يدل المعنى اللغوي لكلمة الاستقراء induction على التتبع وعلى تفحّص البلاد قرية فقرية، وهو معنى يتفق مع المعنى الاصطلاحي إلى حد كبير، إذ يدل الاستقراء، في لغة الحديث العام، على الاستدلال المباشر الذي يعتمد على التخمين، وعلى السيرورة البنائية منه خاصة التي تنتقل بالمرء، مستدلة جزئياً ومُخمِّنة جزئياً، من بعض العلامات إلى بعض الوقائع الاحتمالية في كثير أو قليل، وهذا ما جعل كوندياك[ر] يرى أن كلمة استقراء لا يمكن قولها لدى الحديث عن نتيجة بديهية.
ولكن للاستقراء معنى فلسفياً مختلفاً يتعلق بنظرية المعرفة أو المنهج، فهو يعني العملية التي ينتقل الذهن بها من عدد معين من القضايا المفردة أو الخاصة تدعى مستقرئِة، إلى قضية أو عدد قليل من القضايا أعم منها تدعى مستقرَأة، بحيث تشمل القضايا المستقرَئة كلها. وقديماً عرّف أرسطو[ر] الاستقراء بقوله: «إنه الانتقال من الحالات الجزئية إلى الكلي الذي ينظمها». والاستقراء نوعان: تام وناقص:
أما الاستقراء التام (أو الصوري) فهو الحكم على الجنس لوجود ذلك الحكم في أنواعه جميعاً. وكان أرسطو أول من أشار إليه. ومثاله: الجسم إما حيوان أو نبات أو جماد، وكل من الحيوان والنبات والجماد متحيز (يشغل حيزاً) فينتج أن كل جسم متحيز. ويُلاحظ أن هذا الاستقراء اتخذ صيغة قياس، وأن الحد الأوسط في المقدمتين كان بتعداد أنواع الجنس استقرائياً.
وأما الاستقراء الناقص (أو الموسع) فهو الحكم على الكلي بما حكم به على بعض جزئياته. ومثاله أن يحلل المرء مخبرياً عينة من الماء ويجد كل جزيء منها يتألف من ذرتين من الهدروجين وذرة من الأكسجين، فيقول: إن كل ماء مؤلف من ذرتين من الهدروجين وذرة من الأكسجين.
أساس الاستقراء
ولكن ما الأساس الذي يقوم عليه الاستقراء؟ لقد رأى لاشلييه، أن البرهان على مبدأ الاستقراء، ينطلق مرة بعد أخرى من التجربة الخالصة ومن الأشياء أو الظاهرات ذاتها، ويعتمد ذلك على نوعين من الأسباب فاعلة وغائية. أما الأسباب الفاعلة فتتألف من سلسلة من الحدود، يعين وجود كل حد منها الحد الذي يليه، فيدرك المرء، وسط كثرة الظواهر، وحدة تربط بينها، ويسبق فيها الكل أجزاءه، ويخضعها له، مما ينتهي إلى خضوع الطبيعة (الأسباب الفاعلة) للأسباب الغائية.
وهذا يعني الإيمان بالحتمية، أي خضوع الطبيعة لقوانين ثابتة وكلية، مما يقضي إلى الحتمية أساس الاستقراء.
الاستقراء والبحث العلمي
ولكن الاستقراء بمفهومه الدقيق أصبح منهج بحث تعتمد عليه العلوم المختلفة. ففي الرياضيات يستخدم العلماء نوعاً من الاستقراء الصوري مطبقاً على الموضوع الرياضي، دعاه هنري بوانكاريه[ر] الاستدلال الرجعي raisonnement par récurrence وهو عملية ذهنية تقوم على تعميم متدرج يتناول كل حدود سلسلة معطاة، بعد تقرير مشروعية الانتقال من أحد حدودها إلى الذي يليه في السلسلة ذاتها ومثال ذلك: إذا كانت القضية صادقة بالنسبة إلى (ن=1) و(ن=2)، كانت صادقة بالنسبة إلى السلسلة (ن+1) وغيرها من الأعداد التامة.
وفي العلوم الطبيعية يُستخدم الاستقراء منهجاً كذلك. وهو يمر بثلاث مراحل يتوجها القانون العلمي، وهي: الملاحظة والفرضية والتجريب، ومن الممكن ضرب عِلّة سقوط الأجسام مثلاً. لقد تتبع غاليليه[ر] حوادث سقوط الأجسام من فوق برج بيزا المائل، ولاحظ أنها تكاد تصل إلى الأرض في وقت واحد، على الرغم من اختلافها، عندئذ افترض وجود علاقة غير محددة بين المسافة والجاذبية والزمن وحينما أجرى تجاربه على السطوح المائلة، تأكد من هذه العلاقة وحددها في قانون.
وفي علم الاجتماع، وهو علم إنساني، يُستخدم الاستقراء أيضاً. وتعتمد الملاحظة فيه على استقراء معطيات التاريخ والدراسة المونوغرافية والإتنوغرافية والمعلومات الإحصائية. وهذه كلها بحاجة إلى التفسير، أي إلى فرضية. والتفسير يمكن أن يأتي ناقصاً أو خاطئاً، إذا اكتفى العالم بالنظر إلى الوقائع من الخارج، ولم يلاحظها في وجدانه: فالأسرة ليست حقيقة خارجية فقط، بل داخلية تتطلب لتفسيرها معايشة وجدانية. ومتى برز تفسيرها كان فرضية لابد من التحقق منها. والمثال على ذلك مأخوذ من دوركهايم الذي لاحظ أن هناك علاقة بين الحياة العائلية والانتحار: فحوادث الانتحار لدى العزاب أكثر منها لدى المتزوجين، وافترض أن الحياة العائلية ذات أثر في تقليل حوادث الانتحار، وأن هذه الحوادث تتناسب عكساً مع عدد أعضاء الأسرة وأطفالها. هنا لجأ دوركهايم إلى الملاحظة المستدعاة التي تقوم مقام التجريب، معتمداً على الإحصاءات فتبين أن معدل الوقاية بالمقارنة مع العزاب، هو 2.9 لدى الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد، و1.5 لدى المتزوجين وليس لهم أولاد، وأن عدد حوادث الانتحار يقل كلما ازداد عدد أفراد الأسرة، ولاسيما عدد الأطفال.
وهناك مناهج استقرائية أخرى تلحقها تعديلات خاصة، بحسب اختلاف الوقائع التي تؤلف موضوعها، مثل منهج علم الحياة ومنهج علم النفس وغيرهما.
قيمة الاستقراء
ولكن ما قيمة الاستقراء؟ إن مجرد طرح السؤال يعني الإيمان بوجود استقراء مستقل عن غيره من طرائق التفكير. وهذا ما لا يسلم به بياجه[ر]. فهو يقول: «إن أولى مسائل الاستقراء هي، على أقل تقدير، معرفة هل هناك شيء يدعى الاستقراء؟» ويتابع كلامه مبيناً أنه يظل مختلطاً بالاستنتاج، فيقول:«لقد رفض بعضهم أن يتكلم عن الاستقراء، كما يتكلم عن استدلال نوعي، فجعل منه منهجاً: وهو منهج يعتمد على المعطيات التجريبية، ليعالج ضروب القصور في الاستنتاج. بيد أن المنهج يشمل هو ذاته استدلالات، وهذه ترتد دائماً إلى الاستنتاج في نهاية التحليل».
ومن هذا يبدو أنه ما من استقراء مستقل عن الاستنتاج. ولما كانا معاً عمدة التفكير كان لابد من الاعتراف بأن قيمة الاستقراء منوطة بقيمة التفكير كله، ليس في تداخله مع الاستنتاج فقط، وإنما في تداخلهما جميعاً مع التحليل والتأليف أيضاً، لأن الاستدلالات التي تكلم بياجيه عنها لابد لها من أن تكون هي عمليات التحليل والتأليف التي ترافق الاستقراء والاستنتاج. وهذا ينتهي إلى أن قيمة الاستقراء ترتبط بقيمة المعرفة الإنسانية كلها، وأن تحديد قيمة هذه يستوجب تحديد قيمة ذاك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق