أن بنية التنظيم تعد العنصر الأساسي بالنسبة إلى الدولة، و يصعب تصور قيامها بمعزل عن المؤسسات التي تسعى من خلالها لإنجاز الوظائف المنوطة بها، مما يجعل المؤسسة في موقع الفاعلية التي تنطوي على خصائص متناقضة فهي من جهة تتمتع بسلطة مستمدة من الدولة تستطيع من خلالها استقطاب الأفراد و السيطرة عليهم و فرض العقوبات بحق المقصرين منهم أحياناً، وبحق الخارجين عن الدولة أحياناً أخرى، في الوقت الذي تحتاج فيه هذه المؤسسات إلى هؤلاء الأفراد، و إلى الجهود التي يملكوها لضمان أدائها الأفضل.
ومن المستحيل وجود الأفراد بمعزل عن المؤسسات التي تحتضنهم و يمارسون أفعالهم من خلالها، غير أن المؤسسات الحاضنة للفرد تأتي في كثير من الأحيان على درجة كبيرة من التنوع الذي قد يجعل منها متناقضة بين بعضها بعضاً من جهة، و بينها و بين المؤسسات التي تجسد وجود الدولة من جهة أخرى.
و العمل بمؤسسات الدولة ترافقه صعوبات و تحديات قاسية تستمد قوتها من سعة الفروق بين طبيعة مؤسسات الدولة، و طبيعة المؤسسات غير الرسمية، فإذا بلغت هذه الفروق حد التناقض تزداد سلطة الدولة و سيطرتها، و قد تندفع إلى ممارسة العنف و تضعف فعاليتها و تتلاشى شرعيتها، فيتغلب شكل الدولة على مضمونها.
في ضوء هذا التصور يصعب تحليل بنية الدولة بمعزل عن مكوناتها المؤسسية، كما تصعب إمكانية النظر إلى الفرد بمعزل عن المؤسسات التي أنتجته.
أهمية البحث في الأداء التنظيمي لمؤسسات الدولة في المجتمع العربي الراهن:
حيث تزداد أهمية المسألة التنظيمية و الإدارية بالنسبة إلى مؤسسات الدولة مع التحولات الاقتصادية و الاجتماعية الكبيرة التي يشهدها العالم المعاصر، وتشهدها اقتصاديات الدول عامة، ودول العالم الثالث بشكل خاص، فغدت التحديات الاقتصادية والاجتماعية و السياسية و الثقافية التي تجابه الدولة أكثر حجماً مما كانت عليه في الماضي، و أكثر خطورة لما يترتب عليها من نتائج تمس بنية المجتمعات المحلية و أبعدا التنظيمات الاجتماعية فيها.
أولاً تحديد موضوع الدراسة:
تجمع الدراسات العربية المعاصرة على مسألتين أساسيتين، تكمن الأولى في التأكيد على ضخامة التحديات المجتمعية التي تهدد بنية المجتمع العربي على مختلف الأصعدة و المستويات، وتظهر المسألة الثانية في التأكيد على عجز مؤسسات الدولة، الإدارية منها والإنتاجية و الخدمية و ضعفها أمام هذه التحديات، و عدم قدرتها على استثمار طاقاتها الفعلية.
ففي المجال السياسي:
يجد الحبيب الجنحاني أن هذه المؤسسات قد انهارت تماماً، و شبكات المافيا تتصف بأنها ذات تأثير قوي في القرار السياسي، كما أصبح الحديث عن المجتمع يعني الحديث عن هذه الجماعات أو تلك، دون الاهتمام بالقضايا الاجتماعية الأساسية التي تعد من أهم المسؤوليات المنطة بالدولة الحديثة. و يظهر الضعف في أداء المؤسسات الاقتصادية في عدم قدرتها على الاستجابة العملية لتحديات العولمة و التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تجابهها في معظم الدول، وخاصة الدول النامية.
و يجد الدكتور عبد الخالق عبد الله أن العولمة في الوقت الراهن جعلت من النظم الاقتصادية المختلفة متقابة فيما بينها، أما الأسواق التجارية و المالية العالمية فإنها، وكما يقول مالكولم واتز لم تعد موحدة فحسب، بل خارجة عن تحكم كل دول العالم بما في ذلك أكبرها و أكثرها غنى،.
وتسهم النتائج المترتبة على انتشار ظاهرة العولمة في تحويل العالم كما يذهب عبد الخالق عبد الله إلى أن الأخلاق و القيم الإنسانية التي تتراجع تدريجياً، و تستبدل العلاقات السلعية و الربحية النفعية، و تحويل الأفراد إلى مجرد مستهلكين للسلع و الخدامت التي تروج على النطاق العالمي.
يرى حسنين توفيق إبراهيم أن الأداء التنظيمي للمؤسسات الاجتماعية تشهد تزايداً ملحوظاً في حدة المشكلات العابرة مثل المخدرات، غسيل الأموال، الهجرة غير الشرعية، العنف والإرهاب الدولي، شبكات المافيا، فـ دول العالم الثالثل أصبحت مهددة بضعف الهيمنة، وعلى الإدارات العامة والمؤسسات الحكومية و الاجتماعية أن تأخذ على عاتقها محاربة هذه الظواهر المخلة بالأمن الاجتماعي، و تهدد حياة الأفراد، و المواطنين على اختلاف شرائحهم.
في المجال التربوي:
يجد إبراهيم اليوسف أن فشل النظام التربوي يعود إلى سببين رئيسيين أولهما: المفهوم القاصر للتنمية، حيث اعتمدت الدول العربية المفهوم التنموي الاستيرادي، الذي يساعد الغرب على عولمة نمطه في التنمية بوصفه قد حقق نتائج مهمة، غير أن هذا الأسلوب يؤدي باستمرار إلى دخول الدول النامية في تبعية الحلقة المفرغة.
أما السبب الثاني فيكمن في الانفصال الحاد بين التنمية و التربية، الأمر الذي جعل التربية تقف موقفاً مناهضاً للتنمية و عملياتها الأساسية.
في المجال الثقافي:
يرى أحمد مجدي حجازي أن الإنسان العربي المعاصر يعيش عالمين متناقضين في آن واحد، ذلك أنه يحمل في شخصيته ثقافتين متباعدتين الأولى تراثية مفعمة بالمواطنة الأصلية، و أخرى عولمية، فلا يجد مخرجاً من هذا التناقض إلا أن ينكص إلى ماضيه و يتباكى عليه في الوقت الذي يسعى فيه إلى العصرنة المظهرية المصطنعة، فيصبح ممسوح الشخصية، فاقد الهوية.
يلخص الدكتور حسام الخطيب أبرز مظاهر المشكلة في نقاط عديدة من أهمها:
i. انبتات الثقافة العربية عن حركة الزمن، و تجمدها و عجزها عن مجاراة روح العصر.
ii. معاناة الثقافة العربية من الدونية من ناحية تبعيتها للثقافة الغربية، ومن ناحية استصغار ذاتها أمام هالة التراث الماضي، ومن حيث عجزها عن تحديد علاقتها بالطرفين.
iii. غياب الإبداع بمختلف أشكاله في الثقافة العربية.
iv. عقم الرسالة التي تؤديها الجامعات العربية.
و يدل ذلك على أن مؤسسات الدولة و تنظيماتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية و الثقافية أصبحت عاجزة عن مسايرة التقدم المشهود في العالم المعاصر، في الوقت الذي يزداد عجزها عن أداء وظائفها بمقدار ما تزداد أسضاً مظاهر سلطتها و هيمنتها.
ثانياً الدراسات السابقة و الأداء التنظيمي لمؤسسات الدولة:
إبراهيم شحاتة والإصح الإداري في البلدان العربية:
يأخذ بضرورة الإصلاح الاقتصادي والإصلاح الإداري ، ووجد شحاتة أن البلدان النامية تشهد منذ عقد الثمانينات أزمات اقتصادية مما دفع العدد الكبير منها إلى اعتماد سياسات إصلاح اقتصادية شاملة لمعالجة المشكلات الكلية للاقتصاد في الدولة بتخفيض النفقات العامة للدولة و زيادة دخلها ، وفتح مجال المنافسة الداخلية و الخارجية في الإنتاج و الخدمات والسماح بأسعار تعكس القيمة الاقتصادية و إجراءات أخرى تستهدف تحسين أداء الحكومة، ويرى أن الدول التي أخذت بتطبيق هذه السياسات دون تراجع استطاعت أن تحقق معدلات نمو أفضل بعد سنوات قليلة مثل كوريا و أندونيسيا و تايلاند.
أما الدول العربية تعاني من ارتفاع معدلات النمو السكاني، وارتفاع مستوى الإنفاق العسكري، وانتشار البطالة، فليس أمام الدول العربية سوى التخلص من هذه المشاكل بتحقيق معدلات نمو اقتصادي عالية من خلال خلق مناخ استثماري أفضل ليطمئن المستثمرون إلى أن أرباحهم لن تتلاشى بسبب التضخم.
أي في ظل أوضاع تسمح بالتوسع في فرص الاستثمار و نظم قانونية تحمي الملكية و تكفل احترام العقود، وأنظمة حكومية وإدارية تتمتع بحد أدنى من الاستقرار و الكفاءة.
يلاحظ الباحث أن كل الأجهزة الحكومية في الوطن العربي تعاني من العمالة الفائضة الناجمة عن الزيادات السكانية الكبيرة، و بنية نظام التعليم غير المعني بسوق العمل، وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي، وانتشار القيم الاجتماعية التي تأخذ مكاناً بارزاً في مسائل التوظيف والتعيين و الترقية وخلافه.
و يصنف الباحث أهم مظاهر الخلل في بنية الجهاز الحكومي مستعيناً بالتجربة المصرية:
1. الافتقار إلى النظرة الاستراتيجية الواضحة حول دور الجهاز الإداري.
2. الجمود الشديد في نظام التعيين و الترقية وإنهاء الخدمة.
3. تعدد الوزارات و الجهات المعنية بموضوع واحد أو قطاع واحد.
4. التوسع المبالغ فيه في المناصب الكبيرة والألقاب الكبيرة التي تسبغ على مناصب لا تناسبها.
5. المستوى المنخفض للمرتبات بصورة عامة ولمرتبات كبار الموظفين.
6. الانخفاض المستمر في القيمة الحقيقية للأجور التي لا تناسب زياداتها معدلات التضخم.
7. معاناة الجهاز الإداري من عجز شديد في المناطق النائية أو التي تتعامل مع الجماهير الكبيرة.
8. اعتماد أنظمة تشغيل لا تناسب قدرة الاقتصاد الوطني كضمان تعيين الخريجين.
9. انتشار ظاهرة الجمع بين العمل الوظيفي و أعمال أخرى تناقضه.
10.عدم الاهتمام بصيانة المباني الحكومية وعدم توفير المعدات و الأدوات المكتبية.
تظهر الدراسة أن مشكلة البحث تكمن في المسائل الإدراية، و أن الإصلاح الإداري يسهم بدرجة كبيرة في التقليل من حجم المشكلة، ومعالجتها مع الإشارة إلى أن عمليات الإصلاح الإداري لا يمكن فصلها عن عمليات الإصلاح الاقتصادي.
نيفين مسعد و مفهوم القيادة كمتغير في العملية السياسية:
يذهب إلى أن مسألة القيادة إنما هي مسألة اجتماعية ثقافية بالدرجة الأولى ويشرح العلاقة بين القيادة و الجماهير ويشير إلى ثلاثة تصورات:
الأول: أن العلاقة تقوم على تفاعل أساسه النفوذ، والذي يعني أن الحب والاحترام محور الطاعة و ركيزتها.
الثاني: أن التفاعل يقوم على أساس السلطة و الطاعة قائمة على مشاعر الخوف و الرهبة من الإيذاء.
الثالث: تسوده علاقة المساومة الذي يسبغ على العلاقة طابعاً مصلحياً تبادلياً.
فالجماهير هي التي تهيء للقائد مكنة القيادة وأسبابها، والجماهير تمتلك المشاعر والأحاسيس و القيم والأفكار والاتجاهات الأمر الذي يجعلها مؤثرة في القيادة وأشكالها، أما القائد فهو الذي يحدد الأهداف ويضع الوسائل و ينشط الهمم.
أما المؤسسات تكمن أهميتها بمقدار ما فيها من ترابط و تساند وظيفي يجعل التعامل مع القادة يتحول من تعامل مع الأشخاص إلى تعامل مع مؤسسات.
وفي إطار الفكر القيادي الموروث: يجد الباحث أن الوافد هو الأكثر إسهاماً في صياغة أدبيات القيادة ويشير الباحث في هذا الصدد إلى ثلاثة اتجاهات في ها المجال، الأول: تحري الفكر الوافد إطاراً ومقصداً ،و الثاني: تحري الوافد بغية تطويع مفرداته لظروف الواقع العربي الإسلامي، الثالث: رفض الوافد إطاراً ومقصداً في آن واحد.
و بعد تحليل الباحث للاتجاهات يخلص إلى تقرير ما يسميه ضعف الخصوصية العربية من حيث صعوبة تعبير الدراسات العربية عن هذه الخصوصية سواء في فروضها أو مفرداتها أوفي نتائجها. فالنماذج المعتمدة في التحليل، وهي في الجزء الأكبر منها وافدة لا تناسب الواقع العربي الإسلامي، مثل النموذجين الماركسي والفيبري لا تلائم واقع المشرق العربي بتحليل الشرائح الاجتماعية استناداً إلى المفهوم الطبقي.
تظهر الدراسة أن الدراسات الغربية المعنية بمفهوم القيادة لم تقدم تحليلاتها لهذا المفهوم على أساس من الخصوصية العربية، إنما استمدت مقولاتها الأساسية من النماذج الفكرية المتداولة في العلوم الاجتماعية الوافدة من التراث الغربي بالدرجة الأولى، الأمر الذي يقلل من إمكانية الاستفادة منها بشكل فعلي لفهم مشكلات القيادة السياسية في الوطن العربي.
أحمد الوافي و السلطة القبلية في المجتمع الموريتاني:
يتناول عملية انتقال السلطة من سيطرة القبيلة إلى الدولة الحديثة، يشرح الباحث في البداية وظائف القبيلة و سلطتها في مجتمع البيظان، فالمجتمع القبلي موزع بين مجموعات متعددة ضمن القبيلة و تتضافر الوظائف المنوطة بكل منها في توفير شروط الأمن و الدفاع، وهي محكومة بالعادات والتقاليد والأعراف والدين، كما تقوم جماعات الزوايات بوظيفة نشر العلم وتفسير القوانين والوظيفة القضائية ولها مكانة مرموقة في حياة القبيلة.
ويرى أنا مصدر السلطة يأتي من الأعراف و التقاليد و القيم السائدة و الدين فسلطة الأمير أو شيخ العشيرة تكون مقيدة بهذه الأعراف و التقاليد السائدة، و أساس البنية القبلية هو المصالح المشتركة بين الجميع، وإن انتقال السلطة قد يتم بوسائل سلمية ووسائل غير سلمية.
غير أن الأمر أخذ يختلف مع قدوم الاستعمار ممثلاً بالحملة الفرنسية وما يترتب من صراعات القبائل وحروب وانتشار السبايا والغنائم فلم يجد أبناء القبائل دفاعاً عن ثقافتهم غير تجنب كل مظاهر التحديث التي أتى بها المستعمر من اللباس وحمل الساعة، وحلاقة الرأس وتدخين السجائر و قاطعوا مدارس الأجانب، ومع إعلان الاستقلال و قيام الدولة الوطنية المستقلة أصبحت الأمور أكثر تعقيداً وسرعان ما أخذت المشكلة تظهر بوضوح بين القبائل والدولة، فأدلف الناس يتسابقون لكسب ولاء القبائل برغم تكوّن الأحزاب السياسية، غير أن هذه لم تستطع تعبئة الناس وتجنيدهم كما يفعل التنظيم القبلي.
تظهر الدراسة بعض نظاهر التناقض التي تعيشها الدولة العربية نتيجة كونها تستمد بنيتها من الثقافة الوافدة الغربية، في الوقت الذي لم تستطع فيه أن تؤدي الدور نفسه الذي تؤديه الدولة الغربية في مجتمعها من جهة، و لا الدور الذي كانت تؤديه السلطة القبلية في المجتمع التقليدي من جهة ثانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق