مجموعة اليسر للتدريب والاستشارات تأمل من زوارها الكرام المشاركة في الاستطلاعات التي تجريها بفعالية نظرا لفائدتها العالية
مجموعة اليسر للتدريب والاستشارات هي شركة تضامن لبنانية مسجلة تحت الرقم 489 تتنشط في مجال الدورات التدريبية والمؤتمرات العلمية والتربوية والاجتماعية والادارية والثقافية والتنمية والارشاد الاسري والاجتماعي ، واصدار المنشورات المتخصصة ، وتقديم الاستشارات في المجالات المذكورة وتوقيع الاتفاقيات مع الجامعات والمؤسسات والشركات الوطنية والعالمية على انواعها والقيام بالاستطلاعات والابحاث العلمية والدراسات المتخصصة في لبنان والخارج - نتمنى لكم زيارة ممتعة

09‏/12‏/2010

نظريات ما بعد الحداثة

حامد أبو أحمد 
الملخص: 
يؤكد المؤلف هنا أن الحداثة وما بعدها مصطلحان عصيان على التعريف،ويرى بأن للحداثة دور خاص في ثقافتنا يختلف عن دورها عند الآخر، ويؤكد بأن مابعد الحداثة تكون أكثر حضورا لما تؤسسه في ثقافتنا من اختلاف وتنوع. 
يبدأ المؤلف أولا في استعراض مصطلح ما بعد الحداثة عند الآخر الغربي.ثم يعيّن فترة الحداثة وما بعدها زمنيا ويرى أنها أيضا تتعرض للاختلافات، ثم يبدأ بالإجابة على سبب هذا الخلاف في التحديد المفهوم الزمني بعد ذلك يتطرق المؤلف للحديث عن " ما بعد الحداثة " وتعريفها عند المفكرين ثم يتعرض لمصطلح مابعد الصناعي ثم يتعرض لمفهوم مابعد الصناعي، ويقف بعدها عند نظريات التفكيك ويعرض فيها لإيهاب حسن ولجان فرانسو ليوتار ثم يأتي على فريدريك جيمسون ثم إلى يورجين هابرماس الذي يبدو أكثر تشاؤما لمستقبل ما بعد الحداثة، بعد أن يفرغ المؤلف من ليوتار يعرض إلى نظريات المزاوجة الما بعد حداثية عند تشارلز جنكس التي تراوح بين القديم والحديث، في العمارة والفن والشعر. ثم يخصص الكاتب عنوانا للغة العمارة بعد الحداثية ويتعرض لأفكار جنكس هنا أيضا. 
 المرجع: الخطاب والقارئ.. نظريات التلقي وتحليل الخطاب وما بعد الحداثة- حامد أبو أحمد- كتاب الرياض- العدد30- يونيو 1996- ص191- 225. 
****************************** 
مصطلح الحداثة هو أحد المصطلحات التي دار، ومازال يدور، حولها جدل كبير في العالم العربي.وقد ظهرت كتب كثيرة حول هذا الموضوع خلال الثلاثين عاما الماضية. وهذه قضية قد نتوقف عندها بشيء من التفصيل فيما بعد إن شاء الله. لكن الذي يعنينا الآن هو مصطلح "ما بعد الحداثة" الذي كثرت الكتابات عنه في أوروبا وأمريكا خلال عقدي السبعينات والثمانينات من هذا القرن الميلادي، وصار يشكل قضية مهمة في الثقافة الغربية في صلتها بتطور الحياة والمجتمعات هناك. وسوف نتناول هذه القضية معتمدين بصفة أساسية على الترجمة العربية لكتاب نشر عام 1994 ضمن سلسة "الألف كتاب الثاني " التي تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب. ويحمل الكتاب عنوان "ما بعد الحداثة – تحليل نقدي" وهو من تأليف مارجريت روز وترجمة أحمد الشامي، وتنبع أهمية هذا الكتاب من أنه يقدم تحليلا نقديا لكثير من الكتابات التي تناولت مفهوم " ما بعد الحداثة" وما يتوازى معه أو يرتبط به من مصطلحات ومفاهيم أخرى، وخاصة مصطلح "ما بعد الصناعي". 
ولنبدأ بالجانب التاريخي في محاولة لتحديد الفترة التي شهدت ظهور ما بعد الحداثة.و سوف نجد صعوبات كثيرة في هذا التحديد لسبب بسيط هو أن مصطلحي "الحداثة" و "ما بعد الحداثة" من أكثر المصطلحات استعصاء على التحديد. 
و الواقع أنه- كما يقول محمد عابد الجابري- ليست هناك حداثة مطلقة وكلية وعالمية، وإنما هناك حداثات تختلف من وقت لآخر و من مكان لآخر.و بعبارة أخرى فإن الحداثة ظاهرة تاريخية، وهي مثل كل الظواهر التاريخية مشروطة بظروفها،محددة بحدود زمنية ترسمها الصيرورة على خط التطور، فهي تختلف إذن من مكان لآخر، و من تجربة تاريخية لأخرى، الحداثة في أوروبا غيرها في الصين، غيرها في اليابان…من هنا تأتى خصوصية الحداثة عندنا،أي دورها الخاص في الثقافة العربية المعاصرة،و هو الدور الذي يجعل منها بحق حداثة عربية (1).وما يقال عن الحداثة في هذا الصدد ينطبق على ما بعد الحداثة،بل أن الأخيرة أكثر دخولا في التنوع و الاختلاف،و هذا ما تعكسه الحوارات والمناقشات التي سوف نتعرض لها في هذه الدراسة. 
وقد عرض كثير من المؤلفين الأوروبيين لاستعمال مصطلح ما بعد الحداثة،و من هؤلاء مايكل كولر MICHAEL KOEHLER في مقال له عام 1976 تحت عنوان POSTMODERNISM أشار فيه إلى استخدام المصطلح واشتقاقاتة عند فيديريكو دي أونيس عام 1934، وعند عالم الأنثروبولوجيا دادلي فيتيس عام 1942، وعند أرنولد توينبي المؤرخ الشهير الذي يرجع استخدام هذا المصطلح عنده إلى عام 1947 حسب رأي كولر، وهناك أيضا تشارلز أولسون ( فيما بين عامي 1950 و 1958) وإيرفنج هاو ( 1959)، وصولا إلى المتأخرين من أمثال هاري ليفين ( 1969) وليزلي فيدلر ( 1965) وأميتاي انزيوني( 1968) وإيهاب حسن في مقاله عما بعد الحداثة عام 1971 رالف كوهين في "التاريخ الأدبي الجديد" عام 1971. وبعد أن ينتهي مايكل كولر من هذا الاستعراض لمصطلح ما بعد الحداثة يقول إنه من الواضح عدم وجود اتفاق على ما يمكن اعتباره "بعد حديث". ويرجع ذلك لأسباب كثيرة منها المعنى المزدوج لمفهوم الفترة " الحديثة". فلفظ الحديث – كما يقول كولر- يمكن اعتباره مرادفا لكلمة DIE NEUZEIT الألمانية التي تعنى حرفيا " العصر الجديد " رغم أنها تترجم عادة " الفترة الحديثة " THE MODERN PERIOD ، أو العصور الحديثة MODERN TIMES ، وهذا التعبير من وجهة نظر كولر يشير إلى الفترة الممتدة منذ عصر النهضة الأوروبية، أي منذ حوالي عام 1500 م ومع هذا يخلص كولر إلى أن ما بعد الحداثة لم تبدأ في التشكل إلا في السبعينيات، أي منذ عقدين من الزمان ومن ثم فإنه يسمى الفترة من عام 1945 حتى عام 1970 باسم الحداثة المتأخرة . وهذا التقسيم يعد أكثر التقسيمات مصداقية عند كثير من مفكري ما بعد الحداثة، إذ يرون أن الحداثة تبدأ من منتصف القرن التاسع عشر تقريبا وتستمر حتى العقود الأولى من هذا القرن أو حتى منتصفه ، وبعضهم يعود ببداية الحداثة إلى القرن الثامن عشر ، وهو المسمى في أوربا " عصر التنوير" وتستمر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية لكي تعقبها فترة الحداثة المتأخرة. 
ويحدد تشارلز جنكس في مؤلف له عن ما بعد الحداثة أزمنة الحديث في الفترة من عام 1920 حتى عام 1960، والحديث المتأخر خلال عقد الستينيات،أما ما بعد الحديث فيتداخل مع المرحلة السابقة إذ يبدأ من الستينيات ويستمر حتى الآن. ولكن تحديدات جنكس تختص بمجال العمارة. وسوف نرى فيما بعد أن ما بعد الحداثة لا تقتصر على الآداب والفنون فقط ، بل تشمل مجالات كثيرة من أهمها العمارة . ومن ثم فإن هناك مؤلفين كثيرين وقفوا أبحاثهم الما بعد حداثية على الميدان المذكور، وتوسعوا في بحث سماته وخصائصه وتداخله مع الميادين والتيارات الأخرى. 
أما الناقد المصري الأمريكي إيهاب حسن – وهو من أبرز المتخصصين في أبحاث ما بعد الحداثة وصاحب الفكرة التي تقول باستحالة التحديد – فقد قدم في بحثين منشورين عامي 1971 و 1980 على التوالي نوعا من التحديد لتاريخ ما بعد الحداثة، إذ رأى اعتمادا على سمات وخصائص معينة أن فترة ما بعد الحداثة تبدأ منذ الثلاثينيات من هذا القرن، بل إنها – أي ما بعد الحداثة – يمكن أن تعود إلى التسعينيات من القرن الماضي. و معنى ذلك أن الفترة التي تعود إلى التسعينيات من القرن الماضي. و معنى ذلك أن الفترة التي شهدت ظهور ما بعد الحداثة في بعض البلدان هي نفسها التي شهدت ظهور الحداثة أو الحداثة المتأخرة في بلدان أخرى. وهذا ليس بغريب فهناك الآن، في العالم، بلاد لم تدخل مرحلة التحديث بعد، وبلاد أخرى مازالت على الأعتاب، وبلاد تعاني من أعتي صنوف التخلف… هذا إذا نظرنا إلى الحداثة من منظور شامل يشمل العالم كله، أما إذا اقتصرنا على العالم المتقدم في أوروبا وأمريكا وبعض بلاد العالم الأخرى نجد أن الفروق ليست شديدة التفاوت. وكل هذا إن دل فإنما يدل على أن مصطلحي الحداثة وما بعد الحداثة ينطويان على كثير من المشاكل وكثير من التعقيدات سواء بالنسبة لتحديد الفترة، أو بالنسبة لتحديد المفهوم على نحو ما سنرى في السطور التالية. وعلى أية حال فإننا نجد أنفسنا أكثر ميلا إلى الرأي الذي يقول إن ثقافة هذا القرن العشرين هي ثقافة ما بعد الحداثة. 
مفهوم ما بعد الحداثة 
هناك – كما أسلفنا – ارتباط كبير بين مصطلحين يميزان المرحلة الجارية في أوروبا وأمريكا وهما " ما بعد الحداثة " و "ما بعد الصناعي " . وسوف نحاول البحث عن تحديد أو تعريف لما بعد الحداثة من خلال عرضنا لآراء مجموعة من المؤلفين، ثم ننتقل إلى المصطلح الثاني لعرض الآراء الدائرة حوله كذلك وإبراز التداخل الحادث بين المصطلحين، وما ينطوي عليه ذلك من تمديد وتشعيب وتداخل لحركة الثقافة في المجتمع. وهذه سمة تميز دوائر البحث الآن في كل أنحاء العالم. وسبق أن نبهنا إليها عندما كتبنا عن علم النص وقلنا إنه علم عبر التخصصات INTERDISCIPLINARIO، أي يتناول الظاهرة اللغوية عبر مجموعة من التخصصات العلمية كعلوم القواعد واللسانيات والتاريخ والاجتماع والاقتصاد وسواها. ثم إنه لم يعد يقتصر على دراسة اللغة الأدبية، كما كان الحال فيما مضى، بل يمتد ليشمل لغة الحديث، ولغة الصحافة والاقتصاد، والسياسة ...الخ . 
ونتوقف أولا عند ديك هيبايج DICK HEBAIGE في كتاب له صادر عام 1988 (2)، حيث يقول إن نجاح مصطلح ما بعد الحداثة قد ولد مشاكل خاصة به. ثم يشير إلى أنه مع انتهاء عقد الثمانينات سوف تزيد صعوبة التحديد الدقيق للمعنى وراء مصطلح " ما بعد الحداثة"، لأنه يتشعب عبر مناقشات مختلفة، ويتجاوز الحدود ما بين فروع المعرفة المتنوعة، وتسعى أطراف مختلفة للاستشهاد بهذا المصطلح واستخدامه للتعبير عن خضم من الأشياء والتوجهات والطوارئ المتنافرة. ويقدم هيبدايج عدة استعمالات لمصطلح ما بعد الحداثة عند آخرين مثل جان فرانسوا ليوتار الذي قال عن ما بعد الحداثة إنها حركة تقبل بمفهوم " كله ماشي" وذلك أثناء الهجوم الذي شنه على مفهوم آخر يختص بعمارة ما بعد الحداثة . كما عرض هيبدايج لآراء وأفكار كتاب آخرين مثل جاي ديبور في كتابه " مجتمع المشاهد (بفتح الميم ) " (1967) وجان بودريلارد في أعماله الصادرة في السبعينات وغيرهما لكنه – أي هيبدايج – بدا وكأنه قد تبنى مفاهيم بودريلارد عندما قال: " إن ما بعد الحديث هو الحداثة الخالية من الأحلام والآمال التي مكنت البشر من احتمال الحداثة "، ويضيف: " إن ما بعد الحداثة هي حالة من فقدان المركزية، ومن التشعب، نُساق فيها من مكان إلى مكان عبر سلسلة متصلة من السطوح العكسية كالمرايا المتقابلة ، تجتذبنا صرخة الدال SIGNIFIER المجنون " . ويصف هيبدايج ما بعد الحداثة بأنها التلفيق، والتعارض ( أي المحاكاة الأشكال السابقة ومزجها )، والأليجورية ( المجاز)، والفراغ المفرط في العمارة الجديدة. 
وممن استعملوا مصطلح ما بعد الحديث في فترة مبكرة جوزيف هودنوت HUDNUT ، الذي يقال إنه استخدمه منذ عام 1945، وربما قبل ذلك التاريخ. ويصف هودنوت عمارة ما بعد الحداثة بأنها لون من البناء سابق التجهيز يتم على نطاق الإنتاج الضخم. وهذا المفهوم يرفضه حاليا كثيرا من المعماريين المنتمين لمذهب ما بعد الحداثة لأنهم يرون أنه يصف عمارة الحداثة المتأخرة ULTRA- MODERNISM وليس ما بعد الحداثة . وقد كتب هودنوت ، في مقال منشور عام 1945 يقول: لا أتخيل إنسانا رومانسيا يملك المنزل الذي سأصممه للمستقبل. ولن أدافع عن اختيار العميل لأنه ينبع من الضعف البشري. كلا، لسوف يكون المالك إنسانا حديثا أو إنسانا ينتمي لمذهب ما بعد الحداثة إذا تصورنا وجود مثل هذا المفهوم: فلا عاطفة، ولا خيالات جامحة ولا أهواء. ومن ثم سيكون ذوقه وتفكيره أكثر انتسابا لأسلوب الحياة في مجتمع جمعي صناعي، وسيبدو له العالم بمثابة نظام من التتابع السببي يتحول في كل يوم على أيدي معجزات العلم المتراكمة ". وكما هو واضح فإن منزل المستقبل في عرف جوزيف هودنوت هو المنزل أو الكوخ سابق التجهيز. لقد تخيل هودنوت، تلك المنازل في مقالات منشورة عام 1949 على النحو التالي:" إنها تضغط بواسطة ماكينات عملاقة تشكل البلاستيك أو الصلب ، وتنتج خطوط التجميع عشرات الآلاف منها، وتسلم في أي مكان بمجرد طلبها بالهاتف، وتصبح جاهزة للسكنى بمجرد ربط بعض المسامير". وقد كتب تشارلز جنكس في كتاب له صادر عام 1986 عنوانه WHAT IS POST- MODERNISM ? أن هودنوت أدخل مصطلح " ما بعد الحداثة " إلى عالم اللاشعور المعماري. ولعل جنكس استقى ذلك من قول هودنوت: " إننا نتعلم بعد كيف نضفي معنى مقنعا على الأساليب والدوافع الحديثة ". 
وقد استخدم المؤرخ الشهير أرنولد توينبي مصطلح ما بعد الحديث في عدة أجزاء من كتابه STUDY OF HISTORY A صدرت عامي 1939 و 1945، فضلا عن طبعات أخرى مختصرة. ويستخدم توينبي هذا المصطلح للإشارة إلى التغيرات التي شهدتها الحضارة الغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر،ولِوَصْف الفترة التي تبدأ منذ الحرب العالمية الأولى (1914-1918) .ويؤرخ توينبي بما بعد الحديث للإشارة إلى ظهور الطبقة العاملة الصناعية في المدن، وذلك بعد أن استخدم كلمة حديث MODERM للإشارة إلى الطبقة الوسطى في الحضارة الغربية، وفي ذلك يقول: " إن تعريف الثقافة الغربية الحديثة، باعتبارها حقبة من التطور الثقافي الغربي تتميز بصعود الطبقة الوسطى، يلقى الضوء على الظروف التي ربما يتمكن فيها أي غريب متلق لتلك الثقافة من أن يجعل منها ثقافته الخاصة، وذلك قبل بدء حقبة ما بعد الحداثة في الغرب التي تتسم بظهور طبقة عاملة في المدن الصناعية. ففي العصر الحديث في التاريخ الغربي تتناسب قدرة غير الغربيين على الاستغراب مع قدرتهم على الأخذ بأسلوب حياة الطبقة الوسطى في الغرب ". 
ومن الاستعمالات المبكرة أيضا لمصطلح ما بعد الحداثة ما ورد في كتابات المؤرخ الفني الأسترالي برنارد سميث ولعلّه واحد من أقدم من طبقوا هذا اللفظ في القرن العشرين على الفنون البصرية. وقد استخدمه في خاتمة عمل له صادر عام 1945 حيث استدل به على ظهور واقعية سياسية واجتماعية جديدة في أعمال الفنانين الأستراليين نويل كونيهان، و جوزل بيرجنر، وفكتور أوكونور. وفي هذا الشكل الجديد من الواقعية تمتزج عناصر مستوحاة من التعبيرية بأخرى مستمدة من أساليب مختلفة من القرن العشرين مع التصوير الواقعي لموضوع الفقر والكدح في العمل. ويضع برنارد سميث خصائص للفن " بعد الحداثي " يستقيها من أعمال كتاب آخرين على النحو التالي: 
- توينبي (1934) : ما بعد الحرب العالمية الأولى= حقبة ما بعد الحداثة – الفن الحديث =الأشكال المهجورة البيزنطية (الطراز القوطي الجديد أو ما قبل الروفائيلية) أو المستقبلية. 
- دي أونيس (1934): وكل من كيتيس وهيس (1942) : شعر ما بعد الحداثة= رفض للزخرفة الحداثية الأسبق زمنا. 
- هودنوت (1945): المنزل ما بعد الحديث= 
- امتداد الوظيفة المميزة للحركة الحديثة، واختفاء الزخارف. 
- يحتاج إلى حساسية المعماري. 
- سميث (1945): الفن الحديث " بعد البيزنطي " = رفض للزخرفة واتجاه نحو مزيد من التجريد، فن ما بعد الحداثة ( في الأربعينيات ) =رفض للتجريد الحداثي. 
وهناك مفاهيم أخرى للحداثة وما بعد الحداثة في العالم المتحدث باللغة الأسبانية (أسبانيا وأمريكا اللاتينية) نتركها الآن لفترة لاحقة عندما نركز على مفهوم الحداثة الذي كان له في أمريكا اللاتينية بالذات اعتبار خاص " انظر في ذلك الفصل الأول من كتابنا رواد الشعر الإسباني، وهو تحت عنوان خنوان رامون وحركة الحداثة."(3). 
ولعلنا لاحظنا، في السطور السابقة، أننا اقتصرنا على النظريات المبكرة لمفهوم مرتبطة بمفاهيم المجتمع بعد الصناعي، والتي تكونت خلال العشرين أو الثلاثين عاما الأخيرة لوصف التغيرات الحادثة في التكنولوجيا والمعرفة العلمية وطبيعة العمل. وهذا ما سوف نناقشه في السطور التالية. 
مفهوم ما بعد الصناعي 
استعمل هذا المصطلح في كثير من الأعمال التي ظهرت في الفترة الأخيرة عن عصر"المعرفة " أو "المعلومات " المعتمدة على الحاسب الآلي، فضلا عما يتعلق بالمفاهيم الخاصة بطبيعة العلاقة بين المجتمع الصناعي والمجتمع بعد الصناعي. وقد سجل دانيال بل في دراسة مهمة له ظهرت عام 1973 تحت عنوان " الدخول إلى مجتمع ما بعد الصناعي " استعمالات مبكرة لفكرة ما بعد الحديث في مؤلفات لارثر ج.بنتي (1917)، وديفيد ريزمان (1958) وهيرمان كان وانتوني ج.فينر ( 1967) وزبيجنيو بريزنسكي(1970)، وكينيث كنيستون وبول جودمان (1971) و آلان تورين، وروجيه جارودي وغيرهم. 
وكان آرثر بنتي من أوائل من كتبوا عن عدم ملاءمة المنتجات الصناعية لفن العمارة، وقال باستحالة الخروج بلون معماري جديد من تلك المنتجات. وفي كتاب له عنوانه "ما بعد الصناعي " (1992) كتب يقول : "إن كافة ألوان الفن بلا استثناء يتهددها الفناء بشكل أو بآخر بسبب الإنتاج الآلي. ولا يبدو أن ثمة بديلا لكل ما هو مهدد. ويمكن القول بأن مشكلة العمارة بالغة التعقيد بحيث لا يمكن إطلاق تعميمات مبسطة عليها. لكن العمارة تتعرض لهجوم من كل جانب، تشنه عليها مجموعة متشابكة من التأثيرات التي يحاول المعماري مجابهتها بلا فائدة. ومعظم هذه التأثيرات جاءت نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لإنتاج الآلة الذي لا تنظمه قواعد". ويدعو بنتي للعودة إلى المجتمع الحرفي اللامركزي القائم على الورش الصغيرة، حيث العمل الذي يسمو بالنفس،وهو المجتمع الذي يطلق عليه "دولة ما بعد الصناعية " ولكن بنتي تعرض بعد سنوات للنقد باعتبار أنه يقدم رؤية رجعية غير واقعية للمجتمع بعد الصناعي الجديد. 
وعلى الرغم من ذلك فإن معظم النظريات الحديثة المتعلقة بمجتمع ما بعد التصنيع لا تزال تحمل لمحات من رؤية بنتي المتمثلة في أن تنظيم الآلات والتحكم فيها. وتقسيم العمل بين الإنسان والماكينات قضايا جوهرية في المذهب الصناعي والمذهب ما بعد الصناعي. وتختلف صفات مجتمع ما بعد الصناعة من مؤلف لآخر وفقا لرؤية كل منهم وموقفه من طبيعة العمل والإنتاج. فإذا كان بنتي قد أدان مجتمع الرفاهية الذي صنعته الآلات، فإن ديفيد ريزمان يطابق بين هذا المجتمع المرفّه ومجتمع ما بعد التصنيع، وقد استخدم برزينسكي عام 1970 وصف " المجتمع التكنوقراطي " للدلالة على المجتمع الذى تسوده التكنولوجيات والإلكترونيات في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد انتقد دانيال بل هذا المفهوم لما ينطوي عليه من تحويل بؤرة التغيير من المعرفة النظرية إلى التطبيقات العملية للتكنولوجيا، ولما يتسم به من طابع الحتمية التكنولوجية، وذلك لأن دانيال بل يرى أن المبدأ المحوري في مجتمع بعد الصناعي هي المعرفة العلمية النظرية وليس التكنولوجيا. ولهذا فان زيادة تقسيم العمل الذهني، في نظر ، يمثل إحدى سمات المجتمع بعد الصناعي. وقد ركز "بل" على هذا المفهوم في كتابه المذكور " الدخول إلى مجتمع ما بعد الصناعي " (1973) موضحا التغير في البنية الاجتماعية، وطريقة تحول الاقتصاد وإعادة تنسيق نظام شغل الوظائف في إطار العلاقات الجديدة بين العلم والتكنولوجيا. وقد وجه "بل" اهتمامه في أبحاث أخرى (1976) إلى اتساع الهوة بين الاقتصاد والسياسة 
والثقافة، حيث رأى أن ثقافة ما بعد الحداثة هي بمثابة امتداد للثقافة النرجسية الحديثة واتساع للفجوة بين المجتمع والقيم. وعندما أدرك بل أن مفهومه عن المجتمع بعد الصناعي ينطوي على تعميم موسع 
قام بتجزيئه إلى المكونات الأساسية التالية: 
1- قطاع اقتصادي: التحول من إنتاج السلع إلى مجتمع الخدمات. 
2- التوزيع المهني: هيمنة الطبقة المهنية وطبقة الفنيين. 
3- المبدأ المحوري: المعرفة النظرية تشغل موقعا مركزيا بوصفها مصدرا للابتكار وصياغة السياسات في المجتمع. 
4- التوجه المستقبلي: التحكم التكنولوجي والتقييم التكنولوجي. 
5- صنع القرار: خلق تكنولوجيا ذهنية جديدة. 
وقد كتب "بل" عام 1973 عن انهيار الكل المتكامل الذي تمتزج فيه الثقافة والشخصية والبنية والاقتصاد بفضل وجود نسق قيمي واحد… وكان هذا موجودا في المجتمع البرجوازي (والرأسمالي ) في القرن التاسع عشر … ومن باب المفارقة أن كل هذا دمرته الرأسمالية ذاتها فالإنتاج الضخم والاستهلاك الضخم في ظل الرأسمالية شجعا بحماس على ظهور نمط من الحياة القائمة على مبدأ اللذة، مما أدى إلى تدمير القيم البروتستانتية ... وعاد "بل" إلى كلام شبيه بهذا عام 1976 م قال فيه: " بسبب ابتكار الرأسمالية " للاعتماد الفوري " لم يبق سوى مذهب اللذة، وفقد النظام الرأسمالي مذهب التعالي "…(الأزمنة الروحية ) مما يعيدنا إلى مذهــــب العدمية "…ومما يجدر ذكره أن أفكار دانيال بل عن المجتمع بعد الصناعي تتشابه مع أفكار سان سيمون عن المجتمع الصناعي … وهذا يدل على أن المجتمع بعد الصناعي عند "بل" ينبغي أن يفهم على أنــــه امتداد للمجتمع الصناعي، لا على أنه مرحلة جديدة مختلفة عنه كل الاختلاف ...وهذه الفكرة موجودة أيضا فيما يخص الصلة بين مجتمع ما بعد الحداثة ومجتمع الحداثة. 
نظريات التفكيك 
معروف عن نظريات التفكيك،بصفة عامة،أنها تتجنب تقديم أية تعريفات واضحة حتى للتفكيكية ذاتها… والتفكيكية …كما يقول كريستوفر نوريس تعطل وتعلق كل ما نأخذه قضية مسلما بها في اللغة وفي تجربة التواصل الإنساني واحتمالاتها المعتادة ... ثم إنه لا يمكن تقديم التفكيكية بوصفها "نظرية" أو "نظاما" أو حتى مجموعة من الأفكار الثابتة المستقرة... ومن يفعل ذلك يكون كمن يقف ضد طبيعة هذه النظرية (4). 
وعلى الرغم من هذا الجانب المضطرب في التفكيكية فإنها قد حظيت باهتمام كبير من قبل المنتمين لمذهب ما بعد الحداثة، وكثيرون من هؤلاء وجهوا اهتمامهم نحو تفكيك قائمة مختارة من نصوص الحداثة، ثم استبدلوا بها قوائم جديدة تشتمل على بدائلهم بعد الحداثية..وينبغي أن نشير إلى أن المنحى التفكيكي في مذهب ما بعد الحداثة مختلف عن التفكيكية في حد ذاتها ، وإن كانت خصائص كل منهما واحدة أو متقارب… فالتفكيكية، كما جاء في كتابات مؤسسها جاك دريدا تهاجم الصرح الداخلي سواء الشكلي أو المعنوي للوحدات الأساسية للتفكير الفلسفي،كما تهاجم ظروف الممارسة الخارجية،أي الأشكال التاريخية للنسق التربوي لهذا الصرح والبنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمؤسسة التربوية... وقد أشار كريستوفر نوريس في كتابه عن "التفكيكية" إلى الكثير من خصائص هذه الحركة... من ذلك أنها تقلب مسلمات الفلسفة الكلاسيكية، رأسا على عقب، ومن هذه المسلمات أن الفلسفة تستطيع التوصل إلى الحقائق التي يطمسها الأدب ويفسدها بالتلاعب الظاهري باللغة والخيال، في حين أن الفلسفة والتفكير العلمي هما أيضا مرتبطان ببنيات لغوية لها تأثير حيوي وقدرة على تعقيد النشاط المنطقي في كل من الفلسفة والتفكير العلمي...أي أن آليات التعطيل في الأدب والفلسفة بل والتفكير العلمي واحدة، ومن ثم يكون الوصول إلى الحقيقة المطلقة أمرا في غاية الصعوبة ... ثم إن التفكيكية هي أولا و أخيرا – وكما يرى نوريس – نشاط نصي، يمثل إثارة لعلامات استفهام حول جوهر التفكير الميتافيزيقي الذي يضع المفاهيم المتطابقة خارج نطاق التلاعب باللغة، وفي مستوى يعلو على هذا التلاعب... 
ونظريات التفكيك في مذهب ما بعد الحداثة هي تلك النظريات التي تستخدم مفاهيم مستمدة من النظرية التفيكيكة أو المرتبطة بها بهدفين هما: 
1- أما تكوين فكرة عن ما بعد الحداثة بوصفها انفصالا عن الأعمال والقواعد المنتمية للتيار الحديث والحداثة السابقين، وذلك كما نرى في أعمال إيهاب حسن وليوتار. 
2- وأما لنقد أشكال أخرى لما بعد الحداثة بأعمالها وقواعدها، كما في أعمال ليوتار وجيمسون ، على سبيل المثال، ونقدهما لعمارة ما بعد الحداثة والنظريات الخاصة بذلك.. 
وكل هذا يدل على أن التفكيكية بصفتها النظرية كان لها دور مهم، على هذا النحو أو ذاك في صياغة جانب كبير من نظريات ما بعد الحداثة.. وسوف نتوقف في السطور التالية عند أهم المفكرين الذين كان لهم دور بارز في بلورة المنحى التفكيكي في نظريات ما بعد الحداثة. 
إيهاب حسن (ميلاد ما بعد الحداثة ) 
ما بعد الحداثة عند ايهاب حسن يؤرخ لها منذ عام 1971 م، وهو العام الذي ظهر فيه كتابه THE DISMEM إضافة إلى مقاله BESMENT OF ORPHEUS POSTNODERNISM : A PRACTICAL BIBLIOGRAPHY .. وقد قال تشارلز جنكس عن المقالة المذكورة: " إنها تسجيل لميلاد ما بعد الحداثة وبمثابة شهادة نسب لها ".. ويقول إيهاب حسن :إن مفهوم ما بعد الحداثة ( الذي يمكن أن تضاف إليه أيضا صفة التفكيكية) بدأ ينتشر في شتى أنحاء العالم في السبعينيات من خلال أبحاث أمريكية (من بينها بالطبع كتابات حسن نفسه) ووصل إلى أسماع نقاد من أمثال جان فرانسوا ليوتار.. وقد استخدم ليوتار مصطلحي ما بعد الحديث وما بعد الحداثة بعد إيهاب حسن لكن المفاهيم التفكيكية الموجودة في أعمال حسن عن ما بعد الحداثة كانت موجودة من قبل في أعمال نقاد فرنسيين مثل جاك دريدا (الذي صدرت بعض أعماله عن التفكيكية في الستينيات ) وبودريلار وليوتار نفسه.. ومن هذه المفاهيم ضرورة التحرر من أعمال الحداثة، واستحالة تحديد الحقيقة وغيرهما. 
وإذا كان إيهاب حسن قد كتب عن ما بعد الحداثة في أوائل السبعينيات، إلاّ إنه لايرى أنها بوصفها حركة تبدأ منذ هذا التاريخ، وإنما تعود بداياتها إلي الثلاثينيات من هذا القرن الميلادي، بل إلى التسعينيات من القرن الماضي ... أما الخاصية الرئيسية التي تميز ما بعد الحداثة فهي استحالة التحديد.. ومن ثم فإنه من الصعوبة بمكان وضع خصائص محددة لما بعد الحداثة، والتمييز بينها وبين الحداثة، التي يفترض أنها (أي ما بعد الحداثة) جاءت لتثير علامات استفهام حول اعمالها، ولتكون بديلا عنها ... ويضرب حسن مثالا لاستحالة التحديد والتمييز بين الحركتين بخاصية أو خاصيتين يقال إنهما من خصائص ما بعد الحداثة، وهما المفارقة والمحاكاة التهكمية IRONY PARADY ، ويمكن القول إنهما أيضا من خصائص الحداثة.. وليس هذا فقط، بل إن الحداثة يمكن النظر إليها على أنها ظلت قائمة إلي جانب ما بعد الحداثة،واشتملت على عناصر مشتركة مثل التوجه التكنولوجي، وسلب الإنسانية(أو التجريد) والبدائية، ومذهب الإثارة الجنسية والتناقض الاسمي، والتجريبية، وهذه عناصر أصبحت أكثر دخولا في مذهب ما بعد الحداثة. 
وعلى الرغم من وجود تشابه بين مفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة فإن إيهاب حسب يضع سلسلة من التقابلات بين الاثنين نختار منها ما يلي: 
- الحداثة تتجه نحو المدينة ، وما بعد الحداثة تأخذ إلى جانب المدينة القرية الكوكبية مما قد يؤدي إلى زيادة أو تقليل الدمار والفوضى. 
- الحداثة أخذت بالمذهب التكنولوجي، وما بعد الحداثة تتجه نحو التكنولوجيا خاطفة السرعة، وظهور أشكال فنية جديدة، وحدوث تشتيت لا نهاية له بواسطة وسائل الإعلام. 
- قامت الحداثة على التجريبية، في حين أن ما بعد الحداثة تقول ببنيات مفتوحة، غير متصلة أو محددة، ارتجالية أو عفوية مع وجود التزامن، والخيال، والتلاعب والفكاهة، والمحاكاة التهكمية، وتزايد الإشارة للذات وتداخل الوسائط، ومزج الأشكال، واختلاط المستويات، ونهاية المبدأ الإجمالي التقليدي الذي يركز على جمال العمل الفني أو تفرده. 
- قالت الحداثة بالتناقضية، بينما تدعوا ما بعد الحداثة إلى الثقافات المتقابلة، واجتياز التغريب عن الثقافة بأكملها، وقبول عدم الترابط، وعدم الاستمرار، وتطور التجريبية الراديكالية في الفن كما في السياسة أو الأخلاق. 
وفي مقال لإيهاب حسن عام 1980 م يطرح خمسة أفكار لثقافة ما بعد الحداثة، وتتسم أطروحاته هنا أيضا بخاصيتى استحالة التحديد والتفكيك.. وهذه الأفكار هي: 
1- اعتماد تيار ما بعد الحداثة على تجاوز الصبغة الإنسانية للحياة الأرضية بصورة عنيفة، بحيث تتجاذب فيها قوى الرعب والمذاهب الشمولية، والتفتت والتوحد، والفقر والسلطة. 
2- ينبع تيار ما بعد الحداثة من الاتساع الهائل للوعي من خلال منجزات التكنولوجيا، ونتيجة لذلك صار الوعي ينظر إليه على أنه معلومات، والتاريخ على أنه حدوث، وتلك رؤية متناقضة ظاهريا. 
3- في الوقت نفسه يتبدي تيار ما بعد الحداثة في انتشار اللغة بوصفها مقوما إنسانيا ، وفي غلبة الخطاب والعقل.. 
4- ما بعد الحداثة توحي بنمط جديد من تلقاء الفن بالمجتمع على عكس ما حدث في تيار الحداثة الذي كان يقبع في برج عاجي. 
5- يتطلع تيار ما بعد الحداثة إلى الأشكال المفتوحة، والمرحة والطموحة، والانفصالية، والمتروكة أو غير المحددة، لتكوين خطاب مؤلف من شظايا، أو تكون إيديولوجية التصدع التي تعمد إلى الحل والفض وتستنطق الصمت. 
ويضيف إيهاب حسن مفهوم " الإنشائية " إلى خصائص أو محددات ما بعد الحداثة في مقالات له نشرت عام 1986 م ولكن تعريف الإنشائية لا يعني " إنشاء الواقع ، فحسب بل يرتبط بمفاهيم أخرى ، انتشرت هي الأخرى في فترة ما بعد الحداثة ، مثل " استحالة التحديد " و" التشرذم " و " نقض الأعمال الأدبية المقننة " أو " اللاذاتية " و " اللاعمق " و " اللاتمثيلي " و" اللاتقديمي " والمفارقة ، والتهجين ، والاحتفالية ، والأداء ، و اللامفارقة.. 
ويلاحظ أن إيهاب حسن في تنظيراته لما بعد الحداثة يهتم بالدرجة الأولى، بالأعمال الأدبية. ومن ثم يشير إلى بعض الأعمال التي تنسب إلى الحداثة، كما يشير إلى أعمال أخرى ما بعد حداثية.. بل إنه يرى أن بعض قدامى الكتاب، ممن برزوا في النصف الأول من القرن العشرين، يتوافقون مع تيار ما بعد الحداثة مثل صمويل بيكيت، وخوري لويس بورخيس، ونابوكوف وغيرهم.. ويرى إيهاب حسن أن تيار ما بعد الحداثة يمثل استمرارا لتيار الحداثة، ومن ثم فإن مقطع POST (ما بعد ) لا يعبر عن الانفصال بقدر ما يعبر عن الاستمرارية ..وإذا كان إيهاب قد اهتم بالأعمال الأدبية فإن هناك نقادا آخرين من تيار ما بعد الحداثة صبّوا اهتمامهم على مجال آخر يحظى بنصيب وافر في التنظيرات الما بعد حداثية وهو مجال العمارة.. ومن هؤلاء تشارلز جنكس الذي سوف نكتب عنه، إن شاء الله ، عندما نتناول نظريات المزاوجة. 
جان فرانسوا ليوتار 
يقول ليوتار في مقدمة كتابه THE POSTMODERN CONDITION (1979) إنه يقصد بمصطلح ما بعد الحداثة " وضع المعرفة في المجتمعات بالغة التقدم ".. وهذا المصطلح– في رأيه– يشير إلى حال الثقافة في أعقاب التغيرات التي بدلت قواعد اللعبة بالنسبة للعلم والأدب والفنون منذ نهاية القرن التاسع عشر.. ويضيف ليوتار معرفا ما بعد الحديث بأنه " شك فيما وراء القص " ولعل هذا التعريف الأخير – كما تقول مارجريت روز – يميز بدقة بين معنى المصطلح عند ليوتار ومعناه عند علماء الاجتماع أو عند إيهاب حسن، وهو في الوقت نفسه يحتفظ بالعناصر التفكيكية المستوحاة من إيهاب حسن ويضيف إليها.. ومن بين أنواع ما وراء القص التي ذكرها ليوتار فلسفة هيجل، والهرمنيوطيقا، والماركسي، والرأسمالية، وآراء هابرماس الذي تعرض فيما بعد لهجوم عنيف من ليوتار في كتاب له صادر عام 1982 م لأن هابرماس حاول بعد عام 1997 م الدفاع عن " مشروع المودرنية " في محاضرة له عنوانها ADORNO PRIZE ( (1980 ضد مفهوم ما بعد الحداثة عند المحافظين الجدد.. وإذا كان ما بعد الحديث عند ليوتار يمثل شكا فيما وراء القص فإنه يعني الشك في الفلسفات والمذاهب المذكورة بغية تجاوزها إلى مشروع أكثر حداثة أو بتعبير أدق " ما بعد حداثي ".. 
ويبدأ ليوتار كتابه الصادر عام 1979 م بقوله: " بداية يقوم هذا الكتاب على افتراض أن حال المعرفة يتغير بتغير المجتمعات ودخولها إلى ما يعرف بعصر ما بعد التصنيع، ودخول الثقافة إلى مرحلة تعرف بمرحلة ما بعد الحديث".. ويرجع هذا التغير – في رأي ليوتار – إلى الخمسينيات من هذا القرن العشرين أو اكتمال إعادة البناء في أوربا.. ويستعمل ليوتار مصطلح ما بعد عصر التصنيع بالمفهوم الذي رأيناه من قبل عند دانيال بل أي المجتمع الذى تمثل فيه المعرفة النظرية أو العلم المبدأ المحوري، ولكن ليوتار يختلف عن "بل" في أن السمة الرئيسية التي يركز عليها الأول هي فهم المعرفة العلمية بوصفها خطابا. أي أن المعرفة العلمية عند ليوتار لا تتعدى كونها نوعا من أنواع الخطاب. أي أن المعرفة العلمية عند ليوتار لا تتعدى كونها نوعا من أنواع الخطاب، فيتعامل معها بأسلوب تفكيكي مثلها مثل الأشكال الأدبية الأخرى أو الخطاب الفلسفي.. كما يتعامل ليوتار مع المعرفة العلمية بوصفها قابلة للصمود أو الانهيار حسب علاقتها بألوان الخطاب الأخرى الشمولية أو ألوان ما وراء القص الشمولية. 
وعلى الرغم من هجوم ليوتار على الماركسية باعتبارها شكلا من أشكال ما وراء القص فإنه يبدو متأثرا ببعض مقولاتها ومفهوماتها مثل مفهومي نزع الملكية والتشيئ، ومقولة اقتصار العمل على إنتاج قيم التبادل بدل من قيم الاستخدام.. وتتسع الهوة بين مفهوم ليوتار عن العلم الحديث ومفهوم "بل" عن العلم في مجتمع ما بعد التصنيع، ولكن يبدو إن ليوتار يرى أن الهدف من العلم هو الوصول بالتلاعب 
اللغوي إلى الحد الأقصى، ومن ثم يخلص إلى أنه لا فائدة من انتشار الكمبيوتر في المجتمع(الذي يعد 
أساسيا في كثير من التعريفات الأخرى لمجتمع ما بعد التصنيع) إلا إذا أعيد توجيهه من وظيفة تحسين الأداء إلى فتح أبواب الذاكرة وبنوك المعلومات جميعها للعامة. ويقدم ليوتار في كتابه المذكور الصادر عام 1979م ملخصا للأوضاع التي وصفها بما بعد الحديث في النقاط التالية: 
- تشاؤم بشأن ما يسمى "بما وراء القص" في الفترة الحديثة. 
- استمرار تأثر بعض ألوان الخطاب في مجتمع ما بعد التصنيع بمفاهيم معينة مثل مفهوم((الادائية)). 
- حل هذه المشاكل يكمن في فتح بنوك المعلومات. 
وقد وجهت انتقادات إلى ليوتار من بينها أنه يقصر عناصر مجتمع ما بعد التصنيع على ألوان الخطاب أو البيانات بطريقة أشبه بتيار الحداثة المتأخرة أو تيار ما بعد البنيوية، بل إن نقده للعناصر الرأسمالية التي لا تزال باقية في مجتمع ما بعد التصنيع مستوحى من الأطر الحداثية ،لما وراء القص التي رفضها ليوتار نفسه في مكان آخر. 
فريدريك جيمسون 
في عام 1984م كتب فريدريك جيمسون في تصديره للترجمة الإنجليزية لكتاب ليوتار THE POSTMODERN CONDITION يقول :" إن ما بعد الحداثة، كما تفهم بصفة عامة، هي الخروج على الثقافة السائدة والإستيطقا السائدة، وانفصال عن وضع اقتصادي اجتماعي معين في لحظة ما تحدد في مواجهة الابتكارات والتجديدات البنيوية التي أتت بها ما بعدد الحداثة ".. 
وكما أسلفنا فإن كثيرا من منظري ما بعد الحداثة يقولون بمفهوم الاستمرارية وليس الخروج أو الانقطاع، لهذا فإن جيمسون في هذا التعريف يبدو شديد الاختلاف عن الآخرين.. وقد كتب جيمسون عام 1984م أيضا يقول إن ما بعد الحديث يتمثل في ثقافة الرأسمالية، وإن مجتمع ما بعد التصنيع هو مجتمع الرأسمالية المتأخرة.. وكان قد كتب قبل ذلك عام 1983م، في مقال نشره هال فوستر HAL FOSTER يقول : ما بعد الحداثة ليس مجرد مصطلح يصف أسلوبا بعينه ، و إنما هو على الأقل من وجهة نظري – مفهوم يقسم التاريخ إلى فترات للربط بين ظهور ملامح شكلية جديدة في الثقافة وظهور شكل جديد من أشكال الحياة الاجتماعية ، ونظام اقتصادي جديد ، وهذان هما ما يطلق عليهما التحديث أو مجتمع ما بعد التصنيع أو المجتمع الاستهلاكي، أو مجتمع وسائل الإعلام أو الإبهار ، أو الرأسمالية متعددة الجنسيات .. 
وهذا التعريف – كما تقول مارجريت روز – فيه توليف وخلط بين مفاهيم ما بعد الحديث، وما بعد عصر التصنيع والتحديث، والرأسمالية، إضافة إلى عناصر أخرى كان ليوتار يرى أن مذهب ما بعد الحداثة ينقدها أو ينقضها. ويرى فريدريك جيمسون أن تيارات ما بعد الحداثة قد فتنت بالرخيص والسوقي مثل مسلسلات التلفزيون، وثقافة الأعمال الفنية المبتذلة، والإعلانات، والموتيلات وعروض الترفيه المسائية المتأخرة وأفلام الدرجة الثانية من هوليود، وما يسمى بالأدب الشبيه (أو المناظر) الذي تولد عنه سيل من المطبوعات الرخيصة مثل قصص الرعب والروايات الغرامية والسير الشعبية والروايات البوليسية وروايات الخيال العلمي والفانتازيا.. كل هذه المواد لم تعد مجرد مصدر للاقتباس منها كما كان جوليس JOYCE أو مالر MAHLER سيفعلان لو شهداها، بل إن هذه المواد أصبحت تغوص في أعماق تيارات ما بعد الحداثة وتتوحد بها.. 
ويصف جيمسون ما بعد الحداثة بأنها باردة لأسباب عدة من بينها موت الشخص الفرد الذي عاش قبلها ،أي موت التفرد والابتكار.. وفي هذا يقول في مقاله المنشور عام 1983 م تحت عنوان "ثقافة ما بعد الحداثة": "تأتى المعارضة (أو المحاكاة) مرة أخرى.ففي عالم يتعذر فيه الابتكار الأسلوبي لا يبقى لنا سوى محاكاة أساليب ميتة، والحديث من خلال أقنعة وأصوات تنتمي لأساليب محفوظة في متحف وهمي..و لكن هذا معناه أن الفن المعاصر أو فن ما بعد الحداثة سيتناول الفن ذاته بأسلوب جديد، بل أن رسالة أساسية من رسائل هذا الفن ستكون الفشل الحتمي للفن و الإستطيقا، أي فشل الجديد و السجن في الماضي". و قد انتقد إيهاب حسن رؤية جيمسون لثقافة ما بعد الحداثة بوصفها ثقافة ليس فيها سوى محاكاة الأساليب الميتة قائلا إن هذه رؤية جزئية،كما أنها تلوي عنان الأمور لتربط ما بعد الحداثة بفرضيات قديمة و رجعية إلى حد ما.. 
يورجين هابرماس 
يرى يورجين هابر ماس أن مقطع POST (ما بعد) في مصطلح ما بعد الحداثة يمثل رغبة لدى دعاة ما بعد الحداثة في الابتعاد عن ماض بعينه،إضافة إلى إنه في الوقت نفسه يعبر عن عجزهم عن تسمية حاضرهم "لأننا حتى الآن لم نجد حلا للمشاكل التي تنتظرنا في المستقبل" و هذا التقابل بين جوهر الحاضر و حل مشاكل المستقبل ملمح رئيسي في تناول هابرماس لما بعد الحديث..و من الملاحظ في موقف هابرماس ما بعد الحداثي إنه يقدر مشروع الحداثة الذي صاغه في –رأيه- فلاسفة التنوير منذ القرن الثامن عشر.. جاء ذلك في محاضرة له عام 1980م،و قد هاجم في هذه المحاضرة عمارة ما بعد الحداثة التي كانت موضوع معرض بيناي فينيسيا عام 1980 م،لأن هذا الطراز المعماري يضحي بتقاليد المودرنية لإفساح الطريق أمام تاريخية جديدة..و يقول هابرماس أن عمارة ما بعد الحداثة نقيض للحديث والحداثي حتى في نقدها لقوى التحديث التي يفترض أن مشروع المودرنية ذاته يمثل نقدا لها..و قد كتب هابرماس عام 1981م عن وجود صلة بين "المحافظين الجدد" الذي يسعون لإحياء تقاليد قديمة "للقضاء على ثقافة ترفض توجهاتهم، وبين الراديكاليين الذين ينتقدون التطور،و الذين يعدون العمارة الحديثة رمزا للتدمير الذي نجم عن التحديث"،و كلتا الجماعتين في رأيه تريد الانسلاخ عن الحديث. 
و كما هو واضح فإن هابرماس لا يرى أية جوانب مشرقة في تيار ما بعد الحداثة،لأنه يعتقد أن الهدف الرئيسي للتيار هو نفي أو رفض مشروع المودرنية. و يقول هابرماس أن أطروحة ما بعد الحداثة قد تكون محقة في إبرازها للمشاكل الناجمة عن تزايد تحديث الثقافة في إطار الحداثة ذاتها، و لكن هذه الأطروحة لا تقدم بديلا مقبولا للحداثة بحيث يمكن ملء الفراغ السلبي الذي تتصوره ما بعد الحداثة بمحتوى إيجابي.و جدير بالذكر أن هابرماس ليس وحيدا في رؤيته السلبية لتيار ما بعد الحداثة،بل يشترك مع آخرين في ذلك مثل جان فرانسوا ليوتار الذي هاجم هو الآخر عمارة ما بعد الحداثة.و لكن يبدو أن هابرماس هو أكثر الناس تشاؤما فيما يتصل بمستقبل ما بعد الحداثة،و هذه الرؤية نابعة-كما رأينا-من تقويمه الإيجابي لتيار الحداثة أو المودرنية،الذي رأى أنه لعب دورا مهما في الثقافة و الحضارة في الغرب. 
نظريات المزاوجة 
ما بعد الحداثة عند الناقد و المؤرخ المعماري تشارلز جنكس تختلف اختلافا بينا عما رأيناه من قبل عند إيهاب حسن و جان فرا نسوا ليوتار و غيرهما لأنها – حسب تعبير جنكس نفسه- تقوم على مفهوم معاكس لذلك، إذ إنها تعني عند نهاية التطرف الريادي، و الرجوع جزئيا إلى التقاليد، إضافة إلى منح أهمية للاتصال بالجماهير. و لهذا بدأ جنكس كتابه (WHAT IS POST-MODERMISIM 1986 ) برسم لكار لو ماريا مارياني عنوانه " اليد تأتمر بأمر العقل " علق عليه تعليقا يعكس اهتمامه، أي جنكس، بالمزج بين الحداثة و الطرز التاريخية الأخرى، وبخاصة الكلاسيكية. وفي ذلك قال: "إن موضوع الفن من وجهة نظر الحداثيين هو عملية الإبداع الفني، أما عند أصحاب ما بعد الحداثة فهو تاريخ الفن. فنجد إن مارياني يقوم بتطويع صيغ ترجع للقرن الثامن عشر منها " البرود المثير للغرائز " ليرسم صورة تعبر عن الإبداع العبقري الذاتي. ففي رسم " اليد تأمر بأمر العقل " إشارة إلى الأسطورة اليونانية التي تتحدث عن أصل فن التصوير، وفيها إيحاء بأن الفن اليوم ما زال يتولد من الفن ذاته، وأنه مغلق متصومع ". 
وفي لوحة أخرى لما رياني عنوانها "مدرسة روما" تعود إلى عامي 1980و 1981 يستخرج جنكس، في كتابه المذكور، ما فيها من عناصر كلاسيكية مثل تصوير مارياني لتجار القطع الفنية والفنانين المعاصرين في أزياء كلاسيكية، ومثل تقليده لمدرسة أثينا لروفائيل ولبعض الكلاسيكيين الذين كانوا معجبين به، وهذا الاستلهام للعناصر الكلاسيكية يبرز السخرية اللاذعة الموجودة في لوحة مارياني،وهي لوحة-كما يقول جنكس-تستخدم المحاكاة التهكمية، والمعارضة والهجاء إلى جانب النسق الكلاسيكي. 
ويرى جنكس أن مصطلح ومفهوم ما بعد الحداثة كان شائعا في النقد الأدبي فقط حتى عامي75-1976م، وهي الفترة التي كتب خلالها كتابه (THE LANGUAGE OF (PAST-MODERN ARCHITECTURE وكان هذا المفهوم السائد – في رأيه- يعني "ما فوق الحديث - ULTRA MODERN، ونزعة العدمية MIHILISM ، ومناهضة التقاليد. وما فعله جنكس هو أنه نقل هذا المصطلح إلى مجال العمارة، وتوسع في درسه في هذا المجال، وزاوج فيما بين الأنساق، على النحو الذي رأيناه في الفن من استلهام العناصر الكلاسيكية في لوحات ما بعد حداثية. وهذه المزاوجة بين الأنساق – في نظره-نبعت من "ضغوط متناقضة في الحركة"، لأن بعض المعماريين أرادوا التغلب على عقبة الحداثة أو العجز عن التواصل مع الآخرين الذين يستخدمون تصميماتهم، فاضطروا إلى اللجوء إلى لغة مفهومة بعض الشيء، وهي الرمزية التقليدية أو المحلية.ولكنهم في الوقت نفسه أرادوا أن يتواصلوا مع أقرانهم وأن يستخدموا التكنولوجيا المتاحة لهم. أي أن اللجوء إلى الجمع أو المزاوجة بين أنساق حديثة وأخرى قديمة أو تقليدية قد صدر عن رغبة حقيقية في التواصل مع الآخر أو مع الجمهور، بعد فترة طويلة استخدمت فيها الحداثة الأساليب المغلقة التي يصعب في معظم الأحيان التواصل معها حتى على مستوى النخبة. وهذا التوجه في تيار ما بعد الحداثة إن دل فإنما يدل على أن ثم قطاعا لا يستهان به من منظري ما بعد الحداثة يضعون نصب أعينهم هدفا مهما هو التواصل مع الجمهور، أو بتعبير آخر تداولية الحدث الفني. 
وقد عرف جنكس عمارة ما بعد الحداثة، في الطبعة الثانية من كتابه سالف الذكر (1978) بأنها لون من ألوان المزاوجة بين الحداثة وغيرها من الطرز والأساليب. وقد استخدم لفظ المزاوجة-DOUBLE CODIN ليؤكد أن عمارة ما بعد الحداثة هي لون معماري يسعى إلى توصيل رسالة لمستخدمي البنية المعمارية ومشاهديها من خلال تعدد الأساليب والشفرات.ويستخدم جنكس مصطلح الشفرة للإشارة إلى أن العمارة إنما هي رسائل مرسلة إلي مستخدميها بطريقة تشبه طريقة أفعال الكلام أو الإشارات الأخرى. ثم إنه اشتق لفظ DOUBLE CODING أي "مزاوجة الإشارات" ليشير إلى أن عمارة ما بعد الحداثة تضيف نسقا إشاريا ومجموعة من الرسائل إلى الطراز الحديث. ذلك أن العمارة – في رأي جنكس – شكل من أشكال اللغة،ومن ثم لابد من وضع كافة الوظائف في نسق إشاري محدد حتى يتحقق التواصل المطلوب. 
ويوضع جنكس ذلك بمثال هو " إناء الحمام " ( أو البانيو) الذي هو من وجهة النظر الوظيفية مثال طيب للشكل المهيأ لأداء وظيفة محددة. ولكن هذا الإناء نفسه قد يستخدم لوظائف أخرى، ففي جنوب إيطاليا على سبيل المثال يمكن أن يستخدم وعاء لتنظيف العنب،وفي شمال اليونان قد يستخدم مدفأة، أي أنه يكسب وظائف مختلفة باختلاف السياق والنسق الذي يرد فيه. وفي ذلك يقول جنكس: "إن إدراكنا للوظائف يتبع أعرافا هي بالأساس تقاليد وأعراف تاريخية، وفي الأغلب أعراف تعسفية لا طبيعية". و عندما يربط ذلك بقضية التواصل يقول "إذا مارس المعماري العمل في أربعة أو خمسة طرز مختلفة يمكنه أن يتحكم تحكما أفضل في كيفية استخدام الشكل لتحقيق التواصل. عندئذ تنشأ تعددية تعكس التنوع الفعلي للمدينة وشتى ألوان الثقافة فيـها" . 
وهذا التوجه القائم على المزاوجة عند تشارلز جنكس يمكن أن نسميه" كلاسيكية ما بعد الحداثة" وقد استخدم هو نفسه هذا التعبير في ملحق وضعه للطبعة الصادرة من كتابه المذكور عام 1984 قال فيه: "إن كلاسيكية ما بعد الحداثة التي ظهرت في أواخر السبعينيات ما زال أمامها شوط طويل، ولكنها قد وصلت فعلا إلى نوع من الإجمال مثل الطراز الدولي الذي شاع في العشرينيات. 
ولكن كلاسيكية السبعينيات تختلف في أنها أسلوب تلفيقي حر يستخدم عند الضرورة في المباني العامة". ويضيف جنكس "إن هذا الأسلوب ليس طرازا كليا بعكس الطراز الدولي الذى كان جمعيا أو كليا على حد وصف نيكولاس بفسنر، كما أنه موجود بوصفه لونا فنيا جنب مع طرز أخرى. وباختصار فإن هذا الطراز الكلاسيكي بعد الحديث هو الجانب الأساسي في التعددية التي تعد أسلوبا ضروريا للتواصل". 
وهذه التأملات ما بعد الحداثية التي قدمها جنكس في مجال العمارة، والتي تقوم كما أسلفنا – على فكرة المزاوجة، والرجوع جزئيا إلى التقاليد السالفة تعطينا فرصة للتأمل فيما تزخر به الساحة الشعرية العربية حاليا من تجارب جديدة تبني على النمط الكلاسيكي أو تنطلق منه، أو تؤسس عليه، على نحو ما نرى عند عفيفي مطر في أشعاره الأخيرة ، وسعد الحميدين في ديوانه الأخير " أيورق الندم" وغيرهما من شعراء موجة ما بعد الريادة، بل أن بعض الشعراء الرواد مثل عبد الوهاب البياتي يصدرون حاليا من رؤية تمزج ما بين الحداثي والكلاسيكي ضمن مفهوم يمكن أن نسميه أيضا " كلاسيكية ما بعد الحداثة ". 
وإذا كان هذا التيار القائم على المزاوجة قد نبع عند الفنان والناقد الغربي من واقع رؤية ترغب في التواصل مع الجمهور بعد فترة انقطاع طويلة، فإنه يمكن أن يكون قد نبع كذلك عند شعرائنا العرب من رؤية مشابهة بعد أن أحسوا ببرودة تجرى في أوصالهم نتيجة لعدم التواصل الحميم مع الجمهور. وربما يكون هذا التفكير الاجتماعي التواصلي أبعد ما يكون عن رؤية هؤلاء الشعراء، ولعله لم يخطر ببالهم على الإطلاق، ومن ثم فإن التفسير الذي أراه أكثر مواءمة لذلك هو أن روح العصر تجري من الناس، وخاصة المبدعين والمشتغلين بالثقافة، مجرى الدم، أو لعلها لغة التسامي والتوحد التي تجعل من الجماعية سمة مشتركة في حقل ما مثل الشعر، على حد تعبير الدكتور عبدا لله الغذامي في كتابة " الكتابة ضد الكتابة" (5) .بل إن هذه الجماعية، تأخذ فيما نحن بصدده سمة عالمية فنراها عند مارياني وجنكس وغيرهما مثلما نراها عند عفيفي مطر وسعد الحميدين وسواهما من شعرائنا العرب المحديثن. 
ولكي نوضح أحد الفروق المهمة بين الحداثة وما بعد الحداثة في نظريات المزاوجة نتناول خاصية من خواص الحداثة وهي استخدام لغة عالمية مجردة من الحس الشخصي، وهو ما أطلق عليه الفيلسوف الأسباني خوسيه أورتيجا إي جاسيت "تجريد الفن " أو " إطراح النزعة البشرية " (6 ). 
وهذا التوجه لعب دورا كبيرا في تشكيل المخيلة الحديثة انطلاقا من نوفاليس الذي حدد على أساسه ماهية الخيال، ذلك لأن الخيال عنده هو الملكة القادرة على خلق اللاواقع. ثم جاء الشاعر الفرنسي بودلير فاستخدم كلمة"مجرد" بمعنى عقل، و قال إن الخيال قوة ترتبط أوثق ارتباط بالعقل الذي يحكمها ويحدد لهل الطريق. و قد استمر هذا الاتجاه التجريدي عند الشعراء الرمزيين ( 7)،و الشعراء الذين جاءوا بعدهم ممن نسجوا على منوالهم أو فتحوا أبوابا جديدة للإبداع الإنساني،و أخص منهم بالذكر جيل 1927 في أسبانيا،و هم الذين يسمون بجيل الشعر الصافي،و هو تيار أكثر دخولا في التجريد من كل ما سبق.و لم يتقدم عليهم في هذا الصدد إلا مجموعات الشعراء السبعينيات ووجدوا في معظم بلدان العالم،يمتحون من رؤية واحدة،و يسيرون في طرق متشابهة على الرغم من كثرة البيئات وتنوعها واختلافها.و إذا انتقلنا إلى مجال العمارة الذي خصه تشارلز جنكس بالتنظير إلى ما بعد حداثي نجده في مقالة كتبها عام 1975 يرد على المقولة الحداثية السابقة التي تزعم أن استخدام أشكال مجردة من الحس الإنساني يمثل توجها عالميا أو أنه بمثابة لغة عالمية، يرد على ذلك قائلا: 
" لا يزال المعماري مؤمنا بأنه يعطي أعماله هوية دولية من خلال أشكال ناطقة، و إنما هو في واقع الأمر يكسبها هوية في إطار نسق تاريخي محدود خاص لا يشاركه فيه معظم عملائه". 
و يقترح جنكس حلا لهذه المشكلة تعددية جديدة تتضمن الواقعية الاجتماعية التي اعتبرها توم وولف بديلا للحداثة الأدبية ،و الواقعية الاجتماعية التي عرضتها جين جاكوب في نقدها للحداثة.و بهذا اقترب جنكس من برنارد سميث الذي استخدم مصطلح ما بعد الحداثة عامي 1944 و 1945 للإشارة إلى رد فعل واقعي اجتماعي جديد ضمن التجريد الحداثي. 
كما وصف جنكس هجوم جاكوب على الحداثة عام 1961 بأنه كان إيذانا بانتهاء العمارة الحداثية.و قد اقترح جنكس بدائل أخرى للغة المجردة من الحس الشخصي التي كانت تستخدمها الحداثة،و تتمثل هذه البدائل في: 
1- الواقعية الاجتماعية المذكورة. 
2- التخطيط القائم على التفضيلات و رفض التصميم المحكم بحيث تؤخذ في الاعتبار مصالح الأغلبية والأقلية. 
3- الترميم و الحماية للمحافظة على الأبنية القديمة. 
4- مدينة التصادم التي تقوم على التعقد الرمزي للتوصل إلى التنوع الاجتماعي المفتقد في المدن الحديثة. 
5- المدن المصطنعة أو البديلة . ولا بد لتلك المدن أن تكون شعبية وبمثابة رد فعل استهلاكي للعمارة الحديثة. فالمعماري الحديث لا يلقى بالا للطرز التاريخية أو الجو العام للبناء وروح البناء، أما المجرب المغامر فيهتم بكل هذه الأمور. 
6- أن تكون العمارة شكلا من أشكال اللغة، على النحو الذي أشرنا إليه من قبل. ومن ثم لابد من وضع كل الوظائف في نسق إشاري محدد كي يتحقق التواصل المطلوب. 
لغة العمارة بعد الحديثة 
يصف جنكس في كتبه الصادرة في أعوام 1977 و 1986 و 1987 عمارة ما بعد الحداثة وصفا ينطوي على نقد لبعض العناصر الوظيفية في عمارة الحداثة، وعلى رفض للحداثة أو المودرنية التي تتجاوز حدود السيطرة والتحكم. وقد سبق أن أشرنا إلى أن جنكس في الكتاب الأول (1977) قد عرض مفهوم ما بعد الحداثة بوصفه مزاوجة لطراز الحداثة بغيره من الطرز وخاصة الكلاسيكية. وفي السطور التالية سوف نتتبع بإيجاز تطور هذا المفهوم في كتابيه التاليين وهما What Is Post – Modernism ( 1986)، و" ما بعد الحداثة الكلاسيكية الجديدة في الفن والعمارة " (1987). 
يبدأ جنكس كتاب عام 1977 ( الطبعة الأولى) بالحديث عن موت العمارة الحديثة بتفجير أجزاء من إحدى البنايات في مدينة سان لويس عام 1972. وفي ذلك يقول في شيء من الدعابة" لقد انتهت العمارة الحديثة تماما في عام 1972 بعد أن ضربت حتى الموت على مدى عشرة أعوام من جانب النقاد مثل جين جاكوب .. ماتت العمارة الحديثة في مدينة سان لويس بولاية ميسوري يوم 15 يوليو 1972 في الساعة 3.32 مساء تقريبا ، بتفجير مبنى Prutt – Igoe المنكوب بالديناميت، أو تحديدا بتفجير عدة أجزاء منه ". وقد كتب جنكس في كتابه التالي الصادر عام 1986 ما يفيد أن الحداثة قد فشلت بوصفها أسلوبا للتشييد على نطاق واسع، وبوصفها أسلوبا لبناء المدن، ومن أسباب هذا الفشل عدم التواصل بين السكان ومستخدمي الأبنية الذين قد لا يروقهم الطراز المعماري، وقد لا يفهمون معناه، وربما لا يدرون كيف يستخدمونه. وفي كتاب عام 1987 نرى جنكس يتفق مع أندرياس هويسن في أن أحد أسباب تبلور ما بعد الحداثة في حركة معمارية في منتصف السبعينيات هو أن العمارة أكثر من أي شكل فني آخر تأثر بنزع الملكية التي جاءت مصاحبة للتحديث، وأنه كان ثمة رابطة مأساوية بل وقاتلة بين العمارة الحديثة والتحديث تتعارض تعارضا مباشرا مع الحركة الحديثة في الفنون الأخرى. ويرى جنكس أن المجتمع السكني المذكور في برويت إيجو والذي حصل على جائزة من المعهد الأمريكي للمعماريين عند تصميمه عام 1951 قد أدى الي ارتفاع نسبة الجريمة بالمقارنة بغيره وتعرض مرارا للتخريب. وفي ذلك يقول "كان الهدف منه ترسيخ قيم معينة عند سكانه عن طريق القدوة الحسنة، وهو الأمر الذي كان يتعارض مع ذلك الطراز المعماري، لأن تلك الأفكار الساذجة المأخوذة من فلسفات العقلانية والسلوكية والبرجماتية كانت لا عقلانية مثله مثل تلك الفلسفات ذاتها ". 
وهذه الأفكار التي عرضها جنكس في كتبه المذكورة تضع أيدينا على بعض الخصائص المهمة لتيارات ما بعد الحداثة، ومن بينها عدم التسليم بالأفكار الجاهزة المطلقة، بل ينبغي وضع كل فكرة، وكل رأي على محك الاختبار لأنها مثل أي شي تمثل فرضية تحتمل الصدق والكذب. وعلى الرغم من أن جنكس ليس من أنصار التيار التفكيكى في اتجاه ما بعد الحداثة ، بل إنه يعارضه معارضة شديدة إلا أنه يقترب منه اقترابا قويا في المقولة السابقة. وقد سبق أن أشرنا، في مقال سابق، إلى أن التفكيكية تعطل وتعلق كل ما نأخذه قضية مسلما بها في اللغة وفي تجربة التواصل الإنساني واحتمالاتها المعتادة. ومن خصائص ما بعد الحداثة أيضا أنها تنظر إلى الإبداع الإنساني نظرة واحدة، وقد سبق أن رأينا أن العمارة عند جنكس تمثل شكلا من أشكال اللغة. أي أن العمارة، مثلها مثل اللغة والأدب والثقافة والعلوم بعامة تدخل ضمن نظام إشاري واحد هو الذي صار يعرف حاليا بسيميائية الثقافة. فكل شئ ينطوي على أنظمة إشارية تمثل حلقة من حلقات التواصل الإنساني. وكل هذا أدى إلى أن تأخذ كثير من العلوم حاليا صفة" عبر التخصصي" Interdisciplinar. 


وهكذا رأينا تشارلز جنكس في كتبه المذكورة انتقد ما رآه من عيوب في الحداثة، وفي الوقت نفسه أخذ يرسي مفهومه عما بعد الحداثة بوصفه يقوم على المزاوجة بين طراز الحداثة والطرز الأخرى، وأهمها الكلاسيكية. ثم إنه وضع مؤشرات إيدولوجية لما بعد الحداثة( ثمانية مؤشرات) من بينها المزاوجة المذكورة، والشعبي و التعددي في مقابل المثالي الحديث والبرجماتي في الحداثة المتأخرة، والشكل السيميوطيقي في مقابل الشكل الحتمي الحديث والشكل الوظيفي والسائب في الحديث المتأخر، والفنان / العميل في مقابل الفنان المتنبي في الحداثة أو الفنان المضطهد في الحداثة المتأخرة، والجزئية في مقابل الطراز الكلي الحديث. 


ولا شك أن هناك نظريات أخرى كثيرة في التيار الجديد المسمى ما بعد الحداثة، خاصة وأنه يمثل موضوع الساعة الآن في الأوساط الثقافية الغربية، ولكننا لا نستطيع أن نتوقف، في هذه العجالة،عند هذه النظريات جميعها. 


***************************** 
المصادر والمراجع 
(1)انظر محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، دراسات ومناقشات، المركز الثقافي العربي، بيروت،ط1،1991،ص16. 
(2) عنوان الكتاب:Hiding in The Light: On Images and Thing. 
(3) انظر في ذلك الفصل الأول من كتابنا"رواد الشعر الإسباني"، وهو تحت عنوان"خنوان رامون وحركة الحداثة". 
(4) انظر كريستوفر نوريس، التفكيكية: النظرية والممارسة،ترجمة د. صبري محمد حسن،دار المريخ،الرياض،1989،ص13و21. 
(5) انظر عبدالله الغذامي،الكتابة ضد الكتابة،دار الآداب، بيروت،1991،ص16. 
(6) طرح أورتيكا إي جاسيت هذه النظرية في كتاب شهير له صدر في بدايات هذا القرن العشرين تحت عنوان "تجريد الفن" La deshumani Zacon del Arte. 
(7) انظر د.عبدالغفار المكاوي،ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر-الجزء الأول،الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،1927،ص98- 99.
abuiyad

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق