عبد الله الغذامي
فإننا نأتي إلى العنصر الأهم في عنواننا المقترح وهو كلمة ( آفاق) حيث تجد صيغة جمع التكسير. هي صيغة جمع، حيث تضم كل أفق ممكن، إنها مجموعة آفاق مفتوحة ومتعددة. وهي صيغة تكسير فكأنما هي تكسير لكل المسلمات الاصطلاحية السالفة. وهذا على وجه التحديد هو ما نمر به في مرحلتنا المعرفية الحالية،وهو النقلة النوعية على مستوى التفكير النظري وعلى مستوى الإجراء العلمي وعلى مستوى الأسئلة من جهة وإخفاقات الأجوبة السالفة من جهة ثانية. نحن في مرحلة(الما بعد ): ما بعد الحداثة، ما بعد البنيوية، ما بعد الكولونيالية، ما بعد العصر الصناعي. وهي مرحلة تكشف عن حالة الانكسار المعرفي، ومن ثم هي(حالة ) انتقال وبحث عن إجابات جديدة لأسئلة جديدة وقديمة لن تعد الحداثة كافية للإجابة عليها.
لعله من المفيد الوقوف–هنا – على العرض الدقيق الذي قدمته بولين ماري روزينو ( 1 ) عن (حالة) هذا الانكسار المعرفي الذي تسبب في النقلة من الحداثة إلى ما بعد الحداثة في سائر العلوم الاجتماعية وهي تضع لذلك ستة أسباب تسردها كالتالي ( 2 ):
1- بدت العلوم الحديثة وكأنها عاجزة عن إحداث النتائج الدراماتيكية التي ظل العلماء المحدثون يعدوننا بها، وهذا أدى إلى تشكك المتحمسين لهذه العلوم جرى ذلك على العلوم الاجتماعية وعلى العلوم التجريبية معا.
وإن وكانت العلوم الحديثة تعتمد على تصحيح أخطائها على المدى الطويل إلا أن أخطاءها الراهنة تبدو تراجيدية ومهلكة، وهذا حقيقة ماثلة.لقد ألهبوا التوقعات ولكنهم لم يحققوا الوعود – كما تقول روزينو -.
2- بدأ الانتباه يتركز على إساءة استخدام العلوم الحديثة وعلى تسخير هذه العلوم. وبدا واضحا أن العلم الحديث منح نفسه حق تشريع الأفضليات – في بعض الحالات – فأعلى من شأن القوة وبرر النماذج المعيارية. إنها مجرد تفضيلات وليست حقائق علمية. ولقد سيقت نتائج البحوث العلمية سوقا وجرى تسخيرها للبرهنة على وجاهة هذه التفضيلات التي لم تكن سوى تفضيلات ذاتية، حتى لقد جرى اتهام العلم الحديث بالتستر على أخطاء الحكومات الديمقراطية من جهة، والعمل على ديمومة الأنظمة الشمولية، من جهة ثانية.
3- ظهر تناقض فاضح بين نظرية العلوم الحديثة وما يفترض أنها ستفعله وبين ما حققته فعليا. وهذا ما جعل العلوم الحديثة تبدوا أقل من المستوى الذي بشرت به.
4- أوقعت الحداثة نفسها في مأزق الإيمان المبني على أساس وهمي والذي يدعى أن العلم قادر على حل كل المشاكل، وهذا فتح بابا عريضا للتحدي ظهر العلم الحديث فيه في حالة إخفاق واضح وعجز تام عن حل المعضلات العويصة التي يمر بها القرن العشرون. وماذا بيَد هذا العلم لمواجهة خطر القنبلة النووية والأسلحة الجرثومية. وماذا سيقول عن الفقر والجوع والتفسخ البيئي وما تتعرض له الأرض من تدمير مشهود..؟
5- لقد أظهر العلم الحديث اهتماما ضئيلا بالأبعاد الروحية والميتافيزيقية للوجود البشري، بل لقد أظهر هذه الأمور وكأنها أمور تافهة لا تستحق التأمل.
6- لم يهتم العلم الحديث بالأهداف النموذجية أو الأخلاقية أو الغايات التي يفترض أن المعرفة والعلم وما إليهما تتجه نحوها أو سوف تتجه نحوها. إن الحقيقة التجريبية لا تتوافق مع الحقيقة التي لقنوها إياها في قاعات الدرس العلمي، ولم تعد الرؤية العلمية صالحة لممارسة الحياة أو إدارة المجتمعات – كما يقول هارمان – بقنوط واضح، متجاوبا بذلك مع ما قاله ليوتار (3 ) ضد العلم الحديث الذي جعل الأشياء تبدو في حالة من الحساسية الصارخة وتناست الشاعري.
ومن هذه الأسباب تخلص روزينو إلى أن( ما بعد الحداثة ) هي ردة فعل على إخفاقات المشروع الحداثي المتمثل بالعلم الحديث. وهذا ما يجعل أسئلة ما بعد الحداثة تنصب على كل مسلمات الحداثة. منها تساؤل ما بعد الحداثيين عن وجاهة تعالي الحاضر على الماضي والحديث على ما قبل الحديث، ويرفضون تفضيل الحداثة للمعقد ولأسلوب الحياة المدنية وللفكري والإعلاء من هذه كلها مع تحقير الريفي والفطري. وبهذا فإن ما بعد الحداثيين يعيدون الاعتبار لما هو عرفي وما هو قدسي ولما هو خصوصي وما هو عقلاني.
وكانت الحداثة تهمل ذلك كله وجاءت( ما بعد الحداثة ) لتأخذه في الاعتبار بما في ذلك مجموعة الانطباعات البشرية الأساسية كالعواطف والانفعالات والحدس والانعكاسات النفسية والتأمل، والتجربة الذاتية، والعادات الخاصة، وما وراء ذلك كالعنف الذاتي والولع الروحي وكل ما هو ميتافيزيقي أو سحري، مع تقدير للوجدان الديني والتجربة الروحانية، كل ذلك يأخذ اهتماما يتجدد في مرحلة ما بعد الحداثة ( 4).
حتى لقد ظهر بعض من مثقفي( ما بعد الحداثة) ممن صار ينظر بحنين عميق نحو الماضي وخاصة إلى مجتمع ما قبل الحداثة حيث كانت الخلية الاجتماعية تعتمد على ذاتها في صياغة وجودها، واندفع بعضهم إلى تجليات حالمة حول حياة الكهوف والفطرة. وإن كان ذلك مغامرة حالمة للبعض إلا أن الناتج النهائي هو فيما يقوله فايتمو من أن الجديد لا يملك قيمة خاصة ( 5 ).
إن شكوك ما بعد الحداثيين حول المشروع الحداثي أفضت بالحداثة إلى مأزق فكري وعملي ولم يعد هؤلاء على قناعة بأن الذي تم إنجازه حداثيا هو بالضرورة صحيح وحقيقي وجميل وأخلاقي (6).
ضاعت القناعة لأن المنجز أقل من المأمول والمتوخي. وهذا ما جعل بعض المفكرين يقول إن هناك أسبابا لعدم الثقة بالحداثة وادعاءاتها الأخلاقية ومؤسساتها المعرفية وتأويلاتها العميقة. حتى لقد ذهب تورين إلى القول إن الحداثة لم تعد قوة للتحرير ولكنها صارت مصدرا للاستبعاد وللاضطهاد والقمع (7).
ونختم حديثنا في نقد الحداثة بالإشارة إلى الملاحظات الصارمة التي جرى توجيهها للحداثة. وذلك في مركزيتها الثقافية التي جعلت العالم يدور حول قطب واحد. وكل ما عدا ذلك المركز فهو بدائي ومتخلف وحقير. مثلما أعطت الحداثة قيمة مطلقة لمفهوم( الليبرالية ) ومفهوم(العقلانية ) وجعلتهما بمثابة الإجابة المطلقة على معضلات البشر الحياتية والفكرية. وهذا عصر الحداثة في مجال ذهني ضيق لا يسمح للثقافات الأخرى والنظريات الأخرى والشعوب المختلفة لا يسمح لها بالوجود الإيجابي الفاعل.
هذا الحل المطلق تكسر على يدي البطالة والإحباط والشح المادي والمعنوي والانسحاب والتفكك الاجتماعي الذي صار يضرب في أعماق المجتمع الغربي ولم يجد في الليبرالية أو العقلانية أو المركزية الثقافية حلولا لمعضلاته، مما جعل الحداثة تقف عاجزة عن الجواب وعن الحل.
والسؤال الآن :
هل نستسلم للغرب في نقلاته السريعة… أم نتوقف عند الحداثية لنشبع نهمنا منها أولا ثم ندخل– بعد ذلك – في حفلة الترف الفكري الغربي…؟
هذا سؤال قد يبدوا وجيها ومشروعا واستراتيجيا، لولا أن التدقيق في حقيقة مثل هذا السؤال يكشف لنا عن سؤال يستند على تصور زائف .
إن هذا السؤال يوهمنا بأننا في خيار من أمرنا ويوحي أن في مقدورنا أن نصدر فرمانا ثقافيا نلتزم به ونستند عليه ونقدر به مصير عقولنا وأفكارنا وثقافاتنا. وهذا افتراض غير صحيح وغير عملي وغير ممكن.
والذي أراه هو أن للثقافة روحها الخاصة وحسها الذاتي الجبار، فهي تنساق وراء شروطها الخاصة ووراء مزاجها الطاغي ولا يسع أهل الفكر إلا الانجراف وراء هذا الحس الثقافي الكاسح.
وليس الأمر خاصا بنا وليس عيبا فينا، بل هو أمر عام وشامل. فالغربيون أنفسهم لم يتخدوا قرارا ولم يطرحوا أسئلة حول ما إذا كان يحسن بهم أن يغادروا عصر الحداثة إلى عصر ما بعد الحداثة. لقد وجدوا أنفسهم هناك في زمن الما بعد، ووجدوا أن الحداثة لم تعد هي الصيغة الفكرية القادرة على مجاراة شروط العصر وظروفه. لقد وصلت الحداثة إلى نقطة التشبع والانسداد ولم يعد في الغصن ماء. لقد جرى امتصاص كل ما فيه من ماء،فتيبس ، وكان لابد من غصن جديد لشجرة الحضارة لكي تسيل قطراته في حلوق الظامئين للأسئلة والتفكير.
إن الأمر أشبه بدخولنا إلى فصل الشتاء، إننا لا نقرر ارتداء الملابس الصوفية لأننا نود الخلاص من الحر والتمتع بالقشعريرة. إننا نلبس الصوف لأننا وجدنا أنفسنا وجها لوجه مع عاصف قارس لا يرحم أجسادنا. ومن يتلكأ عن الاستجابة لشروط البرد سيجد نفسه ضحية لفيروسات الشتاء القاتلة.
ولقد حاول بعض الغربيين مقاومة(ما بعد الحداثة) منهم هابرماس ومثقفو روسيا وشرق أوروبا الذي لابد من ملاحظته أن هابرماس الرافض للمصطلح هو نفسه من غرقت أطروحاته في أعماق ثقافة الما بعد. وها هو واحد من أبرز فلاسفة المرحلة على الرغم من تظاهره برفض المصطلح (8 ).
أقول..إننا نحن اليوم في غمار عصر( ما بعد الحداثة) إننا فيه، في داخله وفي روحه وفي لغته، ولا معنى لطرح أسئلة زائفة لا تقوى على تقرير شئ. والأجدر بنا هو أن نحث الخطى في مجاراة مخلصة للعصر وأن نزيد من خطانا ونضاعف منها، فلعل ذلك يساعدنا على الوصول إلى الصفوف الأولى في سباق الفكر والمعرفة.
إن الثقافة والفكر مثل الطقس، هي أمور تقع وتتحدى التنبؤات وتتحدى قدرة البشر على التغيير وكما أننا لا نقوى على تعديل درجة الحرارة إو تغيير وجهة العواصف فإننا كذلك لا يمكن أن نعدل من وجهة أو درجة أو قوة هبوب الأفكار والثقافات، ولكننا نستطيع التعامل معها بأن نلبس لكل لبوسها الملائم لها والحامي لأجسادنا منها ونستطيع أن نستغل ظروف التغيير لصالحنا وأن نكيفها كما نكيف الجو فنخرج سالمين من فيروساتها من جهة ومستفيدين من الغير مثل استفادة الفلاح من تغيرات الفصول وما فيها من فرص لزروع مثمرة وحصاد ناضج.
وها نحن أمام طقس ما بعد الحداثة ، وقد بلغت الحداثة معه حدها في الإنجاز وفي العطاء..
فهل نلبس لهذا الطقس لبوسة ونزرع ما يلائمه من بذور..؟ هذه هي الآفاق التي يجب أن نبادر إليها وأن ننطلق معها لكيلا نظل في الصفوف الأخيرة دائما.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
1- انظر
Pauline Marie Rosenau: Post- Modernism and the SocialSciences Princeton University Press. Princeton New Jersy 1992.
2- السابق: 10 .
3- انظر السابق وقارن أيضاً:
Jean- Francois Lyontard: the Postmodern Conditions: A report on Knowledge Tans. By G. Bennington and B. Massumi P. 71-82 University Press Minneapolis 1989.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق