يعد ريمون آرون Raymond Arond واحداً من أبرز علماء الاجتماع الفرنسيين المعاصرين لما تشغله دراساته من حيز في الأوساط العلمية والسياسية داخل فرنسة وخارجها. وقد خصص معظم مؤلفاته وأعماله العلمية لتأكيد تصوراته الاجتماعية المرتبطة بمواقفه السياسية إِزاء انقسام العالم إِلى إِيديولوجيتين متباينتين كما يراهما، الماركسية، والديمقراطية.
عُيّن ريمون آرون أستاذاً لعلم الاجتماع في جامعة السوربون عام 1956، وأصبح عضواً في المجمع الفرنسي عام 1963، ثم أستاذاً في الكوليج دوفرانس عام 1970.
أراد لنفسه أن يكون عالم اجتماع وفيلسوفاً، فقام بدراسة مقارنة لنظامي الإِنتاج: النموذج السوفييتي والنموذج الغربي على أساس ثلاث فئات من المظاهر: اقتصادية واجتماعية وسياسية، كان كتابه الأول «ثمانية عشر درساً في المجتمع الصناعي» مخصصاً لمعالجة الجانب الاقتصادي، في حين كان كتاب «صراع الطبقات» لمعالجة الجانب الاجتماعي، وكتابه «الديمقراطية والتسلط» لمعالجة المظاهر السياسية. وتبع الكتب الثلاثة كتاب رابع هو: «مراحل التفكير الاجتماعي» حدد فيه آرون صبغة التفكير في علم الاجتماع مؤكداً الاستمرارية من مونتسكيو إِلى ماكس فيبر ماراً بماركس وتوكفيل ومن مؤلفاته الأخرى «تفكير الحرب»(1975) و«التدهور الأوربي» (1977).
يرى آرون أنه من الصعوبة تعريف ميدان علم الاجتماع بسبب اختلاف وجهات النظر حول ما هو اجتماعي، ولتوضيح ذلك يلجأ إِلى مقارنة موضوعات علم الاجتماع بموضوعات العلوم الاجتماعية الأخرى، كالاقتصاد السياسي وعلم النفس والتاريخ.
فالاقتصاد السياسي مثلاً - كما يرى آرون - يعالج موضوعات قابلة للانعزال عن الواقع الشامل، أو منعزلة عنه، ولذلك فإِن لهذا العلم منهجه الخاص. أما علم الاجتماع فإِنه يرمي إِلى أن يكون علماً خاصاً مختلفاًَ عن علم الاقتصاد، لأنه لا يوافق على عزل أية ناحية من نواحي الواقع الاجتماعي: فالأسرة، والطبقة الاجتماعية، والعلاقة بين أقسام الواقع السياسي وغيرها، هذه كلها تحمل في مضمونها، ومن بعض الوجوه، النواحي الاجتماعية كافة. ولايمكن دراسة الطبقات الاجتماعية - كما يرى آرون - ما لم يتم إِدراك النواحي الاقتصادية والسياسية والدينية في الوقت نفسه، ويبرز علم كل واحدة من هذه الجوانب أو الظواهر كأنها مطبوعة بطابع الكل الاجتماعي الشامل، فهي ظاهرة اجتماعية نابعة من الكل.
ويتناول علم الاجتماع - بنظر آرون - ثلاثة موضوعات أساسية، يجدها واضحة عند ماكس فيبر ودركهايم. وهي: أولاً تحديد ما هو اجتماعي وتحليله، وقد برز ذلك عند دركهايم من خلال تحديده لنوعية الظاهرة الاجتماعية، وثانياً تعيين الخصائص المرتبطة بكل بنية أو بكل البنى الاجتماعية، وثالثاً وضع تصنيف للبنى الاجتماعية في سياق مجرى التاريخ. ويجد آرون هذه المسائل في أعمال ماكس فيبر الذي حاول أن يعيد بناء دراسة المجتمع إِلى تداخل العلاقات الفردية، وحاول إِقامة خصائص اقتصادية سياسية وقانونية تسمح بتحديد نماذج أساسية للبنى الاقتصادية والسياسية والقانونية ووضع تصنيف لهذا التنوع في استمرارية التطور التاريخي.
وتأسيساً على ذلك فإِن قدرة الباحث في علم الاجتماع على دراسة الواقع مرتبطة بمقدار إِدراكه للموضوعات الثلاثة. ووفقاً للمعنى الذي يعطيه الباحث لمفهوم «الاجتماعي» يتحدد فهم علم الاجتماع، فإِذا حددنا هذا المفهوم تحديداً شكلياً، فإِن علم الاجتماع وتداخل العلاقات الفردية سيؤلف منهجاً خاصاً إِلى جانب المناهج الأخرى. أما إِذا حددنا هذا المفهوم كما حدده دركهايم، فإِن في مقدور هذا العلم - أي علم الاجتماع - الإِحاطة بمجمل العلوم الاجتماعية الأخرى. وسيكون بمقدوره أيضاً أن يكون أساس وحدتها ووسيلة للتأليف بينها، كذلك يميز آرون بين علم الاجتماع والمذهب الاجتماعي، ويقرر أن علم الاجتماع إِذا ما ارتبط بعقيدة سيصبح بالتأكيد مذهباً تفسيرياً.
ويحاول آرون من خلال كتبه المتعددة أن يبلور نظريته المعروفة بنظرية المجتمع الصناعي، إِذ يحاول البرهنة على أن المجتمعات الصناعية المعاصرة تكتسب سمات نوعية متماثلة سواء أكانت خاضعة لنظام اشتراكي أم رأسمالي. وهو يخصص أعمالاً بمجموعها لهذا الغرض على المستويات الاقتصادية والسياسية كما مر.
يعرّف آرون المجتمع الصناعي بأنه المجتمع الذي يكون شكل إِنتاجه الصناعي من أعظم مميزاته، والذي يضم مؤسسات صناعية كبيرة تتم فيها عمليات الإِنتاج الصناعي الكبيرة. وانطلاقاً من هذا التعريف يحدد آرون صفات المجتمع الصناعي وخصائصه في خمس صور تنطبق على المجتمعات الصناعية كلها سواء بسواء وذلك على الوجه الآتي.
ـ انفصال مكان العمل عن المحيط الأسري، إِذ ينفصل في المجتمع الصناعي مكان الإِقامة عن مكان عمل الأفراد.
ـ بروز شكل جديد من أشكال تقسيم العمل، فلا يقتصر تقسيم العمل بين فئات القرويين والتجار والصناع فحسب، إِنما تبرز تقسيمات أخرى داخل المنشأة الصناعية نفسها وهو ما يسميه آرون بالتقسيم التقني للعمل أو التخصص.
ـ تقضي المشروعات الصناعية حصول كل منها على رأس مال كبير إضافة إِلى ضرورة تجديد رأس المال بصورة مستمرة.
ـ الحساب العقلي للمشروعات، ففي كل المشروعات لابد من إِجراء الحسابات باستمرار للحصول على أدنى أسعار للكلفة من أجل تجديد رأس المال وإِنمائه.
ـ التكاثف العمالي في مراكز العمل، فحيث توجد المشروعات الصناعية الكبيرة، يوجد تكاثف عمالي.
تلتقي تصورات ريمون آرون بصورة عامة مع مجموعة واسعة من الدراسات التي ظهرت مؤخراً في فرنسة نفسها وأوربة الغربية والولايات المتحدة، والتي هدفت إِلى بيان الأساس الاقتصادي والاجتماعي المشترك لنظامي الإِنتاج الاشتراكي والرأسمالي. بيد أن هذه الدراسات جاءت تحت عناوين مختلفة يأخذ بعضها اسم «المجتمع الصناعي» كما هو الحال عند آرون نفسه، أو «المجتمع الصناعي المعاصر» عند دارندوف. ويحمل بعضها الآخر اسم «المجتمع ما بعد الصناعي»، كما يرد عند آلان تورين، و«مجتمع الاستهلاك الشعبي العالي» كما يذكر رستو. وفي جميع هذه الأطروحات يظهر توجه واضح يقوم على أساس التقريب بين نظامي الإِنتاج الاشتراكي والرأسمالي.
أما دارندوف فيجد أن مفهوم المجتمع الصناعي أوسع بكثير من مفهوم المجتمع الرأسمالي. فعلامة الأول الأساسية هي الإِنتاج الآلي في المصانع والمعامل، في حين يعد المجتمع الرأسمالي شكلاً من أشكال المجتمع الصناعي. ويرى آلان تورين أن المجتمع الصناعي أوشك أن يأفل بدلالة أن المجتمع الجديد يتميز من المجتمعاتالسابقة وغيرها. ففي المجتمع الصناعي ينفصل النظام الاقتصادي عن النشاط الاجتماعي، ويبدو أن له قوانينه الخاصة.
أما رستو فيضع في بيانه اللاشيوعي مراحل محددة لمسار التطور تتلخص في خمس مراحل، وتكون مرحلة الاستهلاك الشعبي في قمة هذه المراحل، وقد وصلت إِليها بعض البلدان، مثل الولايات المتحدة وعدد من بلدان أوربة الغربية إِضافة إِلى الاتحاد السوفييتي (السابق) الذي هو على أعقابها.
والذي يجمع بين هذه الدراسات، وفيها دراسات آرون نفسه، هو أنها تجعل مسار التغير الاجتماعي لمختلف البلدان متشابهاً أو متطابقاً، بصرف النظر عن أشكال ملكية وسائل الإِنتاج (وهذه مسألة أولتها الماركسية أهمية كبيرة) وفي ذلك معارضة واضحة للتعليل الماركسي عبّر عنها آرون في أكثر من موضع، ولاسيما في سلسلة كتبه الأربعة المشار إِليها سابقاً.
يرتبط آرون ارتباطاً واضحاً مع قضية عصره، كما يراها هو وكما يراها باحثون آخرون، ولا يخفي آرون موقفه الأيديولوجي إِزاء هذه المسألة، ولا يخفي موقفه هذا بوصفه عالم اجتماع أيضاً. وقد وجد نفسه مضطراً إِلى أن يقدم فهمه للمجتمع والعلوم الاجتماعية استناداً إِلى تصور شامل يحدد فيه لكل علم من العلوم موقعه من المجتمع، وطبيعة علاقته بعلم الاجتماع، ولا ينفصل هذا التصور عن مجمل القضايا التي عاصرها، العلمية منها والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وتتفاعل الجوانب الاقتصادية والسياسية في فكر ريمون آرون لتؤلف موقفاً ملتزماً تجاه قضية العلاقة بين الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المختلفة في العالم، فيرى أن الصراع الأيديولوجي سيضعف إِزاء تطور أنظمة الإِنتاج الصناعية وما تفرزه من علاقات اجتماعية تجعل في النهاية أشكال الحكم والإِدارة في المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي متقاربة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق