يقف البنيويون الماركسيون فى مقدمة ركب الناقدين للاتجاهين المادي الثقافوى والإيكولوجى والثقافوى. تلجأ التفسيرات البنيويَّة الماركسيَّة للتطور الثقافي إلى استعارة الكثير من المفاهيم التى أسسها كارل ماركس وفردريك إنجلز مثل مفهومي نمط الإنتاج والطبيعة الجدليَّة للتاريخ ويشمل مفهوم نمط الإنتاج بالنسبة لماركس كل من قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج. ويرى ماركس أنه على أساس قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج تنشأ عناصر البنيَّة وعناصر البنيَّة الفوقيَّة بحيث يصبح ممكناً تفسير التاريخ والتطور الثقافي من خلال تحليل أنماط الإنتاج المتبدلة. ومع أنَّ العديد من أنصار الاتجاهين المادي والثقافوى البنيوى الماركسي يظهرون قدراً من الاتفاق بشأن تعريف لقوى الإنتاج انطلاقا من مصطلحات تقنيَّة بيئيَّة أساسيَّة (على سبيل المثال المناخ، والأنظمة الزراعيَّة، والآليات … إلخ).
إلا أنَّ القول بكون علاقات الإنتاج الإجتماعى وقوتها هى التى تحدد جوانب المجتمع الأخرى وتحتمها ظلَّ إشكاليَّة خلافيَّة منذ فجر بزوغ التركيب الماركسي. بدون الخوض فى خضم التفاصيل المتعلقة بهذا الموضوع المعقد والشائك نقول بأنَّ معظم البنيويين الماركسيين يؤكدون على مقولة كون علاقات الإنتاج الإجتماعى هى التى تحتم شكل المجتمع ومحتواه وتاريخه. فعلى سبيل المثال يفسر فريدمان علاقات الإنتاج بحسبانها "تلك العلاقات التى تحتم الدورة الاقتصادية لعمليَّة الإنتاج المادي فى ظل شروط تقنيَّة وإيكولوجيَّة معينة فى مرحلة معينة من تطور القوى المنتجة". ويعدد فريدمان نماذج الأشياء التي تحتمها علاقات الإنتاج الإجتماعى:
1. الاستفادة من البيئة فى إطار الحدود التى تطرحها الإمكانيات التقنيَّة.
2. تقسيم الأدوار فى عمليَّة الإنتاج، بمعنى من يقوم / ومن لا يقوم بالعمل الجسمانى.
3. أشكال الاستحواذ على الفائض الإجتماعى وأشكال توزيعه وكيفيَّة استخدام الفائض الاقتصادي.
4. قيمة محسوبة إجتماعياً لنسبة الفائض والربح؟
هكذا يجادل فريدمان بأنه لا يمكن فهم أنماط التغير الإجتماعى وإدراكها بإرجاع الأدوار السببيَّة الرئيسة إلى النمو السكاني وايكولوجيا الإنتاج الزراعى وغيرها من عناصر التقنيَّة البيئيَّة. وفى هذه النقطة تحديداً يتركز إعتراض فريدمان ونقده الموجه للمعالجات الماديَّة الثقافويَّة والتحليلات الايكولوجية الثقافويَّة.
ويعبر سالينس عن الفكرة ذاتها من خلال محاولاته التأكيد على قوة عناصر البنيَّة والبنيَّة الفوقيَّة على تحديد ظواهر البنيَّة التحتيَّة وذلك عبر اختبار المركبات "غير المنطقيَّة إطلاقاً" فى المجتمعات المعاصرة، ويتساءل عن الأسباب الكامنة وراء النظريَّة العاطفيَّة لعلاقة الأمريكيين بالكلاب والخيول وتجنبهم أكل لحومها فى الوقت الذى لا يوجد لديهم تحفظ تجاه أكل ملايين الأبقار . ويقول سالينس أنَّ هذه الحقيقة قد تثبت عبث المحاولات الهادفة إلى تحليل الظواهر الثقافيَّة وفق منظور يعزو أهميَّة قصوى للاقتصاد كما هو ملاحظ فى المعالجات الماديَّة الثقافويَّة والإيكولوجيَّة الثقافويَّة. ويرى سالينس "أن الظروف والجدوى الماديَّة توجد بالنسبة للناس لا كحقيقة طبيعيَّة وإنما كمركب ثقافى … الظروف الطبيعيَّة لقابليَّة التطبيق (القوى الاصطفائيَّة) تؤلف مجرد عوائق سلبيَّة … حدود للإمكانيات الوظيفيَّة التى تظل غير متجددة بالنسبة لجيل من الأشكال الثقافيَّة المعنيَّة". لهذا السبب يفترض سالينس أنه لا يمكن تفسير استعمال لحم الخنزير فى مالينبزيا، أو أكل لحوم البشر عند الازتيك، أو نشوء المشيخات الأولى فى بلاد ما بين الرافدين انطلاقا من متغيرات ديموغرافيَّة أو ايكولوجية أو اقتصادية … "لا يستطيع الفرد منا أن يقرأ مباشرة من الظروف الماديَّة إلى النظام الثقافي كما يقرأ من السبب إلى النتيجة أو من المتغيرات التقنيَّة البيئيَّة لا تمارس تأثريا بل أنَّ كل شئ يعتمد على الطريقة التى تتداخل بها تلك الخصائص ثقافياً لتعطي تنظيماً له معنى من خلال نمط للتنظيم الثقافي". تحدد كل ثقافة تفاضلياً تلك الأشياء مثل "الصلة الوثيقة بين كافة الموارد الممكنة" وهى التى تحدد طريقة استخدام المورد وكثافة استغلاله وفق المنطق الثقافي الخاص بها.
وقد تمَّ التعبير عن مثل هذا الموقف، أي كون أنماط الإنتاج فى أي مجتمع محدد تكون مركبة بصورة فريدة وفق المنطق الثقافي للمجتمعات التى توجد بها تلك الأنماط، فى معظم التحليلات البنيويَّة الماركسيَّة. هكذا نجد أنَّ فريدمان يفترض أن نمط الإنتاج الواحد نفسه فى المجتمعات المختلفة لا بدَّ وأن يتكيف مع بيئته الاجتماعية المعينة التى يؤدى فيها وظيفته. وبما أنَّ كل مجتمع يمكن أن يشكل خليطاً لأنماط إنتاج مختلفة تؤسس فيما بينها علاقات متنوعة داخل المجتمع، فإنه لا يمكن ظهور نمط إنتاج معين فى "شكل نقى". يسود فى كل من فرنسا وإنجلترا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكيَّة نمط إنتاج رأسمالي، لكن يلاحظ ان التركيبات الاجتماعية فى تلك البلدان تقوم على أنماط إنتاج متضاربة فى علاقاتها بعضها بالآخر.
يعتمد تحليل ماركس للتاريخ على الافتراض بأنَّ التاريخ هو صيرورة جدليَّة تشتمل على توترات متعاقبة للفرضيَّة، ونفى الفرضيَّة (الفرضيَّة المضادة)، والتركيب الذى ينفى الفرضيَّة المضادة لكنه يحمل سمات الفرضيَّة والفرضيَّة المضادة ويحافظ عليها لكن فى مستوى أعلى. المثال الذى اهترأ لكثرة استخدامه هو مثال البذرة (الفرضيَّة) التى تنشأ عنها النبتة (الفرضيَّة المضادة) وعودة النبتة إلى بذرة، لكن هذه المرة ببذرات عديدة (التركيب). فى كل المواد التاريخيَّة العينيَّة – أي فى الواقع الفعلي – يمكن ملاحظة هذه الصيرورة الجدليَّة التى تكون نتيجتها المسار الصاعد للتاريخ. الجانب التطوري تمَّ توضيحه فى أعمال انجلز لكنه كان أكثر تجلياً فى كتابات ماركس "فى مرحلة معينة من تطورها تدخل قوى الإنتاج المادي للمجتمع فى صراع مع علاقات الملكية التى كانت فاعلة فى إطارها. من أشكال لتطور القوى المنتجة تتحول تلك العلاقات إلى قيود تكبلها. حينها يبدأ عصر الثورة الاجتماعية". بالنسبة لماركس فإنَّ التطور الثقافي يحدث لا عبر تواتر مراحل مرتبة مسبقاً بل عبر انحلال المجتمعات عن طريق العمليَّة الجدليَّة. لا يمكن لنمط الإنتاج المعين تبديل نفسه إلى نمط آخر طالما أنه يحتوى على تناقضات ستؤدى الى فنائه.
ما هو، إذن، دور التحليل التاريخى؟ يرى أحد دعاة البنيويَّة الماركسيَّة، وهو الأنثروبولوجى ليجروس، أن الدور يتمحور حول إنشاء نظريَّة لنمط إنتاج معين ومن ثمَّ استخدماها لتحليل أوجه الشبه ومظاهر الاختلاف فى المجتمعات المعاصرة والمنقرضة … "التطور العام من الممكن شرحه فقط فى حالة التأكيد على المتطلبات الأساسيَّة لكل نمط إنتاجي حيث أنه وللكشف عن جذور نمط إنتاج س لا بدَّ من الكشف عن / أو إعادة تركيب الشروط التاريخيَّة التى ظهرت فيها متطلبات س سوياً فى وقت متزامن". ويرى لجروس أنَّ مفهوم نمط الإنتاج وفق المحتوى الذى يستخدمه فيه ماركس يرتبط بالطبيعة الجدليَّة للتاريخ. ويمثل نمط الإنتاج فى رأى ليجروس" معياراً متميزاً بالنسبة لعلم التاريخ، ويسمح لنا بتركيب تواتر تطوري، أى تعاقب لأنماط الإنتاج".
الاتجاه المادي الجدلي
النموذج الثالث للمعالجات الماركسيَّة لإشكاليَّة التطور الثقافي يتمثل فى الاتجاه المادي الجدلي. معظم الكتابات المتخصصة المعتمدة فى تحليلاتها على منطق الماديَّة الجدليَّة قد تشربت بالتفسير للماركسيَّة اللينينيَّة كما قدمه جوزيف ستالين. ينطلق هذا التفسير من مفهوم التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية بحسبانه معياراً موضوعياً للمقارنة بين الأنظمة الثقافيَّة، وتشخيص تلك المرحلة من مراحل التطور التاريخى التى تجتازها. يتيح ذلك إمكانية الكشف عن الظواهر العامة للأنظمة الثقافيَّة فى هذه البلدان، كما يتيح فى آن واحد تمييز الاختلافات السائدة بينها داخل نطاق التشكيلة نفسها، فكل تشكيلة من التشكيلات الاجتماعية- الاقتصادية هى كيان ثقافي خاص له قوانينه الخاصة لنشوئه وتطوره وتحوله إلى تشكيلة أخرى. ومن المسائل التى تعود إلى بنيَّة التشكيلة هى مسألة الترابط بين القاعدة والبناء الفوقي، بين الاقتصاد والسياسة. إن نمط الإنتاج المعين هو أساس كل تشكيلة من التشكيلات، فإذا حل محل هذا النمط نمط آخر للإنتاج فإنَّ هذا يؤدى إلى حلول تشكيلة محل تشكيلة أخرى. وحينما يتغير مستوى نمط الإنتاج ودرجة تطوره تتغير تبعاً لذلك مراحل تطور التشكيلة نفسها، ولكن إلى جانب نمط الإنتاج السائد الذى يعين وجه التشكيلة المعينة ويظهرها، فمن المحتمل أن توجد هناك داخل التشكيلة، وهى موجودة فعلاً، أنماط خاصة من اقتصاد رواسب نمط الإنتاج القديم، أو سمات تشير إلى بوادر نمط الإنتاج الجديد.
ومن ثم تأتى القراءة التى قدمها ستالين فى كتابه "الماديَّة الجدليَّة والماديَّة التاريخيَّة" لتقول بتعاقب خمس تشكيلات اجتماعية اقتصادية أساسيَّة: النظام المشاعى البدائي، ونظام الرق، والنظام الإقطاعي، والنظام الرأسمالي، وأخيراً النظام الشيوعي الذى تمثل الاشتراكية مرحلته الأولى. تعاقب التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية هذه هى مسيرة التطور التاريخى والمراحل الأساسيَّة لتقدم الثقافة.
ومن ثمَّ فإنَّ كتابات دعاة الاتجاه المادي الجدلي تبدو بمثابة تمارين نمذجيَّة (ثيوبولوجيَّة) فى معظمها يتم فيها الإسدال على انتماء هذا أو ذاك من المجتمعات المعروفة حالياً أو من واقع السجل الآثارى إلى أى من التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية المذكورة. وكثيراً ما يشير أصحاب الاتجاه المادي الجدلي إلى خطأ زملائهم غير الماركسين أو الماركسيين غير الملتزمين بمنطق الاتجاه المادي الجدلي لاستخدامهم نماذج (ثيوبولوجيات) اجتماعية تقسم المجتمعات وفقاً، لما يراه الماديون الجدليون، خصائص ثانويَّة وتافهة. هذا فى الوقت الذى يتبنى فيه الماديون الجدليون تفسيراً لنمذجتهم (تيبولوجياتهم) الخاصة وفق مصطلحات الجدل التاريخى. فعلى سبيل المثال نلاحظ أن علماء الآثار الماديين الجدليين يختبرون، لدى معالجتهم لمجتمعات بلاد الرافدين القديمة، المعطيات بحثاً عن بينات تشير إلى أنماط الإنتاج، وتوزيع الفائض الاقتصادي، ودرجة الاستغلال الاقتصادي الخ. انه فى حالة استثناء هذه المفاهيم فسنلاحظ أنَّ العديد من تلك التحليلات الماديَّة الجدليَّة لا تيدو مختلفة كثيراً عن الدراسات الإيكولوجيَّة الثقافويَّة للمادة نفسها.
لقد أسهم علماء الآثار الماديون الجدليون ولا شكَّ فى إثراء التحليل الحديث للتطور الثقافي. إلا أنَّ الموقف النظرى العام لمعظم أعمالهم ينحصر فى قناعتهم بأنَّ الإجابة على الأسئلة الهامة الخاصة بإشكاليَّة تطور الثقافة قد تمَّ تقديمها ولم يتبق أمام البحث العلمي سوى التعرف على البينة التى تثبت صحة النظريَّة السياسيَّة الماركسيَّة اللينينيَّة من واقع المعطيات الاثنوغرافيَّة والآثارية.
أخيراً يمكن القول بإيجاز أنَّ التحليلات والتفسيرات الوظيفيَّة التى تقدمها الماديَّة الثقافويَّة والإيكولوجيا الثقافويَّة تلجأ فى معظمها إلى وصف غير مثبت للكيفيَّة التى أدت بها المجتمعات القديمة وظائفها.
تؤكد معظم التحليلات التى قدمت لمنطق التحليل الوظيفي على حقيقة الدور المفيد الذى يمكن أن يقوم به بالنسبة لوصف المعطيات، ولاستحداث المزيد من البحث المفيد، لتوجيه الإهتمام إلى شكل مهم من البينات (علم النبات الإحاثى). لكنه من جانب آخر فإنه لا يمكن لهذا التحليل أن يقدم تفسيرات شاملة للأصول أو القوانين الثقافيَّة التى يعتقد الكثيرون بأنها تؤلف هدف الأنثروبولوجيا الحديثة. ويبدو أنَّ البنيويين الماركسيين والماديين الجدليين يشاطرون زملاءهم الماديين الثقافويين والإيكولوجيين الثقافويين هذا الفشل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق