إدوارد سعيد
ت : صبحي حديدي
حين توفي في العام 1984 بمرض الـ "إيدز"، كان ميشيل فوكو في السابعة والخمسين، وكان المثقّف العامّ الأكثر شهرة في أوروبا، مثلما كان معروفاً تماماً على نطاق واسع في العالم. لقد عمل أستاذاً للفلسفة متجوّلاً في أماكن مثل تونس، وارسو، وأوبسالا حتى العام 1970، حين فاز بأحد كراسي التدريس في الـ "كوليج دو فرانس"، وهي موقع التدريس الأعلى صيتاً ونخبوية في فرنسا. ورغم أنّ الكلية تخلو من الطلاب المسجّلين الباحثين عن شهادات، فإنّ أساتذتها الخمسين يلقون محاضرات في وسع مَن يشاء الاستماع إليها، دون طرح أسئلة أو خوض مناقشة. كان كتابه الأوّل «الجنون والحضارة» لم يُترجم بعد إلى الإنكليزية في نصّه الكامل (وهناك ترجمة مختصرة)، ومع ذلك فقد تمتّع فوكو بجمهور شديد الانتباه في الأوساط الأكاديمية الأمريكية، وكانت كتبه العديدة المتعاقبة تشكّل بالنسبة إلى هؤلاء مصدراً ذا أهمية تاريخية ونظرية هائلة.
وفي كُتب مثل «نظام الأشياء»، «أركيولوجيا المعرفة»، «الانضباط والعقاب»، و«تاريخ الحياة الجنسية»، فضلاً عن بضعة مجلدات من المقالات والحوارات، قدّم فوكو آراء جذّابة وجدّ جديدة حول مسائل مثل تاريخ أنظمة الفكر، انتهاك القانون، الانضباط والحَجْر، فضلاً عن رفد التاريخ والفلسفة والنقد الأدبي بمصطلحات مثل الخطاب والقَوْل، والمجال المعرفي Episteme، والنَسابَة Genealogie، والحفريات Archiologie، والتي كان كلّ منها يزخر بالتعقيد والتناقض بحيث أنّ قلّة قليلة فقط من مقلّديه وتلامذته أفلحوا في استيعابها أو فهمها على نحو تامّ.
إدوارد سعيد وأعتقد أنّ من الصحيح القول إنّ أعمال فوكو لا تترك أيّ قارئ إلا وتؤثّر فيه أو تبدّله، وذلك لسببين. الأوّل هو أنّ كلّ كتاب، كما قال فوكو نفسه، كان بالنسبة إليه تجربة في الانغماس وسجن الذات داخل «تجارب محدودة» مثل الجنون والموت والجريمة، وكذلك بَذْل محاولة عقلانية لفهم «هذا التوريط للنفس» في تلك المواقف الصعبة. السبب الثاني أنّ أعماله كُتبت «في سلاسل: الأوّل يترك مشكلات مفتوحة يعتمد عليها الكتاب الثاني، الذي يستدعي بدوره كتاباً ثالثاً... بحيث كانت كلها متشابكة ومتقاطعة». وحتّى أولئك القرّاء الذين خلّف في نفوسهم درجة من النفور، بلغت حدّ الاشمئزاز، كانوا يشعرون أنّ إلحاح حجّته ظلّ شديداً إلى حدّ تَرْك انطباع دائم، في مختلف الأحوال.
وإذا كان من المبكّر تماماً القول إنّ فوكو كان شخصية راديكالية وقويّة مثل شخصية نيتشه، فإنّ الفيلسوف الألماني الثوري كان الكاتب الأقرب إليه. وطوال معظم سنوات حياته درس فوكو أعمال نيتشه وعلّق عليها وفسّرها بروح من القرب النادر. وكتاب «السلطة» (1) يحتوي على مقالة طويلة بعنوان «الحقيقة والأشكال القضائية» يأخذ أفضل أقسامها صيغة تأمّل رفيع حول فكر نيتشه.
وهذا المجلّد هو الإضافة الأحدث إلى كتابات فوكو المنشورة بعد وفاته، في ترجمة إنكليزية متوسطة (وأحياناً دون المتوسطة). ففي أعقاب وفاته بادر اثنان من أخلص أصدقاء فوكو إلى جمع كامل أعماله القصيرة المتنوّعة في أربعة مجلدات ضخمة نشرتها غاليمار بعنوان «Dits et Ecrits, 1954-1988». وتمّ اختيار عدد من موادّ طبعة غاليمار لتظهر مترجمة إلى الإنكليزية في ثلاثة مجلدات. ولقد رُتّبت، حسب محرّر السلسلة بول رابينو، أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة بيركلي، كما يلي، واستناداً إلى اقتباسات من فوكو: المجلد الأوّل بعنوان «الأخلاق»، حول «السبيل الذي يختاره الآدمي في تحويل نفسه أو نفسها إلى ذات»، أي إلى نَفْس أو أنا؛ المجلد الثاني بعنوان «علم الجمال، المنهج والإبستمولوجيا»، والذي سينتظم حول تحليل فوكو لطُرُز التحقيق التي تحاول منح نفسها مرتبة العلوم»؛ والآن المجلد الثالث، «السلطة»، حول «مَوْضَعة الذات في ممارسات تقاسمية»، أو «علاقات السلطة» كما يقول رابينو. وأتكهنّ أن عبارة «ممارسات تقاسمية» تعني الوجهة التي يتميّز فيها علم النفس عن علم الأحياء كعلم مثلاً، وكذلك وجهة كون الأنا المفكّرة أو العالِم الفرد شخصية قناعية مختلفة في مواقف مختلفة.
وبالنسبة إلى القارىء غير المدرّب تحتاج الملاحظات التمهيدية ذاتها، رغم فائدتها، إلى فكّ شيفراتها لأنها إنما تراهن على تآلف القارئ مع مجمل عالم البحث الفلسفي الذي ورثه وتبنّاه فوكو. خذوا مصطلح «الذات» مثلاً. كانت الفلسفة الأوروبية الكلاسيكية من كانط إلى ديكارت قد افترضت أنّ الأنا الثابتة والمستقلّة (كما في «أنا أفكّر، إذن أنا موجود») هي على التوالي مصدر وأساس كلّ معرفة. وعمل فوكو لا يدحض هذا فحسب، بل يبيّن أيضاً كيف أنّ الذات إنشاءٌ تجمّعَ بأناة على مرّ الزمان، وأنها قابلة لأن تكون ظاهرة تاريخية عابرة تُستبدل في العصور الحديثة بقوى لاشخصية عابرة للتاريخ، مثل رأسمال ماركس أو لاوعي فرويد أو إرادة نيتشة. وكلّ هذه القوى الإيضاحية يمكن أن تتكشّف عن وجود «نسابة» تقدّم تواريخُ فوكو حفرياتها العديدة.
ودراسات فوكو تزوّدنا بالدليل على هذا التفكيك، بالإضافة إلى تبيان الكيفية التي جعلت مؤسسات اجتماعية جبّارة متنوّعة، مثل الكنيسة والصحّة العامّة والمِهَن الطبية والقانون والشرطة فضلاً عن سيرورات التعلّم ذاتها، تبني وتدير السلطة التي تحكم الدولة الغربية الحديثة. وما يهمّ بالنسبة إليه ليس الفرد الكاتب أو الفيلسوف، بل النشاط اللاشخصي المتواصل الذي يسمّيه الخطاب، بقواعد تشكّله وإمكان حدوثه. تلك القواعد تعني أنّه يتعيّن على مستخدِمي الخطاب حيازة مؤهلات أكاديمية - فضلاً عن معرفة تقنية متخصصة- لا يستطيع أيّ كان امتلاكها أو توفيرها.
وهكذا، وفي سبيل الإسهام في الخطاب الطبّي مطلع القرن الثامن عشر، توجّب على المرء أن يفكّر بمصطلحات محدّدة للغاية، أو محدودة، لكي يكون قادراً على تشكيل أقوال مطابقة للخطوط الموصوفة مسبقاً، بدلاً من حرّية إبداء ملاحظات مباشرة وفورية تتطابق مع مرض المريض الفعلي. وفكرة فوكو الهامة هي أنّ «الصحة» و«المرض» ليسا ضمن الحالات الثابتة، وليسا ضمن مسائل الحقيقة والواقع، بل هما تُشكَّلان دائماً من ملاءمة نمط «التحديقة» الطبية التي يملكها الطبيب، سواء أكانت تشخيصية، عقابية، متعلّقة بالعناية الإلهية، أم إحسانية.
الحقيقة ليست مطلقاً ثابتاً، يقول فوكو باستفزاز، بل هي أثر من آثار الخطاب العلمي الذي يقيم تمييزاً تشغيلياً بين الحقيقة والزيف. وكلّ هذا يعتمد كيفية تمكّن الشبكات المكوَّنة اجتماعياً، مثل المستشفيات والمستوصفات والمخابر والمدارس الطبية والإدارات الحكومية، من القيام بوظائفها معاً وفي مختلف المراحل التاريخية، التي يجهد عمل فوكو من أجل إماطة اللثام عنها، مرحلة مرحلة، وخطوة خطوة. والنتيجة الصافية ليست أقلّ من تاريخ للحقيقة وقد نُظر إليه كفنّ في الحكم في نهاية المطاف.
واضح تماماً من خلال هذا التلخيص الموجز أنّ اهتمام فوكو بمسائل مثل علم الجريمة أو المرض العقلي أو حتى علوم مثل الفلسفة ونظرية الاقتصاد، يمكن ردّه إلى افتتانه طوال حياته بالحَجْر والعقاب والإدارة الدقيقة للتفاصيل من جانب سلطة تلميحية تارة وطغيانية طوراً. ومجلّد «السلطة» حافل بمقالات وحوارات تبيّن، بمصطلحات مقنعة وحاذقة، الطريقة التي كانت تتيح لشخصية سيادية من عصر النهضة، مثل الملك أو الكاردينال، الاختفاء ببطء تدريجي من أجل معاودة الظهور في هيئة تفصيلات حقوقية تخصّ قانون العقوبات الذي تديره هيئات غير فردية، ومنظَّرو رقابة وعقاب من أمثال جيريمي بانثام، أو طوائف العلماء والخبراء الذين يحرسون «ميادين» سلطتهم بيقظة حاسدة ضدّ الدخلاء. وفي حين أنّ لويس السادس عشر أخضع أحد المتآمرين على قتله لتعذيب بطيء حتى الموت على مرأى منه، فإنّ أصحاب السلطة الحديثين مبعثرون على مختلف أنماط النسيج الاجتماعي، غير مرئيين، غير مشخصَنين، ولكنهم ليسوا أقلّ قسوة حين يتّصل الأمر بالتعامل مع المخالفين ومنتهكي القانون. لا أحد أكثر من فوكو درس اشتغالات أنظمة السلطة هذه، وسبيل تحوّلها كلّها إلى أوضاع قابلة لـ «القياد». ولا أحد أكثر منه فهم المخاطر التي يجلبها على النظام عصاة من أمثال [المركيز دو] ساد، ونيتشه، ومالارميه، وسواهم من كبار الفنّانين منتهكي المألوف.
وترد إلى الذهن مشكلات ومسائل عديدة عند قراءة فوكو، غير أنّ شيئاً واحداً لا يرقى إليه الشكّ أبداً: لقد كان باحثاً مذهلاً، ورجلاً تقوده «المعرفة التي لا تكلّ» كما أسماها بنفسه. ولعلّ أكثر مقاطع مجلّد «السلطة» إدهاشاً ذاك الذي يحمل عنوان «حيوات رجال شائني السمعة»، وهو مقدّمة قصيرة كتبها فوكو خصيصاً من أجل مجموعة من سجلات الحبس في القرن الثامن عشر (هي قيود أقسام الشرطة على الأرجح)، حول رجال ونساء أُدينوا بجرائم مروّعة، مثل قتل الأطفال وأكل لحم البشر، والسفاح، وتقطيع الأوصال وما أشبه. وهذه السِيَر المصغّرة، يقول فوكو، هي «حيوات مفردة، تحوّلت إلى قصائد غريبة بمشيئة أقدار لا يعلم أحد كيف وقعت، هي ما قرّرتُ أن أجمعه على نحو أشبه بجمع رزمة من الأعشاب الجافة». في عبارة أخرى، هذه دُرَر نبشها بنفسه من سقط متاع المكتبات. وهؤلاء البشر، الذين لم يكونوا مجهولي الهوية تماماً، «تمكّنوا من ترك آثار ــ وجيزة، واضحة المعالم، ومُلّغَزة غالباً ــ وذلك عند نقطة احتكاكهم الفوري بالسلطة». وهو تداخل أنتج «مزيجاً من العناد الأسود والنذالة... حيوات يشعر المرء بتيهها وطاقتها المتّقدة طيّ الكلمات الناعمة مثل حجر أملس». وكما يكشف فوكو عن نزعة أدبية رفيعة، مستجيباً على نحو لامع لحيواتهم المرعبة نصف السرّية، كذلك فإنّ هذا الحضور القاتم على هوامش المجتمع يبدو مهدِّداً وأخاذاً في آن معاً.
هذه الممارسة لمخيّلة مركّزة على الهامشي والقابع في الظلّ، مسخّرة لأخلاق عمل متنسكة رائعة، هي التي ميّزت فوكو كفيلسوف ومؤرّخ. لقد رأيته يحاضر ذات مرّة في الـ "كوليج دو فرانس" مطلع ربيع 1978، حين كان يخاطب حشداً هائلاً ومتنافر الألوان يضمّ عليّة القوم، مروراً بالصفوف الأكاديمية، نزولاً إلى الصعاليك الباحثين عن مأوى. كان يرتدي قميصاً أبيض مزرّراً حتى العنق دون ربطة، وبدلة سوداء، ورأسه الأصلع تماماً (الحليق ربما) يلمع تحت الضوء الباهت، حيث خطا سريعاً، فجلس، وأخذ يقرأ من أوراقه المعدّة بعناية فائقة. كان أداؤه آنذاك رياضة في التنسّك الصريح المركّز، وكانت صرامة معرفته ومثابرته تجعل كلّ كلمة راسخة في موضعها. كان الموضوع يدور حول مبدأ الحكومة ـ والمحاضرة عن السلطة ـ في سياق منهاج يمتدّ طيلة العام ويتناول «الأمن، الأرض، والسكان». ورغم أنّ المناسبة تلك كانت قبيل اعتناقه الصريح للمثلية والتجريب على الذات في سنواته الأخيرة (الأمر الذي حقّق فيه بنفاذ جيمس ميللر، في كتابه «عذاب ميشيل فوكو»)، فإنّ المرء كان يستشعر في محاضرته طاقة مترابطة وهو يستعرض عنصر الرعَوي والأمني في الحكومة الحديثة، بحيث أنه كان - كما أشعر اليوم- يسلّط الضوء لكي يهدم فيما بعد.
ومن سوء الحظّ أنّ المادّة في مجلد «السلطة» ليست متساوية القيمة، لا في الطريقة التي تُقدّم بها، ولا في محتواها. ومن أجل إطلاق تعميمات مختصرة عن النقلات الاجتماعية والإبستمولوجية العامّة في العديد من البلدان الأوروبية، لجأ فوكو إلى تأكيدات عجيبة غير مدعومة يمكن أن تكون طريفة لفظياً، ولكنها لا تصمد أمام التمحيص، سواء بوصفها تاريخاً أم فلسفة. هنالك غالباً تصريحات ضخمة عن المجتمع ككلّ أو كهوامش، لا يسندها دليل أو برهان (يبدو أنّ فوكو أصيب بإدمانٍ موضوعة بدايات القرون، ولاح أنّ التاريخ عنده كان يسير في فترات مئوية فقط، يكون جزؤها الأوّل هو وحده مسرح الأحداث الهامة).
ما وجدته ذا قيمة عالية في هذا المجلّد كان المتعة غير المتوقعة لمقالات مثل «حيوات رجال شائني السمعة»، إلى جانب نقاش طويل رائع بعنوان «حوار مع ميشيل فوكو»، نُشر للمرّة الأولى في إيطاليا قرابة العام 1980. وهذا النصّ لا يتيح لنا أن نقرأه وهو يفصّل مسار فكره وعلاقاته مع «مدرسة فرنكفورت»، وفرويد، وماركس، وغاستون باشلار، وجورج كانغيليم (أستاذه الأساسي، ومؤرّخ العلوم الفرنسي البارز) فحسب، بل نعثر أيضاً على فرصة نادرة لكي نرى كيف يقوم ذهن عظيم وأصيل بإنتاج عمله وإنتاج نفسه في آن معاً، مبيّناً المسائل في سياق اكتشاف مشكلات جديدة في الفكر والحياة. وإنّ جمع فوكو المدهش بين الحيوية والتشاؤم يسبغ كرامة خاصة على عمله، وهو جمع يمكن أن يكون أيّ شيء آخر ما خلا التجريد المحترف.
إنّ ما يوقد تفكيره هو إدراكه المفزع أنّ «وعد عصر الأنوار ببلوغ الحرّية من خلال العقل انقلب رأساً على عقب، ونجمت عنه هيمنة العقل ذاته، الذي أخذ يغتصب أرض الحرية أكثر فأكثر». ذلك المأزق العالق هو الجوهر الحقّ لعمل فوكو. إنه، من وجهة أخرى أكثر إثارة، يصوّر المأزق الذي لاح أنّه تجلّى كذلك في مستوى معيّن من حياته الكثيفة المدهشة المتراصّة.
..................................
Power, Essential Works of Foucault, 1954-1984: Volume Three. Edited by James D.
Faubion; translated by Robert Hurley and others. The New York Press, 2000. 484 pp.
ومراجعة إدوارد سعيد نُشرت في صحيفة «نيويورك تايمز» ـ ملحق الكتب، 17/12/2000.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق