أ. ناهد عز الدين. المصدر :
مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية
الفصل الأول
أصــل المجـتمـع المـدنــى
منذ فجر التاريخ، كان الهم الأول للإنسان هو البحث عن أفضل الوسائل لإشباع احتياجاته المادية والمعنوية ومنها الحاجة للاجتماع بالآخرين كغريزة أساسية وتكوين مجتمع منظم يسوده التعاون فيما بين الأفراد والجماعات، وهو ما عبر عنه أبو الفلاسفة أفلاطون بقوله إن الإنسان حيوان مدني بطبيعته، حيث كان يقصد بكلمة مدني أن المدينة هي الشكل المثالي لتنظيم المجتمع الإنساني وتحقيق السعادة .
لكن هذه المثالية لم تتحقق في الواقع، حيث أدت زيادة أعداد البشر وتعقد المجتمعات مع قلة الموارد إلى نشوب الصراعات والحروب التي هددت الجميع بالفناء إن لم يجدوا وسيلة لتسوية الخلافات وتقسيم الموارد بشكل يقبله الجميع ويوفق بينهم. وكان ذلك وراء ظهور الحاجة إلى النظام والقانون وكذلك الحاجة إلى السلطة القادرة على وضعه ثم فرضه على الجميع تجنباً لأخطار الفوضى والدمار . وكانت الحاجة إلى الأمن والسلام هى أم الاختراع الذي أوجد السلطة القادرة على تنظيم الجماعة الإنسانية، وبدأت منذ ذلك الوقت قصة كفاح الإنسان بحثاً عن الأسلوب الأمثل لتنظيم العلاقات الاجتماعية والشكل المثالي للسلطة الذي يضمن تحقيق الخير والسعادة والفضيلة .
وكانت الأسرة هي النواة الأولى للمجتمع المنظم في مراحل الحياة البدائية البسيطة، حيث سادها التعاون الغريزي وانتمى لها الفرد على أساس رابطة الدم وصلة الرحم والقرابة. وتحدد في ظلها دوره بحسب سنه وصفته وهل هو أب أم ابن أم زوج، ثم اتسع نطاق الأسرة وانضمت إليها عائلات جديدة بروابط المصاهرة فتشكلت القبيلة ثم العشيرة التي تضم مجموعة قبائل . ويمتلك السلطة فيها الشيوخ والعجائز الأكبر سناً. ولكن رابطة الدم لم تعد هي الأساس الوحيد للانتماء في المجتمع، حيث ظهرت روابط أوسع: دينية أو مذهبية أو طائفية . وهكذا، كانت المجتمعات الإنسانية تنقسم على أسس طبيعية لا يد للفرد في اختيارها فهو يجد نفسه منتمياً إلى عائلة وقبيلة وعشيرة معينة بحكم ميلاده.
ومع تعقد المجتمعات وتزايد الأعداد لم تعد هذه المجتمعات الطبيعية تنعم بالاستقرار والأمن. فقد بدأ الأفراد يتحيزون لمصالحهم الخاصة ويسعون لتحقيقها ولو على حساب الآخرين. ولم تعد القواعد العرفية والمبادئ الأخلاقية قادرة على حل ما بينهم من صراعات، وظهرت الحاجة الملحة إلى وضع القوانين في شكل نصوص مكتوبة والحاجة إلى سلطة تتولى فرضها وإلزام الجميع بها.
وفي العصور الوسطى لعبت السلطة الدينية هذا الدور، فكانت الكنيسة في أوروبا هي صاحبة السلطة في فرض النظام والقانون، ولكنها ما لبثت أن ادعت أنها تملك سلطة مقدسة مستمدة من الإرادة الإلهية. وتمادت في ممارسة القهر والكبت ضد الحريات، مما أغرق المجتمع الأوروبي في ظلام التخلف والجمود طوال العصور الوسطى في ذات الوقت الذي عاشت فيه الحضارة الإسلامية والعربية أزهى عهودها وعرفت أولى صور الدولة بمعناها الحديث كمجموعة مؤسسات واضحة ذات وظائف محددة .
ومع بزوغ القرن السابع عشر دخلت أوروبا عصر التنوير المعروف بعصر النهضة، حيث بدأ الانتقال من اقتصاد الإقطاع الزراعي إلى الصناعة. وارتبطت الثورة الصناعية واختراع الآلة بحركة هجرة السكان من الريف إلى المدن وانتقال العامل من المنزل أو الورشة إلى المصنع الكبير، الذي يضم أعداداً كبيرة من العمال، فأصبحت هناك طبقتان إحداهما تعمل لدى الأخرى التي تمتلك رأس المال وبدأ التعارض يتضح بين مصالح العمال وأصحاب المصانع .
كذلك ارتبط هذا الوضع الاقتصادي الجديد بظهور حق الملكية الخاصة وهو ما دفع كل مجموعة من الأفراد إلى تأسيس نقابات واتحادات ومنظمات للدفاع عن حقوقهم ومصالحهم الخاصة والمشتركة. وأصبحت هذه الروابط تحظى بولاء وانتماء عدد كبير من الأفراد بغض النظر عما يوجد بينهم من اختلافات في روابط طبيعية كالقرابة والدين والجنس واللون والطائفة…..الخ .
وفرض سؤال جديد نفسه : ما هي العلاقة بين الجماعات المعبرة عن مصالح خاصة لأعضائها والدولة المعبرة عن المصلحة العامة للمجتمع ككل ؟ وهل هناك مجال وسط للالتقاء بينهما؟ هنا، جاء المجتمع المدني كحلقة وصل بين هذين المجالين.
فالمجتمع المدني هو أحد أشكال تنظيم المجتمعات بما يحقق التعاون بين الأفراد والجماعات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بهدف حماية حقوق ومصالح الفئات المتنوعة والتوفيق بينها ، بما يضمن أعلى درجة من المساواة فيما بينها . وهو يعتمد في ذلك على وسائل مستقلة بعيدة عن تدخل الحكومة وسيطرتها على أساس الاحترام المتبادل والموازنة بين المصالح الخاصة والمصلحة العامة للمجتمع ككل.
وقد ارتبطت ظاهرة المجتمع المدني في نشأتها وتطورها في المراحل اللاحقة لعصر التنوير بتاريخ نضال الشعوب من أجل الديموقراطية والحرية والمساواة. كما عبرت عن أفضل وسيلة لعلاج التعارض الظاهري بين حاجة الإنسان إلى الحرية وحاجته إلى الأمن والنظام. فالسلطة التي جسدتها الدولة ارتبطت في التاريخ بممارسة ألوان من الاستبداد والقهر والظلم والتعدي على حقوق شعوبها بحجة حماية المجتمع من الفوضى والحروب وتسببت عهود حكم الملوك المستبدين في أوروبا في حدوث ثورات شعبية طالبت بالديموقراطية واحترام حقوق الإنسان .
وهنا، ظهرت الحاجة إلى تأسيس منظمات وتجمعات للدفاع عن تلك الحقوق في مواجهة الحكام المستبدين بما يعيد التوازن الذي سبق وأن تعرض للاختلال بين الحرية والنظام. وتمثلت تلك المنظمات في الجمعيات والمنظمات غير الحكومية والنقابات والتي أخذت صورة كيانات مستقلة عن الدولة. فلولا الاستقلال لما تمكنت من الحد من التسلط والاستبداد الحكومي ووقف اعتداء السلطة على حقوق الأفراد والجماعات .
وهكذا، حدث التطور في معنى المجتمع المدني من وسيلة للتنظيم تهدف إلى الحفاظ على المصالح الخاصة فقط إلى وسيلة لحماية الحقوق والحريات في مواجهة الدولة .
ولكن هل معنى ذلك أن المجتمع المدني في صراع دائم مع الدولة ؟
الحقيقة أن هذا غير صحيح، فالمجتمع المدني يتعارض فقط مع الدولة المستبدة غير الديموقراطية. ولكن الدولة لا تسعى بالضرورة لتقييد الحريات أو كبتها، وإنما هي في الأصل جاءت كوسيلة ابتكرها الإنسان للحفاظ على كيان المجتمع وتحقيق النظام. ولذا فإنها لها وجهها الإيجابي المتمثل فى دورها سعيا للآرتقاء بالمجتمع كالتنمية الاقتصادية وحماية الهوية الحضارية والثقافية .
هذه الغايات العامة يتطلع إليها أي شعب، وقد يقبل الأفراد التضحية ببعض مصالحهم الخاصة في سبيلها. ولكن للوصول إلى هذا القبول يحتاج المجتمع إلى الدخول في حوار يتم فيه تبادل وجهات نظر الفئات المختلفة وصولاً إلى حل وسط . فكيف يتم هذا الحوار ؟هنا يأتي دور مؤسسات المجتمع المدني التي توفر قنوات وسيطة يتم من خلالها الحوار بشكل منظم في سلام دون أن يشعر أي طرف بحاجته للجوء إلى العنف .
والآن، هل يمكننا تحديد تلك المعاني المتعددة التي تحملها كلمة مجتمع مدني ؟ يمكن القول أن المجتمع المدني هو رابطة اجتماعية تقوم على الاختيار الفردي يدخل فيها الأفراد طواعية دون إجبار ويتقدمون إلى التنظيمات القائمة بطلب الانضمام إلى عضويتها بإرادتهم الحرة التي تجعلهم يلتزمون بمبادئها ويسهمون بجد في أنشطتها .ووجود هذه الرابطة الاجتماعية يحقق للمجتمع ككل مزيداً من الاستقرار والسلام والأمن، كما يضمن وضع حدود لتقييد سلطة الدولة ومنعها من الاستبداد .
وهذا الشكل من التنظيم الاجتماعي يتكون من مجموعة من المؤسسات المتنوعة دينية وتعليمية ومهنية وسياسية وثقافية، كالنقابات والاتحادات العمالية والمهنية والجمعيات الأهلية، وكذلك الخيرية والأحزاب السياسية ……الخ والتي تسودها قيم ومبادئ التسامح وقبول الآخر والحوار السلمي واحترام الحرية والخصوصية الفردية. وتقوم تلك الهيئات والمؤسسات بممارسة دور الرقيب على تصرفات الحكومة إزاء الأفراد والجماعات ثم محاسبتها وسؤالها .
أضف إلى ذلك، أن المجتمع المدني هو مجال مستقل للحركة متروك للمواطنين يتمتعون في ظله بالحرية في تنظيم حياتهم بعيدا عن تحكم الدولة أو سيطرتها، وأنه يشتمل على منظمات مستقلة مفتوحة أمام المواطنين للانضمام إليها بهدف خدمة مصلحة أو قضية أو التعبير عن رأي مشترك بوسائل سلمية تقوم على احترام حق الأفراد والجماعات الأخرى في أن تفعل نفس الشئ. فالتأسيس يقوم على الحرية والاستقلال والاختيار الإرادي للفرد، والنشاط يقوم على التطوع والعمل العام والأهداف هي مصالح أو قضايا أو حقوق مشتركة، والوسائل سلمية. أما التنظيم فهو يعبر عن بلوغ المجتمع درجة أعلى من الرقي بحيث لم يعد إطار الانتماء قاصراً على الروابط الأولية الموروثة التي ليس للإنسان دخل في اختيارها وإنما تفرضها عليه أقداره بحكم الميلاد. وصار الانتماء يعبر عن رابطة اختيارية يدخلها الفرد طوعاً بإرادته الحرة، وهو ما يعني أن الحياة الاجتماعية تحولت من مسألة قدرية يستسلم لها الفرد ولا يملك تغييرها، إلى قرار واختيار. وهذا هو حق الإنسان في تقرير مصيره .
ويعد اتخاذ قرار الانضمام إلى عضوية إحدى الجماعات بداية المشوار وليس نهايته، حيث يعقبه المشاركة في كل ما يتعلق بالشئون العامة للمجتمع. ويصبح الفرد قوياً وهو عضو في جماعة لأنه صار يمتلك قدرة أكبر على التأثير في مجريات الأمور من حوله، عندما أصبح شريكاً في صنع القرارات سواء على مستوى الجماعة أو على مستوى المجتمع ككل بعدما امتلك أحقية مساءلة الحكومة ومحاسبتها.
وكما ذكرنا من قبل حول علاقة المجتمع المدني بالديموقراطية، فإن ديموقراطية أي مجتمع تتوقف على مدى وجود مجتمع مدني بالمعنى المذكور. فهو أصدق مقياس لحقيقة الديموقراطية لأن وجود المجتمع المدني يضمن دفع الحكومة للاستجابة لما يقدمه لها الأفراد والجماعات من مطالب تعبر عن احتياجاتهم ورغباتهم في تحقيق نوعية حياة أفضل. ولكن لكي يتحقق ذلك لابد أولاً أن يتوافر المواطن الإيجابي الذي يكون لديه اهتمام بالشئون العامة واستعداد لممارسة العمل العام المستقل .
ولكن لا ينبغي أن يقودنا هذا المعنى للمجتمع المدني الذي يؤكد على الاستقلال والحرية وحماية الحقوق إلى الاعتقاد بتناقض دوره مع دور الحكومة. فالصحيح أنه مثله مثل الدولة ليس إلا ظاهرة تهدف إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسية، وهو بذلك يشارك الدولة في غايتها الأساسية، ويضع القواعد الحاكمة لسلوك الأفراد والجماعات بحيث يتم التوفيق بينهم رغم مطالبهم ومصالحهم المتعارضة عن طريق توفير الوسائل السلمية للتعبير عنها، ثم تجميعها ووضعها في شكل بدائل أمام السلطة الحاكمة لتحقيق أعلى درجة من التوازن بين الحقوق والواجبات بما يحفظ كيان المجتمع ككل. فوحدات المجتمع المدني ليست إلا أدوات اتصال تتوسط علاقة الجماعات المختلفة ببعضها البعض كما تتوسط علاقة الحكومة بالمحكومين .
وكما هو واضح، فإنه للقول بوجود مجتمع مدني بمعنى الكلمة لابد أن تتحقق مجموعة من الشروط والصفات. فما هي تلك الصفات التي تعد خصائص مميزة لهذا المجتمع مقارنة بغيره من أشكال التنظيم الاجتماعي الأخرى، وما هى وظائف هذا المجتمع ؟ هذا هو موضوع الفصل الثانى.
الفصل الثانى
خصائص المجتمع المدنى ووظـــائــفــه
أولاً : شروط وخصائص المجتمع المدنى
هناك نوعان من الشروط لقيام مجتمع مدني حقيقي وهي شروط مادية وأخرى معنوية
1 - الشروط والخصائص المادية :
أ - المؤسسات المتعددة :
يستلزم قيام المجتمع المدني وجود مجموعة من المنظمات والمؤسسات والهيئات التي تعمل في ميادين مختلفة باستقلال عن حكومة الدولة مثل الأحزاب السياسية التي تسعى للوصول إلى السلطة والمشاركة في صنع السياسات، والنقابات التي تدافع عن مصالح أعضائها الاقتصادية وتسعى لرفع مستوى المهنة، واتحادات الكتاب والجمعيات العلمية والثقافية التي تسعى إلى نشر الوعي بأفكار وآراء معينة، والجمعيات الخيرية التي تسهم في أغراض التنمية الاجتماعية، والمنظمات التي تهتم بالدفاع عن قضايا معينة كالديموقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة، والأندية الرياضية والترفيهية… وغيرها .
هذا الركن المادي في تكوين المجتمع المدني يعكس الانقسامات المختلفة والمتعددة في المجتمع، كما يسعى إلى تحويلها إلى علاقات تعاون وتكامل وتنافس سلمي شريف بدلاً من الصراع والتناحر الذي يؤدي إلى تقسيم المجتمع وتفتيت وحدته .
وعلى ذلك، فإن المجتمع المدني ليس كتلة واحدة أو متجانسة لا توجد بها أي اختلافات أو انقسامات، وإنما هو يتكون من جماعات تتسم بالتعدد والتنوع ولكنه يهدف إلى تحقيق التوفيق والتراضي بينها .
ب - الموارد :
كذلك تعد الموارد التي تمتلكها المؤسسات والجمعيات المكونة للمجتمع المدني، سواء كانت موارد معنوية أو مادية، من أهم متطلبات قيامه بدوره السياسي والاجتماعي وإدارة علاقته بالدولة بما يضمن استقلاله في مواجهتها .
أما إذا كانت الموارد شحيحة أو قليلة فإن المجتمع المدني قد يضطر إلى اللجوء إلى الحكومة لطلب العون والمساعدة والتي يتبعها التدخل الحكومي في شئون المنظمات التي تحصل على الدعم الحكومي كما يفتح أبواب الفساد الذي يصبح كالسوس الذي ينخر عظام المجتمع ويؤدي إلى انهياره.
2 - الشروط والخصائص المعنوية والأخلاقية :
وتعد تلك الشروط أهم من الشروط المادية ولكنها أصعب في الحصول عليها. فالأهم من وجود المؤسسات وجود مبادئ وقيم تحكمها بما يضمن تحقيق الهدف من وجودها. فلو تصورنا أننا قمنا ببناء عمارة جميلة ولكن سكانها لم يلتزموا بمبادئ الجيرة والتعاون ربما يؤدي ذلك إلى انهيار العمارة فوق رؤوسهم جميعاً ولذا، نتناول بتفصيل أكبر تلك الخصائص والصفات التي يجب أن تتحلى بها وحدات المجتمع المدني
أ - الاستقلال :
ونعني به أن تكون هناك حدود واضحة لتدخل السلطة في المجتمع تحترمها الدولة وتلتزم بها، بحيث يتسع مجال الحركة الحرة المتاح للجماعات المختلفة ولا تتدخل فيه الحكومة إلا بمبررات ويقبلها المحكومون برضاهم .
ب - الحرية :
فلن يكون للمجتمع المدني وجود دون تمتع الأفراد بحرية الاختيار والتعبير عن الإرادة. وبينما تفرض الدولة جنسيتها وقوانينها على كل من يولدون على أرضها دون استشارتهم أو سؤالهم، حيث يولد الفرد ليجد نفسه حاملاً لجنسية معينة بحكم الميراث، نجد أن هذا الفرد يسعى للانضمام إلى التنظيمات والجمعيات باختياره وبإرادته الحرة لتحقيق غاية معينة كالدفاع عن مصلحة أو قضية معينة تهمه .
ج - التراضى العام :
حيث يتم تأسيس وحدات المجتمع المدني بالالتزام بقواعد الدستور والقانون وما تكفله من حماية لحقوق الأفراد في التعبير والتصويت والمشاركة في مناخ مفتوح لتبادل الآراء. تلك الشروط القانونية لتأسيس الجمعيات إذا تم وضعها بالاتفاق والتراضي بين مختلف التيارات في المجتمع، كان ذلك دليلاً على توافر الحرية والديموقراطية. أما إذا فرضتها سلطة أو فئة معينة على الآخرين، فإن ذلك يعني عدم وجود مجتمع مدني حقيقي .
ومما تجدر ملاحظته أن هذا الشرط يميز المجتمع المدني عما عداه من تجمعات وكيانات اجتماعية. فالمؤسسات التقليدية كالأسرة والقبيلة والعشيرة مثلاً ليست تجمعات منظمة بفعل الإرادة البشرية وإنما هي نتيجة لتطور طبيعي تلقائي ليس للإنسان دخل كبير فيه. أما إذا ما اكتسبت تلك التجمعات صفة التنظيم وأصبح انتماء الفرد لها يتوقف على الاختيار الحر بدلاً من الإجبار، كما صارت تقبل الدخول في منافسة سلمية مع غيرها من التجمعات للحصول على مزيد من الأنصار من خلال الاشتراك في حوار مفتوح مع الجماعات الأخرى لتبادل الآراء والأفكار المختلفة دون محاولة فرض رأي بعينه، فإنها تعد بذلك جزءاً من المجتمع المدني .
فالشكل الذي يوجد عليه التجمع ليس هو المهم، وإنما يعد سلوك الجماعة والمبادئ التي تسير عليها هو الأهم. وعلى راس هذه المبادئ نبذ التعصب والتطرف وقبول حق الجميع في الاعتقاد فيما يشاءون لكم دينكم ولي دين .
د - احترام النظام والقانون القائم :
فقيام مجتمع مدني حقيقي يستلزم وجود دولة قادرة على فرض القواعد القانونية وحماية الحقوق التي ينص عليها الدستور بالنسبة للأفراد والجماعات. وبدون هذا الدور للدولة سيتحول المجتمع المدني إلى كيان أجوف خالٍ من أي معنى حقيقي، بل الأخطر من ذلك أنه قد يتحول إلى عدو يهدد حريات الأفراد بشكل لا يقل خطورة عن تهديد الحكومة المستبدة في غياب الديموقراطية .
وكما رأينا فإن قوة المجتمع المدني لا تستغني عن وجود دولة قوية تحكمها سلطة ديموقراطية. والقوة كصفة للدولة لا تعني الاستبداد، وإنما تعني القدرة على الاستجابة لاحتياجات ومطالب المحكومين كما أن قوة المجتمع المدني لا تعني خروجه على النظام أو القانون القائم وإنما ترتبط قوته بالتزامه واحترامه لقواعد اللعبة السياسية السائدة. وهذا الالتزام يثير التساؤل حول موقف المجتمع المدني من التغيير، وهل هو أداة للحفاظ على النظام ؟ وهل يعني ذلك الجمود وعدم التغيير ؟ أم أن المجتمع المدني يصلح كوسيلة للتغيير ؟ الحقيقة أنه من الوارد أن يطالب المجتمع المدني بتغيير الأوضاع القائمة وهذا ما يشير إلى صفة أخرى للمجتمع المدني .
هـ - التغيير والتنافس بالوسائل السلمية :
عندما يسعى المجتمع المدني للتغيير فإنه لابد أن يظل ملتزماً بالوسائل والقنوات السلمية في ممارسة نشاطه بدءاً بالتعبير عن الرأي مروراً بالمطالبة بالتغيير وانتهاءً بالاشتراك الفعلي في عملية التغيير .
ونقطة البداية هي قبول وحدات المجتمع المدني للقواعد القانونية وللنظام السائد ولمبدأ العمل في إطاره ومحاولة تغييره سلمياً دون الخروج عليه أو استعمال العنف ضده. أما إذا حدث العكس بأن تسعى إحدى الجماعات إلى قلب النظام أو الثورة عليه فإن ذلك يخرجها من إطار المجتمع المدني.
صحيح أن معارضة الحكومة وتوجيه الانتقادات إلى سياساتها وقراراتها هو من صميم وظيفة محاسبة المجتمع المدني للدولة إلا أن ذلك لا يجوز أن يصل إلى حد السماح لتلك الجماعات بالإطاحة بها أو إسقاطها أو بمحاولة إحلالها بحكومة أخرى. فالمجتمع المدني يجب أن يسعى إلى الإصلاح وتصحيح الأخطاء الحكومية والمطالبة بتعديل السياسات من خلال التنبيه إلى أوجه القصور ووقف الممارسات التي تتعدى على حقوق الأفراد بالكشف عن الأخطاء ومحاسبة الحكومة عليها، وليس بالثورة أو الانقلاب بهدف هدم النظام القائم وتدميره بشكل جذري .
غير أن هناك اتجاها آخر فى دراسة المجتمع المدنى يرى أن التغير الجذري للقانون والنظام القائم قد يكون هدفاً مشروعا ومقبولاً في حد ذاته. ولكن أسلوب تحقيقه يجب أن يظل ملتزماً بالوسائل والقنوات والأدوات السلمية لكي يظل مقبولاً أما إذا ما لجأت إحدى مؤسسات المجتمع المدني إلى استخدام العنف والقوة المادية بهدف تغيير النظام فإنها تخرج بذلك من المجتمع المدني وتحرم من عضويته .
و - الشعور بالانتماء والمواطنة :
والحقيقة أن هذا الشرط يعتبر من أهم العناصر لتحقيق التماسك والترابط لإيمان الأفراد بأنهم يتمتعون بهوية مشتركة وأنهم قادرون على الدفاع عنها وحمايتها مقابل أداء واجباتهم والتزاماتهم نحو الدولة. فلكي يطيع الجزء الكل لابد أن يعبر الكل عن مطالبه واحتياجاته. فالمواطنة بمعناها الحقيقي هي مجموعة الحقوق والمسؤوليات التي تربط الأفراد بالدولة على قدم المساواة وبغض النظر عن الاختلافات بينهم ، وهي مصدر شعور الأفراد بالولاء والانتماء بما يشجعهم على الاهتمام بالشئون العامة وتوجيه الانتقادات للسياسات الحكومية والسعي للتأثير عليها .
وهذه الرابطة المعروفة بالمواطنة هي مفتاح تحقيق التماسك في المجتمع ككل، حيث تغرس مشاعر الانتماء إلى الجماعة الصغيرة فى الشعور بالولاء للجماعة الكبيرة. ولكنه تماسك وتضامن تلعب فيه الإرادة الشخصية الدور الرئيسي لأنه مبني على الاتفاق الذي دخله الأفراد باختيارهم الحر لتأسيس منظمات وجمعيات تدافع عن مصالحهم الخاصة وتلتزم بالعمل في حدود النظام والقواعد القانونية المحددة للسلوك بحيث تحقق أهدافها بالوسائل السلمية المقبولة والمسموح بها دون اللجوء إلى استعمال العنف وهو ما يعني الحفاظ على استقرار المجتمع .
غير أن تحقيق الاستقرار لا يعني القضاء على الاختلافات وإنما الإبقاء عليها واحترامها مع معالجتها بالوسائل السلمية الشريفة بدفع الأفراد والجماعات إلى التغلب على مشاعر الأنانية السلبية والتضحية بالجهود والتطوع في سبيل الآخرين والقيام بالمبادرة الإيجابية للانتقال من اللامبالاة إلى الاهتمام دون تعصب بالشئون العامة .
ز - التسامح :
التسامح هو الذي يجعلنا نطلق صفة مدني على المجتمع. فالمجتمع الذي تسوده روح المدنية هو المجتمع الذي يقبل فيه الأفراد والجماعات وجود آخرين يختلفون معهم في الرأي والمصلحة، كما يحترمون حقوقهم في التعبير عن وجهات نظرهم .
كما يعني اعتراف الجميع بأنه ليس هناك أي طرف يمتلك وحده الحقيقة وأن تعدد واختلاف الآراء والاتجاهات هو ظاهرة طبيعية وصحية. أما التنافس فهو ليس عيباً يقلل من تضامن المجتمع ووحدته كما أنه ليس مشكلة إلا إذا تحول إلى صراع عنيف. وهذا يحدث في حالة خروج أطراف المنافسة على القواعد القانونية التي تحدد لهم القنوات السلمية للمشاركة والقواعد المقبولة والجائزة للسلوك .
أما إذا ارتبط التعدد بالتسامح والتعايش السلمي بين الأطراف المختلفة، فإنه يتحول من سبب محتمل للانقسام والصراع والتمزق والتفكك إلى عامل أساسي وراء تعاون وتضامن الجماعات والأفراد وتماسك المجتمع وتحضره ورقيه .
ومن المهم هنا توضيح أن التسامح مطلوب كمبدأ ليس فقط في العلاقات والتعاملات السياسية والاجتماعية بين الحكام والمحكومين ولكن أيضا بين الأفراد والجماعات وبعضهم البعض. فكيف يطالب المجتمع المدني حكومته بالتسامح معه واحترام حقه في الاختلاف معها ونقدها لو لم يكن هو نفسه يسوده التسامح بين وحداته وعناصره المكونة له ففاقد الشىء لا يعطيه. ولا شك أن انتشار أمراض التعصب والتطرف وضيق الأفق داخل المجتمع المدني قد يؤدي إلى دفع الدولة بدورها نحو عدم التسامح مع الاختلاف لأنه أصبح خطراً يهدد استقرار الأمن والنظام في المجتمع ككل. فالعنف لا يولد إلا مزيداً من العنف .
ج - الديموقراطية داخل المجتمع المدني :
أي جماعة مهما بلغت درجة تماسكها سيظل بها قدر من الاختلاف والتعدد بين عناصرها. صحيح أن هناك مصلحة أو أهداف مشتركة اجتمع عليها الأفراد كأرضية مشتركة بينهم لتأسيس الجماعة، إلا أنه تبقى مصالح وأهداف شخصية وخاصة لدى كل منهم. هذا التنوع والاختلاف داخل الجماعة لابد أن يتم التعامل معه على أنه مصدر للثراء يزيد من قوة الجماعة ككل إذا ما سمح له بالتعبير عن نفسه علناً بدلا من كبته أو إخفائه أو التظاهر بعدم وجوده. ولابد أن تستمع القيادة داخل كل منظمة أو جمعية إلى بقية الأعضاء وأن تستشيرهم فيما تتخذه من قرارات بشأن الجمعية وأن تتقبل ما يوجهونه لها من انتقادات تساعدها على تصحيح الأخطاء، والأهم من ذلك أن تأتي تلك القيادة باختيار الأعضاء لها من خلال انتخابات حرة ونزيهة تتيح المنافسة المفتوحة والشريفة أمام الجميع بحيث يتمتع أعضاء أي منظمة داخل المجتمع المدني بحق التصويت والترشيح والمشاركة في صنع القرار الداخلي لتلك المنظمة. أما التعامل بأسلوب الكبت والقمع وغياب الديموقراطية داخل المنظمة بحجة الحفاظ على تماسكها فإنه قد يقود المختلفين إلى الانفجار ويصبح البديل الوحيد المتاح لهم هو الانفصال الكامل عن الجماعة .
وكما يتضح فيما سبق، فإن الركن الأخلاقى والمعنوي يعد هو أساس وجود المجتمع المدني. فالعبرة ليست بوجود منظمات أو مؤسسات وهيئات متعددة من ناحية الكم اذا كانت لا تعبر عن جوهر المجتمع المدني من الناحية الكيفية أي من ناحية تصرفات الأفراد ومدى التزامهم في تعاملهم مع بعضهم البعض بقيم ومبادئ الحوار والتسامح والتنافس السلمي وقبول التعدد والاختلاف واحترام حقوق المعارضين والمختلفين ونبذ العنف ورفض استعماله. ففى هذه الحالة لا تكون تلك القيم مجرد شعارات ترفعها الجماعات، وإنما مبادئ حاكمة فعلاً لسلوكها وأفعالها وهذا هو معيار الصدق، كما أن ديموقراطية المجتمع المدني هي شرط أساسي لديموقراطية المجتمع ككل .
وهكذا فإن هذه الشروط والصفات الأخلاقية هي بوابة الدخول إلى المجتمع المدني. فرغم ما ذكرناه من أن منظمات المجتمع المدني تعبر عن مرحلة أكثر تقدماً ورقياً مقارنة بالتنظيمات الاجتماعية السابقة والتي تقوم على الروابط الأولية والطبيعية الموروثة، إلا أن هذه التنظيمات قد تتحول أيضا إلى جزء لا يتجزأ من المجتمع المدني ويتم قبولها في إطاره في حالة التزامها بمبادئ هذا المجتمع ووفائها بشروطه المعنوية بغض النظر عن اختلافها عنه في الشكل. فالقبيلة والعشيرة والجماعة الدينية والمذهبية والطائفية قد تصبح من مكونات المجتمع المدني إذا قبلت التعدد والاختلاف وتوقفت عن إدعاء أنها وحدها تملك الحقيقة كلها واتجهت بدلاً من ذلك إلى الدخول في حوار سلمي لتبادل الرأى مع غيرها من الجماعات فهي عندئذ تصبح صالحة للقيام بدور الوسيط بين الحكومة والأفراد في حدود ما يسمح به القانون .
وفي إطار الحديث عن معنى المجتمع المدني وشروطه وخصائصه التي تميزه، تبين لنا أنه يقوم بدور هام كحلقة للتوسط والوصل والاتصال تربط بين الحكومة والمحكومين، كما تربط بين مختلف الجماعات والأفراد. وهذا الدور يتفرع عنه عدد من الوظائف الهامة التي يحتاجها المجتمع لتحقيق أهدافه. لابد أنك تسأل نفسك الآن ما هي تلك الوظائف ؟ وهل هي وظائف متشابهة مع وظائف الدولة أم متعارضة معها أم أنها مكملة لها ؟
ثانيا : وظائف المجتمع المدني
كما تتعدد معاني المجتمع المدني وخصائصه تتعدد أيضاً وظائفه وأدواره في المجتمع. وهذا التعدد يفسر لنا مدى أهمية المجتمع المدني عموما وبالنسبة للمجتمعات النامية خصوصا:
1 - تحقيق النظام والانضباط في المجتمع :
فهو أداة لفرض الرقابة على سلطة الحكومة وضبط سلوك الأفراد والجماعات تجاه بعضهم البعض. ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى أن كل منظمة أو جمعية تضع مجموعة من القواعد بخصوص الحقوق والواجبات التي تترتب على الفرد نتيجة لانضمامه إلى عضويتها. ويعتبر التزام الأعضاء بهذه القواعد شرطاً لقبولهم داخل المنظمة واستمرارهم فيها .
2 - تحقيق الديموقراطية :
فهو يوفر قناة للمشاركة الاختيارية في المجال العام وفي المجال السياسي، كما تعد منظمات وجمعيات المجتمع المدني أداة للمبادرة الفردية المعبرة عن الإرادة الحرة والمشاركة الإيجابية النابعة من التطوع، وليس التعبئة الإجبارية، التي تفرضها الدولة على المجتمع للتظاهر بالتمتع بالجماهيرية والتأييد الشعبي .
3 - التنشئة الاجتماعية والسياسية:
وهذه الوظيفة تعكس قدرة المجتمع المدني على الإسهام في عملية بناء المجتمع أو إعادة بنائه من جديد من خلال غرسه لمجموعة من القيم والمبادئ في نفوس الأفراد من أعضاء جمعياته ومنظماته وعلى رأسها قيم الولاء والانتماء والتعاون والتضامن والاستعداد لتحمل المسؤولية، والمبادرة بالعمل الإيجابي والاهتمام والتحمس للشئون العامة للمجتمع ككل، بما يتجاوز الاهتمامات الخاصة والمصالح الشخصية الضيقة .
فانضمام الفرد إلى عضوية جماعة معينة يؤثر في حالته النفسية حيث يشعره بالانتماء للجماعة التي يستمد منها هوية مستقلة محددة، ويشجعه ذلك على المشاركة مع الآخرين داخلها والاستعداد للتضحية وإنكار الذات في سبيل الجماعة، وتلك شروط نفسية مطلوبة لصحة المجتمع ككل. أضف إلى ذلك، أن مشاركة الفرد داخل المنظمة في ممارسة حقوقه الديموقراطية، كالدخول في حوار مع الأعضاء الآخرين والتنافس على القيادة بالترشيح والتصويت في الانتخابات التي تجري فيها، تصبح بمثابة مدرسة يتعلم فيها الفرد أصول هذا السلوك الديموقراطي على مستوى الجماعة الصغيرة التي ينتمي إليها ليمارسه بنفس الحماس والإيجابية بعد ذلك على مستوى المجتمع ككل. فاعتياد الفرد على التصويت في انتخابات الجمعية أو المنظمة يؤدي إلى تصويته في الانتخابات التي تجري لاختيار النواب الذين يمثلونه في البرلمان أو لاختيار الحكومة التي تحكمه .
والفرد من خلال منظمته يشارك في أوجه النشاط العام ويعتاد على الاستماع إلى آراء الآخرين وقبول نتائج الحوار التي تتفق عليها الأغلبية مع التعبير عن معارضته بشكل سلمي .
ولاشك أن هذه العملية التعليمية والتدريبية تستغرق وقتا طويلا حتى تتمكن من غرس ثقافة ديموقراطية تقوم علىمبادىء التسامح والتعايش السلمي بين المختلفين و الوعي بأهمية المشاركة في تحقيق التقدم وتنمية المجتمع، فضلا عن الشعور بالثقة في النفس والاستعداد لتقبل الحلول الوسط والتضامن والتعاون مع الآخرين لتحقيق الغايات المشتركة .
4 - الوفاء بالحاجات وحماية الحقوق :
وعلى رأس تلك الحاجات الحاجة للحماية والدفاع عن حقوق الإنسان ومنها حرية التعبير والتجمع والتنظيم وتأسيس الجمعيات أو الانضمام إليها والحق في معاملة متساوية أمام القانون وحرية التصويت والمشاركة في الانتخابات والحوار والنقاش العام حول القضايا المختلفة .
وهكذا، يصبح المجتمع المدني بمثابة محامي يدافع عن المواطنين. ولكن السؤال المنطقي الذي قد يرد على بالنا هو: أمام من يقف هذا المحامي ؟ من هو الطرف الذي يعتدي على تلك الحقوق والحريات ؟ الحقيقة أن مفهوم المجتمع المدني ارتبط عادة بصفة الملجأ أو الحصن الذي يلجأ إليه الأفراد في مواجهة الدولة وحكومتها، من ناحية وقوى السوق من ناحية ثانية. فكل من الدولة وقوى السوق قد يهدد بتصرفاته الحريات والحقوق الإنسانية ويمارس الاستغلال والقهر ضد الفئات الضعيفة في المجتمع. ولا تجد هذه الجماعات درع وقاية تتسلح به ضد هذه التهديدات إلا بالانضمام إلى أحد تنظيمات المجتمع المدني التي لديها من القوة المادية والمعنوية ما يمكنها من الضغط على الحكومة لاحترام تلك الحقوق ووقف التعدي عليها، أو الضغط على قوى السوق كالمنتجين والتجار وأصحاب المشروعات مثل النقابات وجمعيات حماية المستهلك.
5 - الوساطة والتوفيق:
أي التوسط بين الحكام والجماهير من خلال توفير قنوات للاتصال ونقل أهداف ورغبا ت الحكومة والمواطنين بطريقة سلمية. وتسعى جماعات المصالح فى هذا الاطار للحفاظ على وضعها وتحسينه واكتساب مكانة أفضل لها في المجتمع، ولذا فإنها تتحرك مباشرة للتأثير على عملية تشريع ووضع القوانين وتهدف إلى الوصول إلى نقطة اتفاق والتقاء بين الآراء المتعددة كأساس للاستقرار .
وترتبط وظيفة التعبير والتمثيل والتحدث بإسم جماعات معينة بتلك الوظيفة التنظيمية حيث تتولى مؤسسات المجتمع المدني مهمات متعددة تبدأ بتلقي المطالب التي عادة ما تكون متعارضة ومتضاربة وتجميعها وإعادة ترتيبها وتقسيمها إلى فئات محددة قبل توصيلها إلى الحكومة، فلو تصورنا غياب تلك الوظيفة التنظيمية ستكون النتيجة هي عجز الحكومة عن التعامل مع هذا الكم الهائل من المطالب المختلفة التي تعبر عن تعارض مصالح الجماعات والأفراد في المجتمع مما يصيبها بالارتباك. وقد تأتي سياساتها بشكل متحيز للبعض دون البعض الآخر بما يعكس اختلال التوازن بين الجماعات ويتعارض مع مبدأ الحياد الذي يجب أن تلتزم به الدولة إزاء المواطنين حتى لا يؤدي انحيازها إلى فئة معينة إلى فقدان تأييد الفئات الأخرى لها، الأمر الذي يهدد النظام والاستقرار ويثير حفيظة الفئات التي تشعر بالإهمال أو الظلم ويدفعها إلى التمرد والعصيان ضد الحكومة وضد الفئات الأخرى المتميزة .
وكلما زاد التنوع والاختلاف في المجتمع كلما احتاج إلى عدد أكبر من المنظمات والجمعيات للتعبير عن هذا التنوع وتنظيمه والتوفيق بين أطرافه المتعددة .
هذه الوظيفة كما رأينا تعني أن المجتمع المدني لا يحقق الحماية للمواطنين المحكومين ضد الحكومة فقط ، وإنما هو أداة لحماية الحكومة ذاتها من خطر التعرض للاضطرابات والاحتجاجات العنيفة ، كما أنه يوفر عنصر الوقاية للمجتمع ككل من الانقسام والصراع والتفكك .
6 - التعبير والمشاركة الفردية والجماعية :
فوجود المجتمع المدني ومؤسساته يشعر الأفراد بأن لديهم قنوات مفتوحة لعرض آرائهم ووجهات نظرهم بحرية حتى لو كانت تعارض الحكومة وسياساتها للتعبير عن مصالحهم ومطالبهم بأسلوب منظم وبطريقة سلمية ودون حاجة إلى استعمال العنف طالما أن البديل السلمي متوافر ومتاح. والحقيقة أن هذه الوظيفة تؤدي إلى تقوية شعور الأفراد بالانتماء والمواطنة وبأنهم قادرون على المبادرة بالعمل الإيجابي التطوعي دون قيود، بل تشجعهم الحكومة على التحرك المستقل بحرية دون اعتماد عليها لخدمة المجتمع وهم مطمئنون إلى أن حقوقهم وحرياتهم مصانة لأن هناك حصناً يلجأون إليه للاحتماء به في حالة تعدي الدولة عليها .
7 - ملء الفراغ في حالة غياب الدولة أو انسحابها:
مع قدوم الثمانينيات من القرن العشرين شهد العالم ظاهرة واسعة الانتشار هي انسحاب الدولة من عديد من الأدوار والوظائف التي كانت تؤديها في الماضي، وخصوصاً في مجالات النشاط الاقتصادي كالإنتاج وتوفير خدمات التعليم والعلاج وتولي مسؤولية رب العمل بالالتزام بتعيين وتشغيل الناس في الحكومة، فقد بدأت الحكومات تعاني من اشتداد أزمة الديون وعجزها عن سدادها وعجزها في نفس الوقت عن الاستمرار في أداء نفس أدوارها التي صارت تشكل عبئاً ثقيلاً عليها لا تستطيع تحمله. وعندما بدأت الدولة في الانسحاب تركت وراءها فراغا يحتاج إلى من يملؤه لمساعدتها فى أداء تلك الوظائف. وهنا كان لابد أن يتحرك المجتمع المدني لشغل هذا الفراغ وإلا تعرض المجتمع للانهيار خصوصا حين توجد مشاعر عدم الرضا لدى الفئات التي كانت تستفيد من الدور السابق للدولة وتعتمد عليها لإشباع احتياجاتها والتي قد تشعر أن الحكومة قد تخلت عنها .
وإلى جانب الأزمة الاقتصادية والمالية هناك حالة أخرى يمكن أن تختفي فيها الدولة وتعجز عن أداء وظائفها تجاه المجتمع تحت تأثير الغزو والاحتلال الأجنبي أو الحرب الأهلية. ولنا في وطننا العربي أمثلة عديدة في فلسطين ولبنان والكويت أثبتت تجارب الاحتلال والحرب القاسية مدى أهمية المجتمع المدني وإمكانية أن ينهض بدور بديل للحكومة ويمر بالمجتمع من أزمته بسلام دون أن يهتز إحساس المواطنين بالانتماء بعدما غابت الدولة من أمام أعينهم.
8 - توفير الخدمات ومساعدة المحتاجين:
صحيح أن جزءاً مهماً من وظيفة منظمات المجتمع المدني هو الدفاع عن المصالح الخاصة المشتركة لفئات بعينها إلا أنها كذلك تمد يد العون والمساعدة للمحتاجين مع تقديم خدمات خيرية واجتماعية هدفها مساعدة الفئات الضعيفة التي توجد على هامش المجتمع. وتتنوع أشكال المساعدة تلك ما بين مساعدات مالية وأخرى خدمية كبناء المدارس أو المستشفيات لتوفير خدمات التعليم أو العلاج مجاناً أو بأسعار رمزية تناسب أصحاب الدخول المنخفضة مع تقديم المعونات إلى الأرامل والأيتام وضحايا الكوارث والمعوقين وأسر السجناء بإقامة مراكز التأهيل والرعاية الاجتماعية وتمويل مشروعات صغيرة لإعالة الأسر التي بدون عائل أو إقامة دورات التدريب لرفع المهارات مثل تعليم الفتيات حياكة الملابس ….الخ.
9 - تحقيق التكافل الاجتماعى:
وتتضح أهمية هذه الوظيفة الخطيرة إذا ما تخيلنا ضعف أو ضيق منافذ التعبير عن الرأي أمام الناس بحيث يفقدون القدرة على التأثير في القرارات السياسية التي تمس حياتهم بشكل مباشر، فيتعرض الساخطون على الأوضاع القائمة لكبت مشاعرهم الغاضبة وهذا الكبت قد يولد الانفجار عند وصوله إلى نقطة الغليان طالما أنه ليس متاحاً له فرصة التنفيس عن نفسه بحرية، وهو ما يعني تعريض المجتمع بشكل متكرر للاحتجاجات العنيفة لأن الأفراد والجماعات لم يجدوا منظمات تستقبل مطالبهم .
هذا الشكل الذي يدل على الانفجار الثوري يهدد كيان المجتمع ووحدته ويعرضه للانهيار والتقسيم. ويكفي النظر إلى ما حدث في الاتحاد السوفيتي السابق نتيجة إنكاره لحق المعارضين والمختلفين في التعبير عن آرائهم المخالفة لسياسة الحزب الشيوعي الحاكم، بينما حققت دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية نجاحاً في استيعاب المهاجرين من أصول أوروبية وأفريقية وآسيوية مختلفة وتذويب ما بينهم من اختلافات ودمجهم في أمة واحدة متكاملة يعتزون بالانتماء لها. ولاشك أن ذلك النجاح جاء ثمرة لنضال وكفاح جماعات ومنظمات عديدة في المجتمع المدني وعلى رأسها حركة الحقوق المدنية التي يعود لها الفضل في نيل الأمريكيين من أصل أفريقي لحقوقهم بعد معاناة طويلة من الاضطهاد والتمييز .
10 - التنمية الشاملة :
صحيح أن المجتمع المدني هو أداة هامة في تحقيق الاستقرار إلا أن ذلك لا يعني أنه لا يحقق التغيير والتطوير. ومنذ فترة قريبة بدأت المنظمات الدولية المهتمة بالتنمية تؤكد على معنى جديد لها هو التنمية بالمشاركة على أساس أن تجارب التنمية العديدة قد أصابها الفشل لأنها تم فرضها من جانب الحكومة على المحكومين دون إشراكهم فيها. بينما أثبتت حالات أخرى أن مشاركة المستويات الشعبية الدنيا هي خير ضمان لتحقيق النجاح. فمقارنة حجم إنتاج العمال الوفير في المصانع التي تسمح باشتراكهم في مجالس الإدارة بحجم هذا الإنتاج الهزيل في المصانع التي ينفرد فيها المدير أو صاحب المشروع باتخاذ القرارات تكشف عن ذلك بوضوح. وما يصدق على مستوى المشروع أو المصنع يصدق على مستوى الاقتصاد الوطني .
فالحقيقة أن مشكلة التنمية لا تكمن دائما في قلة الموارد المادية، وإنما في كيفية استغلال تلك الموارد. وهذه الكيفية تتوقف بدورها على طبيعة ونوعية البشر الذين يقومون باستغلالها. ولذا، فإن الاستثمار الحقيقي لابد أن يتم في الثروة البشرية وليس المادية فقط ، وهنا تبرز أهمية المجتمع المدني في القيام بهذا النوع من الاستثمار، حيث يتم من خلال منظماته تنمية وتطوير المهارات والقدرات الفردية للأعضاء بشكل يقلل من العبء على الحكومة حيث يصبح لمؤسسات المجتمع المدني دور شريك للدور الحكومي في تنفيذ برامج وخطط التنمية الشاملة بمختلف جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبشرية وهي تتلقى من الحكومة الدعم والمساندة للقيام بهذا الدور .
وبعد هذا الاستعراض لأهم وظائف المجتمع المدني يمكننا تسجيل عدد من الملاحظات :
أولها، وجود تكامل بين هذه الوظائف وبعضها البعض، فحماية المجتمع المدني لحقوق ومصالح الأفراد والجماعات لا يتعارض مع كونه أداة للتنظيم و الحفاظ على الاستقرار والوحدة في المجتمع ككل، كما أن دفاعه عن مصالح خاصة بفئات معينة لا يمنعه من الاهتمام بقضايا المصلحة العامة للجميع أو بتوفير المساعدة للفئات المحتاجة والضعيفة، ووقوفه ضد الدولة في حالة اعتدائها على الحريات لا يتعارض مع مساعدته لها في تنفيذ خطط وبرامج التنمية …..الخ.
ثانيها ، أن تلك الوظائف تتكامل مع وظائف الدولة، ويمكن القول أن هناك ما يشبه تقسيم المسؤوليات الاقتصادية والاجتماعية بين الحكومة والمجتمع المدني حيث يسد أي منهما القصور والنقص في دور الآخر لتحقيق نفس الغاية وهي حفظ كيان المجتمع والارتقاء به .
وثالثها ، أن كل وحدة من الوحدات المكونة للمجتمع المدني قد تجمع بين أكثر من وظيفة واحدة في الوقت نفسه.
ولكن كيف يقوم المجتمع المدني بهذه الوظائف ؟ لاشك أنه يعتمد على مجموعة من الأدوات والوسائل لتحقيق أهدافه فما هي تلك الوسائل؟
ثالثاً: وسائل المجتمع المدني وأدواته
1- الوسائل
يعتمد المجتمع المدني على مجموعة من الوسائل التي يجيزها القانون القائم وهي تنقسم إلى نوعين:
أ - وسائل التأثير غير المباشر
(1) التفاوض والمساومة :وتلك هي أهم وسائل المجتمع المدني في التأثير على الحكومة وما تضعه من سياسات بأسلوب سلمي .
(2) دخول الأفراد في عضوية أكثر من جمعية ومنظمة في نفس الوقت الواحد حيث يؤدي هذا التداخل في عضوية مؤسسات المجتمع المدني إلى خلق مصالح مشتركة بينها جميعا، ومناطق للالتقاء والاتفاق بما يزيد من تسامحها مع بعضها البعض .
(3) الدخول في حوار عام ونقاش علني مفتوح بتنظيم الندوات والمحاضرات العامة وإصدار النشرات والمطبوعات الدورية لعرض وجهات النظر المختلفة تمهيداً للتقريب بينها، والبحث عن حل وسط يوفق بين المصالح الخاصة للأفراد والجماعات والمصلحة العامة للمجتمع، وللتوفيق بين غايتي حماية الحرية وحفظ النظام .
(4) تأسيس شبكة من المؤسسات التربوية كالمدارس والمكتبات والمراكز التعليمية والتثقيفية وتنظيم المهرجانات وإقامة المعسكرات والدورات التدريبية .
ب - وسائل التأثير المباشر على صانع القرار :
وذلك من خلال السعي للوصول إلى الدوائر الحكومية والاتصال الشخصي بصناع القرار أو أن يكون للجمعية أو المنظمة أشخاص يمثلونها ويدافعون عن وجهة نظرها داخل الحكومة نفسها .
2- الأدوات :
تلك أهم الوسائل التي تؤثر من خلالها مكونات المجتمع المدني في السياسة.. فماذا عن الأدوات؟
أ - وسائل الإعلام السمعية والبصرية :
كالصحف والإذاعة والتلفزيون وهي أدوات التأثير على الرأي العام، حيث تلجأ المنظمة إلى شن حملة إعلامية تأخذ شكل المعارك الكلامية والدعاية والدعاية المضادة دفاعاً عن قضايا معينة. وقد تنجح هذه الأداة إذا كانت حرة ومستقلة في إقناع الحكومة بالاستماع لها والتوقف عن تنفيذ السياسات التي بدأت فيها خوفاً من فقدان تأييد الرأي العام. ولكن هذا الدور يتوقف على مدى كون هذه الأدوات مفتوحة أمام مختلف الأفكار والآراء.
ب - العلاقة مع الدولة :
قد تنشا علاقة المنظمة غير الحكومية بالحكومة من خلال تبادل المعلومات والمشورة وإعداد التقارير والأبحاث حول قضايا هامة معينة وتقديم الاقتراحات بشأنها للمؤسسات التنفيذية والأجهزة الرسمية للدولة.
ج - القضاء والمحاكم :
وهنا تلجأ منظمات المجتمع المدني إلى المحاكم للدفاع عن حقوق وحريات الأعضاء التي تعرضت للاعتداء والانتهاك على يد الدولة أو الجماعات الأخرى في المجتمع مع المطالبة بالتعويض والإنصاف لهؤلاء الضحايا .
والآن ، كيف يتمكن المجتمع المدني من أداء تلك الأدوار والوظائف الهامة بسهولة دون أن تقابله صعوبات أو مشكلات ؟
لقد ذكرنا أن المجتمع المدني هو أحد أشكال التنظيم الاجتماعي وهو لا يوجد في فراغ، وإنما تحيطه بيئة معينة. تلك البيئة تختلف ظروفها من دولة إلى أخرى بما يؤثر في قوة المجتمع المدني وقدرته على تحقيق أهدافه. ويمكننا تقسيم تلك البيئة إلى بيئة داخلية وطنية وبيئة خارجية دولية ولنركز على الظروف الداخلية الوطنية المحيطة بالمجتمع المدني فى الفصل القادم.
الفصل الثالث
العوامل الداخلية المؤثرة على المجتمع المدنى
يمكن التمييز بين عوامل تتعلق بخصائص منظمات المجتمع المدني نفسه وظروف تتسبب فيها الدولة .
أولاً:عوامل داخل المجتمع المدنى
1 - عوامل كمية: أي الاتساع الجماهيري الذي يقاس بعدد المنظمات والجمعيات القائمة وحجم العضوية، أي عدد الأعضاء وحجم الموارد المادية أو البشرية التي تمتلكها تلك الوحدات والتي تمكنها من تمويل نشاطها وتغطية احتياجات أعضائها ذاتيا. وكلما ازدادت هذه العوامل الكمية كلما دل ذلك على اتساع مساحة الحركة المتاحة أمام وحدات المجتمع المدني وما تتمتع به من حرية في التعبير والتجمع والتنظيم .
2 - عوامل كيفية:
نقصد بها الصفات والخصائص التي تتصف بها مؤسسات المجتمع المدني وهي جودة التنظيم وحسن القيادة والمشاركة الفعالة من جانب الأعضاء في إطار من الالتزام بالنظام القائم وبمبادئ التسامح واحترام الرأي الآخر للمعارضين والمختلفين وقبول الحوار السلمي كأداة لحل الخلافات .
وفيما يلي بعض الخصائص التي تسهل مهمة المجتمع المدني وقدرته على التأثير في المجال السياسي :
أ - الوعي السياسي لدى المواطن : فالمواطن الذي يعرف حقوقه وواجباته ويشعر بالانتماء إلى مجتمعه ودولته يسعى للمشاركة في الحياة العامة والانضمام إلى الجماعات التي تحقق مصالحه، كما تشبع مطالبته بحقه في المشاركة فيما ترسمه الحكومة من سياسات وما تصنعه من قرارات سياسية حيث توفر له قناة سلمية منظمة لهذه المشاركة .
ب - المشاركة الإيجابية في نشاط الجمعيات: هذه المشاركة تأخذ صوراً عديدة دفع اشتراك العضوية والمساهمة بالجهد والوقت في ما تقوم به المنظمة من أنشطة. وهذا يعني أن الفرد عندما ينضم إلى إحدى وحدات المجتمع المدني فإنه يتطوع بالمال والوقت والجهد لتحقيق أهداف مشتركة بينه وبين غيره من الأعضاء داخل نفس المنظمة. وهذا التطوع ينبع من إرادته الحرة ويعبر عن اختياره المستقل .
ج - أن يحقق المجتمع المدني مصالح أعضائه : ففي مقابل المشاركة الإيجابية للعضو في المنظمة لابد أن توفر له المنظمة إشباعاً لبعض احتياجاته وأن تقدم له فائدة مادية أو معنوية ملموسة تشجعه على البقاء داخل المنظمة وألا يفقد حماسه للمشاركة في نشاطها. فقدرة أي جمعية على تقديم خدمات للمواطنين تزيد من قدرتها على اجتذابهم إليها، أما إذا شعر المواطن بأن الحكومة تؤدي له كافة الخدمات وتتولى إشباع كل احتياجاته وتتعهده بالرعاية من المهد إلى اللحد، فما حاجته إلى الانضمام إلى أي منظمة غير حكومية لا تضيف له جديداً ؟
د - التعبير الصادق والتمثيل الجيد للأعضاء وأن يكون المجتمع المدني متصفاً بالشمول بمعنى أن توفر المنظمات والجمعيات فرص التمثيل لمختلف الفئات والجماعات القائمة في المجتمع بحيث يكون لها جميعا صوت يعبر عنها ويتحدث بإسمها .
هـ - المكانة الاجتماعية والاقتصادية العالية للأعضاء وخصوصاً في قيادة الجمعية، كأن تضم عضوية الجمعية وزراء سابقين أو شخصيات عامة تحظى بثقة المواطنين وتوفر للجمعية أساليب الدعم والتمويل، كما هو حال جمعية الهلال الأحمر في مصر والتي ترأسها السيدة سوزان مبارك قرينة رئيس الجمهورية. كذلك، تتوقف فعالية الجمعية على نوعية الأعضاء من حيث العمر ونسبة شريحة الشباب الذين يشكلون عنصرا حيويا لضمان تمتعها بالقوة والنشاط .
و - المشاركة الكاملة من جانب الجماعات والفئات المستفيدة والمستهدفة : أي أن الفئات التي تسعى الجمعية لخدمتها أو توفير الإشباع لاحتياجاتها لابد أن يكون لها صوت مسموع في تحديد أهداف الجمعية وصنع القرارات بداخلها ووضع برامج النشاط والحركة، وأن يكون لها دور نشط في تنفيذ هذه البرامج. فعدم ثقة التنظيمات غير الحكومية في قدرة الفئات المتلقية لخدماتها على تحديد احتياجاتها هي نقطة ضعف خطيرة فيها، حيث تسعى المنظمة إلى فرض وصايتها على المستفيدين بما يبقيهم في وضع المتلقي السلبي للخدمات التي اختارها لهم أعضاء المنظمة وليست التي اختاروها أو طلبوها بأنفسهم، وللمساعدات التي قد لا يكونون في حاجة أصلاً لها دون المشاركة في تحديدها. وهنا تثار مسألة أنه قد يكون من الأفضل لو أن الجمعية المعنية بخدمة فئات محتاجة بدأت أولا باستشارتهم وسؤالهم عما يحتاجونه وعن ترتيب مطالبهم حسب درجة أهميتها وإلحاحها في قائمة أولويات بحيث يتم الانتقال من الأهم فالمهم .
ومما يؤخذ أيضا على جمعيات المجتمع المدني أنها قد لا تصل بالتوعية إلى الفئات التي هي في حاجة لها فعلا، لأن أغلب من يقبلون على المشاركة وحضور الندوات والملتقيات هم المهتمون فعلاً والمنشغلون. العام بل والمؤمنون بجدوى العمل العام. وعادة ما لا تصل النشرات والتقارير التي توزعها هذه المنظمات أصلاً إلى أيدي غير المهتمين نتيجة لنقص وعيهم .
ز - استعداد كل جمعية للاعتراف بالجمعيات والمنظمات الأخرى والتعاون معها وقدرتها على تأسيس وتكوين تحالفات وشبكات للتنسيق بين مختلف وحدات المجتمع المدني ولاكتساب تأييد المنظمات الأخرى وإقامة صلات وروابط بالمؤسسات الأجنبية القوية في الخارج كشرط لتحقيق المشاركة السياسية والاستقلالية واستبعاد الجماعات ذات التوجهات المتعصبة والمتطرفة وترجيح كفة تلك التي تتحلى بصفات المرونة والاعتدال والتسامح .
ثانياً:عوامل تعود إلى دور الدولة
المقصود تحديدا بهذه العوامل مدى استقلالية المجتمع المدنى كشرط لنجاحه في أداء وظائفه
1 - استقلال النشأة والتأسيس والحل
أي أن الدولة لا تفرض أي إجراءات صعبة أو معقدة كشرط للحصول على تراخيص وتصاريح من الحكومة لإنشاء الجمعية واحترام القانون لحق إنشاء الجمعيات وعدم وضع عقبات تقيد هذا الحق. وبالمثل لا تملك الحكومة منفردة سلطة حل الجمعية أو إلغائها أو إنهاء وجودها القانوني أو المادي وإنما يكون ذلك بقرار من مجلس الإدارة أو بحكم قضائي من المحكمة
2 - الاعتماد على موارد ذاتية للتمويل
بحيث لا يكون الدعم الحكومي هو مصدر التمويل الذي تعتمد عليه الجمعية في وجودها أو تغطية تكاليف ونفقات أنشطتها لإشباع الاحتياجات بما يكفل لها حرية الحركة، وهو ما يمكن للجمعية تحقيقه من خلال تملك مشروعات مربحة تدر عليها موارد كافية، مع ملاحظة أن الجمعية أو المنظمة لا تهدف أصلاً إلى الربح وإنما تقوم على التطوع
3 - استقلال القرار واختيار القيادة
أي أنه لابد كي تأتي قرارات الجمعية معبرة عن الإرادة المستقلة لأعضائها بعيدا عن تدخل الحكومة وأن يتولى قيادة الجمعية أشخاص تم انتخابهم واختيارهم بواسطة القاعدة الواسعة من الأعضاء دون أن يكون للدولة أي دور في الموافقة على الترشيح أو التعيين، ودون أن تضع الحكومة أي قيود أو شروط لابد من توافرها في المرشحين، وأن يأتي مجلس إدارة المنظمة معبراً عن أصوات أغلبية الأعضاء. كما يشمل الاستقلال بهذا المعنى ألا تملك الحكومة سلطة تقييد نشاط الجمعية بل تلتزم بتوفير المجال المفتوح أمامها، وتحترم حقوق الأفراد والجماعات في التنظيم والاجتماع والتعبير عن وجهة نظرهم دون حاجة إلى استعمال القوة أو العنف. ففي غياب هذا المجال أو عدم انفتاحه أمام مختلف الاتجاهات يمكن للحكومة أن تتصرف دون رقيب . الأمر الذي يصيب أغلب المواطنين بالإحباط ويمنعهم من المبادرة بالعمل العام ويشعرهم باللامبالاة وعدم التحمس أو الاهتمام بالشئون العامة وبأن مشاركتهم السياسية لا جدوى ولا قيمة لها. كما قد يضطر بعض المعارضين إلى اللجوء إلى أساليب غير منظمة في التعبير عن غضبهم كأعمال الشغب والتدمير .
هكذا عرفنا أن المجتمع المدني هو مجال المشاركة الجماعية المنظمة في المجال العام الممتد من الأسرة إلى الحكومة والذي يتكون من جمعيات ومنظمات غير هادفة للربح ينضم إليها الأفراد باختيارهم ويمارسون داخلها العمل التطوعي بعيدا عن تدخل الحكومة أو تحكمها أو سيطرتها. ويتضح أن الاستقلالية هي أحد العوامل التي تسهل قيام المجتمع المدني بوظائفه. فإذا ما تساءلنا عن المقصود بالاستقلالية ؟ والاستقلالية عن أي طرف ؟ سنجد أننا نسأل عن علاقة المجتمع المدني بالدولة وهو موضوع يطول شرحه
ثالثاً: العلاقة بين المجتمع المدنى والدولة
أول ما يرد بالذهن تحت هذا العنوان هو كيف يمكن التمييز بين معنى الدولة والمجتمع المدني؟ فمن جانب أول ومن حيث الأهداف، سنجد أن حكومة الدولة تبرر قراراتها على أساس أنها تسعى لتحقيق المصلحة العامة للمجتمع كله في حين تسعى كل وحدة من وحدات المجتمع المدني إلى تحقيق المصالح الخاصة والمشتركة لجماعة معينة دون غيرها
ومن الرابطة والانتماء، لاشك أن معنى المجتمع المدني يختلف عن الدولة فهو مجال المشاركة في الحياة العامة والحركة الحرة والتعبير عن مطالب المواطنين عبر قنوات في شكل منظمات وجمعيات وروابط غير حكومية ذات صفة تلقائية تتأسس فيها رابطة الانتماء على الاختيار لا الإجبار بينما ينتمي الأفراد إلى الدولة ويحملون جنسيتها بحكم الميلاد دون اختيار
وبينما يتصف ولاء المواطنين للدولة بالشمول والعمومية، فإن وحدات المجتمع المدني عادة ما تضم فئات دون أخرى ترتبط بها بروابط خاصة لا تشمل المجتمع ككل لأن كلاً من تلك الوحدات يعبر عن مصلحة خاصة بجماعة معينة وليس عن المصلحة العامة للجميع كما هو حال الدولة. أضف إلى ذلك، أنه بينما تتسم رابطة الولاء للدولة بالاستمرارية والثبات حيث يحمل الفرد جنسية بلده ولا يغيرها طوال حياته إلا نادراً فإن الولاء لإحدى منظمات المجتمع المدني عادة ما يكون متنوعاً ومتغيراً. فالفرد قد ينتمي لأكثر من جمعية و قد ينتقل من منظمة إلى أخرى بحسب التغير في مصلحته من فترة لأخرى
وبجانب التمييز بين ولاء الفرد للدولة وانتمائه للمجتمع المدني يمكن التفرقة بينهما من حيث الوظائف. صحيح أن هناك وظائف مشتركة يعتبر فيها المجتمع المدني أداة مساعدة للدولة كالتنمية الاقتصادية والاجتماعية وإشباع الاحتياجات الأساسية وضبط سلوك الأفراد والجماعات وتنظيم معاملاتهم.الخ
لكن تنفرد الدولة ببعض الوظائف نتيجة امتلاكها وحدها لسلطة استخدام القوة المادية لقمع الخارجين عليها وفرض القانون والنظام والحفاظ على كيان المجتمع، فالدولة تمتلك وحدها سلطة تطبيق أساليب الثواب والعقاب على كل من يعيش على أرضها ، كما أنها المسؤولة عن الدفاع عن مجتمعها ضد أي أخطار داخلية أو خارجية تهدده. وهذه الوظيفة توضح فرقاً آخر بين الدولة والمجتمع المدني من حيث المسؤوليات والوظائف، فالدولة هى تنظيم سياسي مركزي له سلطة عامة في شئون المجتمع كله، بينما يقتصر اهتمام المجتمع المدني على الشئون الخاصة لبعض الفئات والجماعات دون غيرها في المجتمع
وفي حين تحكم الدولة قوانين عامة وثابتة وموضوعية ومجردة، تخضع تنظيمات المجتمع المدني لقواعد متغيرة بحسب تغير موازين القوة والمصالح .
فوحدات المجتمع المدني تختلف وتتباين في موارد القوة والنفوذ التي تملكها سواء كانت ثروات اقتصادية أو معارف أو مكانة أو اتصالات أو علاقات أو مهارات أو براعة في التنظيم بما ينعكس على علاقة كل منها بالدولة. فتصبح بعض الوحدات أقرب إلى الحكومة وأكثر قدرة على التأثير عليها بينما تظل الجماعات الأخرى بعيدة ومهملة على الهامش دون امتلاك أية قدرة على التأثير في القرارات السياسية
وبعد هذه التفرقة هل نستنتج من ذلك أن علاقة الدولة بالمجتمع المدني تقوم على الانفصال الكامل أم أن المجتمع المدني قد يلعب دوراً هاماً في الحياة السياسية التي هي ميدان عمل الدولة ؟ وما هي طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني؟
أن صور العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني تتعدد وهي
1 - التنسيق
وتتعدد مجالات هذا التنسيق فى المجال القانوني حيث تضع الدولة القوانين المنظمة للمجتمع المدني ولتأسيس الجمعيات والمنظمات وإشهارها ولتحديد مصادر التمويل والميزانية وأحقية الحصول على مساعدات أجنبية من جهات خارجية وأسلوب الإدارة وعلاقتها ببعضها البعض وبالحكومة، وكذلك لتحديد أسلوب ممارسة النشاط وإجراء الانتخابات لاختيار القيادة. لا شك أنها جميعاً تحدد مدى تمتع المجتمع المدني بالاستقلال عن الدولة وحدود تدخل الحكومة بالإشراف على شئونه .
وفى هذا المجال السياسى تسعى مؤسسات المجتمع المدني إلى التأثير في الحياة السياسية وما تتخذه الحكومة من قرارات وسياسات في الشئون العامة، ويتوقف تأثير كل منظمة على وزنها ودرجة التنسيق فيما بينها وما تعتمد عليه من وسائل مباشرة كالاتصال بالمسؤولين والمرشحين للانتخابات أو وسائل غير مباشرة بشن الحملات الإعلامية للتأثير على الرأي العام .
وفى المجال الاجتماعي، لاشك أن نجاح سياسات التعليم والصحة والبيئة والشباب والثقافة تتطلب تنسيقاً كبيراً بين الوزارات الحكومية المختصة من جانب والمؤسسات والهيئات الأهلية المهتمة بنفس المجالات من جانب آخر. ومن أمثلة ذلك، التنسيق بين منظمات حقوق الإنسان والنقابات المهنية والجهاز القضائي بشأن الحريات الديموقراطية وحقوق الإنسان، أو التنسيق بين جمعيات رجال الأعمال ووزارات الاقتصاد والتجارة والسياحة والهيئات الحكومية العاملة في مجالات الاستثمار ، والتنسيق بين جمعيات الرعاية الاجتماعية ووزارة الشئون الاجتماعية والمجالس القومية كالمجلس القومي للمرأة أو المجلس القومي للأمومة والطفولة، والتنسيق بين جمعيات الدفاع عن البيئة ووزارة البيئة… الخ حيث يتم التنسيق في شكل تبادل معلومات ومشورة وتعاون في أبحاث مشتركة مع محاولة تجنب ازدواج وتكرار الجهود .
2 - التنافس والصدام
وهو قد يحدث بالنسبة لمنظمات حقوق الإنسان التي قد تصطدم بالدولة بشأن تقييم بعض الممارسات، كما قد تلجأ بعض جماعات المصالح إلى تنظيم الاحتجاجات ضد السياسات الحكومية التي تضر أصحابها. ومن أمثلة ذلك مطالبة العمال بتحسين الأجور أو ظروف العمل
3 - اختراق الدولة للمجتمع المدني:
حيث تتولى الحكومة تعيين مجالس إدارة الجمعيات والمنظمات غير الحكومية بدلاً من انتخابهم، وتختار القيادات من بين الأشخاص الموالين لها خصوصا بالنسبة للمؤسسات ذات القواعد الجماهيرية والشعبية الواسعة،وهنا تظهر خطورة أن يتحول هؤلاء القادة إلى أعضاء في الحكومة يستفيدون منها ويمارسون سلطة على أعضاء الجماعة لصالح تنفيذ أهداف الدولة وأوامرها، كما قد تسعى الحكومة إلى إلحاق منظمات المجتمع المدني بالوزارات الحكومية واعتبارها مجرد امتداد لها دون السماح لها بالوجود المستقل مع التحكم الكامل في تأسيسها وتمويلها وحلها وهو ما يضمن صدور كافة القرارات مؤيدة للحكومة غير عابئة برأي الأعضاء. وأمام اختراق الحكومة للمجتمع المدني يصبح كيانا بلا معنى أو مضمون حيث يفقد استقلاله ويعجز عن الحركة والإبداع والمبادرة، بينما تصبح الحكومة المصدر الوحيد للمبادرات والتغيير بما يهدد سياسات التنمية بالفشل لأنها لم تحقق أحد الشروط الهامة لنجاحها من خلال تمكين الأفراد والجماعات وإشراكهم في عملية صنع سياسات التنمية. وهذا وضع غير طبيعى لأن علاقة الدولة بالمجتمع المدني ليست علاقة تنافس وصراع وإنما علاقة تعاون ومشاركة وتكامل ومع ذلك كثيراً ما نجد علاقة التنافس والصدام فى البلاد غير الديمقراطية وتلك التى تمر بمرحلة انتقال نحو الديمقراطية
ومع ذلك لابد أن نناقش الآراء التي تقول أن علاقة الدولة بالمجتمع المدني هي علاقة منافسة، وأن قوة المجتمع المدني تأتي وتتحقق غالباً على حساب الدولة التي يؤدي ازدياد قوة المجتمع فيها إلى ضعفها. والحقيقة أن تلك الأفكار ثبت خطؤها في أغلب المجتمعات الديموقراطية التي استطاعت تحقيق قوة الدولة وقوة المجتمع المدني في الوقت نفسه على عكس المجتمعات غير الديموقراطية التي أدى ضعف المجتمع المدني فيها إلى إضعاف الدولة بدلاً من تقويتها ، فما هي علاقة المجتمع المدني بالديموقراطية ؟
رابعاً:المجتمع المدني والتحول إلى الديموقراطية
إذا تصورنا أن الدولة والمجتمع المدني دائرتان توجد بينهما منطقة التقاء وتداخل سنجد أن مساحة تلك المنطقة تختلف بحسب مدى ديموقراطية المجتمع والحكومة. فعندما تكون مساحة التداخل ضيقة، فإن ذلك يعني أن الحكومة لا تتدخل في شئون المجتمع المدني إلا في أضيق حدود، حيث يتسم تدخلها بالاحترام الكامل للحقوق والحريات في نفس الوقت الذي يفرض فيه المجتمع المدني الرقابة على تصرفات الحكومة ومساءلتها ومحاسبتها ، وفي هذه الحالة تزيد درجة التوازن والتقارب بين الجماعات المختلفة لما تتسم به من مساواة بينها في امتلاك موارد القوة والنفوذ
أما الحالات التي تتسم باتساع مساحة التداخل بين الدولة والمجتمع المدني فإنها تعبر عن المجتمعات غير الديموقراطية التي تتوسع فيها الدولة على حساب الحريات والحقوق حيث تتدخل الحكومة بشكل صريح ومستمر في شئون المجتمع المدني الذي يتحول إلى جزء من جهاز الدولة وامتداد لها، وعندئذ تزداد الفجوة والفوارق بين الجماعات بينما تنفرد أقلية محدودة من وحدات المجتمع المدني بالقدرة على ممارسة التأثير السياسي والحفاظ على استقلاليتها عن الدولة لأنها تتفوق على غيرها في امتلاك موارد القوة والنفوذ .
أما أغلب الدول النامية فتمر الآن بمرحلة انتقالية إلى الديموقراطية، ولذا يسودها نظام يطلق عليه تعددية مقيدة وليست كاملة أي أنها تسمح بهامش من الحريات ولكنها تضع شروطاً وقيوداً معينة على ممارستها. وهذه المجتمعات تتغير فيها مساحة تدخل الدولة في المجتمع المدني، حيث تتضاءل وتضيق بصورة تدريجية، وهو ما يعني أن المجتمع المدني هو إحدى أدوات الانتقال إلى الديموقراطية وأن وجوده وقوته من أهم شروط الانتقال إلى مزيد من الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان
فلا وجود لدولة ديموقراطية دون مجتمع مدني، ذلك أن هذا المجتمع هو أداة تحقيق الديموقراطية في أبسط معانيها بتوفير قنوات سلمية مفتوحة للتنافس على الوصول إلى السلطة و محاسبة الحكومة ومساءلتها من خلال المؤسسات والهيئات الأهلية والشعبية للدفاع عن حقوق المواطنين ووقف تعدي الدولة عليها .
وكما يسهم وجود المجتمع المدني في تحقيق الديموقراطية فإن العكس أيضاً صحيح حيث يؤدي تحقق الديموقراطية إلى بناء مجتمع مدني قوي تضمن الديموقراطية وقايته من الإصابة بأمراض الفساد أو الانتهازية إذا ما حاول كبار المسؤولين بالحكومة استغلال مراكزهم لتحقيق مصالح خاصة وأهداف شخصية على حساب المصلحة العامة، وبنفس الطريقة، يوفر المجتمع المدني درعاً واقياً ودواء معالجا لنفس المشكلات، وباختصار فإن كلاً من الديموقراطية والمجتمع المدني يعتبر سببا ونتيجة للآخر .
والمعروف أن استمرار الحكومة الديموقراطية يتوقف على درجة استجابتها لمطالب المحكومين وأن تقوم بمراجعة السياسات والقرارات في ضوء ردود فعلهم. وهنا تظهر ضرورة وجود مجتمع مدني يتوسط بين الدولة والمواطنين ويتم من خلاله توصيل هذه المطالب والشكاوى والالتماسات بما يؤدي ليس فقط إلى تحقيق الديموقراطية وإنما يضمن أيضاً استمرارها وتدعيمها لأن ما تضعه الحكومة من سياسات تحظى بقبول وتأييد المواطنين
وكما هو واضح، تعد قوة المجتمع المدني شرطاً لتحقيق الديموقراطية كما تعد شرطاً ضروريا لنجاح التنمية، لكن أهمية المجتمع المدني لا تقتصر على ذلك فقط وإنما تتضح أيضاً في حالة الأزمات الكبرى تؤدى الى انهيار الدولة أو اختفائها .
خامساً:المجتمع المدنى وقت الأزمات
في حالات غياب الدولة أو اختفاء الحكومة تحت ظروف داخلية مثل الحرب الأهلية أو خارجية مثل التعرض للغزو أو الاحتلال يمكن للمجتمع المدني أن يحل محلها ويؤدي دور البديل لحين زوال الأزمة. ويكفي لفهم ذلك الاستعانة بنماذج من داخل عالمنا العربي .
1 - لبنان :
كان نموذجا فريدا شهد دوراً فعالاً للمجتمع المدني في وضع نهاية لمأساة الحرب الأهلية التي استمرت في لبنان حوالي 16 عاما كاملة وخلفت وراءها آثارا مدمرة. فقد كان للمجتمع المدني الفضل الكبير في الحفاظ على حد أدنى من شعور اللبنانيين بمختلف طوائفهم بالانتماء إلى هوية واحدة وبالمواطنة بالرغم من حالة التردي والانهيار التي وصلت إليها الدولة في تلك الظروف وقد ضرب لبنان المثل على صمود المجتمع المدني وما قامت به المنظمات الشعبية وجمعيات الجيرة في ملء الفراغ المترتب على غياب الدولة حيث وجهت ما يقرب من 30% من تلك المنظمات جهودها إلى أعمال الإغاثة وتسكين المشردين مع تشكيل اللجان الشعبية لسد الحاجات اليومية للسكان كتأمين توفير السلع التموينية والخبز وتنظيم حملات النظافة ..الخ. بل إن الكثير من المنظمات غير الحكومية الطائفية تجاوزت عن خطوط الانقسام الطائفي وبدأت في تقديم خدماتها للمواطنين بغض النظر عن طوائفهم المختلفة .
2 - السودان :
وجهت معظم منظمات المجتمع المدنى نشاطها إلى تنفيذ برامج الإغاثة ولإعادة تأهيل المواطنين فى مواجهة مشكلات المجاعة والجفاف والفقر .
3 - الكويت :
استطاعت جمعيات تعاون المستهلكين القيام بدور بديل للدولة أثناء الاحتلال العراقي لأراضيها فوفرت خدمات الغذاء والصحة والتعليم والبريد والاتصالات والرفاهية …..الخ واتخذت من المساجد مقرات لتقديم المساعدات للمحتاجين .
4 - فلسطين :
كذلك يبرز دور المجتمع المدني في حالة النضال الفلسطيني حيث سبق قيامه زمنياً وجود الدولة. وقدمت كثير من المنظمات والهيئات المدنية نموذجاً لأروع صور المجتمع المدني القادرة على العمل والتأثير وملء الفراغ بين الفرد الفلسطيني وسلطات الاحتلال منذ عام 1967 .
5 - الصومال :
يمثل النموذج الصومالي منذ عام 1992 دليلاً آخر على خطورة الاستهانة بضعف المجتمع المدني أو غيابه وتفككه. فالاعتماد الكامل على الدولة وحدها أدى إلى الانهيار الكامل عندما اختفى دورها. وقد أفادت جميع الدراسات حول أسباب المجاعة في الصومال أنها كانت مشكلة توزيع في المقام الأول حيث تفككت الدولة دون وجود مجتمع مدني يوفر شبكة أمان للمواطنين ويعيد تجميع أجزاء دولته المتناثرة.
بعبارة أخرى يعد المجتمع المدني هو خط الدفاع الثاني عن كيان المجتمع بعد الدولة، وبمجرد تعرض الدولة لأزمة يحتل المجتمع المدني موقعها ويصبح هو خط الدفاع الأول عن بقاء المجتمع على قيد الحياة .
الفصل الرابع
البيئة الدولية وأثر الـعـولـمــة
شهدت سنوات الثمانينيات والتسعينيات في نهاية القرن العشرين حركة سريعة للغاية لانتقال الكثير من مجتمعات ودول العالم نحو الديموقراطية فيما اعتبره البعض موجة اكتسحت العالم وأصابت دوله بعدوى التحول الديموقراطي. ففي الفلبين سقط حكم ماركوس المستبد عام 1986 وحدث نفس الشيء في بنجلاديش والبرازيل نتيجة للدور المتزايد للحركات الاجتماعية التي تكونت بعيدا عن سيطرة الحكومة .
وفي أوروبا الشرقية شهدت فترة نهاية الثمانينيات صحوة في المجتمع المدني فى الدول التي كان يحكمها الحزب الشيوعي، ففي بولندا أيدت الكنيسة الكاثوليكية نقابة تضامن العمالية المستقلة التي تزعمت الاحتجاج على الحزب الشيوعي الحاكم ونجحت في إرغامه على إجراء انتخابات انتهت بفوز تضامن وسقوط الحكومة الشيوعية في خريف عام 1989، ثم انتقلت عدوى الثورة والاحتجاج ضد الحكم الشيوعي إلى تشكوسلوفاكيا على يد المنتدى المدني وإلى ألمانيا الشرقية على يد المنتدى الجديد وإلى المجر على يد المنتدى الديموقراطي. تلك المنتديات كانت عبارة عن تنظيمات لحركات شعبية وجماهيرية عريضة انضمت إليها جموع المواطنين وتدفقوا في إطارها في شكل موجة كاسحة من الاحتجاجات ليس بصفتهم أفراداً وإنما بصفتهم أعضاء في منظمات اجتماعية وحركات طلابية أو نسائية أو عمالية .
وفي عدد كبير من البلاد الإفريقية استطاعت منظمات العمال والروابط المهنية أن تنشر الوعي بضرورة تغيير حكم الحزب الواحد، ولعبت الجمعية القانونية التي تضم آلاف المحامين في كينيا دوراً نشطاً في ذلك، كما قامت جماعات الضغط والنقابات بنفس الدور في بداية التسعينيات ونجحت في إسقاط رئيس الدولة في انتخابات فاز فيها زعيم نقابات العمال. وتكررت القصة نفسها في زائير على يد الكنيسة وحركات العمال والطلبة. وكان السؤال لماذا حدثت هذه التغيرات بتلك السرعة الهائلة؟ وتقدم ثورة الاتصالات والمعلومات والإعلام سببا وجيها لتفسير هذه الظاهرة إلى جانب تزايد أهمية قضايا ومشكلات عالمية تحتاج في معالجتها إلى تعاون وتنسيق على مستوى عالمي ولا تستطيع أي دولة مواجهتها على حدة مثل قضايا التلوث البيئي وتجارة الأسلحة والمخدرات والإرهاب وانتشار أمراض خطيرة مثل الإيدز وفيروسات الكمبيوتر .الخ .
واتفق الجميع على أننا نعيش في عصر جديد أطلقوا عليه عصر العولمة والتي تعني في أبسط معانيها سقوط الحواجز الفاصلة بين الدول والمجتمعات والاتجاه نحو مزيد من الاندماج بما جعل العالم يتحول إلى قرية صغيرة، وصارت كثير من القرارات الاقتصادية تتخذ خارج حدود الدول عن طريق المؤسسات والشركات الدولية متعددة الجنسيات. كما تميز هذا العصر بالتدفق الحر والسريع للأموال والبضائع والخدمات فضلاً عن الأفكار والمعتقدات. وكان للديموقراطية وحقوق الإنسان نصيب الأسد في الانتشار العالمي كقضايا ذات أولوية في جداول أعمال المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية مع صعود الدعوة العالمية لإعادة الاعتبار للفئات التي تعرضت للإهمال والظلم والاضطهاد لفترات طويلة سابقة كالمرأة والطفل والمعاق .
وكان من أبرز التطورات العالمية الجديدة تزايد عدد المنظمات غير الحكومية واتساع نطاق نشاطها بما يتجاوز ويتخطى حدود الدول القومية. وفي ظل التقدم الهائل في مجال الإرسال الفضائي والأقمار الصناعية والأطباق الهوائية استطاعت منظمات حقوق الإنسان توعية الرأي العام العالمي بما يجري من انتهاكات في أي دولة كما شاهد سكان العالم جميعاً أحداث سقوط النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية على أيدي حركات الاحتجاج الشعبي على شاشات التلفزيون وهو ما كان عاملاً هاماً في تشجيع الشعوب الخاضعة لحكومات مستبدة على تقليد الشعوب الأوروبية والمطالبة بالتغيير .
وبعد سقوط الشيوعية تراجعت إلى حد كبير أهمية العقائد والمذاهب الفكرية التى تأسست عليها أغلب الأحزاب السياسية مع اختفاء الفروق بين اليسار واليمين، وهو ما جعل المنظمات غير الحكومية تحتل مركزاً يفوق الأحزاب كقنوات فعالة لمشاركة المواطنين والتأثير فى السياسات الحكومية فضلاً عن تحقيق الإصلاح السياسى والاقتصادى .
وبدأ السياسيون يتحدثون عن عصر العولمة باعتباره عصراً يتكون فيه مجتمع مدني عالمي خصوصا وأن كثيراً من الجماعات المكونة للمجتمع المدني فى عديد من الدول بدأت في الدخول في تحالفات وروابط مع المنظمات العالمية خارج الحدود بما يزيد من قوتها ويحسن من مركزها إزاء الدولة .
وبدأت المؤسسات الاقتصادية والمالية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرها من الجهات الدولية المانحة للمساعدات تشترط على الدول النامية المدينة أو الراغبة في الاقتراض المبادرة بإدخال بعض الإصلاحات الديموقراطية من خلال السماح بالتعدد الحزبي والانتخابات وتشجيع منظمات المجتمع المدني كما زادت المعونة الموجهة إلى الجماعات والمنظمات غير الحكومية داخل تلك الدول بحجة توصيل هذه المعونات مباشرة إلى مستحقيها دون وساطة الحكومة. وكان للبنك الدولي دور واضح في تمويل نشاط المجتمعات المدنية جنباً إلى جنب مع دعوته للأخذ بسياسات اقتصاد السوق والتحول إلى القطاع الخاص وتقييد دور الحكومة في الاقتصاد .
ولكن هل معنى ذلك أن تأثير العولمة إيجابي تماماً بالنسبة لتشجيع المجتمع المدني ؟
الإجابة على هذا السؤال هي أن العولمة في الحقيقة سلاح ذو حدين. فتطور وسائل الاتصال يزيد من قدرة المنظمات غير الحكومية على الدفاع عن حقوق الإنسان، ولكن هذه الوسائل ذاتها قد تتحول إلى بديل فهى توفر لتلك المنظمات أداة وسيطة بين الحكام والمحكومين يتم من خلالها التعبير عن وجهات النظر والآراء المختلفة في المجتمع، وهي في نفس الوقت تفوق منظمات المجتمع المدني في السرعة والسهولة والانتشار وتؤدي نفس دورها بكفاءة أكبر. ويتسبب التقدم في وسائل الإعلام في التساؤل حول مبررات وجدوى استمرار منظمات المجتمع المدني في المستقبل .
أضف إلى ذلك أن ارتباط الدفاع عن المجتمع المدني ببعض الجوانب الأخرى السلبية للعولمة قد يدفع البعض في الدول النامية إلى رفضه باعتباره مجرد فكرة غريبة ومستوردة يفرضها الغرب المتقدم على الدول الفقيرة بهدف إضعافها وإخضاعها للتبعية والهيمنة له وللولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص الأمر الذي قد يقلل من ترحيب بعض أبناء الدول النامية بفكرة المجتمع المدني .
وهنا نؤكد أن فكرة المجتمع المدني ليست فكرة غريبة أو مستوردة وليست ظاهرة غربية تماما أو ملكاً للتاريخ الأوروبي وحده، حيث كان لهذه الظاهرة جذور في تاريخنا الحضاري وعرفت الدولة العربية والإسلامية ظواهر شبيهة بالمجتمع المدني أدت نفس أدواره ووظائفه كحلقة وصل توسطت علاقة الحاكم بالمحكومين وإن اختلفت عنه في الأشكال والمسميات .
ولذا، فإنه لتطوير مجتمع مدني حقيقي في مجتمعاتنا لا يجوز أخذ موقف الرفض الكامل للفكرة ولا القبول الكامل والنقل الحرفي والتقليد الأعمى لأشكال التطبيق الغربي لها، وإنما علينا البدء بقبول ما يحمله المجتمع المدني من معاني سامية والاعتراف بأنها ضرورية وأننا في حاجة إليها مع السعي لإحياء الصور الأصيلة له والتي تنبع من تاريخنا وتستمد جذورها من تربتنا الوطنية دون أن يعني ذلك الانغلاق وإنما الاستفادة من كل ما تعطيه لنا التجربة الإنسانية العالمية من دروس لأن العولمة لا تعني إلغاء الاختلافات بين الحضارات أو تذويبها ، وإنما زيادة الحوار والتقارب بينها على أساس من الاحترام والتسامح المتبادل مع احتفاظها بخصوصيتها وهويتها الثقافية .
الفصل الخامس
تطور المجتمع المدنى فــــي مصـــر
بدأت بعض الدول العربية مؤخراً في إتاحة هامش أوسع من الحقوق والحريات لمواطنيها ومنها حريات التعبير والتجمع والتنظيم كخطوات على طريق الانتقال إلى الديموقراطية .
وكان السماح بالتعدد الحزبي من أهم التطورات السياسية التي بعثت الحياة في أحزاب قديمة في الجزائر وتونس والأردن ولبنان والسودان واليمن ومصر، كما شجعت على تأسيس أحزاب جديدة بلغ عددها 46 في الجزائر و43 في اليمن و23 في الأردن و19 في المغرب و15 في مصر و11 في تونس وستة أحزاب في موريتانيا، كما ازداد عدد المنظمات غير الحكومية في العالم العربي من عشرين ألف في الستينيات إلى سبعين ألف في التسعينيات وهو ما يمكن تفسيره بعدد من الأسباب.
أولاً : جذور المجتمع المدني
غير أن هذه التطورات ليست جديدة تماماً على العالم العربي، وخاصة مصر بل كانت لها جذورها التاريخية الممتدة منذ عصر الدولة الإسلامية السابقة على الاستعمار الأوروبي، وإن لم تأخذ شكل التنظيمات الحديثة المعروفة حالياً للمجتمع المدني .
1 - مشايخ الطرق الصوفية و علماء الأزهر :
كانت هذه المجموعة من أقدم مؤسسات المجتمع المدني التي عرفتها مصر. وقد لعب علماء و شيوخ الأزهر وكبار التجار ومشايخ الطرق الصوفية وزعماء القبائل وكبار السن دوراً سياسياً هاما في المجال العام، حيث تمتعوا بدرجات عالية من الاستقلال في مواجهة الحكومات سواء في إدارة الشئون الداخلية لجماعاتهم أو حتى في اختيارهم للزعماء الذين يتحدثون باسمهم سواء مع الجمهور أو الحكومة. ولعب هؤلاء الزعماء دور المستشارين الناصحين للحكام بما قلل من انتهاكهم لحريات وحقوق المحكومين (الرعية ). وقد قامت الطرق الصوفية بتوفير المأكل والمأوى لعديد من الفقراء، واعتمدت في ذلك على هبات الأعضاء وزوار الأضرحة والصالحين وما يضعونه في صناديق النذور . كما استخدمت الأموال التي قدمها أهل الخير والإحسان في تمويل بناء المدارس والمساجد وصيانتها .
وهكذا ، لم تخل المجتمعات العربية من أدوات وقنوات وسيطة بين العامة والخاصة، فقامت بدور حلقة الوصل لشرح قرارات الحكومة للمحكومين ثم توصيل مطالب الشعب للحكومة. ولعل من أهم النماذج التاريخية المصرية على ذلك شخصية الزعيم عمر مكرم حيث كان واحداً من علماء الأزهر الذين اشتركوا في مقاومة الحملة الفرنسية ونجحوا في طردها ثم واصلوا الكفاح والنضال ضد الحاكم التركي المستبد خور شيد باشا وأصروا على إسقاطه بعدما رفض الاستماع إلى شكاوى الشعب أو الاستجابة لها. وبلغت حركة النضال قمتها عندما نجحت في إرغام السلطان العثماني على استبداله بمحمد علي ليكون حاكماً على مصر مع العلم بأن زعماء الشعب وعلى رأسهم عمر مكرم كانوا هم الذين اختاروا محمد على واشترطوا عليه الاستمرار في العمل بمشورتهم ونصحهم .واللافت للنظر هنا أن عمر مكرم وزملاءه لم يفكروا في أن يتولى أي منهم السلطة وهو ما يمكن تفسيره جزئياً في ظل ظروف الاحتلال العثماني إلا أن هذا يدل على عمق كبير في فهم هؤلاء الزعماء لدورهم على انهم جزء من المجتمع المدني يتدخلون ضد الحكومة للدفاع عن حقوق المواطنين ووقف الاستبداد والظلم دون سعي للوصول إلى السلطة .
2 - التنظيمات والمؤسسات الخيرية :
عرفت المجتمعات العربية منذ وقت مبكر صورا عديدة من التجمع والتضامن والتنظيم على أسس اجتماعية ومهنية ودينية وسلالية ومحلية. وتميزت تلك الروابط المنظمة بالتدرج والوضوح فضلا عن الاعتماد الذاتي على موارد مستقلة كالتبرعات وأعمال البر والإحسان التي يقدمها أهل الخير ومؤسسة الأوقاف بعيداً عن سيطرة الدولة، حيث كانت الأوقاف جزءاً من المجتمع المدني. وقدمت تلك المنظمات خدمات اقتصادية واجتماعية عديدة قبل ظهور الدولة المستقلة .
وكان لمصر دور ريادى في السبق إلى معرفة الدور المبكر والكبير الذي لعبته مؤسسات الإحسان الخيرية التي كونتها جمعيات دينية سعت لمد يد العون وتقديم مساعدات مالية لكل من الطلبة والمرضى والفقراء والراغبين في الزواج ، كما ظهرت مجموعة من الجمعيات والتنظيمات التابعة لهيئة الأوقاف منذ مطلع العشرينيات. وكانت الجمعيات التعاونية من أولي الحركات الشعبية حيث تأسست جمعية تعاونية زراعية في مصر لأول مرة عام 1907 بدون أي تدخل من الحكومة وكانت تجمع المزارعين في صورة تنظيم يهدف إلى حمايتهم من جشع التجار .
ومما تجدر ملاحظته أن دور هذا النوع من التنظيمات لم يختف في العصر الحالي بل امتد وجودها سواء مع احتفاظها بأسمائها أو مع اكتسابها لأشكال وأسماء جديدة، فرغم أن الطرق الصوفية قد لا يتم تسجيلها كواحدة من مؤسسات المجتمع المدني إلا أنها تعتبر من أهم مكوناته في العالم العربي حتى الآن. وقد استطاعت الطرق الصوفية تأسيس اتحادات لها صار لها وزن كبير لدى الدولة، كما أن لها إسهامات عديدة في مساعدة المرضى الفقراء وإنشاء وتجهيز العيادات الملحقة بالمساجد والمشاغل وفصول تعليم الخياطة فضلا عما تقدمه من دروس تقوية في مواد الدراسة للطلاب المتعثرين من أبناء الفئات محدودة الدخل أو غير القادرة على تحمل نفقات العلاج أو الدروس الخصوصية. ونفس الشيء بالنسبة لجماعات أبناء القبائل .
3 - حركات التحرر الوطني :
ففي ظل الاستعمار الأجنبي للمجتمعات العربية ارتبطت تجربة الكفاح والنضال الوطني من اجل الاستقلال منذ بداياتها الأولى بالمطالبة بالديموقراطية والإصلاح الدستوري والحياة النيابية السليمة مما يدل على وعي سياسي مبكر لدى الحركة الوطنية التي أدركت منذ البداية أنه لا انفصال بين الداخل والخارج وأن معركتها ضد الاستعمار لن يكتب لها الانتصار لو لم تكتمل بمحاربة أسلوب الحكم الاستبدادي لبلادها. واتضح ذلك من إصرار زعماء ثورة عام 1919 وعلى رأسهم سعد زغلول على رفع شعار الدستور والاستقلال ضد كل من الملك والاستعمار البريطاني. كما ربطت ثورة المجاهد عبد الكريم الخطابي بالمغرب ضد الاستعمار الفرنسي بين نفس المطلبين بشكل تلازمي عام 1944. كذلك عرفت ليبيا منظمات نشأت لأغراض اجتماعية ولعبت دوراً هاماً في المجتمع قبل الاستقلال وامتد نشاطها إلى المجال السياسي ومن أشهرها جمعية عمر المختار التي تأسست عام 1943 كجمعية ذات أهداف رياضية ثقافية اجتماعية معلنة ولكنها كانت في الحقيقة ذات طبيعة سياسية بالأساس تمثلت في تحريض الشعب على مقاومة الإدارة الإيطالية العسكرية والدعوة لاستقلال ليبيا.
تلك كانت الأشكال التاريخية القديمة التي مثلت جذورا للمجتمع المدني في تاريخنا العربي والإسلامي فكيف تطورت هذه الإشكال؟ وما هي الأشكال الحديثة القائمة حالياً ؟
ثانياً : الأشكال الحديثة للمجتمع المدني في مصر
تمثل الأساس الأول لنشأة ظاهرة المجتمع المدني بمعناها وأشكالها الحديثة المعروفة حاليا فيما شهده المجتمع المصري منذ القرن التاسع عشر - بفضل جهود التحديث في عصر محمد على- من تطورات اجتماعية واقتصادية أدت إلى انقسام المجتمع إلى فئات مختلفة. وكان من أبرز هذه التطورات اتساع وانتشار التعليم وزيادة اندماج مصر في الاقتصاد العالمي ونشأة الفئات الوسطى والعاملة ومطالبتهما بالحق في التجمع والتنظيم.
أضف إلى ذلك تحولات هامة كانتشار الصحافة وحركة الترجمة على نطاق واسع واشتداد الأزمة الاقتصادية في عهد كل من الخديوي سعيد والخديوي إسماعيل وزيادة عدد سكان المدن وزيادة دور كبار ملاك الأرض والأعيان والمثقفين الذين تلقوا تعليماً حديثاً في البعثات الأجنبية بالخارج وبدءوا عند عودتهم إلى مصر في المطالبة بالاستقلال والحرية والديموقراطية وتأسيس جمعيات ومنظمات غير حكومية للنضال من أجل تحقيق تلك الأهداف .
1 - المنظمات غير الحكومية والجمعيات الأهلية :
المقصود بها تلك التجمعات المنظمة غير الهادفة للربح والتي تعمل في مجالات الرعاية الاجتماعية وتعتمد في تمويلها على تبرعات القطاع الخاص وأشخاص من المجتمع أو من جهات أجنبية. كما أنها قد تحصل على دعم الحكومة لمساعدتها في إنجاز أهدافها غير السياسية. وكثير من الدول النامية تنظر الآن إلى هذا النوع من التنظيمات على أنه شريك لها يقف معها في خندق واحد لمواجهة مشكلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتوفير سبل العلاج لها .
كما تعبر هذه المنظمات عن صورة حديثة لفكرة التكافل الاجتماعي خصوصا في أوقات الكوارث والأزمات وتشمل جمعيات للمساعدة الذاتية وأخرى تعاونية خيرية وغيرها من الروابط الدينية التابعة للكنائس والمساجد أو متخصصة في حقوق الإنسان وتلك التي تسعى إلى تنظيم الأسرة ورعاية الأمومة والطفولة وتقديم الخدمات الصحية بأسعار رمزية .
ومن بين هذه المنظمات ما يعمل في المجال الاجتماعي أو الرياضي أو الترفيهي وحده مثل تلك المهتمة بخدمة المعوقين أو إنشاء دور الحضانة ورياض الأطفال ودور المسنين وإقامة برامج لمحو الأمية ومساعدة الشباب ومنظمات المرأة التي تهتم بتوفير خدمات الرعاية الصحية والتعليمية والنفسية للأمهات والأطفال، كما تقوم بدراسات حول قضايا المرأة وتنظم الندوات والملتقيات الفكرية، وقد تزايد عدد هذه المنظمات بعدما شهدته قضايا المرأة من اهتمام عالمي متزايد في السنوات الأخيرة وخاصة منذ انعقاد مؤتمر المرأة في بكين عام 1995 والذي نبه إلى خطورة تجاهل حقيقة أن المرأة هي العنصر الرئيسي المحرك لعملية التنمية وأن تجاهلها وتهميشها هو السبب في فشل تجربة التنمية في عديد من الدول. غير أن تلك المنظمات لازالت تعاني من الضعف سواء لغياب مفهوم واضح لقضايا المرأة أو لغياب التنسيق فيما بينها أو لضعف مشاركة المرأة فيها.
وهناك منظمات تمارس نشاطا سياسيا ممزوجا بالنشاط الاجتماعي كمنظمات البيئة ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات والديموقراطية.
وتعود بدايات ظهور المنظمات الأهلية عموما في مصر إلى القرن التاسع عشر أيضاً حيث نشأت أول جمعية أهلية في عام 1821 بإسم الجمعية اليونانية بالإسكندرية ثم توالى تأسيس الجمعيات الثقافية مثل جمعية معهد مصر للبحث في تاريخ الحضارة المصرية عام 1859 وجمعية المعارف عام 1868 والجمعية الجغرافية عام 1875. وبعدها توالى تأسيس الجمعيات الدينية إسلامية وقبطية مثل الجمعية الخيرية الإسلامية عام 1878 وجمعية المساعي الخيرية القبطية عام 1881.
ويعود ذلك التطور السريع في عدد المنظمات الأهلية في أواخر القرن التاسع عشر إلى أسباب منها :
أ - النشاط الملحوظ لبعثات التبشير الديني التي سبقت قدوم الاحتلال، وركزت اهتمامها على تقديم خدمات للفقراء بما كان عاملا مستفزا للمصريين للتصدي لها بتأسيس جمعيات دينية إسلامية وقبطية مصرية .
ب - تزايد أعداد الأقليات الأجنبية في مصر بعد عام 1882 وهو عام الاحتلال البريطاني لمصر مع سعيهم لتأسيس روابط للدفاع عن مصالحهم .
ج - الاحتلال البريطاني 1882 الذي شجع المصريين على إقامة تنظيمات غير حكومية في مجالات متنوعة لتقوم بدور البديل عن الحكومة ومؤسساتها الرسمية التي صارت خاضعة للمستعمر الأجنبي .
د - تزايد أعداد المصريين الذين يسافرون في بعثات أجنبية بالخارج ويعودون برغبة متحمسة للتغيير والإصلاح ويدفعهم ذلك لتأسيس جمعيات لعرض مطالبهم ويحظون بتأييد بعض الأمراء والأعيان والمثقفين لأفكارهم .
هـ - تصاعد دور الحركة الوطنية في مقاومة الاحتلال جنبا إلى جنب مع المطالبة بالإصلاح الدستوري والنيابي في أوائل القرن العشرين مع اندلاع ثورة 1919 والتي كانت ثمرتها إعلان رفع الحماية في فبراير عام 1922 وتلاه وضع دستور 1923 الذي اعترف في مادته (20) بحق المصريين في التجمع وتكوين جمعيات وإن كان قد قيده بالحفاظ على النظام الاجتماعي ووقايته من التعرض للخطر: وتلته فترة ازدهار للمجتمع المدني، حيث زاد عدد الجمعيات الأهلية من 159 جمعية فى الفترة بين عامى 1900 و 1924 إلى 633 جمعية في الفترة من عام 1925 حتى 1944.
ومنذ منتصف السبعينيات بدأت حركة انتعاش جديدة في المجتمع المدني والتي وصلت إلى درجات اكبر مع قدوم الثمانينيات والتسعينيات حتى وصل الآن إلى نحو 15 ألف منظمة وإن كانت بعض الدراسات أكدت أنها ليست جميعا نشيطة وأنه ليس من بينها سوى 40% فقط تعمل فعلا. كما وصل معدل الجمعيات إلى جمعية واحدة لكل 400 من السكان، وتلك نسبة قريبة من النسبة الموجودة بالولايات المتحدة التي بلغ فيها معدل التنظيمات المدنية واحدة لكل 380 من السكان.
2 - النقابات المهنية :
وهي اتحادات ومنظمات تضم أبناء مهنة واحدة وتسعى للحفاظ على شرف المهنة والارتفاع بمستواها وتطويرها كما تسعى للحفاظ على مصالح الأعضاء وقد تتخذ مواقف واضحة إزاء بعض القضايا العامة والسياسية في الداخل والخارج وأهم هذه النقابات :
أ ) نقابة المحامين : وقد ظهر أول تشكيل يضم المحامين في مصر عام 1876 وتمثل في نقابة للمحامين أمام المحاكم المختلطة وتلاه إنشاء نقابة أخرى للمحامين أمام المحاكم الأهلية عام 1912 . وتعد نقابة المحامين من أعرق النقابات المهنية التي تأسست في مصر وارتبطت منذ ميلادها بالحركة الوطنية.
ب) نقابة المهندسين : تأسست أول جمعية للمهندسين المصريين عام 1920 ثم تحولت إلى نقابة المهندسين عام 1946 .
ج ) نقابة الصحفيين : تعود جهود التنظيم النقابي في أوساط الصحفيين إلى إنشاء رابطة الصحفيين الأجانب عام 1909 تلتها جهود الأستاذ أحمد لطفي السيد لإنشاء نقابة صحفيين تضم المصريين عام 1912 ثم جمعية الصحافة عام 1930 التي شملت المحررين وأصحاب الصحف وتلتها نقابة الصحفيين عام 1941 .
د ) نقابة الأطباء : يعود تأسيس الأطباء لنقابتهم إلى سنوات الأربعينيات.
وقد ظهرت أغلب النقابات الأخرى بعد عام 1952 وتعد نقابة المعلمين من أكبر النقابات من حيث حجم عضويتها حيث تضم 750000 عضو تليها نقابة التجاريين التي تضم 310000، ثم الزراعيين 250000، ثم المهندسين 192550، ثم المحامين 15000، والأطباء0 1002، والصيادلة 30000 والصحفيين 5000 وذلك حسب آخر تقديرات متاحة .
وإلى جانبها توجد نقابات أطباء الأسنان والأطباء البيطريين ، والمهن التمثيلية ، والمهن السينمائية ، والمهن الموسيقية ، والمهن العلمية ، والمهن الاجتماعية ، والمهن الفنية التطبيقية ، والفنانين التشكيليين ،ومصممي الفنون التطبيقية ، والممرضين ، وحفظة القرآن، والمرشدين السياحيين ، والمهن الرياضية. ويبلغ عدد النقابات المهنية فى مصر الآن 22 نقابة. وقد شهدت هذه النقابات اتساعا كبيرا في دورها من خلال تقديم خدمات اجتماعية واقتصادية لأعضائها مثل توفير نظم الرعاية الصحية والمشروعات السكنية والقروض لإقامة مشروعات صغيرة .
والجدير بالملاحظة، أن دساتير بعض الدول ومنها مصر أعطت النقابات المهنية الحق في المشاركة في تنفيذ خطط التنمية الاجتماعية والدفاع عن الحقوق والحريات القانونية من التعدي عليها بواسطة السلطات العامة. وهذا دور سياسي ووطني مكمل لدورها النقابي في الدفاع عن المصالح المهنية الخاصة بأعضائها والحفاظ على شرف المهنة والارتقاء بمستواها. ولذلك تعد النقابات المهنية إحدى وسائل تحقيق الديموقراطية وتنفيذ برامج التنمية الاجتماعية التي تضعها الحكومة وقد شهد دور النقابات زيادة كبيرة في قوته لأسباب متعددة منها:
1 - أن أعضاء هذه النقابات يتميزون بارتفاع مستوى التعليم والوعي السياسى .
2 - أنها تعتمد على اشتراكات الأعضاء في تمويلها ولذا فإن الكثير منها تتمتع بقدر كبير من الاستقلال .
3 - أنها ترتبط باتحادات وروابط إقليمية ودولية خارجية أعطتها حماية أدبية وزادت من وزنها في وجه الحكومة.
4 - أنها تحتل موقعا مركزيا في مؤسسات الإنتاج والخدمات.
5 - أن النقابات المهنية صارت تلعب دور البديل عن الأحزاب السياسية فى بعض الاحيان، حيث أنها تثير النقاش حول القضايا العامة وتعتبر منبرا للتعبير عن الآراء المختلفة بشأنها.
6 - أنها تتمتع بدرجة معقولة من الديموقراطية الداخلية تعرف تنافساً حقيقيا ومفتوحا أثناء الانتخابات التي تأتي نتيجتها معبرة عن أصوات الأغلبية من أعضاء الجمعية العمومية بما يسمح بالتجديد الدوري للقيادات بما يفوق الأحزاب السياسية .
3 - النقابات العمالية :
هذه النقابات تكمن قوتها فيما تضمه من عضويات كبيرة الحجم وقاعدة جماهيرية وشعبية واسعة مما يجعل الحكومة تنظر إليها كقوة عددية تحرص على وضعها جميعا في اتحاد يأخذ شكل بناء هرمي له تنظيم مركزي متدرج يبدأ بقواعد في شكل لجان في وحدات الإنتاج كالمصانع والمزارع ومؤسسات الخدمات……الخ. وتمارس تلك النقابات أنشطة تهدف إلى تامين حقوق العمال وحماية مصالحهم والارتقاء بهم إلى المستويات العالمية التي حددتها المواثيق والاتفاقيات الدولية والتي تعترف بحقوقهم في التنظيم والتفاوض الجماعي بهدف التوصل إلى اتفاقات جماعية مع أصحاب الأعمال والمشروعات بشأن الأجر المناسب وعدد ساعات العمل والتأمينات الاجتماعية ...الخ .
وتعود نشأة أول تنظيم نقابي للعمال في مصر إلى أول إضراب عرفته البلاد عام 1899 نظمه العمال من لفافي السجائر بالقاهرة تلاه إنشاء أول نقابة عام 1900 كان للأجانب وخصوصا اليونانيين دور كبير فيها ثم تفرعت عنها عديد من التنظيمات مثل جمعية اتحاد عمال الخياطينعام 1901 وجمعية عمال السكك الحديديةعام 1908. وقد بلغ عدد النقابات في عام 1911 إحدى عشر نقابة ضمت ستة آلاف عامل كما أصبح للعمال المصريين دور أكبر في هذه التنظيمات.
وبعد ثورة 1919 خاضت النقابات العمالية صراعا مريرا من اجل الحصول على الاعتراف القانوني بها والذي تأخر حتى عام 1942 دون أن يمنع ذلك من نشأة عديد من النقابات والاتحادات العمالية خلال نفس الفترة .
والتنظيم النقابي العمالي في مصر حاليا يقوم على مبادئ الوحدة والمركزية وهو الاتحاد العام لنقابات عمال مصر الذي يضم بداخله 23 نقابة يبلغ عدد أعضاؤها جميعا 3313068 عضوا حسب تقديرات عام 1995 .ويسعى الاتحاد لتنسيق جهود العمال وجمع كلمتهم حول أرضية مشتركة من المطالب العمالية .
4 - اتحادات وجمعيات رجال الأعمال:
وتعتبر هذه المنظمات من أهم صور جماعات المصلحة التي تمارس دورا حيويا في الحياة الاقتصادية والسياسية وتسعى للتأثير على الأوضاع الداخلية حيث توجه نشاطها لحماية ما تقوم به من استثمارات ودعم للقطاع الخاص وتأثير على القرارات الاقتصادية بما يتفق مع أهدافها ، وهو ما يجعلها تجمع بين أكثر من دور في نفس الوقت. فهى تؤدى دور أداة الضغط على الحكومة لحماية مصالحها من ناحية ودور أداة مساعدة الحكومة في تنفيذ السياسات والقرارات الاقتصادية من ناحية ثانية، بما يزيد من مشاركتها في عملية التنمية .
ومن الطبيعى أن ترحب الحكومة بدور هذه الجمعيات فى دعم برامج التنمية وأن تسعى الى إزالة العقبات والصعوبات تعترض أعضاءها سواء كانت نابعة من مشكلات قانونية أو من الطبيعة البيروقراطية لبعض الإجراءات التي قد تتسبب في تعطيل نشاطهم .
أضف إلى ذلك، الدور المتزايد لرجال الأعمال في المجال الاجتماعي من خلال الإسهام في تمويل أنشطة بعض الجمعيات الأهلية والخيرية وتوفير بعض الخدمات للفئات الضعيفة والمحتاجة كالتعليم والعلاج والإسكان وتأهيل المعاقين ….الخ سواء مجاناً أو بأسعار رمزية بما يسهم في نهوض المجتمع ككل ويخفف من العبء الذي تحمله الحكومة .
وقد كانت أول صور هذه التنظيمات في مصر هي الغرف التجارية التي نشأت عام 1910، وتلاها اتحاد الصناعات المصرية الذي تأسس عام 1922 لتحقيق هدفين هما : العناية بالمصالح المشتركة للقائمين على الصناعة من جانب، ومعاونة الحكومة في رسم سياسة صناعية للبلاد من جانب ثانٍ. وقد قام هذا الاتحاد فعلاً بدور نشط في الدفاع عن مصالح الأعضاء بما يحقق الحماية للصناعة المصرية في مواجهة المنافسة الأجنبية .
وفي عام 1951 أخذت الغرف التجارية شكلاً أوضح ثم تأسس اتحاد عام يجمعها عام 1955 للتنسيق بين جهودها والتحدث باسمها لدى السلطات العامة. وقد ارتبط ظهور أشكال جديدة من هذه التنظيمات بالبدء في تطبيق سياسة الانفتاح منذ السبعينيات حيث تأسس في تلك الفترة عدد من الجمعيات منها المجلس المصري الأمريكي لرجال الأعمال عام 1975، وجمعية رجال الأعمال المصريين عام 1977، والغرفة الأمريكية للتجارة عام 1978 ، وجمعية مستثمري العاشر من رمضان عام 1986 ، وغيرها من مجموعات مستثمري المدن الجديدة واتحادات البنوك والمصدرين والمستوردين .
وتنوعت أساليب تلك المنظمات في التأثير عبر الندوات والمؤتمرات واللجان التي تعبر عن وجهة نظرها مثل لجنة التعامل مع المعونة الأميركية ولجنة متابعة عملية التحول إلى القطاع الخاص،..وغيرها .
وفي عام 1992 تأسس أحدث صور هذه الجمعيات تحت إسم اللقاء المشترك بين منظمات رجال الأعمال في مصر باعتباره يمثل كافة رجال الأعمال من الواضح ومن القيادة السياسية في مصر حريصة على إشراك تلك المنظمات معها في تنفيذ كثير من المشروعات القومية الكبرى، فضلا عن اصطحاب رئيس الجمهورية لهم في زياراته الخارجية وجولاته التي يسعى خلالها لتوسيع آفاق الاستثمار الأجنبي وتحقيق المزيد من التعاون مع أصحاب رؤوس الأموال الوطنية الخاصة وجذب رؤوس الأموال والمدخرات التي يملكها المصريون في الخارج .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق