مجموعة اليسر للتدريب والاستشارات تأمل من زوارها الكرام المشاركة في الاستطلاعات التي تجريها بفعالية نظرا لفائدتها العالية
مجموعة اليسر للتدريب والاستشارات هي شركة تضامن لبنانية مسجلة تحت الرقم 489 تتنشط في مجال الدورات التدريبية والمؤتمرات العلمية والتربوية والاجتماعية والادارية والثقافية والتنمية والارشاد الاسري والاجتماعي ، واصدار المنشورات المتخصصة ، وتقديم الاستشارات في المجالات المذكورة وتوقيع الاتفاقيات مع الجامعات والمؤسسات والشركات الوطنية والعالمية على انواعها والقيام بالاستطلاعات والابحاث العلمية والدراسات المتخصصة في لبنان والخارج - نتمنى لكم زيارة ممتعة

09‏/12‏/2010

hعترافات علماء الاجتماع ( عقم النظرية وقصور المنهج في علم الاجتماع )

المؤلف : الدكتور أحمد خضر
الناشر : المنتدى الإسلامي. طبعة أولى عام 2000م 
من المعروف أننا نحن العرب نفاخر بان العلامة "عبد الرحمن بن خلدون" هو المؤسس والأب لعلم الاجتماع، وقد نما هذا الفرع وتوسع وانتشر وأصبح علما مستقلا بذاته، وتقوم عليه أبحاث علمية، ونجد هذا العلم من أساسيات أي كليات أدبية أو إنسانية وقلما نجد جامعة شهيرة لا تدرس هذا العلم. وعلم الاجتماع مادة مطلوبة من جميع الدارسين مهما كانت تخصصاتهم، وعليهم أن يلموا بشيء من هذا العلم .
ولكن الدكتور أحمد خضر مؤلف "كتاب اعترافات علماء الاجتماع" له نظرة أخرى، فهو يسعى لدحض فكرة أن هناك علماً اسمه "علم اجتماع"، ويذكر المؤلف أن هذا العلم ليس له وجود علمي، وإنما  هو مجموعة من الأفكار الشاطحة والمرذولة أحيانا، وأنه لا يستقيم كعلم، ويسعى في كتابه هذا ان  يقنع القارئ بدراسته هذه التي تنفي وجود علم اجتماع والغريب في الأمر أن المؤلف ليس جديدا أو غريبا أو دخيلا على علم الاجتماع، فهو أحد الدارسين له  والمدرسين فيه، وتلقى تعليمه من مصادر العلم في مصر وأوروبا ودرس في الولايات المتحدة الأمريكية، وخرج بهذه القناعة التي وضعها في كتابه، ويقول في مقدمته: "إننا لسنا بحاجة إلى علم اجتماع لا في شكله العام، ولا فيما يسمى اليوم بعلم الاجتماع الإسلامي أو أسلمة وتأصيل علم الاجتماع". 

ولكن ما هو هذا العلم الذي يدرس في كل الجامعات وله كليات منفصلة في كثير من الجامعات؟  وبماذا نسميه ؟ يقول الدكتور أحمد خضر في الفصل الثامن والذي وضع عنوانه "علم الاجتماع نزعة علمية مزيفة " : "كان أكبر وهم غرقنا فيه منذ اللحظات الأولى التي درسنا فيها علم الاجتماع  وحتى الآن هو: (النظرة إلى علم الاجتماع على أنه علم). ولو كان أساتذتنا حددوا لنا أنهم يقصدون بعملية (علم الاجتماع) أنه علم بالمعنى الواسع للكلمة، أي: (المعرفة) لخفت حدة المشكلة نوعا ما، لكنهم أكدوا لنا أنه علم بمعنى أنه منهج متخصص ووجهة نظر مشابهة لتلك التي للعلوم الطبيعية، وأنه وإن نشأ في أحضان الفلسفة فإنه الآن قد تحرر منها". ويجيب عن تساؤل القارئ عن ماذا نسمى رجالات الفكر الاجتماعي؟ وما ذا نسمي ما سبق أن كتب في هذا الموضوع؟ يجيب إجابة كافيه للسؤال فيقول في ص 128 " إن نشأة علم الاجتماع لم تكن نشأة علمية، وإن علماء الاجتماع الأوائل كانوا يلبسون ثوب الفلاسفة الأخلاقيين، وما كتب لأفكارهم البقاء إلا لأنه نظر إليها على أنها فكر يحل المشاكل. لم تكن الأفكار والمفاهيم التي صاغها كبار علماء الاجتماع الأوائل نتيجة تحليل علمي كما نفهمه هذه الأيام. كان هؤلاء الكبار يعتمدون على الحدس والتخمين العميقين. كانوا يستجيبون لما يدور حولهم كما يستجيب الفنان.  ولا يقف الدكتور أحمد خضر على إبداء رأيه هو بل يستند في دعواه هذه إلى العشرات من الشهادات العلمية والتي أدلى بها رجالات هذا العلم ذاته.
والمؤلف يأخذ كثيرا من أبحاث الأستاذ محمد عزت حجازي ويستشهد بأقواله وهو يقول : "يجب أننسلم بحقيقة بسيطة وهي أنه لا يوجد شيء اسمه علم محايد، وإذا كان هذا يصدق على العلم عامة، فإنه يصدق على علم الاجتماع بدرجة أكبر".

يقدم دراسته الشيقة هذه في واحد وعشرين فصلا ويختمها بهذا العنوان المثير للتفكير:هل تحتاج  بلادنا إلى علماء اجتماع؟
إن موضوع الكتاب يكفي للإجابة عن هذا السؤال بلا، ولكن المؤلف يستعين بأقوال كتاب ومفكرين آخرين ويقدمها للقارئ ليقنعه بما يراه، فيقدم رأي الصحفي : سعد الدين إبراهيم الذي يقول في ص 316 " نادرا ما يجد طالب المعرفة إنتاجا سوسيولوجيا يطفئ ظمأه لفهم الواقع العربي المعاصر بصورة منضبطة أو موضوعية أو شاملة أو حتى جزئية … ويواصل سعد الدين حملته على علم الاجتماع ويقول: إن "علينا الاعتراف بأن مجتمع المشتغلين بعلم الاجتماع في بلادنا لا يشكل مجتمعا مهنيا حقيقيا، وإنما هم جماعات مصالح، وشلل تتصارع مع بعضها، ويسيطر أحدها على الآخر، وإن تنشئتهم المعيبة أدت بهم إلى اللامبالاة والسلبية، وعودتهم على الوصولية والانتهازية. 
ولابد للقارئ أن يتساءل عن ما هو العلم الذي يدرس بدلا من هذا العلم الملغي : يقول الدكتور  خضر: إنه يجب تدريس الإسلام، فالإسلام هو العلم الشامل الكافي لحراسة المجتمع ونموه وتطويره، وهذا الإسلام قادر على تشخيص أمراض المجتمع وعلاجها. 
الكتاب يحتاج إلى علماء الاجتماع ليردوا عليه فان اتهاماته للعلم ذاته قوية وتحتاج إلى عالم آخر  يستطيع أن يرافع مرافعة علمية عن هذا العلم المتهم بالضبابية! 
ونحن نقدم للقارئ الفصل الأول من هذا الكتاب ليتعرف بنفسه على أفكار الكاتب ومداخلاته التي بنى عليها أفكاره المغايرة لما هو معروف عن علم الاجتماع.

الفصل الأول
علم الاجتماع: شعوذة الأزمنة الحديثة
هناك عدة حقائق أقر بها رجال الاجتماع في بلادنا وفي بلاد الغرب:
الحقيقة الأولى: هي أن علم الاجتماع هو شعوذة الأزمنة الحديثة. أقر بهذه الحقيقة الطاهر لبيب الأستاذ بالجامعة التونسية في معرض حديثه عن موقف بعض المجتمعات الغربية من علم الاجتماع، وتخوفه من نقل هذا المفهوم إلينا، ودعا غيره من رجال الاجتماع إلى الحد من الانبهار الساذج والتوكل الكلي على علم الاجتماع كمواقف تجعل منه عصا سحرية علمية.
من المسلم به أن علم الاجتماع يساعد على بلورة اهتمامات وقيم الطلاب الذين يلتحقون بأقسام الاجتماع بتوقعات وأمال عريضة، يريدون أن يلمسوا قضايا المجتمع الحقيقية، فيجدون أن المحاضرات والمؤلفات والكتب والمداولات والنقاشات تنتمي إما إلى مجتمعات غربية أو شرقية، وفوق هذا لا يجدون في المقررات الدراسية والأنشطة العلمية ما يروي غليلهم، فيصابون بالإحباط وخيبة الأمل، ثم يفاجئون بأن سني أعمارهم ضاعت في شعوذة باعتراف أساتذتهم وأئمة أساتذتهم من علماء الغرب، ومما يؤكد لهم ذلك أنهم يتخرجون فيجدون أنفسهم غير فاهمين للمجتمع، وعاجزين عن التعامل معه في ضوء ما تعلموه.
الحقيقة الثانية: هي أن تدريس علم الاجتماع في بلادنا لا يعد ضرورة من ضرورات المعرفة والواقع، وأنه لو ألغي هذا الاختصاص من جامعاتنا فإن غيابه لن يكون نقصاً ولا تخلفاً معرفياً.
أقر بهذه الحقيقة الطاهر لبيب أيضاً. كما أقر بها كذلك سعد الدين إبراهيم الأستاذ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. اعترف سعد الدين إبراهيم بأنه لو افترض أن اختفى كل علماء الاجتماع العرب فجأة فإنه لا شيء يمكن أن يحدث للمجتمع سلباً أو إيجاباً.
أقر هذا الأستاذ أيضاً بأن الرغبة (وليس الضرورة) هي مبرر ظهور علم الاجتماع وعلماء الاجتماع، وهي مبرر وجوده ووجودهم، واستمراره واستمرارهم. أقر كذلك بأن الفهم الذي يقدمه علم الاجتماع ليس هو الفهم الوحيد، وإنما هناك أفهام أخرى قديمة وحديثة، بمعنى أن علم الاجتماع ليس هو العلم الوحيد الذي يحتكر تقديم الفهم عن المجتمع. شارك محمد الجوهري الأستاذ بجامعة القاهرة سعد الدين إبراهيم في ذلك، وقال: إن علم الاجتماع لا يستطيع تقديم صورة كاملة وشاملة عن الإنسان والمجتمع، وأن تصوره لهما جزئي ويمثل وجهة نظر واحدة. وأقر غيرهما من رجال الاجتماع أن دور علم الاجتماع في بلادنا هزيل ومنحصر في التلقين والتدريس خلف أسوار الجامعة، وأنه ليس إلا صورة مرتعشة مهزوزة لمنتج مهزوز تم في مجتمعات أخرى، ولصالح مجتمعات أخرى – ضد مصالحنا بالطبع -، غير قادر على متابعة التغيرات التي تحدث في مجتمعاتنا ذاتها. الناس في بلادنا – بما فيهم الجهات الحكومية والمؤسسات الخاصة – لا تضع هذا العلم، وأهله في مكانة رفيعة، ولا تسند إليهم مهام إجراء بحوث أو اقتراح حلول أو المشاركة في اتخاذ قرارات، وكيف يسند إليهم ذلك والناس ترى ضحالة ما يعالجونه وسطحية ما يعالجونه، إلى درجة أن منهم من كان يدرس (القهوة العربية السادة) ووظيفتها الاجتماعية عبر التصورات المنهجية والأطر النظرية للباحثين الغربيين.
يقر رجال الاجتماع في الغرب بأن علم الاجتماع ليس صادقاً كميدان للمعرفة، وأن 95% من دراساته بالأشكال غير المنطقية من السلوك، ورغم ذلك فإن هذا لم يمنعهم من وضع أغلب أحكامهم في إطار منطقي. المفاهيم في علم الاجتماع تعالج كحقائق بسيطة بدون معنى ثابت وواضح. كل مفهوم في علم الاجتماع له العديد من المعانـي.
الحسن والقبيح ليس بأنماط مختلفة من السلوك، وإنما هما درجات مختلفة لاسم واحد. الطـلاق، الانتحـار، السفاح، وأبناء الزنا، كل ذلك مفاهيم ذات ظلال مختلفة، لها معان واسعة. القبيح في علم الاجتماع قد يصبح حسناً، والحسن قد يصبح قبيحاً. ليس هناك من اتـجاه اجتماعي يمكن أن يستمر في نفس الخط دون نهاية.
حديث رجال الاجتماع عن التنبؤ مبالغة غير منطقية، فعلماء الغرب – أصحاب هذه القضية ذاتها – يعترفون بأنه لا يمكن التنبؤ بالمستقبل في أي زمن، ولا أحد يعرف ما الذي سيحدث غداً، وأفضل ما في جعبة علم الاجتماع لا يستطيع أن يضمن ذلك.
البناء الفكري العام لرجال الاجتماع في بلادنا يتميز بالتشتت والتشوه. يغيرون أفكارهم مع تغير سياسة الدولة، ومع انتقالهم من مجتمع عربي إلى آخر يدفع أكثر. إنهم يعترفون بأنهم غير قادرين على تشخيص واقع مجتمعاتهم تشخيصاً دقيقاً. إنهم مشغولون بانتماءاتهم الأيديولوجية، يخشون على مستقبلهم المهني، ومهاجمة بعضهم البعض، ينفون عن بعضهم البعض ما يسمونه بالقيم العلمية والأمانة والدقة، ويتهمون بعضهم بعضاً بالاستسهال والتمركز حول الذات، وتجاهل أعمال الآخرين، وإعادة إنتاج ما سبق إنتاجه، والإخلال بما يسمونه بأسس البحث العلمي النظري والمنهجي والميداني واللغوي، والتخلف عن متابعة الإنتاج العالمي. كل منهم يدعي أنه بداية العلم الحقيقي وحامل شعلته، يتهمون بعضهم بالتبعية وهم من ناقليها... إلخ.
الحقيقة الثالثة: هي أن النزعة العلمية في (علم الاجتماع) نزعة مزيفة، وأن الشروط العلمية التي حددها العلماء في أي معرفة لكي تكون علماً لا تتوافر في علم الاجتماع.
إن هـذا العلم مرتبط بأسماء أشخاص معينين، هم الذين اخترعوا نظرياته ومدارسه، يرجع إليهم دائماً وليس إلى علم محدد. إنه ليس بعلم دولي ولا بالمعنى الدقيق لكلمة علم. نشأة علم الاجتماع ليست نشأة علمية، وأصحابه لا يشعرون في قرارة أنفسهم بأنهم علماء. استخدام (علم) الاجتماع لمناهج العلوم الطبيعية وللإحصاء وللرياضيات لم يحقق له خصائص العلم. لم يتحقق حلمه في التوصل إلى القوانين التي تحكم حركة المجتمع. الأحكام التي توصل إليها احتمالية ترجيحية تعكس أهواء مطلقيها وميولهم ومصالحهم.
الحقيقة الرابعة: هي أن علم الاجتماع (علم) عقائدي ليس بالمحايد، وأنه استعماري بطبيعته، وذو صلة بأعمال المخابرات، هدفه الأول ضرب الدين والعقيدة بصفة عامة، والإسلام وشريعته بصفة خاصة.
أقر (جاك. بيرك) بأن علم الاجتماع علم استعماري، وأقر رجال الاجتماع في بلادنا بأن علم الاجتماع أعد بحثاً وتدريساً ليكون عقل رجال الاجتماع العرب تابعاً للعقل السوسيولوجي الغربي سواء في منهجية التفكير أو تصور مهام علم الاجتماع، وأنه حينما رحل الاستعمار من بلادنا ترك وراءه من الترتيبات المؤسسية والفكرية ما يعيد سيطرته وهيمنته والتبعية له. وفي المغرب العربي كان علم الاجتماع في خدمة الاستعمار الفرنسي، وارتبط ارتباطاً مباشراً بأجهزة المخابرات. تركزت أهدافه منذ نشأته في محاربة الإسلام وشريعته، وتشجيع ملامح الحضارة المغربية ما قبل الإسلام. ساهم علم الاجتماع في تحقيق الأهداف الفرنسية الرامية إلى تعميق الهوة بين العرب والبربر، والعمل على تطوير البربر في اتجاه الحضارة الغربية وليس الإسلام. عمل على إعادة تركيب وتنظيم حياة المغرب العربي في ضوء المرئيات الاستعمارية. اهتمت المؤسسات الأمريكية في بلادنا اهتماماً خاصاً بترجمة مراجع علم الاجتماع الغربي التي تحتوي أفكاراً مضادة للدين وللعقيدة. أشرفت مؤسسة فرانكلين على سبيل المثال على طبع كتاب (المجتمع) لمؤلفيه (ماكيفر وبيج)، لاقى هذا الكتاب رواجاً كبيراً. نظر هذا الكتاب إلى تفسيرات الدين على أنها تفسيرات جامحة لابد أن ينقيها العلم. دعا إلى دين عالمي من صفاته أنه دين بلا جهاد، ولا يقوم على مبدأ الإيمان أو الكفر. نظر المؤلفان إلى الدين على أنه يفرق الشعوب ويقطع أوصال الشعب الواحد، ويعتبر أنه عقيدة ضيقة الأفق غير متسامحة لا تستند إلى العقل. يريد المؤلفان ديناً بلا سلطة أخلاقية، لا يحدد القواعد الخلقية للناس، لا يمنع الاحتكار ولا الربا، يسعيان إلى أخلاق تحررية تنبثق من ضمير الفرد. روج المؤلفان للمذهب الإنساني الذي يعني التخلي عن أحكام ما فوق الطبيعة المتعلقة بالخلق، والجنة والنار.. ويجتمع الناس على قواعد الأخلاق الاجتماعية وليس على أساس الدين والمعتقدات. الإنسان في علم الاجتماع هو ناتج الواقع يحدد له مصيره وينشئه ويحركه كيف يشاء، ولهذا فإن عليه أن يخضع لقوى المجتمع ومعاييره. والإنسان في علم الاجتماع أيضاً هو خالق الواقع كما أنه ناتج له في نفس الوقت. المجتمع يصنع الإنسان، والإنسان بدوره يصنع المجتمع. دراسة المجتمع عند بعض العلماء تبدأ من الفرد وفي داخل الأفراد وليس في أي نطاق آخر يمكن العثور على النظم.
المعنى الحقيقي لعلمية علم الاجتماع هو عدم إقراره بوجود قوة أوجدت العالم وسيرته وتحركه وفق إرادتها. إنه لا يرتبط مطلقاً بما هو روحي وما هو ديني. الروحي والديني أحد موضوعات دراسته، يتحكم هو فيها ولا تتحكم هي فيه، إنه (علم) ولهذا لا يؤمن إلا بالملاحظة والتجربة العلمية.

مصادر علم الاجتماع الثلاثة هي نفس مصادر الحضارة الغربية: المنهل اليوناني الروماني، والمنهل اليهودي المسيحي، والبيئة الأوربية ذاتها.
علماء الاجتماع الغربيون يرون أن الغرب كان يعبر عن نفسه يوماً بالدين. أما اليوم فإن الدين عندهم (معتقدات عتيقة)، ولهذا استعان الغرب بالعلوم الاجتماعية كبديل عن هذه المعتقدات العتيقة، وتحول الدين عندهم إلى موضوع للبحث الاجتماعي والتاريخي، وإلى تراث يمكن إخضاعه للدراسة. خاض علم الاجتماع معركته ضد الدين ووصف علماؤه هذه المعركة بأنها بالغة القسوة والضراوة، وتصوروا أن النصر الحاسم كان حليفهم.
البناء الحالي لعلم الاجتماع يرجع بصورة أو بأخرى إلى الأفكار التي صاغها رواد مبكرون مثل (باريتو) الإيطالي، (ودور كايم) الفرنسي، و (ماكس فيبر) الألماني. الأول (كاثوليكي)، والثاني (يهودي)، والثالث (بروتستانتي).
كانت لكل واحد منهم الرغبة في أن يكون عالماً، وكانت العلوم تمثل بالنسبة إليهم فكرة النموذج الذي يهيء التفكير المحدد أو التفكير الصحيح، وهم كعلماء اجتماع كانوا يرون أن المجتمعات يمكن أن تحافظ على تماسكها من خلال معتقدات مشتركة، إلا أنهم وجدوا أن هذه المعتقدات قد اهتزت نتيجة نمو التفكير العلمي خاصة في الوقت الذي ظهر فيه أن هناك تناقضاً متزايداً بين الدين والعلم لا يمكن حسمه. اعترف الثلاثة بوجود هذا التناقض.
انتمى ( دور كايم ) إلى التفكير العلماني، ووجد أن التفكير الديني لم يعد قادراً على مواجهة ما أطلق عليه: الروح العلمية. كما رأى أن أزمة المجتمع الحديث تكمن في أنه لم يستطع استبدال الأخلاقيات القائمة على الدين بأخلاقيات قائمة على العلم، وكان يرى أن علم الاجتماع يستطيع أن يعاون في إقامة هذه الأخلاقيات.
أما ( باريتو ) فقد كان يصر طوال حياته أن يكون عالماً، وقاده هذا الإصرار إلى تكرار قوله بأن القضايا التي يمكن التوصل إليها عن طريق المنهج التجريـبي هي وحدها العلمية، وكل القضايا الأخرى وخاصة الأخلاقية والميتا فيزيقية ليس لها أي قيمة علمية.

كان ( ماكس فيبر ) ينتمي إلى عائلة دينية، لكنه كان غير مؤمن وإن أبدى احتراماً عميقاً للعقيدة الدينية. صُنِّف ( فيبر ) من قبل علماء الاجتماع كفيلسوف وجودي.
فرضت مشكلة العلاقة بين العلم والدين نفسها على الرواد الكبار الثلاثة، قال(دور كايم): (إن العلم يستطيع أن يفهم الدين وأن يفسر قيام معتقدات دينية جديدة).
(باريتو) أجاب على المشكلة بطريقة ساخرة فقال: (لا تحفل بالدين ؛ لأن الرواسب لا تتغير، وسوف تنشأ معتقدات جديدة دائماً ).

أما (فيبر) فقد كان يرى أن التناقض قائم بين مجتمع يقوم على العقلانية وبين الحاجة إلى الاعتقاد والإيمان، يقول فيبر: (إن الطبيعة كما يفسرها العلم وكما تعالجها التكنولوجيا ليس فيها متسع لسحر الدين وأساطيره القديمة. يجب أن ينسحب الإيمان ليعيش في عزلة مع الضمير).
وجه العلماء الثلاثة النظر إلى علم الاجتماع كمفهوم لعلم الفعل الجمعي، ورأوا أن الإنسان كمخلوق اجتماعي وديني هو خالق القيم والنظر، وأن الدين لا يمكن أن يكون أساس النظام الاجتماعي مرة أخرى.
هذا بالنسبة للرواد الكبار. أما العلماء المعاصرون فقد ساروا في نفس منهج هؤلاء الرواد. (تالكوت بارسونز)من أبرز علماء الاجتماع المعاصرين الذين أحدثت نظرياتهم دوياً شديداً في أمريكا وأوربا على السواء. ولا يخلو كتاب في علم الاجتماع في بلادنا من الإشارة إليه والكتابة عنه. كان (بارسونز) يرفض الدين بعنف. ويقول (روبرتسون) في مقالته عن تالكوت بارسونز والدين (Sociological Analysis, 1982, p. 283): (إن حديثنا عن الدين يعني العودة لموضوع رفض باسونز الإيمان به بثبات، وأنه بالرغم من عدم إيمانه بالدين فقد كتب فيه ما لم يكتب أي عالم اجتماعي آخر، وساهمت دراساته عن الدين في توجيه الباحثين الآخرين بدرجة ساعدتهم على فهم الدين بالرغم من أنه لم يدرسه وصولاً إلى الحقيقة، وإنما درسه من زاوية علاقته مع المظاهر الأخرى للحياة الإنسانية).
ويقر رجال الاجتماع في بلادنا بأن (ماركس) كان واحداً من المفكرين الكبار الذين ينسب (بارسونز) إليهم أطره النظرية.
اعترف العلماء الغربيون بأن إخضاع الدين للدراسة العلمية من شأنه أن يحطم الإيمان الديني، ويعني نهاية الدين ؛ لأن الافتراض الأساسي الذي قامت عليه قضايا علم الاجتماع هو: العلم المحسوس، والخبرة الحياتية، والدراسات الإنسانية بكاملها، تقوم على مبدأ أن حل مشكلات الإنسان تكمن في داخله وفي فهمه لنفسه قبل أن تكمن في خارجها، ومن ثم حدث انفصال واضح بين الواقع والقيم حتى في البحوث الاجتماعية تحت دعاوى الموضوعية والدقة المنهجية.
قام رجال الاجتماع في بلادنا بنفس ما قام به علماء الغرب، فطبقوا الفكر العلمي على قضايا الإنسـان والمجتمـع والدين، ففهموا الإسـلام في ضوء التراث الغربي،فخرجوا لنا بصياغات غريبة عن الشكل الأول للدين، وقالوا إن الدين يجب أن يبدأ بتجربة حسية، وإنه يمكن رده إلى عنصر معروف حولنا، وإن الناس هم الذي يضفون على الظواهر الطبيعية قداسة من عندهم حيث يثير فيهم مشاعر غير عادية. قالوا لنا إن الدين انبثاق من الواقع بأبعاده السياسية والاقتصادية والتاريخية. اعتبروا (الله) فكرة وحـالة نفسية. أطلقوا نفس المصطلحات الغربية على كل ما يتعلق بالدين، مثل: 
(المتعالي، وما فوق الطبيعي، والطقوس... إلخ). تحول الإسلام عندهم إلى دين يكرس الطاعة لتقاليد جامدة. والمؤمن عندهم مثقل بالتقاليد الدينية التي ترسخت في عصور التخلف. التفكير الغيـبي عندهم تفكير سلفي رجعي مغرق في متاهات الماضي. أطلقوا على النبي صلى الله عليه وسلم صفة (الكارزمية) ـ كما أسماها (ماكس فيبر) ـ، بمعنى أنه يملك جملة من القدرات الخارقة للعادة، وأن له موهبة السلطة والزعامة والقدرة على تحريك الأحداث والأفراد في الطريق الذي يريده، وأن المسألة ليست مسألة وحي من الله بقدر ما هي صفات خاصة له. النبي عندهم ينشر دعوته نتيجه لإحساس أو هاجس عميق بمأساة الإنسان والمجتمع في عصره.
العلوم الاجتماعية ليست علوماً محايدة، إنها علوم عقائدية. لا يوجد هناك شيء اسمه علم محايد، وإذا كان يصدق ذلك على العلم عامة فإنه يصدق على علم الاجتماع بدرجة أكبر. أقر بذلك ( عزت حجازي )، وأقر به ( غالي شكري )، ونقله ( حيدر إبراهيم ) عن ( إدوارد سعيد ) الذي سلم بأنه ما من أحد ابتكر أبدا طريقة لفصل الباحث عن ظروف الحياة وعن حقيقة انشباكه، واعياً أو لا واعياً، في طبقة ومعتقدات ومنزلة اجتماعية. 
النظريات الغربية ـ كما يقول ( عادل حسين ) ـ نظريات عنصرية تقوم على الإحساس بالتفوق والهيمنة، تبرز سيطرة الغرب الأقوى على النظام العلمي المستند إلى تقسيم دولي ينظر إلى التنظيمات الاجتماعية غير الغربية بأنها أدنى، وغير قابلة للتجديد والتطور، وأن على الغرب مهمة تاريخية هي العمل على تحديث العلم وتمدينه.الحضارة عندهم احتكار للبيض الذين هم أرقى الأجناس. الغرب هو الغاية الوحيدة للتقدم الإنساني عند ( دور كايم )، وتفوق الغرب مسلمة من مسلمات ( ماكس فيبر ).
صورت لنا العلوم الاجتماعية على أنها علوم عالمية تقوم على الموضوعية، وتعتمد على قاعدة قوية من المعلومات عن سائر المجتمعات البشرية. وهذا تصور أو إدعاء غير صحيح؛ لأنها تعتمد فقط على خبرة المجتمعات الغربية وحدها. قبلنا النظريات الغربية في بلادنا على أساس أنها علم، تعتمد على المنهج العلمي الذي يقوم على الاستقراء والملاحظة لا على الحدس والميتافيزيقا والقول المأثور. صورت لنا النظريات الغربية – كما يقول (جلال أمين) – على أساس أنها تتجاوز حدود الزمان والمكان وواقع الأمر، إنها كانت تنقل لنا تحت ستار العلم قيم العالم الغربي وأفكاره ليس لصالح العلم وإنما لصالح دول الغرب. تخلينا عن ديننا وعن عقيدتنا وعن تصوراتنا عن الكون والإنسان والحياة واستبدلناها بقيم الغرب وأفكاره وتصوراته وأخلاقياته، لنكتشف في النهاية أن ما يدعونه بالنظريات الغربية لا علاقة لها بالعلم.
"الإنسان هو محور الكون"، العمل يجب أن يكون منطلقاً من الإنسان وليس من الله، "هذه هي النقطة المركزية في كل النظريات الغربية. وهذا في حد ذاته يتناقض جذرياً مع المسلمة الأولى في حياتنا وهي أن الله هو محور الكون"، نقطة الانطلاق تبدأ منه وتنتهي إليه.
الحقيقة الخامسة: أن رجال الاجتماع في بلادنا لا ينتجون علماً حقيقياً: وإنما يستوردون الأفكار ويستهلكونها دون تبصر كما يستهلكون قطع غيار السيارات وأجهزة التكييف. النظريات التي يدرسونها في قاعات المحاضرات ذات أهمية فقط في البلاد التي نشأت فيها، وليس لها أهمية في بلادنا، نقلت إلينا دون إعمال الفكر في مدى انطباقها على أوضاعنا، ولم تفرض عليها أي تحفظات عند تدريسها، تعكس نظرة وأيديولوجية وفلسفة مجتمعاتها دون سواها.
هناك أربع مراحل كبرى للتطور العالمي الذي طرأ على علم الاجتماع لا شأن ولا دخل لنا بها.
المرحلة الأولى: بدأت منذ حوالي الربع الأول من القرن التاسع عشر في فرنسا أهم من أسهموا فيها سان سيمون وكونت.
المرحلة الثانية: هي الماركسية التي تبلورت في حوالي منتصف القرن التاسع عشر وعبرت عن جهد معين للارتقاء بتراث المثالية الألمانية وإدماجه بنماذج أخرى من التراث كالاشتراكية الفرنسية وعلم الاقتصاد.
المرحلة الثالثة: تمثل علم الاجتماع الكلاسيكي الذي تطور قبل الحرب العالمية الأولى، وهي مرحلة توفيق وإدماج بين الوضعية والماركسية.
المرحلة الرابعة: هي مرحلة الاتجاه الوظيفي البنائي الذي تبلور في الثلاثينيات في الولايات المتحدة عن طريق جماعة من الدارسين الشبان أمثال بارسونز وكنجزلي دافيز وغيرهما.
هذا التطور نحن لا شأن لنا به، ورغم ذلك فإن مؤلفات رجال الاجتماع في بلادنا تنقل لنا فكر هذه المراحل وتترجمه لنا، الرسائل الجامعية تعج به تشكلاً ومضموناً ولغة وطريقة في التفكير. ولأن بلادنا يتمتع فيها الأجنبي بامتيازات لا حدود لها، ترسخ في شعورنا احترام مبالغ فيه لكل منجزات الأجنبي، فسهل عليه أن يبيع بضاعته الفكرية كما يبيع بضاعته المادية، وصور لنا فكره على أنه نتاج إنساني عام أو ثمرة للتقدم المادي الذي لا ينتسب لحضارة دون أخرى أو ثقافة بعينها، وسهل عليه إخفاء تحيزاته وميوله ونزعاته 
التي طبعت إنتاجه المادي والفكري. في هذا الجو قبلنا كل ما أنتجه هذا الفكر الغربي والهزيمة النفسية تملؤ حياتنا _ على حد قول جلال أمين _.
سار رجال الاجتماع في بلادنا وراء التقسيم المعروف لنظريات علم الاجتماع: نظريات الصراع، ونظريات التوازن، وتباينت رؤى باحثينا بين هذين الاتجاهين من النظريات.
في القاهرة والرباط وتونس وبغداد ودمشق واليمن ودول الخليج نشاط ملحوظ ومسموع لرجال الاجتماع الذين يتأرجحون بين هذين الاتجاهين. ينقلون هذه الأفكار ويعرفون بأن دورهم هو دور النادل الذي يقدم الطعام دون أن تكون له أية مسؤولية في ظهوره. فهم لم يشاركوا في صياغة هذه النظريات التي تبنوها ويرددونها بشكل آلي. يبررون أخذهم لهذه النظريات بأن الحضارة الإنسانية لا تتوقف عن المسير، ونحن نعطي لها ونأخذ منها، ونسترد بعضاً من وديعتنا، عندها وتحت هذا الستار شوهوا الحقائق والتاريخ، فقالوا: إننا أخذنا من الإغريق فأبدعنا حضارة عربية إسلامية زاهرة، وإنه بإمكاننا أن نرسم خطوات الحركة لمستقبلنا في أي اتجاه نشاء في ضوء ما نتعلمه منهم.
النتيجة المحزنة التي وصلنا إليها أن كل ما كتب عن مجتمعاتنا العربية والإسلامية انطلق من مفاهيم غربية، وما كانت الماركسية والدور كايمية والفبرية والوظيفية إلا نتاجاً لتاريخ المجتمعات الغربية، وأصبح تمركزنا حول هذه المجتمعات واضحاً وبيناً. تحركت بحوثنا الاجتماعية في ضوء هذه النظريات، وأضاع باحثونا أوقاتهم وجهودهم في بحوث منطلقها أجنبي، فحصلوا الحاصل وانقطعت أنفاسهـم لإثبات بديهيات نائية منذ عهد بعيد، ونقلوا لمجتمعاتنا استنتاجات تحققت فعلاً في مجتمعات أخرى وفي ظروف متباينة عن ظروفنا.
أقر رجال الاجتماع في بلادنا بهذه الحقائق الخمس، ولكنهم لا زالوا يأملون في أن استخدام علم الاجتماع سوف يمكنهم من تحقيق أهداف وأنماط ثقافية معينة. لا زالوا يأملون من علم الاجتماع أن يجيبهم عن كل ما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية، والتنظيم، والتشريع، ومناهج التعليم، وإعادة صياغة وبناء العلاقات، والقيم، والنظرة إلى الحياة،.. ومواجهة كل المعوقات، والرواسب، والمشاكل، وتشكيل وعي الناس... إلى آخر هذه القائمة من الأماني التي لم ولن تتحقق أبداً.
العديد من رجال الاجتماع في بلادنا تعلموا في الولايات المتحدة، وعادوا إلينا بهذه الأماني. ذهبوا إليها على أنها البلد المسؤول عن التقدم العلمي في كثير من ميادين العلوم الاجتماعية المطلوب تحقيقها في بلادنا. لننظر ما يقوله الأمريكيون أنفسهم. 
يقر الأمريكيون إن الآلاف المؤلفة من البحوث الاجتماعية التي أجروها ونشروها لا قيمة لها من وجهة النظر العلمية، وأنها لم تضف جديداً إلى رصيد المعرفة الإنسانية. إنهم ينفقون ملايين الدولارات على البحوث الاجتماعية ويشجعون الباحثين الاجتماعيين بالمنح الضخمة، وينتهي كل ذلك إلى ركام من الحقائق الجزئية التي لا رابط بينها.
يعترف الأمريكيون بحرصهم على الوضعية المتعصبة، وبأنهم يفصلون المفاهيم عن القيم الدائمة، وأن الكثير من الذي يدرس في علم الاجتماع غير ذي فكر عميق. يقول القليل عن أي شيء يتعرض له، وأنه أشبه بحوض فقاعات كبير مقبول ظاهرياً. لا يدخل أي من موضوعاته تحت إطار التحقيق العلمي المعتنى به. كتب المداخل في علم الاجتماع تجمع رطانات عديدة والقليل منها هو الذي يعطي تفسيرات منطقية جادة.
يقر العلماء الأمريكيون بأن علم الاجتماع الأمريكي يعاني من فقر في استخدام الحقائق والخبرات التاريخية، والافتقار إلى الارتباط بالأحداث الكبرى المهمة، وأنه يعبر عن خبرة المجتمعات الأوربية أكثر مما يعبر عن خبرة المجتمع الأمريكي نفسه. يقوم علم الاجتماع الأمريكي على حسابات رياضية، ويهمل التحليل، ويجمع الحقائق طبقاً للمفهوم الشعبي والتفسيرات الشعبية. توسع الأمريكيون في إعداد علماء اجتماع ولم يصاحب ذلك ارتفاع في المستوى العلمي. هناك أكثر من عشرة آلاف عالم اجتماع أمريكي لكل منهم علم الاجتماع الخاص به.
هذه هي اعترافات علماء الاجتماع الأمريكيين، فماذا يقول رجالنا الذين تخرجوا من تحت أيديهم؟
الماركسية سقطت في مهدها، لكن الماركسيين في بلادنا باقون. وأبلغ رد عليهم هو سقوط أيديولوجيتهم جهاراً نهاراً، ورغم ذلك لا زالت عندهم قناعة بها. يرفضون الدين والعقيدة. ينظرون إلى العقيدة على أنها جامدة سرمدية. المتدينون عندهم يخفون روحاً عدوانية، ويستخدمون قوى اجتماعية وسياسية يحمون بها مصالحهم. يفرقون بين ما يسمونه بالثقافة العـربية وبين الثقافة السائدة التي يقصدون بها الإسلام، يؤمنون بالأولى، أما الثانية فهي عندهم دخيلة ومفروضة، اضطر مجتمعنا إلى قبولها بوعي وبلا وعي. وسعوا مفهوم التراث حتى لا يفهم منه مجرد الدين والعقيدة، وليميزوا بين ما يسمونه بالأصيل والدخيل من التراث. رغم أن كل همهم هو كسر احتكار الفكر الغربي وعدم التقيد بمفاتيح التحليل الغربي، فإنهم يعتبرون أن المعركة الحقيقية لهم هي مع الإسلاميين التي ستنتهي عندهم إما بانتصارهم أو بانتصار خصومهم.
الماركسية – كما يقول (جرامشي) -: نظرية فلسفية عن العالم، تضم العناصر الأساسية الضرورية لإقامة تصور كلي وشامل عن العالم. وهي في نظره فلسفة شاملة ونظرية موجهة، وقانون لكل ما يحتاجه المجتمع لكي يحقق تنظيمه المنشود، ورسالتها المقدسة إقامة حضارة جديدة.
يفرق الماركسيون في بلادنا بين الماركسية وعلم الاجتماع الماركسي، وإن كان بعضهم لا يعترف بالأخير. المهم هنا أن نبين الآتي:
إن أحدث ممثلي مدارس علم الاجتماع مثل (هايبرماس) و (فيلمر) قد تخلوا عن الماركسية. أما (كورش) الذي كان قد صاغ المبادئ الأساسية للعلاقة بين الماركسية والنظرية الاجتماعية المعاصرة في مقال شهير له في عام 1937 فقد تخلى عن الماركسية في أواخر حياته، وقال ما نصه: (لم يعد من المفيد الآن طرح قضية الصدق النظري لكتابات ماركس وأنجلز ، ذلك أن كل المحاولات التي سعت إلى إعادة صياغة النظرية الماركسية على نحو تتلاءم مع أهداف ثورة الطبقة العاملة قد باءت بالفشل).
كما اعترف بعض الباحثين الماركسيين من رجال الاجتماع في بلادنا بالآتي:
(1) إن الفكر الماركسي قد عجز عن ملاحقة التغيرات المتلاحقة، ومن ثم فقدت مفاهيمه وتصوراته قدرتها على تفسير المواقف المختلفة.
(2) إن السبب في جمود الفكر الماركسي يعود إلى ضيق نطاقه وجمود مفاهيمه ومقولاته.
ومثال ذلك الآتي:
أولاً:إن علم الاجتماع الماركسي فشل في تفسير التغيرات التي طرأت على البناء الاجتماعي في البلاد الرأسمالية، حيث تطور النظام الرأسمالي في غير الاتجاه الذي تنبأ به ماركس.
ثانياً: إن علم الاجتماع الماركسي قد عجز عن فهم التغيرات التي حدثت في المجتمعات الاشتراكية ذاتها، والتي يخضع الاقتصاد والصناعة فيهما لسيطرة الدولة، فأدى هذا إلى الشك في الأهمية التي أعطاها ماركس للملكية الخاصة.
ثالثاً: عجز علم الاجتماع الماركسي عن فهم قضية استغلال الدول المتقدمة للدول المتخلفة، فبالرغم من أن شعوب العالم الثالث تمثل بروليتاريا عالمية، وأن الطبقة العاملة في الدول المتقدمة تشكل طليعة النضال عند ماركس، فإن الأخيرة تشارك في عملية استغلال قرينتها في هذه الدول المتخلفة.
ورغم هذا الفشل على المستوى النظري والعملي محلياً ودولياً فما زالوا يأملون في انتصار شعوذتهم.

abuiyad

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق