د. فؤاد خليل
- استاذ جامعي - لبنان
صحيفة السفير
ينطلق فكر ما بعد الحداثة من مقولة تفيد بأن الواقع ليس له وجود موضوعي، وان وجوده يتحدد من خلال وعي الناظر او الرائي إليه. وقد تأتى عن هذه المقولة نفي أية إمكانية لإنتاج معرفة علمية بالواقع المعني. ذلك أن من البديهي استمولوجيا ان موضوعية الواقع تشكل الشرط الأساس لإنتاج مثل هذه المعرفة من حيث هي معرفة عامة وعالمية. أما حين يجري نفي موضوعية الواقع، تغدو المعرفة به موقوفة فقط على وعي الذات سواء أكانت فردية ام جمعية، حيث ينزع عنها طابع العمومية والعالمية لتتحوّل الى معرفة جزئية او حدثية ظرفية. ومع معرفة كهذه ينسلخ طابع الموضوعية عن الحقيقة لتصبح بالتالي وجهة نظر فحسب. وبما ان وجهات النظر ذات كثرة فردية وفئوية (من فئة)، تغدو نسبية الحقيقة حينئذ مطلقة، ولا يعود هناك أي مرجع عقلي او قيمي صالح للفصل في شأنها او للفصل بين الخطأ والصواب، والزائف والحقيقي، والباطل والحق، والذاتي والموضوعي. فتتساوى الأشياء في نسبية ما بعد الحداثة، وينقلب نظام الأولوية في قيمة الأفكار. فيتقدم ما ليس معقولاً على ما هو معقول وما ليس منطقياً على ما هو منطقي وما ليس يقينياً على ما هو يقيني، والفوضى على النظام. وتتراجع مركزية الإنسان في العالم، ولا يعود يقوى على فصل التجاوز، أي تجاوز ماديته، إلى معاني الكلية والشمول، او الى اية غاية سامية او نبيلة، بل يستقر في كيان مادي تحركه الدوافع الجسيمة وحوافز الاستهلاك واللهاث الدائم وراء المتعة، فيعيش في عالمه الخاص ويصطنع قصته الصغرى، ويدير ظهره للقضايا الكبرى، أي انه يبتعد عن عيش الإنسان ويلتصق أكثر بحياة البيولوجي. وإذا كان إنسان ما بعد الحداثة كذلك، فالتاريخ لا يعود يحمل في نصها الفكري أي معنى او غاية، او أي أهداف إنسانية عامة، بل يغدو مجرّد صيرورة مادية لا نهائية تسيل في كنف «القوة الأعلى» التي لا تتوانى عن إشاعة الصدمية أفقياً لمجرى الحياة الإنسانية.
÷ من لدن هذا الفكر، لم يتأخر الفكر الصهيوني من ان يقدم نموذجه ما بعد الحداثي قصيّاً في سفوره. وهو سفور حظي بترجمة كاملة في الملموس السياسي عند الصهيونيين خصوصاً حين يتعامل هذا الملموس مع ما يعود إلى الآخر المختلف او مع ما يختص به. وهكذا، رأى النموذج منذ استيلاده على أيدي القابلة الكولونيالية الغربية، ان فلسطين أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض، أي أنه نفي الوجود الموضوعي لواقع غائر في التاريخ هو فلسطين، وأعاد تشكيله وفق وعي يتشبع بصور الطغيان والجبروت. لذا انطبعت الكيمياء الصهيونية بنبذ الآخر وإقصائه والاستعلاء عليه. فكانت أفعالها في ارتكاب المجازر بحق الشعب الفلسطيني، واقتلاعه من أرضه وتهجيره، تعبر عن وعي ذاتي يتعطش إلى استئصال ذاك الواقع الموضوعي مستبدلاً به واقعاً كولونيالياً لن يكون إلا غريباً في وجوده، لان ليس له أن يكون إلا صهيونياً. ثم جاءت حروب الكيان الصهيوني المتتالية ضد العرب، تثبت شره هذا الكيان الى العدوان والتوسع. ولقد صوّر كل حرب شنها بأنها دفاع عن نفسه «الوديعة»! وهذا التصوير الذاتي، أي قلب الهجوم الى دفاع، والجلاد الى ضحية، يدل بشكل سافر على ان الفكر الصهيوني يستبدل الزائف بالحقيقي وغير المنطقي بالمنطقي والايديولوجي بالمعرفي، لأنه نتاج لعبة أصلية في التنافي المتبادل بين دوال الواقع الموضوعي. وكذلك، كانت لعبة هذا الفكر في حرب تموز على لبنان وفي حرب غزة. فلقد صنف المقاومة هنا وهناك تحت مسمى الإرهاب. وهو تصنيف ينكر الحق الطبيعي للآخر في مقاومة الاحتلال، ويطيح بمعيار العقل في التفريق بين الحق والباطل والصواب والخطأ... وعندما اعتبر أن الهجوم على القطاع مع ما تمتلكه إسرائيل من أسلحة ذات تقانة عالية، هو دفاع عن أمنها الاستراتيجي ضد صواريخ القسّام اليدوية، يكون الفكر الصهيوني قد قلب المعقول إلى غير معقول شبه مطلق. ثم أخذ يستخدم كل مفاهيمه ما بعد الحداثية من اجل ان يسوّغ الحصار على غزة، ويكثف فعاليته بغية إدامته الى أجل يؤتى فيه أكله السياسي. ومع استطالة الأجل لم يكن هذا الفكر يخشى من سفوره الطاغي لأنه استند الى النموذج الغربي ما بعد الحداثي لكون الأخير يشكل نموذجه الأصلي في تراث العنف المنظم ضد الآخر. هنا أفاد الكيان الصهيوني من الغرب السياسي الذي كان قد دعم الحصار وتفهم أسبابه «المباشرة وغير المباشرة»، خصوصاً حق إسرائيل في درء خطر غزة المحاصرة عليه! انه الغرب المحجوز داخل عقدة السيطرة والإخضاع.
أما النظام العربي «المعتدل»، فقد شارك في الحصار، او منحه تركته السلالية، او تواطأ عليه. ثم ارتاح في صمت ثقيل. وهو صمت هولي (نسبة الى أبي الهول) يعبّر عن ان الروح عند أهل هذا النظام ما زالت تائهة في الطبيعة. وهي لن تتحقق في عقل كلي ناضج او في ذات إنسانية حرة.
لقد حقق الفكر الصهيوني تسويق فعل الحصار وتطبيعه بشكل واسع على الصعيد العالمي. فاستخدمت إسرائيل الفرصة لجني حصاده على غير صعيد، وغرقت في ما ليس معقولاً عندها وظنت ان اللحظة جعلتها سيدة الفصل في المقال.
÷ في هذه اللحظة بالذات عبر أسطول الحرية المتوسط واتجه الى غزة لفك الحصار عنها. وكانت ميزته انه أسطول معولم يحمل ناشطين مدنيين من جنسيات مختلفة. ولم تأبه إسرائيل لمعنى الحرية. وأطلقت لا معقولها من عقاله وارتكبت مجزرة إنسانية موصوفة. فكان ما لم تتوقعه او تحتسب له.
تحرّكت تركيا في طول العالم وعرضه. وقدّمت خطاباً تنزّل في موازين العقل وأحكامه. فوصف إسرائيل بما هي عليه في واقعها الموضوعي. ولقد جاء فيه: ان المنطقي يفيد بأن قتل الأبرياء هو إرهاب دولة. وان اليقيني يثبت بأن إسرائيل تمارس النفاق والخداع لكي تخفي جريمتها، أي لكي تقلب الحقيقي الى زائف. وان الحق يعني إنهاء الحصار، والباطل يعني استمراره. والصواب يقضي بإجراء تحقيق دولي مستقل لفضح قرصنتها المستعرة دائماً. والخطأ يكمن في تغافل العالم عن هذه القرصنة. بتعبير آخر، لقد أخذت تركيا بمفاهيم الحداثة ومقولاتها. فأعادت المكانة الى النظر العقلاني في ماهية الفكر الصهيوني وفي طبيعة إسرائيل، خصوصاً ان العالم قد جانب ذاك النظر او أهمل الاحتكام إليه طويلاً. ومن ثم أطلقت تلك الإعادة دينامية حداثية وازنة. وقد تبدت في أفكار التحرك الشعبي العالمي وبخاصة لدى الرأي العام الغربي.
فانكشف بالملموس ان الاستهــلاك لم يختزل الإنسان المعاصر الى كيان مادي سائل في مسالك المتعة، بل ما زال على عهده الإنساني قادراً على تجاوز ماديته الى غاية إنسانية نبيلة. كما انكشف ان التاريخ لا يجري بمحرك «القوة الأعلى» فحسب، بل يجري ايضا في مجرى الدفاع عن القضايا العادلة والمساواة بين الشعوب. هنا، أخذ العالم (أوساط عالمية واسعة) يتلمس ان نموذج الفكر الصهيوني ما بعد الحداثي، هو خارج المعقول، مثلما راح يقدّر ان الكيان الإسرائيلي قد شوّه صورته السياسية ولن يعيد بناءها او تطبيعها عالمياً كما كانت عليه قبل ارتكابه المجزرة.
÷ لقد قادت تركيا أسطول الحرية، وفتحت صفحة جديدة في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ثم خطت سطورها بمعقول حداثي مقروء من لغات العالم كافة. ومما جاء في استهلالها: إن فلسطين عدا كونها قضية وطنية وقومية، هي قضية إنسانية بامتياز. أما ما ورد في هامشها، فهو إن التاريخ أخرج الحكام العرب من عقله وذاكرته على السواء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق