كما سنرى خلال هذا الفصل، النظريات النفسية الاجتماعية لجورج هيربرت ميد تشكلت بالعديد من المصادر الفكرية، لكن التأثير الأكبر كان للسلوكية النفسية. عّرف ميد السلوكية في معناها العريض بأنها: "ببساطة هي طريقة لدراسة تجربة الفرد من وجهة نظر سلوكه"176. لم تكن لميد مشكلة مع هذا المدخل السلوكي لكن كانت له صعوبات بالطريقة التي عرفت بها السلوكية والطريقة التي مورست بها بواسطة أكثر السلوكيين تميزا في عصر ميد، جون ب. واتسون.
السلوكية في عصر ميد التي مورست بواسطة واتسون وآخرين عديدين ثم طبقت على البشر، ثم استيرادها - إذا جاز التعبير - من علم النفس الحيواني وكانت تعمل ضمنه بشكل جيد. هنالك كانت تبنى على الافتراض أنه من المستحيل من خلال فحص الأفكار الوصول إلى التجارب العقلية الخاصة (بافتراض أنها موجودة) للحيوانات الدنيا. ولذلك فإن كل ما يمكن وما يجب عمله هو التركيز على سلوك الحيوان. فبدل أن يسعى لمواء مة السلوكية مع حقيقة أن هنالك اختلافات عقلية بديهية بين الحيوان والإنسان طبق واتسون وبكل بساطة مبادئ السلوك الحيواني على الإنسان. بالنسبة لواتسون البشر ليسوا إلا ماكينات عضوية. بمثل هذه الرؤية عن البشر والتشابه بين الحيوان والإنسان، رفض واتسون إمكانية دراسة الوعي البشري عن طريق فحص الأفكار أو أي طريقة أخرى. وكما قال ميد "إن توجه جون واتسون شبيه بتوجه الملكة في قصة "أليس في بلاد العجائب: إقطعوا رؤوسهم"177.
يرى ميد أن واتسون سعى لاستخدام السلوك لتفسير التجارب الإنسانية بدون أن يهتم بالتجارب الداخلية، الوعي والتخيل العقلي. على العكس يرى ميد أنه حتى التجارب الداخلية يمكن دراستها من و جهة نظر السلوكي طالما أن وجهة النظر تلك لا تفهم بصورة ضيقة. لذلك فإن ميد سلوكي أو كما سمى هو نفسه سلوكي اجتماعي. لكن ما يبدو أنه إاضافة صغيرة يضع تبايناً نظرياً كبيراً. النظرية التفاعلية الرمزية التي ظهرت، جزء كبير منها من نظرية ميد وتختلف جداً عن النظريات السلوكية (مثل نظرية التبادل الأولى) وتوجد في نموذج سوسيولوجي مختلف.
في حين أن ميد سعى لإدخال ما يجري داخل العقل كجزء من السلوكية الاجتماعية، فقد كان معترضا مثل واتسون على استعمال فحص الأفكار لدراسة العمليات العقلية. أراد ميد دراسة العقل سلوكيا وليس عن طريق فحص الأفكار.
"اعتراض السلوكيين على فحص الأفكار مبرر. فهى ليست عملية مثمرة من وجهة نظر دراسة سايكولوجية. إن ما يشغل السلوكي هو رد الفعل الحقيقي نفسه وعلى حسب مقدرتنا على ترجمة محتوى الفحص الفكري إلى استجابة يمكننا الحصول على مذهب سايكلوجي مقنع"178.
بدلا عن دراسة العقل بواسطة فحص أفكاره ركز ميد على (الفعل)، وإذا تضمن أناساً آخرين يكون (الفعل الاجتماعي). الأفعال سلوكيات يمكن تعريفها جزئيا على ضوء المفهوم السلوكي الحافز والاستجابة. ذلك، أن بعض الحوافز الخارجية تدفع الشخص إلى أن يستجيب بفعل. إن إضافة ميد هنا عندما قال "جزء من الفعل يقع ضمن الكائن العضوي ويعبر عنه لاحقاً"، إنه هذا الجانب من السلوك التي تجاوزه واتسون"179. لم يتجاهل ميد التجارب الداخلية للفرد لأن هذه التجارب الداخلية جزء وبالتأكيد جزء هام من الفعل. ضمن هذا المعنى أكد ميد "إن وجود العقل أو الوعي بمعنى أوآخر يجب القبول به"180.كان ميد مدركا أن العقل لا يمكن اختزاله إلى سلوك فقط لكنه يرى أنه ـ أى العقل - يمكن شرحه في إطار سلوكي دون إنكار وجوده.
عّرف ميد العقل في إطار وظيفي وليس مثالياً. ذلك أن العقل يرى في إطار ما يفعله، الدور الذي يلعبه في الفعل وليس كظاهرة ذاتية متجاوزة. العقل هو جزء، أو الجزء الأساسي في الجهاز العصبي المركزي وسعى ميد إلى توسيع تحليل الفعل خاصة الفعل الاجتماعي إلى ما يتجلى في الجهاز العصبي المركزي. "إنما أوكد علي أن النظم التي نجدها في الجهاز العصبي المركزي هي نظم فعل وليس تأمل"181. إضافة إلى ذلك، إن ما يجري في الجهاز العصبي المركزي ليس منفصلا عن الفعل. إنه جزء أساسي من الفعل، لذلك فإن ميد لا يريد أن يفكر في العقل في إطار ذاتي وإنما شيء يشكل جزءاً من عملية موضوعية.
مصدر فكري آخر هام في تفكير ميد هو ( الفلسفة البراجماتية) أو النفعية، وميد من المفكرين الأساسيين في تطور الفلسفة البراجماتية. (إضافة إلى جون ديويي وشارلس بييرس). اعتبر ميد ان البراجماتية "نموا أميريكيا طبيعيا"182. تعكس البراجماتية انتصار العلم والمنهج العلمي في المجتمع الأمريكي واستخدامهما لدراسة العالم الاجتماعي بدل أن تكون تأملية تبحث في عالم آخر، مثل النظم الفلسفية السابقة، استخدمت البراجماتية منهج التركيز على هذا العالم وعلى الواقع الميداني. يعتقد البراجماتيون في تفوق المعلومات العلمية على العقائد الفلسفية وكل أنواع المعرفة الأخرى. وكما لخصها جون بالدوين "العلم متفوق على التجريب والخطأ في التعلم، فحص الاستبطان، المنطق المسبق، المثالية والفلسفة التخمينية، وكل مصادر المعرفة غير التجريبية الأخرى"183. اعتبر العلم الوسيلة المثلى ليس فقط في الحصول على المعرفة ولكن أيضا لتحليل المشاكل الاجتماعية وحلها، فالنظريات العلمية وكذلك الأفكار بشكل عام يجب اختبارها باستخدام الطرق العلمية. الأفكار التي تبقى هي التي غالبا ما توفر المعرفة وتكون مفيدة في حل المشاكل. رفض البراجماتيون فكرة أن هناك أشياء مثل الحقيقة المطلقة. وباتباع النموذج العلمي اعتبروا كل الأفكار مبدئية وعرضة للتغير على ضوء أبحاث المستقبل. تشتمل البراجماتية على سلسلة من الأفكار على علاقة مباشرة مع نظرية ميد السوسيولوجية. أولا بالنسبة للبراجماتيين، الواقع أوالحقيقة لاتوجد هنالك في العالم الخارجي "إنها تخلق عندما نقوم بالفعل في العالم وتجاهه"184. ثانيا، يتذكر الناس الماضي ويبنون معرفتهم عن العالم على ما ثبت أنه مفيد لهم. وغالبا ما يغيرون ما لم يعد يعمل. ثالثا، يعرّف الناس المواضيع الاجتماعية والطبيعية التي تصادفهم في العالم بناءً على استخدامها. وأخيرا إذا أردنا فهم الفاعلين يجب علينا أن نبني فهمنا على ما يفعلونه حقيقة في العالم.
البراجماتية هي فلسفة براجماتية في معان مختلفة تشتمل على حقيقة أنها تتبع التركيز العلمي على ما هو ماثل. إضافة إلى المنهج العلمي، فهى تهتم بما يفعله الناس حقيقة وتهتم بإيجاد أفكار عملية تساعدنا في التعامل مع مشاكل المجتمع.
ميز لويس وسميت 185 بين نوعين من البراجماتية. البراجماتية الاسمية التي تنسب إلى جون ديوي ووليام جيمس والواقعية الفلسفية التي تنسب لميد. الموقف الاسمى يقول بالرغم من أن الظواهر الاجتماعية موجودة فإنها لا توجد في استقلال عن الأفراد وليس لها اثر محدد على وعي الفرد وسلوكه (هذا في تعارض مع دوركايم، ماركس، ماكس فيبر وزيميل). بايجابية أكثر هذه الرؤية "تعتبر الأفراد أنفسهم كفاعلين أحرار وجودياً يقبلون، يرفضون، يعدلون أو يعرّفون قيم المجتمع، أدواره، معتقداته وما إلى ذلك، حسب اهتماماتهم الشخصية وخططهم"186. على النقيض من هذا فبالنسبة للواقعيين الاجتماعيين يكون التركيز على المجتمع وكيف يكّون عمليات الفرد العقلية ويسيطر عليها. فبدل أن يكونوا فاعلين أحراراً فإن الفاعلين وإدراكهم وسلوكهم مسيطر عليه بواسطة المجتمع الكبير.
بهذا التمييز خلص لويس وسميث إلى أن عمل ميد يناسب المعسكر الواقعي. وهناك الكثير من الفائدة في هذا الموقف كما أنه يعطي فكرة عن نقاشنا القادم خاصة حول الأولوية التي أعطاها ميد لما هو اجتماعي. إلا أن تصنيف ميد كواقعي يضعه في نفس الفئة مع دوركايم وهذا لا يمكن قبوله لأن هناك العديد من الاختلافات بين نظريتيهما. في الحقيقة فإن نظرية ميد لا يمكن اقحامها في أي من النوعين من البراجماتية. فهنالك عناصر من الأسمية والواقعية في تفكير ميد، ولنضع ذلك بصورة أكثر تحديدا، في معظم أعمال ميد فإن العمليات الاجتماعية والوعي يعبران عن بعضهما في صورة تبادلية ولا يمكن تمييزهما بوضوح. بمعنى آخر هناك ترابط جدلي بين الواقعية والأسمية في أعمال ميد. هذا يقودنا إلى مصدر آخر مهم من مصادر تفكير ميد- فلسفة هيغل ـ خاصة منهجه الجدلي. سنعود إلى هذا الموضوع لاحقاً في هذا الفصل، لأن التفكير الجدلي وكما سنرى، يجعل من الصعوبة فصل العديد من أفكار ميد النظرية، إنها ترتبط جدلياً مع بعضها البعض، لكن آخذين بالاستراتيجية التي اتبعها ميد نفسه، فإننا سنميز بين العديد من المفاهيم من أجل توضيح المناقشة. آخذين في الاعتبار أن ـ وسيشار إلى ذلك في عدة مواقع من خلال كل المناقشة ـ هناك علاقة جدلية بين مختلف المفاهيم.
أولوية الاجتماعي
في استعراضه لأكثر أعمال ميد شهرة (العقل، الذات والمجتمع) ذكر ألسورس فارس "ليس العقل وبعد ذلك المجتمع - لكن المجتمع أولا ثم العقول التي تنشأ مع ذلك المجتمع ـ غالبا ما يكون هو اختيار ميد المفضل". عكس فارس لعنوان ذلك الكتاب يوضح الحقيقة التي أقر بها ميد نفسه، فالمجتمع أو ما هو اجتماعي بشكل عام هو الذي يحتل الأولوية في أعمال ميد وتحليله.
يرى ميد أن علم النفس الاجتماعي التقليدي بدأ بعلم نفس الفرد في محاولة لتفسير التجارب الاجتماعية، وعلى النقيص فقد أعطى ميد دائما الأولوية للواقع الاجتماعي في فهم التجربة الاجتماعية ثم وضّح ميد موقفه كما يلي:
"نحن في علم النفس الاجتماعي لا نبنى سلوك المجموعة الاجتماعية في إطار سلوك الأفراد المنفصلين المكونين لها، لكننا نبدأ من كل اجتماعي معطى من نشاط المجموعة المعقد والذي نحلل فيه (كعناصر) سلوك الأفراد المنفصلين المكونين لذلك الكل الاجتماعي. نحن نحاول تفسير سلوك المجموعة الاجتماعية وليس رصد السلوك المنظم للمجموعة الاجتماعية في إطار سلوك الأفراد المنفصلين الذين ينتمون لها. بالنسبة لعلم النفس الاجتماعي، الكل (المجتمع) سابق للجزء (الفرد) وليس الجزء سابقا للكل والجزء يفسر في إطار الكل ولا يفسر الكل في إطار الجزء أو الأجزاء"187.
يرى ميد أن الكل الاجتماعي سابق لعقل الفرد منطقيا وزمانيا، فالفرد المفكر الواعي لذاته، كما سنرى لاحقا غير ممكن منطقيا في نظرية ميد بدون مجموعة اجتماعية سابقة، وتأتي أولاً المجموعة الاجتماعية، ثم تقود إلى تطور حالات الوعي الذاتي العقلي.
الفعل
اعتبر ميد أن الفعل هو أكثر الوحدات بساطة في نظريته، وفي تحليله للفعل اقترب ميد من المدخل السلوكي وركز على الحافز والاستجابة. لكن حتى في ذلك، فإن الحافز لا يثير استجابة ميكانيكية خالية من التفكير لدى الإنسان الفاعل، وكما قال ميد "نحن نفهم الحافز كمناسبة أو فرصة للفعل وليس إلزاما أو إجباراً"188.
حدد ميد أربعة مراحل أساسية ومتداخلة في الفعل. المراحل الأربعة تكون كلاً عضوياً (بمعنى آخر إنها مترابطة جدليا). كان ميد مهتما بأوجه الشبه والخلاف بين الفعل الإنساني وفعل الحيوانات الدنيا.
المرحلة الأولى هي الدافع والذي يتضمن "تنبيه حسي مباشر" ورد فعل الفاعل لذلك التنبيه والحاجة لعمل شئ تجاهه، والجوع مثال جيد للدافع. الفاعل (إنسان أو غير إنسان) ربما يستجيب مباشرة وبدون تفكير للدافع، لكن غالبا ما يفكر الفاعل الإنسان حول الاستجابة المناسبة بأًن يأكل الآن أم لاحقا مثلا. في التفكير حول الاستجابة يعتبر الشخص ليس فقط الوضع المباشر وإنما أيضا التجارب السابقة للفعل والنتائج المتوقعة في المستقبل.
الجوع ربما يأتي من حالة داخلية للفاعل أو ربما يثار بوجود الطعام في البيئة المحيطة أو ربما يحدث في الغالب من مزيج من الاثنين معاً. إضافة إلى ذلك، الشخص الجائع يجب أن يجد وسيلة لاشباع الدافع في بيئة قد لا يتوفر فيها الطعام أو قد لا يكون كافياً، هذا الدافع، مثل كل الدوافع ربما يكون على علاقة بمشكلة في البيئة المحيطة (عدم توفر الطعام في الظرف المباشر) وهذه مشكلة يجب على الفاعل تجاوزها. في حين أن دافعاً مثل الجوع يأتي غالباً من الفرد فهو غالباً ما يرتبط بمشكلة في البيئة المحيطة. لنأخذ مثالا آخر، وجود حيوان متوحش خطر قد يشكل دافعاً لفعل الفرد. عموماً، الدافع، مثل كل عناصر نظرية ميد يتضمن الفاعل والبيئة معا.
المرحلة الثانية للفعل هي الإدراك، والذي يبحث فيه الفاعل عن، ويتفاعل مع حافز يرتبط بالدافع، في هذه الحالة الجوع وكذلك مختلف الوسائل المتاحة لإشباعه. للبشر المقدرة على الإحساس بالحافز وإدراكه عن طريق السمع، الشم، التذوق وما إلى ذلك. الإدراك يشتمل على الحوافز والتصورات العقلية التي تنتجها. الناس لا يستجيبون ببساطة ومباشرة للحوافز الخارجية وإنما يخضعونها للتفكير والتقييم من خلال التصورات العقلية. البشر ليسوا موضوعا للمحفزات الخارجية, إنهم يختارون بنشاط مميزات الحافز ثم يختارون من بين حزمة من الحوافز، ذلك أن للحافز عدة أبعاد ويستطيع الفاعل أن يختار من بينها. إضافة إلى ذلك، يقابل البشر العديد من الحوافز المختلفة ولديهم المقدرة على أن يحددوا ما يختارونه وما يتجاهلونه. ورفض ميد فصل البشر عن المواضيع التي يدركونها. إفعل إدراك الموضوع هو الذي يجعله موضوعا لشخص، الإدراك والموضوع لا يمكن فصلهما (ويرتبطان جدليا) مع بعضهما الآخر.
المرحلة الثالثة هي التعامل، فبمجرد أن يعلن الدافع عن نفسه ويكون الموضوع قد أدرك، تكون الخطوة التالية هي التعامل مع الموضوع أو بشكل عام اتخاذ فعل تجاهه. إضافة إلى مزاياهم العقلية، فللبشر مزايا أخرى أفضل من الحيوانات الدنيا. للبشر أياد وأصابع تمكنهم من التعامل مع المواضيع بصورة أكثر مهارة مما لدى الحيوانات الدنيا. فمرحلة التعامل تحتوي بالنسبة لميد على فترة تريث زمنية هامة لكي لا تظهر الاستجابة مباشرة. الإنسان الجائع الذي يرى فطر عيش الغراب (المشروم) قبل أن يأكله يأخذه بين يديه، يتفحصه وربما يرجع إلى أحد الكتب المرجعية ليرى إن كانت تلك الفصيلة قابلة للأكل. الحيوان غالبا ما يأكل عيش الغراب بدون أن يتفحصه (وبكل تأكيد دون أن يقرأ عنه). فترة التريث التي يوفرها فحص الموضوع تسمح للبشر بتمعن مختلف الاستجابات. في التفكير حول أكل عيش الغراب يدخل الماضي والمستقبل معا، وربما يفكر الناس في التجارب السابقة التي أكلوا فيها نوعا معينا من عيش الغراب الذى سبب لهم المرض، وربما يفكرون في المرض في المستقبل أو ربما حتى الموت الذي قد يصاحب أكل عيش الغراب المسموم. التعامل مع عيش الغراب يصبح نوعا من الطريقة التجريبية التي يحاول فيها الفاعل عقليا مختلف الافتراضات عن ما يحدث، إذا أكل عيش الغراب.
على أساس ذلك التريث والتأمل ربما يقرر الفاعل أكل عيش الغراب (أو عدم أكله) وهذا يشكل المرحلة الرابعة والأخيرة للفعل، الإنجاز، أو يشكل اتخاذ الفعل الذي يتبع الدافع الأصلي. ربما يستهلك الانسان والحيوان عيش الغراب، لكن من غير المحتمل أن يأكل الإنسان عيش الغراب المسموم نسبة لمقدرته على التعامل مع عيش الغراب والتفكير والقراءة عن تبعات أكله. الحيوان يجب أن يعتمد على طريقة التجريب والخطأ وهذه وسيلة أقل فعالية مقارنة بمقدرة البشر على التفكير في أفعالهم. التجريب والخطأ في هذا الموقف خطير جدا ونتيجة لذلك تكون الحيوانات أكثر عرضة للموت من البشر بسبب أكل عيش الغراب المسموم.
في حين أنه، ومن أجل تسهيل المناقشة، فصلت مراحل الفعل الأربعة عن بعضها البعض بطريقة متعاقبة، فقد رآى ميد علاقة جدلية بين المراحل الأربعة. جون بالدوين عبر عن هذه الفكرة كما يلي: "بالرغم من أن أجزاء الفعل الأربعة تبدو أحيانا كأنها مرتبطة خطياً فانها حقيقة تكون عملية عضوية واحدة. هناك جوانب من كل جزء حاضرة طوال الوقت منذ بداية الفعل حتى نهايته وكل جزء يؤثر في الآخر"189. لذلك، المرحلة الأخيرة من الفعل قد تقود إلى مراحل سابقة. والتعامل مع الطعام مثلا قد يقود الفرد إلى دافع الجوع وإدراك أنه جائع وأن الطعام متوفر لاشباع حاجته.
المبادرات
في حين أن الفعل يتضمن شخصاً واحداً فإن الفعل الاجتماعي يتضمن شخصين أو أكثر. المبادرات كما يرى ميد هي الآلية الأساسية في الفعل الاجتماعي وفي العملية الاجتماعية بشكل عام. وكما عرّفها "المبادرات هي تحركات من الكائن الأول تعمل كحوافز تدعو للاستجابات المناسبة اجتماعيا من الكائن الثاني"190. كل من الحيوانات الدنيا والبشر قادرين على المبادرات بمعنى أن فعل فرد واحد يثير بدون تفكير وآليا رد فعل فرد آخر. ما يلي مثال ميد المشهور عن عراك الكلاب فيما يخص المبادرات "فعل كل كلب يصبح حافزاً للكلب الآخر من أجل استجابته. حقيقة أن الكلب على استعداد لمهاجمة كلب آخر تصبح حافزاً للكلب الآخر ليغير موقفه أو سلوكه. وما أن يفعل ذلك فإن التغير في سلوك الكلب الثاني بدوره يؤدي بالكلب الأول لتغيير سلوكه"191.
وصف ميد ما يحدث في هذا الموقف " بتبادل المبادرات". مبادرة كلب تثير آليا مبادرة الثاني، ليس هنالك عمليات تفكير تجري لدى الكلاب.
يدخل البشر أحيانا في تبادل مبادرات بدون تفكير. وأعطى ميد أمثلة الفعل ورد الفعل التي تحدث فى مباريات الملاكمة والمبارزة عندما يتعامل مقاتل بشكل غريزي مع أفعال المقاتل الآخر. يسمى ميد مثل هذه الأفعال غير الواعية "المبادرات غير الهامة"، وما يميز البشر هو مقدرتهم على استخدام المبادرات الهامة أو تلك التي تتطلب التفكير من جانب الفاعل قبل رد الفعل.
البادرات الصوتية لها أهمية خاصة في تطور المبادرات الهامة، لكن ليس كل البادرات الصوتية هامة. فنبيح كلب تجاه الآخر ليس مهما، حتى بعض البادرات الصوتية البشرية ليست هامة (الشخير مثلا). لكن إنما تطور البادرات الصوتية خاصة في صورة لغة هو العامل الأكثر أهمية الذي جعل تطور الحياة الإنسانية المميزة ممكنا. "تخصص الحيوان البشر في هذا المجال من المبادرة كان مسئولا وبشكل مطلق عن أصل ونمو المجتمع الإنساني الراهن و المعرفة بكل السيطرة على الطبيعة والبيئة الإنسانية التي جعلتها العلوم ممكنة"192. هذا التطور يرتبط بخاصية مميزة للبادرة الصوتية. عندما نقوم بمبادرة جسمانية مثل تقطيب الوجه فإننا لا يمكن أن نرى ما نقوم به (إلا إذا كنا ننظر في مرآة). من الناحية الأخرى، عندما نلفظ بادرة صوتية فإننا نسمع أنفسنا كما يسمعنا الآخرون. نتيجة أولى هي أن البادرة الصوتية تؤثر في المتحدث بنفس الطريقة التي تؤثر بها على السامع. ونتيجة أخرى، يكون باستطاعتنا بشكل أفضل إيقاف أنفسنا في البادرات الصوتية أكثر من المبادرات الجسمانية بمعنى آخر نسيطر بشكل أفضل على البادرات الصوتية أكثر من الجسمانية. والمقدرة على السيطرة على الذات ورد الفعل ضرورية، كما سنرى لمقدرة إنسانية مميزة أخرى. بشكل عام "البادرة الصوتية هي التي وفرت وبتفوق الوسيط للتنظيم الاجتماعي في المجتمع البشري"193.
الرموز الهامة
الرمز الهام نوع من المبادرة يستطيع صنعه الإنسان وحده من دون المخلوقات الأخرى. والمبادرات تصبح رموزا هامة عندما تثير في الفرد الذي يصنعها نفس نوع الاستجابة ( ليس بالضرورة أن تكون مطابقة) التي افترض أن تثيرها من أولئك الذين وجهت المبادرات لهم. فقط عندما تكون لدينا رموزا هامة يمكننا الاتصال الحقيقي. الاتصال في المعنى الكامل للكلمة غير ممكن بين النمل، النحل، وما إلى ذلك. المبادرات الجسمانية لا يمكن أن تكون رموزاً هامة مثالية لأن البشر لا يستطيعون رؤية أو سماع مبادراتهم الجسمانية بسهولة، لذلك فإن الألفاظ الصوتية هي التي غالبا ما تصبح رموزاً هامة، بالرغم من أن ليست كل الاصوات هي رموز هامة. حزمة البادرات الصوتية التي غالبا ما تصبح رموزاً هامة هي اللغة. "الرمز الذي يجيب على معنى في تجربة الفرد الأول والذي يستخرج أيضا المعنى من الفرد الثاني. عندما تصل المبادرة إلى ذلك الوضع فإنها أصبحت ما نطلق عليه (لغة) إنها الآن رمزاً هاماً وتضفي الأهمية على معنى محدد"194. في تبادل المبادرات تتواصل فقط المبادرات نفسها، لكن، في اللغة فإن المبادرات ومعانيها تتواصل أيضا.
أحد الأشياء التي تقوم بها اللغة أو الرموز الهامة بشكل عام هو استدعاء استجابة مماثلة لدى الفرد الذي يتحدثها وللآخرين كذلك. كلمة كلب أو قط تثير تصور عقلي واحد لدى الفرد الذي ينطقها ولدى الآخرين الذين وجهت لهم. تأثير آخر من تأثيرات اللغة أنها تحفز الشخص الذي يتحدثها وكذلك الآخرين. الشخص الذى يصرخ (النار) في قاعة مزدحمة هو على الأقل مدفوع لمغادرة القاعة مثل أولئك الذين صرخ فيهم، لذلك فإن الرموز المهمة تجعل الناس محفزين لأفعالهم أنفسهم.
متبعا توجهه البراجماتي نظر ميد في وظائف المبادرات عامة والرموز المهمة خاصة، فوظيفة المبادرة "هي جعل الضبط ممكناً بين الأفراد المشتركين في أي فعل اجتماعي بالرجوع إلى الموضوع أو المواضيع التي يتعلق بها ذلك الفعل"195. لذلك فإن تقطيب الوجه المقصود ربما يقصد منه منع طفل من الاقتراب من طرف هاوية وبذلك حمايته من الدخول في موقف خطر. في حين أن المبادرات غير الهامة تعمل، "الرموز الهامة توفر تسهيلات أكبر في الضبط وإعادة الضبط مقارنة بالبادرات غير الهامة لأنها تستدعي في الفرد الذي يقوم بها نفس السلوك تجاهها وتساعده في ضبط سلوكه عليها على ضوء ذلك التوجه. باختصار تبادل المبادرات الواعية أو الهامة آلية أكثر فعالية في الضبط المتبادل ضمن الفعل الاجتماعي مقارنة بتبادل البادرات غير الواعية أو غير الهامة"196.
من وجهة النظر البراجماتية، الرموز الهامة تعمل بشكل أفضل من البادرات غير الهامة، وبمعنى آخر فى توصيل استيائنا للآخرين التوبيخ اللفظي يعمل بشكل أفضل كثيراً من لغة الجسم المتلوي.
الفرد الذي يعبر عن استيائه غير واع عادة بلغة الجسم ولذلك لا يكون في استطاعته أن يضبط بوعي الأفعال اللاحقة على ضوء رد فعل الشخص الآخر على لغة الجسم. من الناحية الأخرى المتحدث يعي تلفظه بالتوبيخ ويكون رد فعله تجاهه بنفس الطريقة (وفي نفس الوقت) التي يكون عليها رد فعل الشخص الموجه له التوبيخ. لذلك بإمكان المتحدث أن يفكرفى طريقة رد فعل الشخص الآخر وبامكانه إعداد رد فعله تجاه ذلك الفعل.
على أهمية كبرى في نظرية ميد وظيفة أخرى للرموز الهامة - فهى تجعل العقل والعمليات العقلية وما إلى ذلك ممكنة. إذ من خلال الرموز الهامة فقط، خاصة اللغة، أصبح التفكير الإنساني ممكنا. عرّف ميد التفكير قائلا : "هو ببساطة محادثة بين الفرد وذاته بواسطة تلك المبادرات"197. أكثر وضوحا أضاف ميد "التفكير مثل الحديث للناس الآخرين"198. بمعنى آخر التفكير يتضمن الحديث إلى الذات، لذلك هنا يمكننا بوضوح رؤية أن ميد عرّف التفكير في إطار سلوكي. فالتبادل يتضمن سلوكاً (الحديث)، وذلك السلوك يحدث داخل الفرد وعندما يحدث، يحدث التفكير، هذا ليس بتعريف عقلي للتفكير وإنما سلوكي.
الرموز الهامة تجعل التفاعل الرمزي ممكنا. لذلك فإن الناس يمكن أن يتفاعلوا مع بعضهم البعض ليس فقط من خلال المبادرات وإنما من خلال الرموز الهامة أيضا. هذه المقدرة بالطبع، تصنع عالماً من الاختلاف وتجعل من الممكن خلق نظماً للتفاعل وأشكالاً من التنظيم الاجتماعي أكثر تعقيدا مقارنة بتلك الممكنة عن طريق المبادرات وحدها. فالرموز الهامة تلعب دوراً مركزياً في تفكير ميد.
العمليات العقلية والعقل
استخدم ميد العديد من المفاهيم السديدة عندما ناقش العمليات العقلية ومن المهم فرزها، وقبل أن نفعل ذلك يجب أن نشير إلى أن ميد دائما يميل إلى التفكير في إطار عمليات و ليس بنيات أو محتويات. وهو في الحقيقة عادة ما يوصف بأنه " فيلسوف العملية".
أحد المفاهيم ضمن العمليات العقلية هو مفهوم الذكاء الذى عرّفه ميد بشكل عريض على أنه الضبط المتبادل لأفعال الكائن، وبهذا التعريف يكون للحيوانات ذكاء لأن الحيوانات في تبادل البادرات تتكيف مع بعضها البعض. كذلك فإن البشر يتكيفون مع بعضهم من خلال استعمال الرموز غير الهامة (تقطيب الوجه مثلا). لكن ما يميز البشر أن باستطاعتهم إبداء الذكاء او التكيف المتبادل من خلال استعمال الرموز الهامة. لذلك، لدى الكلب البوليسي ذكاء لكن ذكاء رجل البوليس مميز عن ذكاء الكلب البوليسي بالمقدرة على استخدام الرموز الهامة.
ذكر ميد أن الحيوانات لها ذكاء غير تعليلي" وفي المقابل البشر لديهم (العقل) الذي عرّفه ميد بطريقة سلوكية. "عندما تعلل فإنك تحدد لنفسك الخصائص التى تستدعي استجابات محددة، وهذا كل ما تقوم به"199. بمعنى آخر يتحدث الأفراد مع أنفسهم.
العامل المهم في ذكاء البشر هو مقدرتهم على كبح الفعل مؤقتاً وتأجيل ردود أفعالهم تجاه الحافز. في حالة الحيوانات الدنيا يقود الحافز مباشرة وبالضرورة إلى رد فعل. الحيوانات الدنيا تنقصها المقدرة على كبح ردود أفعالها لبعض الوقت، وكما قال ميد " رد الفعل المؤجل ضروري للتصرف الذكي. فالتنظيم، الاختبار الضمني والاختيار النهائي عمليات لن تكون ممكنة إذا لم يتم تأجيل الاستجابة ورد الفعل في مثل تلك المواقف"200. نجد أن هناك ثلاثة مكونات هنا: أولا البشر وبسبب مقدرتهم على تأجيل رد الفعل يستطيعون أن ينظموا في عقولهم مجموعة من الاستجابات الممكنة لموقف ما. فالبشر يمتلكون في عقولهم طرقاً مغايرة لإكمال الفعل الاجتماعي الذي يدخلون فيه. ثانيا، الناس قادرون على الاختبار العقلي لمختلف مجريات الفعل من خلال الحديث مع الذات. وفي المقابل الحيوانات الدنيا تنقصها هذه المقدرة لذلك عليها تجريب ردود الأفعال في العالم الحقيقي عن طريق التجريب والخطأ. فالمقدرة على اختبار الاستجابات عقليا أكثر فعالية من التجريب والخطأ كما رأينا في حالة أكل عيش الغراب. ليس هناك خسارة اجتماعية في الاختبار العقلي لعدد من الاستجابات غير المناسبة، لكن، عندما تستخدم الحيوانات الدنيا هذه الاستجابات في العالم الحقيقي (عندما يمسك كلب بثعبان سام مثلا) فإن النتائج قد تكون مكلفة أو ربما كارثية. أخيراً البشر قادرون على التقاط حافز واحد من وسط حزمة من الحوافز بدل رد الفعل البسيط للحافز الأول أو الأقوى. إضافة إلى ذلك البشر قادرون على الاختيار من بين سلسلة من الأفعال المختلفة في حين أن الحيوانات تتفاعل ببساطة. المقدرة على الاختيار من بين سلسلة من الأفعال تعني أن اختيارات البشر غالبا ما تكون متناسبة بشكل أفضل مع الموقف مقارنة مع ردود أفعال الحيوانات الدنيا المباشرة، وكما أكد ميد"الذكاء مسألة انتقاء"201.
ناقش ميد أيضا موضوع الوعي و يرى أن له معنيين مميزين. الأول يصل إليه الفاعل وحده وهو ذاتي بالكامل، وقد كان ميد مهتما بالنوع الثاني الذي يتضمن الذكاء الانعكاسي. وكان ميد أقل اهتماما بالطريقة التي نحس فيها بالألم المباشر أو الفرح وانما اهتم بالطريقة التي نفكر بها عن العالم الاجتماعي.
الوعي يجري شرحه أو رصده داخل العمليات الاجتماعية، لذلك وعلى النقيض من معظم المحللين يعتقد ميد أن الوعي لا يوجد في المخ " الوعي وظيفي وليس ملموس وفي كل معانيه يجب أن يكون موجوداً في العالم الموضوعي وليس في المخ. إنه يتبع للبيئة التي توجد فيها ويكون أحد خصائصها. ماهو موجود في المخ هو العملية السايكولوجية التي عن طريقها نفقد ونكتسب الوعي"202. وبنفس الطريقة رفض ميد وضع الصور العقلية في المخ واعتبرها ظواهر اجتماعية: "إن ما نطلق عليه الصور العقلية توجد في علاقتها مع الكائن بدون أن تكون موجودة في الوعي الملموس. والصور العقلية هي صور الذاكرة، وهذه الصور كرموز تلعب دوراً كبيراً في التفكير وتنتسب إلى البيئة. القطعة التي تقرأها تتكون من صور ذاكرة، والناس الذين نراهم حولنا نراهم ولحد كبير بمساعدة صور الذاكرة. ويمكننا أن نتقدم في التحليل السلوكي بدون أن تقابلنا الصعوبات التي قابلت واتسون في تعامله مع الصور العقلية"203.
المعنى مفهوم آخر تناوله ميد سلوكيا. رفض ميد فكرة أن المدلول يقع في الوعي، وأن الإدراك أو الوعي ليس ضروريا لوجود المعنى في عملية التجربة الاجتماعية"204. كذلك رفض ميد فكرة أن المعنى ظاهرة جسمانية أو فكرة بل يقع ضمن الفعل الاجتماعي ". المعنى ينشأ ويقع ضمن العلاقة بين مبادرة كائن بشري والسلوك المترتب لذلك الكائن كما يدل عليه أى كائن بشري آخر عن طريق تلك المبادرة. إذا أوحت تلك المبادرة إلى كائن آخر السلوك المترتب أو الناتج لذلك الكائن، عندها يكون لها معنى"205 إنها استجابة الكائن الثاني التي تعطي المعنى للمبادرة من الكائن الأول، ومعنى المبادرة يمكن اعتباره "المقدرة على التنبؤ بالسلوك الذي سيقع بعدها"206.
في حين أن المعنى موجوداً في السلوك فإنه يصبح مدركا عندما يرتبط برمز، لكن، بالرغم من أن المعنى يمكن أن يكون مدركا بين البشر فإنه موجود في الفعل الاجتماعي قبل ظهور الوعي بالمعنى وإدراكه. لذلك، وفي هذا الإطار الحيوانات الدنيا والبشر يمكن أن يدخلوا في سلوك ذى معنى بدون أن يكونوا مدركين لذلك للمعنى.
مثل الوعي فإن العقل يعرّف بواسطة ميد كعملية وليس كشيء، كمحادثة داخلية مع الذات وهو لا يوجد داخل الفرد. إنه ليس شيئا جسدياً وإنما ظاهرة اجتماعية. إنه ينشأ ويتطور داخل العملية الاجتماعية كما أنه جزء أساسي في تلك العملية، لذلك فإن العملية الاجتماعية تسبق العقل وهي ليست، كما يعتقد العديدون نتاج للعقل. لذلك فإن العقل أيضا يعرّف وظيفيا وليس ماديا. بعد كل هذا التشابه في الأفكار مع الوعي هل هناك شيء مميز عن العقل؟ لقد رأينا أن للبشر مقدرة فريدة على الاستدعاء الداخلي للاستجابات التي يسعون إلى إثارتها مع الآخرين، فالخاصية المميزة للعقل هي مقدرة الفرد على الاستدعاء داخليا ليس فقط استجابة واحدة من الآخر، وإنما استجابات المجتمع ككل. هذا ما يعطي الفرد ما نطلق عليه العقل، ففعل أي شيء يعني استجابة منظمة معينة وإذا كان لدى الفرد تلك الاستجابة داخله فإن لديه ما نصفه بالعقل. لذلك فإن العقل يتميز عن المفاهيم الأخرى لميد بمقدرته على الاستجابة لكل المجتمع ووضع استجابة منظمة.
نظر ميد إلى العقل بطريقة براجماتية أيضا، وذلك أن العقل يتضمن عملياً تفكيراً موجهاً نحو حل المشاكل، فالعالم الحقيقي موبوء بالمشاكل، ووظيفة العقل هي محاولة حل تلك المشاكل ومساعدة الناس على العمل بشكل أكثر فعالية في ذلك العالم.
الذات
الكثير من تفكير ميد عامة وعن العقل خاصة تضمّن أفكاره عن مفهومه الهام عن الذات. حتى الآن تجنبنا هذا المفهوم ولكن من الضروري مناقشته الآن حتى نتحصل على النكهة الكاملة لأفكار ميد.
الذات هي المقدرة على اتخاذ ذات النفس كموضوع. الذات هي المقدرة الفريدة على أن تكون ذاتا وموضوعاً وكما هو الحال في جميع مفاهيم ميد، الذات تفترض مسبقا عملية اجتماعية: الاتصال بين البشر. الحيوانات الدنيا ليست لها ذات ولا الأطفال لحظة الميلاد. تنشأ الذات من خلال النشاط الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية و مع تطورهما. يرى ميد أنه من المستحيل تصور نشوء ذات في غياب التجربة الاجتماعية، لكن عندما تتطور الذات فإنه من الممكن أن تظل موجودة في غياب الاتصال الاجتماعي. لذلك فإن روبنسن كروزو طور ذاتا عندما كان في المجتمع وواصل امتلاكها عندما عاش وحيداً في الجزيرة المعزولة. بمعنى آخر لقد واصل امتلاك المقدرة على اتخاذ نفسه كموضوع. وعندما تتطور الذات فإن الناس عادة وليس دائما ما يظهرونها، فالذات مثلا لا تدخل في الأفعال التقليدية أو التجارب السايكولوجية المباشرة للفرح أو الألم.
الذات ترتبط جدلياً بالعقل، ويرى ميد أن الجسم ليس ذاتا ويصبح ذاتا فقط عندما يتطور العقل. من ناحية أخرى فإن الذات وقابليتها للانعكاس ضرورية لتطور العقل. وبالطبع لا يمكن فصل العقل عن الذات لأن الذات عملية عقلية. لكن بالرغم من أننا ربما نفكر فيها كعلمية عقلية، فإن الذات مثل كل العمليات العقلية في نسق ميد النظري، عملية اجتماعية. في مناقشته عن الذات وكما رأينا فيما يخص كل الظواهر العقلية الأخرى، قاوم ميد فكرة وضع الذات في الوعي، وبدل ذلك رآى أنها متضمنة في التجربة الاجتماعية والعمليات الاجتماعية. بهذه الطريقة أراد ميد أن يعطي معنىً سلوكيا للذات ويرى أن الذات هي ببساطة جانب آخر من العملية الاجتماعية الكلية التي يكون الفرد جزءاً فيها.
الآلية العامة لتطور الذات هي الانعكاسية أو المقدرة على وضع أنفسنا بدون وعي في مكان الآخرين ونتصرف كما يتصرفون. نتيجة لذلك يستطيع الناس اختبار انفسهم مثلما يختبرهم الآخرون: "عن طريق الانعكاس- عكس تجربة الفرد على نفسه- يمكن وضع كل العملية الاجتماعية في تجربة الأفراد الداخلين فيها، إنه بهذه الوسيلة التي تمكن الفرد من أخذ توجه الآخر تجاه نفسه، يكون الفرد قادرا وبوعي على ملاء مة نفسه مع تلك العملية ويعدل العملية الناتجة في أي فعل اجتماعي في إطار تواؤمه معها"207. الذات تمكن الناس من المشاركة في محادثتهم مع الآخرين، وذلك أن الفرد يدرك ما يقوله الآخر ونتيجة ذلك يراقب ما يقال ويحدد ما سيقال بعد ذلك.
من أجل الحصول على الذات يجب على الأفراد أن يتمكنوا من " الخروج من ذواتهم" حتى يقيموا أنفسهم، وحتى يصبحوا مواضيعا لذواتهم. من أجل ذلك، يضع الناس أنفسهم في نفس الحقل التجريبي الذي يضعون فيه أي شخص آخر. كل واحد جزء هام في ذلك الموقف التجريبي وعلى الناس أن يأخذوا أنفسهم في الاعتبار حتى يتمكنوا من التصرف بعقلانية في الموقف المعين ثم بعد ذلك يسعون لاختبار أنفسهم بطريقة لا شخصية، موضوعية وبدون عواطف.
الناس لا يستطيعون معرفة أنفسهم مباشرة، ويمكنهم فعل ذلك بطريقة غير مباشرة بوضع أنفسهم في مكان الآخرين والنظر إليها من تلك الزاوية. الزاوية التي نظر منها الفرد لنفسه يمكن أن تكون لفرد معين أو لمجموعة اجتماعية كاملة. وكما قال ميد بشكل عام "إنه فقط عن طريق أخذ أدوار الآخرين يكون بإمكاننا العودة إلى أنفسنا"208.
كان ميد مهتماً جداً بأصول الذات. واعتبر عملية تبادل المبادرات خلفية للذات، لكنها لا تتضمن ذاتاً لأن الناس في ذلك التبادل لا يتخذون أنفسهم كمواضيع. تتبع ميد أصول الذات من خلال مرحلتين في تطور الطفولة، الأولى هي مرحلة اللعب، يتعلم الأطفال في هذه المرحلة أخذ هيئة آخرين معينين. في حين أن الحيوانات الدنيا تلعب أيضا فإن البشر فقط هم الذين يلعبون بأن يكونوا اشخاصا آخرين. أعطى ميد مثالاً الطفل الأمريكي الذي يلعب لعبة الهندي. " وهذا يعني أن لدى الطفل حزمة معينة من الحوافز التي تستدعي في نفسه الاستجابات التي تستدعيها من الآخرين والتي تشير إلى الهندي"209. نتيجة لهذه اللعبة يتعلم الطفل أن يكون ذاتاً وموضوعاً ويبدأ في امتلاك المقدرة على بناء ذات. لكنها ذات محدودة لأن الطفل يأخذ دور آخرين مميزين ومنفصلين. الأطفال ربما يمثلون دور الأم أو دورالأب وفي هذه العليمة يطورون المقدرة على تقييم أنفسهم كما يقيمهم والديهم أو أي أفراد آخرين، لكن ينقصهم احساس أكثر عمومية وانتظاما عن الذات.
في المرحلة التالية، مرحلة المباراة وهي الضرورية إذا أراد الفرد أن يطور ذاتا بالمعنى الكامل للمصطلح، في حين أنه في مرحلة اللعب يتخذ الطفل أدوار آخرين محددين ففي مرحلة المباراة يجب على الطفل أن يأخذ دور آخر مشترك في المباراة. إضافة إلى ذلك فإن هذه الأدوار المختلفة يجب أن تكون ذات علاقة بعضها البعض. في توضيح مرحلة المباراة أعطى ميد مثاله الشهير عن مباراة البيزبول أو "كرة التسعة" كما أسماها هو: " لكن في المباراة التي يشارك فيها عدد من الأفراد عندما يأخذ الطفل دوراً عليه أن يكون مستعداً لأخذ دور أي لاعب آخر، فإذا دخل في "كرة التسعة" يجب أن يمتلك الاستجابات عن كل موقع مشترك مع موقعه ويجب أن يعرف ماذا يفعل كل لاعب آخر من أجل أن يقوم باللعب- عليه أن يأخذ كل تلك الأدوار. ليس بالضرورة أن تكون كلها حاضرة في الوعي في نفس اللحظة، لكن في بعض اللحظات يجب أن يكون لديه ثلاثة أو أربعة لاعبين موجودون فى سلوكه، مثل الذي عليه قذف الكرة، والذي عليه أن يمسك بها وما إلى ذلك. هذه الاستجابات يجب أن تكون حاضرة بدرجة ما في تكوينه نفسه. في المباراة هناك إذن حزمة من الاستجابات منظمة بحيث أن سلوك لاعب يستدعي السلوك المناسب من الآخر"210.
في مرحلة اللعب الأطفال لا يكونون كلاً منظماً لأنهم يلعبون أدواراً محددة ونتيجة لذلك يرى ميد أنهم لا يمتلكون شخصيات محددة، لكن في مرحلة المباراة يبدأ ذلك التنظيم وتبدأ الشخصيات المحددة في الظهور وفي استطاعة الأطفال العمل في مجموعة منظمة وأكثر أهمية أن يحددوا ما يفعلون ضمن المجموعة المعينة.
مرحلة المباراة أدت إلى أحد أكثر مفاهيم ميد شهرة "الآخر المعمم". الآخر المعمم هو سلوك كل المجتمع أو كما في مثال مباراة البيزبول سلوك كل الفريق. المقدرة على أخذ دور الآخر المعمم ضرورية للذات، " فقط عندما يأخذ سلوك المجموعة الاجتماعية المنظمة التي ينتمي إليها تجاه النشاط الاجتماعي التعاوني المنظم أو الأنساق من تلك النشاطات التي تدخل فيها تلك المجموعة يكون الفرد قد طور ذاتاً مكتملة"211. من الضروري أيضا أن يقيّم الناس أنفسهم من وجهة نظر الآخر المعمم وليس فقط من وجهة نظر الآخر المحدد. أخذ دور الآخر المعمم وليس الآخر المحدد يسمح بإمكانية التفكير المجرد والموضوعية. وفيما يلي وصف ميد للتطور الكامل للذات:
" تصل الذات إلى تطورها الكامل بتنظيم سلوك الأفراد الآخرين في السلوك المنظم للمجموعة، وبذلك تصبح انعكاساً فردياً للنسق المنظم لسلوك المجموعة الاجتماعي المشتركة فيه هي ومجموعات أخرى، نسق يدخل بكامله في تجربة الفرد في إطار سلوك الجماعة المنظم والذي يأخذه من خلال آلية الجهاز العصبي المركزي تجاه نفسه كما يأخذ السلوك الفردي للآخرين"212. بمعنى آخر، من أجل امتلاك الذات يجب على الإنسان أن يكون عضواً في مجتمع ويوجه بالسلوك العام لذلك المجتمع. في حين أن اللعب يتطلب فقط جزءاً من الذات وتتطلب المباراة ذاتا متماسكة.
آخذ دور الآخر المعمم ليس ضروريا للذات فقط لكنه أساس لتطور نشاطات المجموعة المنظمة، وتحتاج المجموعة الى أفراد يوجهون أنشطتهم على حسب سلوك الآخر المعمم. الآخر المعمم يمثل تركيز ميد على إعطاء الأ ولوية للاجتماعي بما أنه من خلال الآخر المعمم تؤثر المجموعة في سلوك الفرد.
نظر ميد إلى الذات من وجهة نظر براجماتية، وعلى المستوى الفردي تمكن الذات الفرد من أن يكون عضواً فعالاً في المجتمع الكبير. بسبب الذات فإن الناس عادة ما يفعلون ما هو متوقع منهم في الموقف المحدد، وبما أن الناس دائما يحاولون أن يكونوا عند حسن ظن المجموعة لذلك عادة ما يتجنبون الإخفاقات التي تأتي من الفشل في القيام بما تتوقعه المجموعة. إضافة إلى ذلك تمكن الذات من التنسيق الواسع في المجتمع ككل لأن الأفراد يعتمد عليهم في أداء ما هو متوقع منهم فإن المجموعة يمكن أن تعمل بفعالية أكثر.
النقاش عن الذات ربما يقودنا إلى الاعتقاد أن الفاعلين لدى ميد هم أكثر قليلا من مقرين، وهناك القليل من الفردية حيث كل واحد مشغول بالإقرار بتوقعات الآخر المعمم. لكن ميد كان يعي أن كل ذات مختلفة من الأخريات، فالذوات لها بنية مشتركة لكن كل ذات تتحصل على تمفصل ذاتي متفرد. إضافة إلى ذلك، من الواضح أنه ليس هناك آخر معمم واحد كبير وإنما العديد من الآخرين المعممين في المجتمع، لأن هناك العديد من الجماعات في المجتمع أيضا، لذلك فإن الناس لهم آخر معمم متعدد وكذلك ذوات متعددة. فحزمة الذوات المتفردة للشخص تجعله مختلف من أي شخص آخر، وأكثر من ذلك، فإن الناس ليسوا في حاجة لقبول المجتمع كما هو وإنما يمكنهم إصلاح أشياء لجعلها أفضل. إننا نستطيع تغيير المجتمع لأننا نفكر، لكن ميد اضطر إلى وضع هذا الموضوع عن الابتكار الفردي في إطار سلوكي: "الطريقة الوحيدة التي يمكن أن نتصرف بها ضد المجتمع هي عدم قبول المجتمع ككل بايجاد نوع أعلا من المجتمع والذي في معانٍ محددة يمكن أن يسقط ذلك الذي وجدناه.. يمكن للفرد أن يقف ضده بذاته. لكن من أجل ذلك عليه استيعاب أصوات الماضي والمستقبل. تلك هي الطريقة الوحيدة التي تمكن الذات من الحصول على صوت أكثر من صوت المجتمع"213. بمعنى آخر، من أجل تحدي الآخر المعمم، على الفرد تشييد آخر معمم أكبر مكون ليس فقط من الحاضر وإنما أيضا من الماضي والمستقبل ثم يستجيب له بعد ذلك.
حدد ميد جانبين أو مرحلتين للذات وسماهما الـ "1" أنا والـ "Me" اياى (ضمير المتكلم في حالتي النصب والجر)*. وكما أوضح ميد أن "الذات بالضرورة عملية اجتماعية مستمرة من هاتين المرحلتين المميزتين"214. من المهم أن نتذكر أن الـ "1" و ال "Me" عمليات ضمن العملية الكبرى للذات وهى ليست أشياء. أل"أنا " هى الاستجابة المباشرة للفرد تجاه الآخرين. أنها الجانب غير القابل للحساب وغير المتوقع والخلاق فى الذات، والناس لايعرفون مسبقا ماذا سيكون فعل الانا" لكن ماذا ستكون الاستجابة فهو لا يعرف كما لا يعرف ذلك شخص آخر. ربما يقوم بلعبة ذكية أو خطأ-الاستجابة لذلك الموقف كما تبدو في تجربته المباشرة غير المؤكدة"215. إننا لا ندرك أبدا الـ "1" بالكامل ومن خلالها نحن نستغرب لأفعالنا.
نحن نعرف الـ "1" فقط بعد انتهاء الفعل، لذلك نعرف "1" فقط في ذاكرتنا. وضع ميد أهمية للـ "1" لأربعة أسباب، أولا أنها مصدر التجرد في العملية الاجتماعية. ثانيا، يعتقد ميد أن في الـ "1" توجد معظم قيمنا الهامة. ثالثا تحتوي الـ "1" على شئ نسعى إليه جمعيا وهو تحقيق الذات. أنها الـ "1" التي تمكننا من تطوير شخصية محددة. أخيرا يرى ميد في التاريخ عملية تطورية حيث إن الناس في المجتمعات البدائية تسيطر عليهم أكثر الـ "Me" لكن في المجتمعات الحديثة هناك مكون كبير للـ"1".
الـ "1" تعطي نسق ميد النظري الكثير من الحيوية والابتكار. بدونها يكون فاعلو ميد مهيمناً عليهم بالكامل بقيود داخلية وخارجية. بها استطاع ميد التعامل مع التغيرات التي أحدثها ليس فقط أشخاص عظام في التاريخ مثل اينشتين ولكن بواسطة الأفراد في حياتهم اليومية. إنها الـ "1" التي جعلت تلك التغيرات ممكنة، وبما أن لكل شخصية خلطة من الـ "1" والـ "Me" فإن عظماء التاريخ لديهم نسبة أكبر من ال "1" مقارنة بالآخرين. لكن فى المواقف اليومية فإن"1 " كل شخص ربما تفرض إرادتها وتقود إلى تغيرات في الموقف الاجتماعي. التفرد داخل في نسق ميد من خلال التمفصل الذاتي لـ "1" و "Me" كل فرد، وذلك أن المقتضيات المحددة لحياة كل فرد تعطيه مزيجاً متفرداً من الـ "1" والـ "Me".
الـ "1" يكون لها رد فعل ضد الـ "Me" والتي هي "الحزمة المنتظمة من سلوك الآخرين التي يفترضها الشخص نفسه"216 بمعنى آخر الـ "Me" هي التى تبني الآخر المعمم. على العكس من الـ "1" الناس واعين بالـ "Me". الـ "Me" تشمل مسئولية واعية. كما قال ميد "الـ "Me" هي الفرد التقليدي".217 الأشخاص المقرين مسيطر عليهم بالـ "Me" - بالرغم من أن كل شخص مهما كانت درجة إقراره- له ويجب أن تكون له- "Me" ملموسة. ومن خلال الـ "Me" يهيمن المجتمع على الفرد. عرّف ميد فكرة الضبط الاجتماعي بهيمنة تعبير الـ "Me" على تعبير الـ "1".
نظر ميد إلى الـ "1" والـ "Me" في إطار براجماتي. الـ "Me" تمكن الفرد من أن يعيش بارتياح في العالم الاجتماعي، في حين أن الـ "1" تجعل تغيير المجتمع ممكنا. المجتمع يحصل على الإقرار الكافي ليسمح له بالعمل كما يحصل على الانصهار المتصاعد للتطورات الجديدة من أجل منعه من التكلس والركود. الـ "1" والـ "Me" جزء من العملية الاجتماعية الكلية وتمكنان الفرد والمجتمع من العمل بفعالية.
المجتمع
في مستوى عام، استخدم ميد مصطلح مجتمع ليعني العملية الاجتماعية المستمرة التي تسبق العقل والذات. نظراً لأهميته في تشكيل العقل والذات يكون للمجتمع أهمية مركزية لدى ميد. في مستوى آخر يمثل المجتمع لميد حزمة الاستجابات المنظمة التي يتخذها الفرد في شكل الـ "Me". لذلك بهذا المعنى يحمل الأفراد دائما المجتمع معهم مما يعطيهم المقدرة من خلال نقد الذات على السيطرة على أنفسهم. تناول ميد كما سنرى تطور المجتمع. وله القليل الذي يقوله بوضوح عنه بالرغم من مركزيته في نسقه النظري ومساهمته الأكثر أهمية تقع في أفكاره عن العقل والذات حتى أن جون بالدوين الذي يجد مكونا اجتماعيا في تفكير ميد اضطر إلى قبول أن "المكونات الكبرى في نسق ميد النظري ليست متطورة كتلك الصغرى"218.
على المستوى المجتمعي كان لميد عدداً من الأشياء التي يقولها عن المؤسسات الاجتماعية فعرّف المؤسسة بأنها "الاستجابة المشتركة في المجتمع"219. أو العادات الحياتية للمجتمع. أكثر تحديدا فقد ذكر " كل المجتمع له فعل نحو الفرد تحت ظروف معينة في طريقة مطابقة. هناك استجابة متطابقة من أطراف كل المجتمع تحت تلك الظروف. ونحن نسمي ذلك التكوين مؤسسة"220. نحمل هذه الحزمة من السلوك المنظم معنا وهي تعمل على السيطرة علينا من خلال الـ "Me".
التربية هي العملية التي عن طريقها يستبطن الفاعل العادات العامة فى المجتمع (المؤسسة) وهذه عملية ضرورية لأن ميد يرى أن البشر لا يمتلكون ذواتا ولا يكونون أعضاء أصليين في المجتمع حتى يتمكنوا من الاستجابة لأنفسهم كما يفعل المجتمع الكبير، ولإنجاز ذلك يجب على البشر أن يستبطنوا السلوك العام للمجتمع.
لكن ميد كان حريصا على أن يشير مرة أخرى الى أن المؤسسات لا تحطم بالضرورة الفردية ولا تكتم الابتكار، وأقر بوجود بعض المؤسسات الاجتماعية القاهرة والمحافظة لكنه أضاف "ليس هناك سبب ضروري أو لا يمكن تجنبه لوجود مؤسسات اجتماعية قاهرة ومحافظة أو لماذا لا تكون تلك المؤسسات مرنة وتقدمية تحفز الفردية وتشجعها مثل المؤسسات الأخرى"221. يرى ميد أن المؤسسات يجب أن تحدد وبشكل عام ما يجب على البشر عمله كما عليها أن تترك مساحة كافية للفردية والابتكار. هنا يظهر ميد مفهوما حديثا جداً للمؤسسات الاجتماعية كمقيد للفرد و ممكن له أن يكون مبتكراً وخلاقا.
ما يفقده تحليل ميد عن المجتمع بشكل عام والمؤسسات الاجتماعية بشكل خاص هو المنظور الأكبر كما تعامل منظريين مثل ماركس، فيبر ودوركايم مع ذلك المستوى من التحليل. هذا الانتقاد صحيحا بالرغم من أن ميد له مفهوم عن " الانبثاق يتضمن إعادة تنظيم لكن إعادة التنظيم تنتج ما لم يكن موجودا من قبل. بمجرد تفاعل الأوكسجين والهايدروجين يظهر الماء. الا أن الماء هو اتحاد الأوكسجين والهايدروجين، لكن لم يكن هناك ماء عندما كانت هذه العناصر منفصلة"222. لكن ميد كان ميالاً أكثر إلى تطبيق فكرة الانبثاق على الوعي أكثر من تطبيقها على المجتمع الكبير. وذلك أن العقل والذات يعتبران منبثقين من العملية الاجتماعية، إضافة إلى ذلك كان ميالا إلى استخدام مصطلح الانبثاق ليعني فقط ظهور شيء جديد أو مبتكر.
التطور
سبق وأن تطرقنا إلى القليل من أفكار ميد عن العملية التطورية في الانتقال من المجتمعات البدائية المسيطر عليها بالـ "Me" إلى المجتمعات الحديثة التي تغلب فيها الـ (1). متأثراً بالمفكرين التطورين حيث اعتبر ميد أن البشر مثل كل الكائنات يتطورون باتجاه التكيف الكبير مع بيئتهم، وكذلك المقدرة المتزايدة في السيطرة على تلك البيئة. نظر ميد إلى العملية التطورية في إطار براجماتي . "التطور هو عملية مقابلة المشاكل وحلها"223 نتيجة لذلك لم يعتبر ميد التطور عملية واحدة منسجمة وإنما حزمة متنوعة من وسائل حل المشاكل، ويتخذ التطور أشكالا مختلفة اعتمادا على الظروف المحلية، لكن كل تلك الأشكال تتشكل بتطبيقها مع تلك الظروف. وتطور المجتمع الانساني تقدم كثيراً على تطور الكائنات الأخرى ولديه إمكانيات عظيمة في المستقبل. والبشر على النقيض من الحيوانات الدنيا لديهم المقدرة على تغيير بيئتهم غير العضوية، وهذه المقدرة ناتجة بالطبع من الوعي بالذات والوعي بالذات يمكّن البشر من تغيير بيئتهم، والقيام بالتغيرات الاجتماعية التقدمية في العالم الاجتماعي وتطور شخصياتهم من أجل التواؤم مع التغيرات التي يحدثونها في المجتمع. يرى ميد أن " تحقيق الذات في الأداء الذكي للوظيفة الاجتماعية يظل المرحلة العليا في تطور الأمم والأفراد"224. في حين يرى ميد أن تطوراً كبيراً طرأ وسط البشر الا أنه أوضح أن الطريق ما زال طويلا لإكمال العملية التطورية.
يرى ميد أن العلم هو المنتج الهام للعملية التطورية، ويرى أن العلم هو المعرفة الأكثر تأكيدا التي نمتلكها. وفي إطار براجماتي العلم يتضمن ببساطة النشاط لحل المشاكل، لكن النشاط لحل المشاكل متميز في أنه يتضمن سلوكاً بحثياً يحتوي إضافة إلى أشياء أخرى تطوير فرضيات، ورفض كل أنواع التعنت واستخدام منهج الملاحظة لإيجاد شيء مبتكر أو غير متوقع والبحث عن الاتساق، الأحكام والقوانين. لكن عندما تكتشف قوانين جديدة فإنها لا تصبح عقيدة ويكون العلماء على استعداد لتنقيح قانون أو إسقاطه عندما تتوفر معلومات جديدة مناقضة. يواصل العلماء استعمال الفرضيات ما دامت هذه الفرضيات تعمل وهم على استعداد لإسقاطها عندما لا تناسب الحقائق. لا ينظر العلماء إلى أهداف بعيدة مبهمة وإنما يركزون على مشاكل في النسق المعين وما يمكن عمله من أجل حلها، والاختبار للحل العلمي هو مقدرته على جعل النسق يعمل بصورة أفضل عما كان عليه في السابق.
يرى ميد أن العلم ينجز بسرعة وفعالية أكثر مما أنجزه البشر بشكل عام خلال العملية التطورية، في حين أنه في التطور العادي تبرز حلول المشاكل تدريجيا وعبر فترة طويلة من الزمن فإننا في العالم الحديث "نحل المشاكل مباشرة عن طريق ما نطلق عليه المنهج العملي"225. فصل ميد العديد من الخطوات في المنهج التجريبي للعلم- وجود مشكلة، تحديد المشكلة في إطار كيفية حلها، صياغة فرضيات، الاختبار العقلي للفرضيات وأخيراً اختبار الفرضيات تجريبيا أو عن طريق الملاحظة، لكن ميد ذهب ليقول أن هذه "مجرد توضيحات للعمليات البسيطة من الاستنتاجات اليومية التي نقابل بها صعوباتنا المتكررة باستمرار"226.
تطور العمل مرتبط بالتطور الكلي للعقل البشري. وفى مايلى الطريقة التي ربط بها ميد بين التطور والعديد من الأفكار عن العملية العقلية التي ناقشناها سابقا:
"عندما نصل إلى الشكل الإنساني بمقدرته على تحديد ما هو مهم في موقف ما، من خلال عملية التحليل، عندما نصل إلى الوضع الذي يمكن أن ينشأ فيه العقل في شكله الفردي، ذلك عندما يعود الفرد إلى ذاته، ويحفز ذاته كما يحفز الآخرين، عندما يستطيع الفرد استدعاء سلوك كل المجموعة من ذاته، عندما يستطيع امتلاك المعرفة الموجودة في كل المجتمع، عندما يستطيع الاستجابة كما يتجاوب كل المجتمع تحت ظروف معينة توجه هذا الذكاء المنظم نحو غايات محددة، حينها يكون لدينا تلك العملية التي توفر الحلول للمشاكل والتي تعمل بطريقة ذاتية واعية. في تلك العملية نجد تطور العقل البشري الذي يستفيد مباشرة من نوع الذكاء الذي تطور في عملية التطور"227. من الواضح أن عقلاً بتلك المميزات قادر على العلم والعلم بدوره هو التعبير الشكلى عن هذه المقدرات المميزة للبشر. لم يترك ميد أي شكوك حول موقفه "بعد كل ذلك، العالم ببساطة ينتج تقنية من الذكاء الإنساني"228.
ربط ميد أيضا أفكاره عن تطور العلم مع حاجة المجتمع في الحفاظ على النظام مع المقدرة على التغير والتقدم. ويرى أن العلم يوفر المنهج الذي يمكن عن طريقه أن يتغير المجتمع لكن بطريقة منظمة. وهذه الفكرة ترتبط بالإصلاحية الاجتماعية لميد والتي فيها تستغل الأفكار المستخلصة من الدراسة العلمية في تسريع العملية التطورية وحل مشاكل المجتمع.
تلخيص
طور جورج هيريت ميد نظريته السوسيولوجية من مجموعة من التيارات الفكرية أهمها السلوكية. قبل ميد بشكل أساسي المدخل السلوكي وتركيزه حول السلوك لكنه سعى إلى توسيع ذلك التركيز ليشمل العمليات العقلية. كان أيضا مبتكراً للبراجماتية ومتأثراً بها. أعطت البراجماتية ميد اعتقاداً قوياً في العلم وبشكل عام في السلوك المدفوع بالذكاء الانعكاسي كما قادته إلى التركيز على ما يفعله الناس في العالم الاجتماعي حقيقة. لقد تأثر أيضا بشدة بفلسفة هيغل . أعطت نظرية ميد الأولوية للعالم الاجتماعي ، ذلك أنه من العالم الاجتماعي ينبثق الوعي، العقل والذات. الوحدة الأساسية في نظريته الاجتماعية هي الفعل الذي يشتمل على أربعة مراحل مترابطة جدلياً هي : الدافع ، الإدارك ، التعامل والإنجاز . حتى في أفكاره عن الفعل لم يركز ميد على المحفزات الخارجية – كما يفعل السلوكيين – وإنما يرى أن الحافز فرصة وليس إلزام للفعل .
الفعل الاجتماعي يشمل شخصين أو أكثر والآلية الأساسية فيه هي المبادرة ، في حين أن الحيوانات الدنيا والبشر قادرين على تبادل المبادرات، البشر فقط هم الذين يستطيعون توصيل المدلول الواعي لمبادراتهم .
ينفرد البشر بالمقدرة على خلق المبادرات الصوتية وهذه الملكة أدت الى مقدرة إنسانية متميزة هى تطوير واستعمال الرموز الهامة.، الرموز الهامة أدت الى تطور اللغة والملكة المميزة للبشر – التواصل بالمعنى الكامل للكلمة مع الآخرين . الرموز الهامة جعلت التفكير ممكناً وكذلك التفاعل الرمزي .
نظر ميد في مجموعة من العمليات العقلية كجزء من العملية الاجتماعية الكبرى. تلك العمليات الاجتماعية تشمل الذكاء الانعكاسي، الوعي، الصور العقلية، المعنى وبشكل عام العقل. البشر لديهم المقدرة المميزة على إجراء المحادثة الداخلية مع الذات. كل العمليات الاجتماعية كما يرى ميد موجودة ليست في المخ وانما في العملية الاجتماعية .
الذات هي القدرة على اتخاذ الفرد نفسه كموضوع. مرة أخرى تنشأ الذات ضمن العملية الاجتماعية. الآلية العامة للذات هي مقدرة الناس على وضع أنفسهم في مكان الآخرين وعلى أن يتصرفوا كما يتصرف الآخرين وأن يروا أنفسهم كما يراها الآخرين. تتبع ميد أصول الذات خلال مرحلتي اللعب والمباراة في الطفولة. ما هو مهم بشكل خاص في المرحلة الأخيرة ظهور الآخر المعمم .
المقدرة على رؤية الذات من وجهة نظر المجتمع ضرورية لظهور الذات ولأنشطة المجموعة المنظمة. للذات مرحلتين أيضا الـ (1) وهي الجانب الذي لا يمكن التنبؤ به والخلاق من الذات والـ (Me)وهي حزمة سلوك الآخرين المنظم الذي يفترض بواسطة الفاعل. الضبط الاجتماعي يظهر من خلال الـ (Me) في حين الـ (1) هي مصدر التجديد في المجتمع.
كان لميد القليل الذي يقوله عن المجتمع والذي اعتبره عمليات اجتماعية مستمرة تسبق العقل والذات . يفتقد ميد الى الإدراك ذو المنظور الأكبر للمجتمع. عرّف المؤسسات على أنها عادات جماعية . كان لميد إحساس قوي بالتطور خاصة عن الذكاء الانعكاسي وكذلك العلم، والأخير اعتبره تجلى محدد ومنسق لذلك الذكاء .
نظرية ميد ليست واسعة مثل بقية النظريات التي عرضناها في هذا الكتاب وعلى الرغم من ذلك فقد ظلت مؤثرة في التفاعلية الرمزية المعاصرة، علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع بشكل عام . أعمال ميد جذبت العديد من المنظرين الجدد في الولايات المتحدة وخارجها على الرغم من عدد من نقاط الضعف فيها. الضعف الأكبر والذي أشرنا إليه في عدة مواضع في هذا الفصل أضاف القليل لفهمنا للمستوى الاجتماعي ذو المنظور الأكبر . نقاط الضعف الأخرى تشمل المفاهيم الغامضة، التعريف غير المتسق للمفاهيم (خاصة الذكاء ) الصعوبة في التمييز الواضح بين المفاهيم، عدم اهتمامه بجوانب العاطفة واللاوعي في السلوك الإنساني وحقيقة أن مصدر التغير الاجتماعي في نسقه النظري هو الفرد خاصة من خلال الـ (1). وعلى الرغم من نقاط الضعف هذه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق