Violence symbolique, Symbolic Violence
برأي بيار بورديو، العنف الرمزي هو عنف هادئ، غير مرئي ومقّنع. (لكونه غير معروف بهذه الصفات، فقد نختاره بقدر ما نعانيه). هكذا فهو يميز فرض التراتبيات في المعارف المشروعة، والأذواق الفنية، وأصول اللياقة، الخ. هذا التعريف لا يأخذ إذاً في اعتباره التجربة الذاتية لمعاناة الفرد. ولكن توجد ظواهر سياسية عديدة، كبيرة الأهمية، ترتبط بشكل آخر من العنف الرمزي تسهل ملاحظته، أي الذي ينتج عن إيذاء تقدير الذات أو التمثيلات الجماعية للذات، فيشكل مصدراً لتراجع الهوية. هكذا مثلاً الخطابات المعادية للأجانب والعنصرية، أو أيضاً إظهار ألقاب التفوق التي تعتبر غير مشروعة (الاستعلاء الأرستقراطي عشية الثورة الفرنسية، الوطنية المتعصبة، إيديولوجيات الشعب المختار أو الطبقة الحاكمة).(1)
متعلقات
بيار بورديو(2)
بيار بورديو (1 أغسطس 1930 – 23 يناير 2002) عالم اجتماع فرنسي من المراجع العالمية في علم الاجتماع. بدأ نجمه يبزغ بين الأخصائيين انطلاقًا من الستينات وازدادت شهرته في آخر حياته بالتزامه العلني إلى جانب "المغلوبين". كان مصبّ عنايته تحليل إواليات تكرر التمرتبات الاجتماعية من جيل إلى جيل وذلك بتسليط الضوء على العوامل الاجتماعية والرمزية فيه.
العنف الرمزي
انتقد بورديو تغاضي الماركسية عن العوامل غير الاقتصادية إذ أن الفاعلين الغالبين ، في نظره، بإمكانهم فرض منتجاتهم الثقافية (مثلا ذوقهم الفني) أو الرمزية (مثلا طريقة جلوسهم أو ضحكهم وما إلى ذلك). فللعنف الرمزي (أي قدرة الغالبين على الحجب عن تعسف هذه المنتجات الرمزية وبالتالي على إظهارها على أنها شرعية) دور أساسي في فكر بيار بورديو. معنى ذلك أن كل سكان سوريا مثلا بما فيهم الفلاحون سيعتبرون لهجة الشام مهذبة أنيقة واللهجات الريفية غليظة جدًّا رغم أن اللهجة الشامية ليست لها قيمة أعلى بحد ذاتها. وإنما هي لغة الغالبين من المثقفين والساسة عبر العصور وأصبح كل الناس يسلّمون بأنها أفضل وبأن لغة البادية رديئة. فهذه العملية التي تؤدي بالمغلوب إلى أن يحتقر لغته ونفسه وأن يتوق إلى امتلاك لغة الغالبين (أو غيرها من منتجاتهم الثقافية والرمزية) هي مظهر من مظاهر العنف الرمزي.
الحقول الاجتماعية
إضافة إلى ذلك فالعالَم الاجتماعي الحديث مقسَّم في نظر بورديو إلى "حقول" أي فضاءات اجتماعية أساسها نشاط معيَّن (مثلا: الصحافة، الأدب، كرة القدم إلخ) يتنافس فيها الفاعلون لاحتلال مواقف الغلبة (مثلا: يريد الصحافي أن يشتغل في أنفذ جريدة وأن يحصل فيها على أجلّ منصب). فعلى غرار الماركسية إذن يرى صاحبُنا العالَم الاجتماعي نزاعيًّا بيد أنه يؤكد أن هذه الكفاحات مفرَّقة بين الحقول المختلفة وليست صراع طبقات على صعيد المجتمع بجملته فقط.
التطبع
ومن المفاهيم التي صاغها بورديو أيضًا مفهوم التطبع الذي يلعب الآن دورًا أساسيًا في كافة فروع العلو م الاجتماعية. فالفاعلون يطورون إستراتيجيات تركن إلى عدد قليل من الاستعدادات التي يكتسبها المرء بشكل لا شعوري في محيطه الاجتماعي والتي تمكِّنه من أن يكيف عمله مع ضرورات محيطه المعتاد (مثلا يطور الفلاح عقلية وعادات معينة سيطبقها على كل المشاكل التي يوجهه في حياته أمتّت بصلة إلى محيطه المعتاد أم لا) ولكل إنسان تطبعه الخاص الذي يختلف باختلاف الحقول التي هو طرف فيها وباختلاف الموضع الذي يحتله ضمن تلك الحقول.
التحليل الانعكاسي
كما أن بورديو شدد في آخر عقد حياته على ضرورة تحليل عالِم الاجتماع عملَه وخطابه ونشاطه تحليلا انعكاسيًا (ذاتيًا). بعبارة أخرى عليه أن يستعمل اكتشافات علمه ليغربل دوره وليكشف العوامل التي الناتجة عن تاريخه الشخصي وتطبعه والتي قد تؤثر على ممارسته العلمية وتشوش رؤيته للمجتمع دون أن يعي. ولذلك أصبح التحليل الانعكاسي في نظر بورديو شرطًا لكل عمل نزيه وموضوعي في مجال العلوم الاجتماعية.
أهم آثاره
فلا تزال أعمال بيار بورديو (أكثر من 30 كتابًا ومئات المقالات) تغذي فكر الباحثين وإن أُخذ عليها أحيانًا ميله إلى الحتمية.
سوسيولوجيا الجزائر (1958)
الورثاء: الطلبة والثقافة (1964)
التكرر: موادّ من أجل نظرية لنظام التعليم (1970)
التميز: نقد اجتماعي للأحكام (1979)
الحس العملي (1980)
معنى القول: اقتصاد التبادلات اللسانية (1982)
درس في الدرس (1982)
أقوال (1987)
أنطولوجيا مارتن هيدغر السياسية (1988)
قوانين الفن : تكوين الحقل الأدبي وبنيته (1992)
بؤس لعالَم (1993)
مسائل في علم الاجتماع (1994)
تأملات باسكالية (1997)
الغلبة الذكورية (1998)
علم العلم وانعكاسية (2001)
مداخلات سياسية 1961-2001 (2002)
تخطيط لتحليل ذاتي (2004)
بيار بورديو السوسيولوجي الغائب(3)
في إطار الفهم السوسيولوجي
يتميز بورديو عن سواه من علماء الاجتماع في أنه يمثِّل رؤية جديدة في الفهم تقوم على ربط ما هو ذاتي بما هو موضوعي؛ إذ لا وجود لذاتية مستقلة في فهم الواقع الاجتماعي، كما هو الأمر لدى ماكس فيبر أو تالكوت بارسونز، ولا لموضوعية قائمة بذاتها، بحسب ما بيَّن ماركس. والحقيقة الاجتماعية، تبعاً لذلك، في حال من الصراع، وبالتالي من التغير الدائم. والحقيقة الذاتية لا تُفسَّر ذاتياً، بل على أساس ارتباطها بالحقيقة الاجتماعية، أي على أساس أنها جزء منها. والتناقضات في المفاهيم غير منفصلة عن التناقضات في الواقع الاجتماعي. يميِّز فكر بورديو أن الذاتية التي يعيد إليها الاعتبار لا تشكِّل عنصراً من الحقيقة الاجتماعية وحسب، إنما تتصف بالحركة وبالإبداع. فهي التي تهب الواقع معنى جديداً وتؤدي إلى مفاهيم جديدة. ولهذا السبب فإن المفاهيم نسبية والحقيقة غير ثابتة أو أزلية.
يقترب بورديو من ماكس فيبر حين يعيد الاعتبار إلى العنصر الذاتي الفردي؛ إلا أنه يبتعد عنه حين يربطه بالحقيقة الاجتماعية والظروف الاجتماعية. ويقترب من ماركس حين يربط الذاتي بالموضوعي على أساس جدلي، ويبتعد عنه حين لا يقر بوجود حقيقة موضوعية قائمة بذاتها. لذا، لا تُعتبَر مقاربته "توفيقية" بقدر ما هي جديدة، تدعو إلى إعادة النظر في أمور كثيرة، كما تدعو إلى مناقشات وأبحاث وآراء جديدة.
ويؤكد بورديو على صفتي النسبية والتغيير في القانون، وعلى بعده التاريخي. فعلماء الاجتماع الذين يقولون بالقانون الأبدي يتجاهلون حقيقة أن أي قانون مرتبط بوعي محدَّد وتصورات محدَّدة، وتتغير حقيقتُه بقدر ما يتغير هذا الوعي أو تلك التصورات. وذاك ما دفع بعضهم إلى اعتبار أن ماركس يمنح الحقيقة الموضوعية أهمية على حساب الوعي الذاتي؛ في حين أن بورديو يمنح الوعي أهمية على حساب الحقيقة الموضوعية. واستناداً إلى ذلك، فإن العلم، بنظر بورديو، عبارة عن قوانين ذات اتجاهات تعكس أوضاعاً في لحظات معينة. وفي هذا الموقف، يقترب من جورج غورفيتش في مقاربته التجريبية للواقع. فلكي نكون على صلة وثيقة بالحقيقة الاجتماعية علينا أن ندرك طبيعة هذه الحقيقة المتبدلة بقوانين غير ثابتة. والجديد في موقف بورديو هو دور الوعي الذاتي في إلغاء القوانين وإحداث أخرى جديدة.
فما هو الدور الجديد الذي يحاول بورديو منحَه لعلم الاجتماع؟
نظراً لأهمية المعرفة الذاتية بالقوانين في الحصول على قدر أكبر من الحرية في تغيير الواقع الاجتماعي فإن المهمة الجديدة لعلم الاجتماع تتمثل في كشف الضرورة والقَدَر والمصير، أي في كشف الظروف الاجتماعية والتاريخية للقوانين، وفي مواجهة الإرادوية غير المسؤولة المتمثلة في التأكيد على حقائق يمكن أن تكون موضع تساؤل في لحظات مختلفة، وكذلك في مواجهة العلموية scientisme أو الادعاء بكشف قوانين علمية. وعلى علم الاجتماع أن يدرك وجود طوباوية معقلنة في كل اللحظات.
ما الذي يميِّز بورديو عن ماركس أو دوركهايم في شأن فهم الوقائع الاجتماعية؟
على العكس من ماركس ودوركهايم، يعتبر بورديو أن "الوقائع لا تتكلم عن نفسها"؛ أي لا وجود لوقائع اجتماعية قائمة بذاتها؛ بل إنها على علاقة جدلية بالوعي الذاتي، أو هي حتى نتيجة خيار ذاتي، معرفي وتقويمي، أي مرتبط بالقيم والتصورات الذاتية. ويعتبر بورديو أن هذا الخيار واضح في الحقول الاجتماعية المختلفة. ولن يتقدم العلم ما لم تحصل القطيعة مع النظرة الكلِّية والشمولية للأمور، أو مع القوانين العامة التي تحدِّد فهم أي واقعة؛ إذ عليه أن يركز على خصوصية الواقعة، أي على فهمها مباشرة.
وحول المشاكل العديدة التي يعانيها علم الاجتماع وتمنعه من الترسخ كعلم، يشير بورديو إلى العائق الأساسي، بل الخطر الرئيسي المتمثل في الاتجاه نحو النبوءة. فالعلم، في رأيه، لا يعبِّر – ولا يُفترض به التعبير – عن عقائد أو مذاهب، لأن ذلك لا يكشف الواقع أو الظواهر الاجتماعية فيه، بل يعمل على تغطيته وتشويهه وإبرازه على غير ما هو عليه. وكما هو معروف، فالدعوات التنبؤية ليست أفكاراً أو مفاهيم علمية؛ إذ لم تتشكل علمياً بواسطة مناهج علمية بقدر ما تتشكل من أفكار غامضة تعبِّر عن رغبات وتصورات ومطامع وأهداف. وإلى هذه المشكلة يمكن التحدث عن تعددية المعنى والنتائج السلبية التي تفضي إليها. وموقف بورديو هذا يعبِّر عن الرغبة في محاربة المناهج التقليدية التي ما فتئت مستمرة حالياً، وفي استخدام مناهج حديثة أكثر علمية.
وهو يعتبر أنه من غير الجائز أن يتوجَّه عالِم الاجتماع إلى أصحاب العقول البسيطة ليكسب رضاهم ومودتهم وتأييدهم له. فغايته ليست المعرفة العامية البسيطة، أو المعرفة العفوية الغامضة، إنما المعرفة العلمية التي تتجاوز المصالح الضيقة. وهو يدين في شدة موقف غير الاختصاصيين من علماء الاجتماع، لأن دور عالِم الاجتماع ليس التأكيد على أفكار غامضة وحقائق مشوشة، بل كشف ما هو موجود في الواقع وقول ما هو جديد.
وهو ينتقد الفهم الموضوعي التقليدي للوقائع الاجتماعية (تيار الحتمية) والفهم الذاتي (تيار الحرية المرتكز على إرادة الإنسان ووعيه)، داعياً إلى تجاوزهما معاً، لا لمجرد الرغبة في ذلك، بل لأن الواقع يؤكد هذه الحقيقة. ويتم التجاوز من خلال الدمج بين النظرية والواقع.
وفي هذا الصدد، لا تطال اتهامات بورديو الماركسيين فقط بل ماركس أيضاً. محور هذا الانتقاد أن الاقتصاد، كعامل، غير كافٍ في تفسير الواقع الاجتماعي، لأنه لا يوجد اقتصاد بحت، أو حقيقة اقتصادية بحتة، بل ثمة حقيقة اجتماعية متعددة الجانب. ويتميِّز موقف بورديو هذا بأنه ألقى أضواء جديدة على طبيعة الوقائع الاجتماعية والسياسية، وكشف أن تشكُّلها أو تشيُّؤها لا يحصلان بمعزل عن تصورات الأفراد وتصرفاتهم حيالها – وهو الاكتشاف المهم الذي أتى به. من هنا كانت دعوته إلى رفع الشبهة الذاتية عن علم الاجتماع من خلال استخدام مفاهيم وسيطة بين الذاتي والموضوعي، أي مفاهيم تشمل المعاني الذاتية والموضوعية معاً، تصف كيف تتموضع الذاتية، أو كيف تؤدي تصورات الأفراد ومواقفهم وآراؤهم إلى تشكُّل الوقائع الاجتماعية وتشيُّؤها؛ ومن ثم كيف تستبطن الموضوعية الذات، أو كيف تؤثر الشروط الموضوعية عليها، وكيف تتشكل المعاني.
وينتقد بورديو حالة التأرجح التي يعيشها علم الاجتماع بين "النظرية الاجتماعية" من دون ركائز تجريبية، والتجريبية من دون توجُّه نظري. وهذا الجديد هو ما يميِّزه عن سواه من علماء الاجتماع. وهو يقوِّم إيجابياً مبدأ ماركس في التحليل المتمثل في فهم الظاهرة الثقافية أو الاجتماعية انطلاقاً من شروطها التاريخية والاجتماعية، وكذلك مبدأ دوركهايم في تفسير الاجتماعي بالاجتماعي.
مفهوم العنف الرمزي
العنف الرمزي قضية محورية في أعمال بورديو. ففي معرض تعريفه بالدولة، يعطي العنف الرمزي معنى الضغط أو القسر أو التأثير الذي تمارسه الدولة على الأفراد والجماعات بالتواطؤ معهم. ويبرز هذا المعنى على نحو جليٍّ في التعليم الذي يمارسه النظام المدرسي لناحية الاعتقاد ببديهيات النظام السياسي، أو لناحية إدخال علاقة السلطة إلى النفوس كعلاقة طبيعية من وجهة نظر المهيمنين. وهو يعتبر رفض الاعتراف بممارسة العنف الرمزي محاولة للاستمرار في ممارسته. في تعبير آخر، يتجسد العنف الرمزي في البنى الموضوعية (من خلال القوانين التي تحفظ سلطة المهيمنين) وفي البنى العقلية "الذاتية" (من خلال مقولات الإدراك والتقدير التي تعترف بالهيمنة أو القوانين المفروضة). ويرى بورديو أن الدولة ليست مفهوماً مقدساً أو جوهراً قائماً بذاته، بل مفهوم ذو بعد اجتماعي. والاعتقاد بشرعية الهيمنة ليس فعلاً حراً وواعياً، كما يعتقد فيبر، إنما يعود إلى توافق مباشر بين البنى المُدخَلة التي أصبحت لاواعية وبين البنى الموضوعية.
رأس المال الرمزي
يعني رأس المال الرمزي، على ما يرى بورديو، القبول أو الاعتراف أو الاعتقاد بقوة أو بسلطة من يملك مزايا أكثر، أو شكلاً من الاعتراف بالشرعية، أو قيمة معطاة من الإنسان. ويرتبط هذا المفهوم بمبدأ السلطة ومبدأ التميُّز أو الاختلاف (في الخصائص) ومبدأ الأشكال المختلفة لرأس المال. ويدخل في مختلف الحقول وفي مختلف أشكال السلطة أو الهيمنة، أو في أشكال العلاقات. واعتبار الدولة مصرفاً من رأس المال الرمزي يُعتبَر بعداً جديداً من أبعاد الدولة.
التلفزيون وخلفه سلطان الصحافة
ينطلق بورديو من فكرة أن التلفزيون يشكل راهناً أداة للقمع الرمزي (نظراً للمستوى الثقافي أو المعرفي المتدنِّي للمشاهدين الذين يميلون إلى تصديق ما يعرض عليهم بعامة). وهو يأمل في أن يتحول التلفزيون إلى أداة للديموقراطية المباشرة لو تم رفع المستوى العلمي للمشاهدين وتقوية استقلالية التلفزيون عبر إدراك الإواليات التي تعمل على ضرب تلك الاستقلالية. والإواليات غير المرئية التي تُمارَس الرقابة من خلالها تجعل من التلفزيون أداة عظيمة لتثبيت النظام الرمزي (تواطؤ المتلقِّين والذين يمارسونه). وهكذا يغدو التلفزيون أداة لخلق الحقيقة وللتحكيم الاجتماعي والسياسي، وليس، كما يُدَّعى، أداة لتسجيل الواقع. وهو ليس ملائماً للتعبير عن الفكر أو الرأي؛ إذ يمنح أهمية للتفكير السريع وللغذاء الثقافي السريع المقترن بأفكار مسبقة. وحول هذا الموضوع يقدم بورديو أفكاراً للتحديد وللتحقق منها، بوصفها أموراً معقدة جداً لا يمكن معرفتها إلا من خلال عمل أمبيريقي مهم، ارتكازاً على ملاحظات من الواقع. كما أن الأفكار المقدمة تتعلق بالمجتمعات الغربية الأوروبية عامة والمجتمع الفرنسي خاصة.
الشتم كاف لتطليق الزوجة في موريتانيا(4)
كشفت دراسة جديدة قام بها الباحث الموريتاني الدكتور محمد محمود ولد سيدي يحيى أن الموريتانيين يختلفون في نظرتهم للعنف ضد المرأة وتقبلهم لدرجات منه فقد تبين أن التقاليد عند »البيظان« العرب الموريتانيين تعتبر أن العنف الرمزي »الشتم« كاف لتطليق الزوجة.
ونفس هذه التقاليد لا ترى بأسا في القسوة على البنت بغرض تأديبها من أبيها أو أخيها إذا أساءت التصرف، أو حتى إجبارها على الزواج من الزوج الذي تفضله العائلة.
بينما تميل المجموعات غير الناطقة بالحسانية (اللهجة المحلية) إلى تقبل تأديب الزوجة »الضرب« وتعتبره مفيداً لتحقيق الانضباط الأسري إلى درجة أن بعض الآباء يهدي سوطا لمن يصبح زوجاً لأبنته.
وتؤكد الدراسة أن ضرب الزوجة شائع في بعض الأوساط وخصوصاً لدى مجموعتي »الحراطين والبولار«، ويتزايد في مدينة نواكشوط والولايات الجنوبية على النهر.
العنف ضد المرأة في ثقافتنا التقليدية(5)
هناك فارق مثلاً بين الإغتصاب وتشويه الأعضاء الجنسية للمرأة الذي يسمى ”ختان البنات“ أو ”الخفاض“. فالمغتصب يرتكب جريمة عمياء ربما اعتذر عنها إذا عاد إليه وعيه، أما المرأة الخاتنة أو ”المطهّرة“ فهي لا تعدو أن تكون طرفا فاعلا في ثقافة تعتبر أن قطع جزء أو أجزاء من أعضاء المرأة الجنسية أمر ضروري لـ”تعديل الشهوة“، وتظن أن هذا القطع من تعاليم الإسلام الضرورية.
ليس الختان أكثر خطورة من الإغتصاب، الذي تميل المجموعة الدولية اليوم إلى اعتباره جريمة ضد الإنسانية، وليس أقل تسببا في الألم المستمر الطويل الذي يعبر عنه بـ”المعاناة“ في الإعلان العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة (الذي تم تبنيه سنة 1993)، ولكن المغتصب يمكن ان يعاقب كفرد، أما الفتاة المختونة التي ستجر وراءها آلام جرحها الرمزي طيلة حياتها فلا أحد ينصفها في ظل أنظمة لا تجرّم فعل الختان ولا تمنعه أو لا تنجح في منعه نتيجة مجموعات الضغط المحافظة. بل ربما أعادت المختونة إنتاج هذا العنف وأخضعت ابنتها إليه، ظنا منها ان لا مفر من الختان.
هذا هو ”العنف الرمزي“ الذي يحدثنا عنه عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو في كتابه عن ”الهيمنة الذكورية“، ويقول عنه انه ”عنف هادئ لا مرئي لا محسوس حتى بالنسبة إلى ضحاياه“، ويتمثل في أن تشترك الضحية وجلادها في التصورات نفسها عن العالم والمقولات التصنيفية نفسها، وأن يعتبرا معا بنى الهيمنة من المسلمات والثوابت. فالعنف الرمزي هو الذي يفرض المسلمات التي إذا انتبهنا إليها وفكرنا فيها بدت لنا غير مسلم بها، وهي مسلمات تجعلنا نعتبر الظواهر التاريخية الثقافية طبيعة سرمدية أو نظاما إلاهياً عابرا للأزمنة. أشد أنواع العنف ضد المرأة العنف الثقافي المقنّى العتيق الذي تعود ممارساته إلى مئات السنين إن لم نقل آلافها. وأشد أنواع العنف الثقافي هو ذلك العنف الرمزي الذي يبدو بديهيا، ويفرض نفسه على الضحية والجلاد والقاضي، ويقول عن نفسه انه ليس عنفا.
بؤر العنف الذي يتم باسم مبادئ عليا، وأدوات تحليله ومواجهته هي ما سنهتم به في هذه الورقة.*
1- العنف والتمييز
إن كل عنف ضد المرأة يتضمن بالضرورة تمييزا، وهذا ما تدل عليه عبارة ”على أساس الجنس“ الواردة في تعريف العنف في الإعلان العالمي المذكور.
فالمرأة تستهدف بالعنف باعتبارها أنثى لا باعتبارها إنسانا أو مواطنة أو غير ذلك. يتم تعنيف المرأة على أساس أنها كائن من نوع خاص، أو كائن مؤذ أو مصدر فتنة للرجل، وهناك شتيمة شائعة تكون موضوع عنف لفظي أو تكون مصاحبة للعنف الجسدي تدل على هذا، وتتمثل في نعت المرأة بأنها مومس تبيع جسدها. بل ان الشتائم الموجهة للرجال هي نفسها تحمل التمييز نفسه ضد النساء، فالرجل في مجتمعاتنا يشتم بأنه ”مخنث“ ونسواني ومأبون...
فالصلة بين العنف والتمييز أساسية، ولها وجوه تراكب وتراتب نجملها في ما يأتي :
◄ أفعال العنف ضد المرأة تتضمن تمييزا ضد المرأة واحتقارا لها.
◄ التمييز يؤدي إلى العنف، فمبدأ طاعة الزوجة زوجها الذي تنص عليه الكثير من القوانين العربية والذي يمكن ضمنا الزوج من تأديب زوجته، يفتح المجال أمام الزوج ليتخذ الضرب شكلاً من أشكال التأديب. وفي مجال القانون الجنائي يعتبر تخفيف العقاب على مرتكب ”جريمة الشرف“ تبريرا للعنف القاتل المسلط على الفتيات والنساء بل وتشجيعاً على ارتكابه.
◄ العنف يدعم التمييز، فالكثير من الرجال أرباب الأسر يستعملون العنف الجسدي لفرض الأدوار التقليدية النمطية على النساء ولتقييد حركاتهن وعلاقاتهن.
فكما تتحفظ بعض الدول العربية عن إدانة العنف ضد المرأة، تتحفظ كل الدول العربية كما هو معلوم، وبدرجات متفاوتة عن ”اتفاقية مناهضة جميع أشكال التمييز ضد المرأة“ على نحو يلغي أحيانا محتوى الاتفاقية، وهو ما يدل على أن هذه البلدان لا تتوافر فيها المساواة في القانون. في هذا السياق الإقليمي العربي، ومن وجهة نظر الإستراتيجيا السياسية التي يجب أن نتوخاها من أجل إزالة التمييز ضد المرأة، من المفيد أن نقطع شوطا أبعد في عقد الصلة بين العنف والتمييز، لكي نكتشف ما في التمييز ضد المرأة من عنف أو لنكشف عنه. إنه عنف يتم باسم مبادئ رمزية أيضا، وهو عنف بنيوي لا ينبع من أفراد بل من بنى إجتماعية وقانونية يتبناها الأفراد والمجموعات، وهو عنف هادئ يعمل في صمت، ولكنه يعمل باستمرار، فهو كالطاحونة التي تسحق الأفراد وتحد من مجال توقهم وآفاق حريتهم. فالعنف ضد النساء، وخلافا لبعض التعريفات المعتمدة لدى بعض الناشطين، ليس فقط فعلا لا إجتماعياً منافسا للأخلاق السائدة، بل قد يكون فعلا مغرقا في الإجتماعية وفي الإنسجام مع الأخلاق السائدة.
2 - تغيير الأحوال الشخصية للمرأة المسلمة : قضية كرامة لا قضية دينية
التمييز هو نوع من ”العنف الأساسي“ لأنه لا يستهدف ملكية الآخر، بل يستهدف ماهية الآخر. إنه ليس إعتداء على جسم الآخر أو على ما يملكه الآخر، بل نفي لجوهر الإنسان في الآخر. إنه كالعنصرية، أي التمييز على أساس العنصر، نفي لحق الآخر في أن يكون له حق، نفي للإنسانية الكاملة للمرأة، وللمبدأ المؤسس للحياة الإجتماعية في عصرنا وهو مبدأ المساواة. فجعل الطلاق أمراً يقرره الرجل وحده عنف بنيوي، وهو عنف أساسي ينفي حق المرأة في أن يكون لها حق في تقرير مصيرها، وهو عنف لا يعد اعتداء على الأخلاق السائدة، ومع ذلك فانه يمكن ان يحول حياة بعض النساء إلى انتظار طويل ودوران في حلقة مفرغة، بين زواج آسر لا يحتمل وقضاء لا ينصف ولا ينصت.
ولعله من المفيد بالنسبة إلى الإعلاميين، في حديثهم عن العنف أن يعتبروا أعمال العنف ضد المرأة علامات تحجب وراءها بنى قائمة، فلا يكتفون تبعا لذلك بعرض الفضائح والجرائم لقراء يستهلكون الفرجة. لا شك في أن الصحافة تحتاج إلى الأحداث ولا نتخيل نشرة تلفزيونية أو صحيفة تقول يوما : لا توجد اليوم أحداث، ولكن من المهم توجيه أنظار القارئ نحو البنى التي تقف وراء الأحداث. ومن المهم تنبيهه إلى ان أحداث العنف الدامية ربما تكون مؤشرا إلى علاقات عنف هادئ وغير دام.
العنف والمس بالكرامة
في كل حالة عنف ضد المرأة هناك عنف أساسي يقوم على إنكار حق المرأة في أن تكون لها حقوق. ولكن العنف ليس قائما فحسب على إنكار ضمني أو معلن لمبدأ المساواة بين الرجال والنساء، إنه قائم أيضا على إنكار لمبدأ الكرامة. فما الكرامة ؟
الكرامة قاعدة أخلاقية وفلسفية لحقوق الإنسان الأساسية، غائمة وغير قابلة للترجمة القانونية المحددة، ولكنها أساسية ويرد ذكرها، دون تعريف، في الفصل الأول من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 : ”يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق، وهم قد وهبوا العقل والوجدان، وعليهم ان يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء“.
ومفهوم الكرامة قديم قدم الفلسفة اليونانية، وله صياغات خاصة في الأديان، ولكنه جديد من حيث كونيته، ومن حيث اعتبار الكرامة صفة تتوافر في كل الناس، لا نثبتها بل نقررها. هذه الصياغة الكونية الجديدة تعني أن لكل ذات بشرية قيمة في حد ذاتها، وبقطع النظر عن المحددات الإجتماعية والدينية والعرقية. ولا بد ان نستفيد من الصياغة الكانطية لمبدأ الكرامة لنقول إنها تعني على وجه التحديد أن من حق كل شخص أن يعامل في علاقاته بالأشخاص الآخرين أو بالدولة على أساس أنه غاية لا وسيلة، وعلى أنه أغلى من كل شيء، وأن له قيمة قصوى.
وما يدعو إلى إحترام الإنسان هو العقل والوجدان الذي قد يعني بالأساس شعوره بوجود الآخرين وميله إلى رحمتهم، وقدرته على تسيير حياته حسب مبادئ وتوقه إلى القيم المطلقة وإلى مصير يتجاوز الزمن.
ومفهوم الكرامة هو الذي يجعلنا لا نقدم تصورا للعنف يقصره في التعدي على حرمة الجسد فحسب، وهو الذي يجعلنا لا ندين الإغتصاب فحسب، بل ندين التحرش الجنسي أيضا، فالمتحرش بالمرأة لا يؤذي جسدها بل يؤذي ”معيش جسدها“، لا يعتدي على الجسد-الموضوع بل يعتدي على الجسد-الذات، وهو يخل بكرامتها لأنه لا يبالي برغبتها وبعدم رغبتها، فيعتبرها وسيلة لتحقيق رغبته.
د. أركون: الأقليات في العالم تنوء تحت وطأة العنف الرمزي(6)
انظر إلى الأقليات في كل العالم، كيف تعاني من الأغلبية ما تسمى الأقلية وهذا يؤدي بنا إلى ظاهرة انثروبولوجية مهمة وهي مفتاح لفهم ما يجري في كل مجتمع بشري، هي ظاهرة العنف، هناك عنف رمزي، يستعمل الرموز ليفرض على الأقليات والضعفاء، سيادة لا تطاق ولا يقبلها الانسان، والعنف الرمزي لا يكتفي ان يتسلق بالرموز وباحتكارها لتكون أساسا لمشروعه كسلطة سياسية بل يستعمل العنف العسكري والجسدي والطبيعي والمادي ليقمع من يعارضه.
كيف تقاوم الأقليات هذا العنف، ومن يحتكر سلطة الرموز؟
- جميع الدول تستخدم هذا العنف الرمزي حتى تلك الديمقراطية التي لم تتوصل بعد إلى حد احترام الأقليات، والانتماء للأقلية يفرض عليك ان تصعد مؤهلاتك لتكتسب تلك المنظومة الرموز التي يتحكم بها ويسلطها الحكم الرسمي وعندما أقول الرسمي، قد أعني حكم الذين يحتكرون الدين ليكتسبوا مشروعية ويحولون الرموز إلى وسائل للقمع والاكراه لذلك اكتسبت لغات أحاور وأحاضر بها، اللغات العربية والفرنسية والانجليزية التي تمكنت منها ويمكنني بها ان أخاطب الدنيا كلها.
العنف المدرسي
(المظاهر، العوامل، بعض وسائل العلاج)(7)
على الرغم من أهمية الانكباب على موضوع «العنف» في شتى مجالاته(عنف الرجل ضد المرأة، عنف الآباء ضد الأطفال، عنف المشغل ضد العامل…)، فإن ما يمارس من عنف في مؤسساتنا التعليمية لم ينل الحظ الكافي من الدراسة والتحليل، وحتى ما أسهب فيه المحللون في هذا المجال يكاد يدور في نطاق مظاهر العنف التي يمارسها المربي على المتعلم، حيث يغدو المعلِّم/ المربِّي، من خلال هذا المنظور، رجلاً فضاً لا يرحم تلامذته، ويذيقهم أقسى العقوبات.
فقد كان هناك تركيز على ربط العنف بمرحلة معينة من التاريخ الدراسي وهو مرحلة التعليم الابتدائي مع المعلم أو ما قبله مع الفقيه، وقلما نجد تركيزاً على مرحلة المراهقة. رغم أهمية المرحلة العمرية التي يمر بها التلاميذ، بصفتها مرحلة انتقالية من الطفولة إلى الرشد، يرافقها كثير من التغييرات الجسدية والنفسية والتي تترك بصماتها العميقة في شخصية الفرد، وتكيفه مع المؤسسة والمجتمع والبيئة المحيطة به.
ذلك أن هناك حاجة ملحة للمربين وأولياء الأمور، ومن يتعاملون مع هؤلاء المراهقين إلى التعرف على خصائص شخصية المراهقين وما يرافقها من انفعالات مختلفة…بحيث يمكنهم التعامل معهم بوعي، ومساعدتهم لتجاوز مشكلاتهم النفسية، وانفعالاتهم الطارئة وردود فعلهم المختلفة… و على هذا الأساس، فإن الهدف الأساس من التعرض لقضية العنف المدرسي لدى المراهق، هو إثارة الانتباه لهذه الظاهرة التي لم تعد مجرد حديث عابر نسمعه في الشارع وكفى، بل وصلت عدواها إلى مؤسساتنا التعليمية.
وقد تمظهرت أشكال ممارسة هذا العنف المادي من خلال فعل الضرب والجرح وإساءة الآداب، والعنف الرمزي…(التحرشات المختلفة، استفحال ظاهرة الكلام النابي، تنامي السلوكات غير المتسامحة …). كل هذا وغيره هو الذي وجب التنبيه إليه، والتحذير من مغبته، وبالتالي قرع ناقوس الخطر على المنحى اللاتربوي الذي غدت تعرفه الكثير من مؤسساتنا التعليمية…
1 ـ تحديد المفهوم
العنف، بصفة عامة، قضية كبرى، عرفها الإنسان منذ بدء الخليقة(قتل قبيل لهابيل). كما أنه أحد القوى التي تعمل على الهدم أكثر من البناء في تكوين الشخصية الإنسانية ونموها، وهو انفعال تثيره مواقف عديدة، ويؤدي بالفرد إلى ارتكاب أفعال مؤذية في حق ذاته أحيانا وفي حق الآخرين أحياناً أخرى…
ولقد أسهب الباحثون في تحديد مفهوم العنف كل من زاويته الخاصة، حيث يعرفه جميل صليبا، في معجمه الشهير:"المعجم الفلسفي"، بكونه فعل مضاد للرفق، ومرادف للشدة والقسوة. والعنيف(Violent) هو المتصف بالعنف. فكل فعل يخالف طبيعة الشيء، ويكون مفروضاً عليه، من خارج فهو، بمعنى ما، فعل عنيف. والعنيف هو أيضاً القوي الذي تشتد سورته بازدياد الموانع التي تعترض سبيله كالريح العاصفة، والثورة الجارفة. و العنيف من الميول:«الهوى الشديد الذي تتقهقر أمامه الإرادة، وتزداد سورته حتى تجعله مسيطراً على جميع جوانب النفي، والعنيف من الرجال هو الذي لا يعامل غيره بالرفق، ولا تعرف الرحمة سبيلاً إلى قلبه.
وجملة القول إن العنف هو استخدام القوة استخداماً غير مشروع، أو غير مطابق للقانون»().
أما في معجم «قاموس علم الاجتماع»، فإن العنف يظهر عندما يكون ثمة فقدان «للوعي لدى أفراد معينين أو في جماعات ناقصة المجتمعية. وبهذه الصفة يمكن وصفه بالسلوك«اللاعقلاني»(). في حين يرى بول فولكي في قاموسه التربوي أن العنف هو اللجوء غير المشروع إلى القوة، سواء للدفاع عن حقوق الفرد، أو عن حقوق الغير«كما أن العنف لا يتمظهر بحدة إلا في وجود الفرد/المراهق في مجموعة ما»(). أما أندري لالاند فقد ركز على تحديد مفهوم العنف في أحد جزئياته الهامة، إنه عبارة عن«فعل، أو عن كلمة عنيفة»(). وهذا ما يدخل في نطاق العنف الرمزي…فأول سلوك عنيف هو الذي يبتدئ بالكلام ثم ينتهي بالفعل. وهكذا فتحديدات العنف تعددت واختلفت، إلا أن الجميع يقرُّ على أنه سلوك لا عقلاني، مؤذي، غير متسامح…
العنف المنزلي
بعض عناصر التعريف و التشخيص(8)
تاريخيا ارتبط مفهوم العنف بالقوة الصادرة عن الطبيعة أو عن الآلهة، فكلمة violence المستمدة من الكلمة اللاتينية violentia و تعني العنف، هي مشتقة من كلمة vis التي تعني القوة في شكلها الفزيقي الملموس . و يمتد هذا المعنى المرتبط بأصل الكلمة في العديد من القواميس اللغوية، كمعجم لاروس Larousse الذي يعرف العنف بكونه خاصية لكل ما ينتج عنه مفعول بقوة شديدة متطرفة ووحشية، فهو خاصية لما هو عدواني. إنه تعبير عن أقصى الشدة، إنه تجاوز عبر اللفظ و السلوك، و يعكس استخدام القوة . كما أن موسوعة Universalis المعجمية تحدده ًكفعل يمارس من طرف فرد أو أفراد على فرد أو أفراد آخرين، عن طريق التعنيف قولا أو فعلا … و هو فعل عنيف يجسد القوة التي يمكنها أن تكون فيزيقية أو رمزية.ً و نصادف تحديدا لغويا ضمن معجم لسان العرب لابن منظور ، يربط العنف بالشدة و عدم الرفق (أي القوة) لكنه يحصره في معنى التعيير و اللوم ( أي الإهانة و التحقير و الشتم ), مستشهدا بالحديث النبوي ً إذا زنت أمة أحدكم ، فليجلدها و لا يعنفها".
من خلال الاطلاع على تحديدات لغوية مختلفة نلاحظ أن التعريف المعجمي لمفهوم العنف، الذي قد يبدو قابلا للتدقيق و التوحيد يعكس اختلافا و تأثرا بمستوى تطور النظريات المعرفية، كما أنه لا ينفصل عن الإطار الثقافي و التاريخي الذي يحيط به أو يندرج ضمنه. كما أن التحديدات اللغوية لمفهوم العنف ، رغم انطلاقها من مفهوم القوة كقاعدة للسلوك الصادر عن الطرف المعنف, تثير أسئلة مرتبطة بشروط التعريف الذي يتطلب وضوحا أكبر و دقة و توحدا. فكيف تتحدد القوة المرتبطة بالعنف ؟ هل هي قوة مادية فيزيقية ، أو رمزية معنوية و نفسية ؟ هل يمكن أن نعتبر كل فعل متسم بالقوة فعلا عنيفا؟ و ما هي الوضعية الاجتماعية التي تؤدي إلى إنتاج سلوك العنف، و كيف يتحدد دور كل طرف في تلك الوضعية؟ و ما هي بالتالي أسس تقويم العنف و تسميته؟
1- الطابع الإشكالي لمفهوم العنف:
إن مفهوم العنف تشكل تدريجيا في المعاجم اللغوية، وأيضا في الدراسات و الاختصاصات الفكرية و الميدانية التي تناولته. حيث انفصل في الفك المعاصر عن مجال الطبيعة و الآلهة، و أصبح يعرف باعتباره ظاهرة خاصة بالإنسان ككائن اجتماعي, يتفاعل مع غيره, ضمن صراعات اجتماعية واقتصادية و سياسية. ويؤكد الباحثون الذين تناولوا موضوع العنف أن اللبس الذي أحاط بمحاولات التعريف، يعود من جهة إلى تعدد دلالات المفهوم، و تنوع المضامين التي يشير إليها، و من جهة أخرى إلى اختلاف المنطلقات و التخصصات المعرفية التي تناولته حيث يمكن أن ينظر إليه من زوايا مختلفة:
الزاوية السيكولوجية: يبدو العنف كتعبير عن انفعال، أو انفجار للقوة, يتخذ صيغة لا تخضع للعقل، فيظهر في شكل سلوك عدواني. حيث يعرفه العديد من علماء النفس بأنه نمط من السلوك الذي ينتج عن حالة إحباط يكون مصحوبا بعلامات توتر، و يحتوي على قصد إلحاق الضرر بكائن حي أو شيء بديل عن كائن حي. إنه يتحدد كاستجابة لمثير خارجي تتجلى في شكل فعل يكون مشحونا بانفعالات الغضب والهياج والمعاداة و يرتبط بتحكم غريزة الموت و العدوانية لدى الفرد.
الزاوية الأخلاقية: يعرف العنف كاعتداء على ملكية الآخر وحريته. ويتجلى هذا التعريف أساسا في مواقف بعض الفلاسفة، وكذلك في الخلفية النظرية للقوانين ولأدبيات حقوق الإنسان.
الزاوية السياسية: يعرف العنف كاستخدام للقوة، من أجل الاستيلاء على السلطة أو الحفاظ عليها، أو استغلالها في تحقيق أهداف مشروعة أو غير مشروعة، و يبرز هذا التصور في العديد من النظريات السياسية والفلسفية التي ربطت العنف بالصراعات الاجتماعية بين الفئات أو الطبقات ذات المصالح المتنافرة. كما يتجلى في المقاربات الاجتماعية والفلسفية المعاصرة، التي تعتبر العنف نتاجا للدينامية الاجتماعية, ولتفاعل مجموعات من الفاعلين الاجتماعيين و السياسيين، الذين تربطهم علاقات قوة اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية غير متكافئة.
إن تباين المنطلقات المعرفية التي تناولت موضوع العنف قد أبرز الطابع الإشكالي للمفهوم حيث طرحت صعوبات أمام تسمية أعمال العنف و معايير تقويمها، مما يجعل أي محاولة للتعريف تظل مشروطة بحقل معرفي معين و بإطار تاريخي و ثقافي محدد.
2 - بعض محاولات التعريف:
يمكن اعتبار أن تطور الفكر الفلسفي و السياسي قد ولد المفهوم الحديث للعنف، فالبعد الأخلاقي للفلسفة المعاصرة قد تحدد في الدفاع عن الحرية و التسامح ونبذ العنف، حيث يعرف العنف كإلغاء للعقل ورفض للحوار و استبعاد /إقصاء للآخر من هذا المنظور يمكن القول إن القوة – بمختلف معانيها- تصبح عنفا عندما ترتبط بالإكراه، مما يفترض أننا لا نستعمل مفهوم العنف إلا عندما نكون أمام وضعية صراع/ نزاع تمارس فيها بشكل إرادي واع أفعالا "قوية" من طرف أو أطراف تمس أمن و سلامة طرف أو أطراف أخرى. إن العنف كمفهوم معاصر يتحدد إذن ً كسلوك قسري غايته الحد أو الوقوف في وجه حرية الآخر بوصفها تحقيقا ديناميا للذات.
لكن هذا المضمون الكوني المعاصر الذي اتخذه مفهوم العنف، يطرح إشكالا مرتبطا بتصور الحرية، و بالضوابط الاجتماعية المنظمة لها. إذ أنها ( أي الحرية ) قد تكون تعبيرا عن استعمال القوة للحصول على امتيازات من طرف آخر، دون مراعاة لرغبته وإرادته.
بهذا المعنى، قد تصبح تعسفا على حرية أخرى.
إن الحرية ضمن هذه الشروط قد تصبح آلية للحصول على امتيازات معينة لصالح المعنف أو الطرف الأقوى, في وضعية اجتماعية معينة، فتبدو كتجلي لممارسات " تسمح بنوع من الاقتصاد في المجهود و الكلام، لتحقق بصورة سريعة تعسفية، ما قد يعجز بعض الأفراد أو الجماعات عن الحصول عليه بالحوار والإقناع والتفاوض".
يصبح تحديد مفهوم الحرية هو الآخر خاضعا لموازين القوى و للصراعات الاجتماعية القائمة داخل مجتمع إنساني معين. إن الحرية قد لا تنفي القوة ولكنها تقننها وتنظمها، كما يتجلى في تعريف معجم لالاند للعنف, إذ يحدده "كاستخدام غير مشروع أو غير قانوني للقوة".
نلاحظ أن مفهوما ثالثا يبرز في تحديد مفهوم العنف, هو مفهوم المشروعية. لكن كيف يمكن تحديد معيار المشروعية ؟ هل يمكن اعتبار القانون كمعيار للمشروعية ؟ و هل يمكن الاستناد في هذا الشأن على القانون الدولي, أو القوانين المحلية, أو التشريعات الفقهية مثلا أو الأعراف والتقاليد السائدة ؟ أو على الخلفيات الإيديولوجية للأنظمة السياسية القائمة ؟
ما يثير اهتمامنا بهذا الصدد هو تمييز بعض الباحثين بين العنف "المشروع "والعنف "غير المشروع", بين العنف الهادف إلى إلحاق الظلم بالإنسان وقهره, والعنف الثوري الرامي إلى تحرير الإنسان من الظلم والاستغلال بين العنف المحمود" والعنف المذموم...
* السب و الشتم:
إن الألفاظ المستعملة من طرف الأزواج العنيفين تشكل قاموس عنف حوله شبه إجماع ، و تتصدرها عبارة نعت الزوجة/ الطرف في وضعية العنف ب " البغي" فيبرز اتهام المرأة بالفساد كلما وصلت وضعية التوتر تأججها، و أدت إلى انفلات اللسان ليعبر عن نظرة راسخة للمرأة تختزلها في موضوع للمتعة الجنسية و مصدر" للفتنة و الخطيئة ". إن هذا الاتهام الذي يتكرر في العديد من الوضعيات يعكس أيضا هاجس خوف يلازم الرجل العنيف حول " رجولته" التي يقيسها بطاعة الزوجة و إخلاصها له"جنسيا"، و يشكل مؤشرا واضحا عن الشروع في العنف.
هذا السلوك يثير استغراب النساء ضحايا العنف عندما يتساءلن عن معنى تكرار تلك الشتيمة التي تحدث لهن شروخا في النفس من طرف زوج يلجأ إلى بعث " الوسطاء" لإرجاعهن لبيت الزوجية بل يعمد في أحيان كثيرة إلى إقامة دعوى ضدهن من أجل الرجوع.
يمتد مجال السب و الشتم، في وضعية العنف، ليشمل عائلة الزوجة، الأمر الذي يحدث أحيانا ردود فعل للمقاومة من طرف الزوجة، و يؤدي إلى تبادل العنف بشكل قد لا تحدثه أعمال عنف أخرى. و تبرز الأهمية التي تحتلها العائلة في تحديد ملامح وضعية العنف عندما نلاحظ أن أطراف العنف لا تنحصر في الزوج و الزوجة إلا نادرا، فعائلة الزوج ( خصوصا الأم و الأخت) تشارك في إلحاق الضرر بالزوجة، من خلال ممارسة أعمال عنف ضدها أو تحريض الزوج على ذلك أو التواطؤ من خلال عدم التدخل لحمايتها. أما عائلة الزوجة فتظل الملاذ الذي تلجأ إليه المرأة المعنفة عندما تقرر وضع حد لعنف الزوج أو على الأقل لردعه و تخويفه.
و رغم حرص الزوجين معا – من منطلقات مختلفة- على عدم إشراك عائلة الزوجة في تدبير وضعية العنف، نلاحظ أن حضور أفراد العائلة ( خصوصا الذكور) يفرض نفسه في معظم الحالات التي تقرر فيها الزوجة مقاومة العنف من خلال اللجوء إلى مؤسسات الدولة.
.................................................. ....................
1- بيار بيرنبوم، معجم علم السياسة والمؤسسات السياسية
2- ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
3- علي سالم/ عن النهار، الجمعة 8 شباط 2002
4- المؤتمر نت
5- رجاء بن سلامة/ مدونات مكتوب
6- جريدة الوطن القطرية
7- عبد المالك أشهبون/ مجلة فكر ونقد
8- نجاة الرازي/ مجلة فكر ونقد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق