخله.
ومن هذه النقطة انطلق إلى التساؤل ما هو نمط مفهوم الحقيقة الممكن في العلوم الاجتماعية في ضوء المعطيات الحديثة؟ للأسف أن المقال لن يسعفني هنا لتقديم تصور كامل عن المعطيات التي تلزم الوصول إلى التعريف اللاحق لمفهوم الحقيقة، لكن هذه المعطيات معتمدة على النقاش الفلسفي الطويل بين المدارس المختلفة حول مفهوم الحقيقة في العلوم الاجتماعية ومقدار توفق النظريات المختلفة في تقديم مفهوم متناسب مع الواقع.
هناك بعض النقاط التي ارتقت اليوم إلى مستوى المسلمات كالقول بأن الحقيقة ليست معطى ثابت يصلح لكل زمان ومكان، بل هي معطى نسبي يعتمد على معطيات الواقع. وهذا المعطى النسبي قد يتحول مع تطور القناعة به إلى مستوى من الإطلاق، ولكن يجب الحذر هنا إذا كنا نريد أن لا نقع بالخطأ الذي يحول حجج رورتي إلى أن تكون حجج صائبة وذلك عندما يدعي بأن الحقيقة كما تقدم في الوصف الاجتماعي اليوم وصلت إلى مستوى من التقديس الذي لا يجب أن يمس. والحل يكون بأن نعرف ما يمكن أن نعتبره بأنه حقائق وصلت أو لامست الإطلاق، وهذه الحقائق في مجملها هي حقائق مرتبطة بالنتائج العلمية التي يمكن التدليل عليها في كل مرة ما دمنا نلتزم بالظروف الموضوعية المرافقة لها، هذا بالإضافة إلى الحقائق الرياضية والمنطقية والتي تعتمد على آلياتها الداخلية في الوصول إلى الإطلاق. ومثال ذلك قولنا أن 1+1 = 2 وهو قول لا يمكن لشخصين أن يختلفا عليه كون أن العلاقة + معرفة بحيث تلزم الوصول إلى النتيجة. وكقولنا مثلاً "أن حجم الماء المزاح من وعاء مملوء بالماء يساوي حجم الجسم المغمور" (قاعدة أرخميدس). ولكن عندما نتكلم على مفاهيم لا ترتبط بالمستوى الطبيعي المباشر نجد أنفسنا مضطرين للتعامل مع مفهوم متحرك للحقيقة، وأعني بذلك القول بأنه على الرغم من القناعة التامة بأن المفاهيم النظرية هي انعكاسات للواقع الموضوعي إلا أنها تؤثر بطرحها وتداولها اجتماعياً على الواقع الموضوعي ذاته. أي أن هناك تفاعل جدلي بين المفاهيم النظرية والواقع الموضوعي إلى الحد الذي يصدق معه القول بأن الإنسان يؤثر في واقعه من خلال أفكاره بنفس الدرجة التي يتأثر فيها بهذا الواقع.
وإذا ما نظرنا إلى العلم بوصفه علم واحد يضم بداخله الفروع المختلفة من اجتماعية وبحتة، وإذا ما اتفقنا بأن العلاقة بين هذه الفروع هي علاقة عضوية بين فروع متساوية في الأهمية لا سيطرة فيها للفيزياء ولا للأدب. فإن هذه الصورة للعلم تتفوق على التركيز على رد كل العلوم إلى الفيزياء كما هي الحال في وجهة النظر الموروثة، كما أنها تتفوق أيضاً على نظرة رورتي التي تعطي التحليل الأدبي أهمية أكبر. وفي الوقت نفسه تعطي حل منطقي لمفهوم الحقيقة في ظل هذا العلم الواحد. فالحقيقة تكون حقيقة عضوية تترابط بعضويتها مع العلم المتطور والسابح في بحر التاريخ. وتكون لذلك حقيقة متحركة تعتمد في حركتها على مستجدات الواقع. ولكنها مع ذلك موضوعية لكونها تعكس عضوية الواقع وتشابك الذات والموضوع.
[1] أعتمد هنا على كتابي رورتي : الفلسفة ومرآة الطبيعة (1979) وتبعات البرغماتية (1982) إضافة إلى جملة مقالات ومقابلات معه موجودة على شبكة المعلومات الإنترنت.
نشر في جريدة الدستور الأردنية
abuiyad

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق