"المتأمل يصغي إلى الطبيعة، والعالم يستنطقها ويرغما على الجواب" كوفيي
مساءلة مفهوم النظرية هو التساؤل حول طبيعة التفسير العلمي؟ فالمعرفة الإنسانية ليست انعكاسا للواقع، وفق تصور ادغار موران مما يعني أنها ليست معرفة جاهزة ومعطاة بشكل مباشر (التمايز بين المعرفة العلمية والمعرفة الدينية )، فلا علم إلا بما خفي مادامت الطبيعة يروق لها إخفاء قوانينها، تصبح إذن المعرفة العلمية عملية معقدة ومستثمرة في الزمان، وهي فاعلية إنسانية منظمة وموجهة بهدف فهم الواقع واستخلاص قوانينه، أو تصحيح معارف الإنسان حول هذا الواقع، لذا تصبح الحاجة إلى النظرية لتأسيس ممارسة علمية دقيقة بعيدا عن العشوائية، مادام البحث العلمي في غياب نظرية هو بحث أعمى أكد ذلك كانت Kant على اعتبار أن النظرية تحدد الإطار التصوري والمفاهيم للدراسة العلمية قد لا نتحدث عن العلم بقدر ما نتحدث عن نظريات علمية؟ هو ما يفرض علينا التوقف لمساءلة هذا المفهوم خاصة النظرية الفيزيائية لنموذجيتها، ولأهميتها في صناعة التقدم التقني، نستحضر عبارة " انشتاين، الفيزياء، أه، حذار من الفيزياء " .
نطرح السؤال الافتتاحي إذن ما هي النظرية كلحظة أولى لبناء تصور دقيق حول هذا المفهوم .
دلالات المفهوم
مفهوم النظرية من المفاهيم المتداولة في الخطاب اليومي، ولعل عبارات ما رأيك؟ وما هي وجهة نظرك؟ ما قولك؟ من العبارات الكثيرة التداول .
فالنظرية هي ‘عطاء حكم أو التعبير عن وجهة نظر(ما)، مما يعني أنها تفكير في قضية (ما)، هذا التصور الاجتماعي لمفهوم النظرية يجعل النظر في مقابل الفعل والعمل، وهو ما يضفي على النظرية بعدا قدحيا وسلبيا في الوقت ذاته، فالإنسان النظري هو الإنسان المتأمل والخيالي، الحاكم الذي يقول مالا يفعل، و يقوم مالا يستطيع فعله " اسمع ولا أدري طحينا" . هذا التصور التحقيري للنظرية يحمل دلالتين أساسيتين : العمل أو الفعل أهم من النظر وأكثر قيمة منه ، النظر يصبح إيجابيا إذا ارتبط بالعمل .
لذا يمكن التأكيد على أن مفهوم النظرية هو مفهوم متعدد الدلالات polysémique فهو لا يكتسي تحديدا نمطيا أو متجانسا بل يكتسي دلالات مختلفة وفق سياقات ثقافية مختلفة .
فداخل البنية الثقافية الإسلامية يصبح النظر أداة للعمل ووسيلة للفعل، وإلا أصبح فاقدا لقيمته " فالمقت أن يقول الإنسان مالا يفعل " وهم ما يعكس طبيعة الثقافة الإسلامية التي تجعل العمل أساس الاستحقاقات والجزاء : قل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " الآيـة .
أما داخل الفلسفة اليونانية فالمفهوم يكتسي دلالة وتمثلا خاصين، ارتباطا بطبيعة هذه الثقافة الميالة إلى التجريد والتأمل واحتقار العمل اليدوي، حيث يصبح النظر أكثر قيمة وأعلى شأنا من العمل ، لأن هذا الأخير من اختصاص العبيد، وهو عقوبة كل من لا يفكر. فالعبد آلة تنفذ أحكام المتأملين ، ولعل اشتقاق كلمة Travail / العمل مشتقة من الاسم اليوناني Tripolis / الأداة التي تقيد العبيد الفارين من العمل، نستحضر أن هذا السياق أسطورة سيزيف، فهو حدهم الالهة والفلاسفة معفون من العمل ليتفرغوا للممارسة مهام التفكير، ما دام العمل من اختصاص من لا يفكر .
- الدلالة الفلسفية للمفهوم :
· تعريف ابن منظور: النظرية هي ترتيب أمور معلومة على وجه يؤدي إلى استعلام ما ليس بمعلوم، وقيل النظر طلب علم عن علم .
· تعريف لالاند : هي إنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ، وقد حدد عدة تقابلات للنظرية يمكن حصرها فيما يلي : أن النظرية تقابل الممارسة والتطبيق، تقابل المعرفة العامية- تقابل المعرفة اليقينية والنهائية لأن النظرية هي بناء فرضي استنباطي يعكس رؤية العالم حول قضية متنازع حولها، كما أنها تقابل المعرفة الجزئية على اعتبار أن النظرية تركيب كلي يسعى إلى تفسير عدد من الظواهر، ويسلم بها كفريضة تحتمل التصديق أو التكذيب من طرف علماء العصر مثلا: نظرية النسبية عند انشتاين أو نظرية كوانتوم الطاقة / ماكس بلانك .
إذا كانت النظرية كإنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ مع اعتبار التقابلات بين النظرية وأشكال الفكر الأخرى، يمكن استخلاص الاشكالات الفلسفية المرتبطة بهذا بموضوع النظرية من خلال الأسئلة الآتية : هل النظرية تنفصل عن التجربة؟ هل النظرية وصف للواقع أو تفسير له، وما هي علاقة النظرية بالواقع ؟
ما وظيفة النظرية ؟ وظيفة النظرية الفيزيائية بين وظيفتي الوصفي أو التفسير .
تهدف الفيزياء إلى معرفة الواقع المادي معرفة علمية من خلال تحويل الواقع المادي الخام إلى واقع معرفة، من خلال استخلاص القوانين المتحكمة في الظواهر الطبيعية، وذلك اعتمادا على منهج علمي دقيق اصطلح عليه بالمنهج التجريبي الذي حدد خطواته العالم الفرنسي كلـود برنار حيث يقـول
" الحادث يوحي بالفكرة والفكرة تقود إلى التجربة وتوجهها، والتجربة تحكم بدورها على الفكرة "
لذا فالخطوط الأساسي للمنهج التجريبي تتحدد على الشكل التالي :
· الملاحظة العلمية : وهي مشاهدة الحوادث ومراقبتها بغية تحويلها إلى حوادث علمية ، وهي نور يسلطه الباحث على معرفة الواقع ، وهي ليست معرفة عفوية إنها هي ملاحظة موجهة وقصدية، يلتزم فيها الملاحظ بمبدأ الحياد دوره يشبه عمل آلة التصوير .
· الفرضية : وهي أطروحة مازالت لم تتأكد بعد، هي إجابة مؤقتة لتفسير ظاهرة ما من خلال استحضار كل الأسباب الممكنة لوقوع الظاهرة ونشوئها، هي مشروع قانون وليس قانون بعد. ولصياغة الفرضية شروط منها أن تكون نابعة من صلب الواقع المدروس، وأن تكون قابلة للتحقق وألا تحتوي على تناقض داخلي ومنطقي .
· التجريب : وهو إحداث ظاهرة معينة داخل شروط يصنعها العالم، هي إعادة بناء الظاهر ضمن مجال مختبري متحكم فيه يتيح للباحث رؤية جيدة للظاهرة مع إمكانية إعادتها، ويقوم العالم بدور استنطاق الظاهرة المدروسة إرغامها على الإفصاح عن قانونها، ويتيح فعل التجريب إمكانات منها صناعة الظاهرة المدروسة داخل مجال مختبري مراقب، مراقبة الظاهرة بشكل جيد ودقيق تكرار الحادثة، إمكانية تغيير شرط التجربة، إمكانية التحكم في ثوابت ومتغيرات التجربة، عزل الحوادث ، مع اعتماد المنهج الاستقرائي لقراءة وتحليل نتائج التجربة .
· القانون : يؤكد أجيست كونت أن القانون هو العلاقة الثابتة بين حادثتين أو أكثر مثلا الماء يتبخر في مائة درجة حرارية في ضغط جوي 76 يشكل قانونا عاما يحكم العلاقة بين التبخر والحرارة، فالقانون هو دراسة العلاقة بين المتغيرات والتوابع، وقد حدد لالاند ثلاث صور للقانون العلمي منها: قانون يدل على التركيب مثلا الماء مركب من الهيدروجين وذرتي أوكسجين. وقانون يدل على ثوابت عددية سرعة الضوء هي 3.10 8 M/S قانون يفيد علاقة ثابتة خصائص الكبريت في الطبيعة أصفر في درجة حرارية 120 يصبح لونه أصفر ، في 200 درجة حرارية يصبح لزجا، هذه هي الخطوات المنهجية المعتمدة لدراسة الظواهر الفيزيائية دراسة مختبرية بالنسبة للتصور الوضعي بشقيه الكلاسيكي كونت والمعاصر بييردوهايم .
غير أن وظيفة النظرية خضعت لنقاش وسجال علمي حول طبيعتها هل هي وصفية أم تفسيرية وهو سجال بين تصورين ورؤيتين مغايرتين التجريبية والعقلانية .
• التصور التجريبي لوظيفة النظرية :
تتحدد وظيفة التفسير العلمي بالنسبة لهذا الاتجاه في مهمة الوصف أي وصف الظاهرة وإعطاءها حواسها ووصف مميزاتها مثلا : دراسة الهيدروجين يعني وصف مكوناته باعتباره غاز ذو كثافة ذرية قابلة للاشتعال له الكترون واحد، فالتفسير العلمي داخل المقاربة التجريبية هو عملية وصف مسهب وتفصيلي للظاهرة المدروسة ويشترط في صحة النظرية أن تحمل شرطين :
1- معرفة الأسباب الحقيقة لحدوث الظاهرة والتي تسمح بتوقعها مستقبلا، لأن هدف كل علم هو وصف الظواهر المدروسة واستخلاص القوانين مما يسمح بإمكانية التوقع وهو ما أكده كارناب أحد رواد الاتجاه الوضعي التجريبي أن قيمة النظرية يتحدد بعدد التنبؤات.
2- أن يكون التفسير قابلا للاختبار وهو ما يعني الاحتكاك إلى التجربة ، باعتبارها هي معيار صلاحية النظرية أو عدم صلاحيتها .
فالاتجاه الوضعي يربط التفسير العلمي بإمكانية التوقع والتنبؤ من خلال معرفة قوانين الظواهر مما يعني الإقرار بمبدأ الحتمية حيث تكرار الحادثة يعني تكرار سببها، ونفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج ولا مجال لصدفة أو الاحتمال وإمكانية توقع النتائج يكون بمجرد معرفة شروط حدوث الظاهرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق