مجموعة اليسر للتدريب والاستشارات تأمل من زوارها الكرام المشاركة في الاستطلاعات التي تجريها بفعالية نظرا لفائدتها العالية
مجموعة اليسر للتدريب والاستشارات هي شركة تضامن لبنانية مسجلة تحت الرقم 489 تتنشط في مجال الدورات التدريبية والمؤتمرات العلمية والتربوية والاجتماعية والادارية والثقافية والتنمية والارشاد الاسري والاجتماعي ، واصدار المنشورات المتخصصة ، وتقديم الاستشارات في المجالات المذكورة وتوقيع الاتفاقيات مع الجامعات والمؤسسات والشركات الوطنية والعالمية على انواعها والقيام بالاستطلاعات والابحاث العلمية والدراسات المتخصصة في لبنان والخارج - نتمنى لكم زيارة ممتعة

09‏/12‏/2010

ما بعد الحداثة: مجتمع جديد أم خطاب مستجد


د. سليمان الديراني
في هذا البحث يحاول الأستاذ سليمان الديراني إجراء قراءة نظرية لمصطلح "ما بعد الحداثة" بصفته تعبيراً عن ظاهرة مجتمعية من ناحية، وبصفته أداة مفهومية من ناحية ثانية. وهذه القراءة تستند إلى كيفية ورود "ما بعد الحداثة" في كتابات المفكرين الغربيين أنفسهم، مع التركيز على الكتابات السوسيولوجية منها. أما الهدف من وراء ذلك، فهو التعرف إلى سياقات التكون التاريخي والاجتماعي والمعرفي لهذه الظاهرة الجديدة، وإلى موقعها وتأثيرها في التيارات الفكرية الغربية حالياً. 
........مع بداية الثمانينات، شرعت أوساط من المثقفين العرب في استخدام مصطلحات جديدة، لم نعهد لها (تاريخاً) في الخطاب، أو الخطابات العربية. وأخذت هذه المصطلحات، مع الوقت، تحتل حيزاً متعاظم الاتساع، في بنية النصوص الفلسفية والسوسيولوجية، بدون أن تكون، رغم ذلك واضحة الموقع والمقصد. وأبرز هذه المصطلحات، مصطلح (ما بعد الحداثة)، الذي يشبه في كيفية التعامل معه، عربياً، قريناً له، هو مصطلح "الحداثة". فهذا الأخير، اكتسب من وراء طرق استخدامه، وعلى مر سني هذا القرن(إن لم نقل منذ النهضة وحتى الآن)، وضعاً إشكالياً، كان يفضي دائماً إلى التباس عبارته ومعناه ويبدو أن الأمر لا يختلف كثيراً عن كيفية التعامل مع مصطلح "ما بعد الحداثة" برغم أن المسألة لا تزال في بدايتها. فغالبية النصوص التي تتبناه –كما تبنت سابقاً الحداثة – تفترضه معطىً واضح التكوين والقسمات، لا تعوزه مساءلة لأفق مقاصده ولا لسيرورة تشكّله(1). 
........في هذا البحث سنحاول إجراء قراءة نظرية لمصطلح "ما بعد الحداثة" بصفته تعبيراً عن ظاهرة مجتمعية من ناحية، وبصفته أداة مفهومية من ناحية ثانية. وهذه القراءة ستستند إلى كيفية ورود "ما بعد الحداثة" في كتابات المفكرين الغربيين أنفسهم، مع التركيز على الكتابات السوسيولوجية منها. أما الهدف من وراء ذلك، فهو التعرف إلى سياقات التكون التاريخي والاجتماعي والمعرفي لهذه الظاهرة الجديدة، وإلى موقعها وتأثيرها في التيارات الفكرية الغربية حالياً. 
........ننطلق، بداية، من افتراض أن ظاهرة "ما بعد الحداثة" وكما ترد في أعمال غالبية التيارات الفكرية الغربية، لا تزال عصية على أن تكون موحدة المواصفات أو راسية على تعريف بعينه. ومن الصعوبة بمكان القول إن هذه الظاهرة موجودة في الاجتماع دون الاقتصاد، أو في الثقافة دون السياسة أو غيرها. وليس هناك، بالتالي، إمكانية لحصر تأثيراتها في ميدان أو مجموعة ميادين، كما ليس بالمقدور الإحاطة بكافة اتجاهاتها(2). يضاف إلى ذلك، الاختلافات الكبيرة في مقاربة هذه الظاهرة، بين مجتمع (غربي) ومجتمع آخر، كل بحسب تقاليده الفكرية والثقافية ويحسب خصوصياته في هذا المجال(3). وعليه، فإن ظاهرة "ما بعد الحداثة" المتنوعة الأبعاد والمشارب، تأبى - حتى الآن - كل تحليل بموضعها ضمن حدود معينة، واضحة ونهائية. وهذه الحقيقة تنعكس بشكل جلي في مجمل الأعمال التي عدنا إليها في محاولة لضبط عناصرها الأساسية، على المستوى النظري. 
فما هي الظاهرة؟ أو كيف يجري تصورها؟
ماهية ظاهرة "ما بعد الحداثة" وكيفية تصوّرها
........المتابع، بدقة للإنتاج السوسيولوجي والفكري في الغرب، حالياً يمكنه تمييز ثلاثة تيارات من السوسيولوجيا، تتناول ظاهرة "ما بعد الحداثة".
1. التيار الأول: 
الذي يمكننا تسميته "سوسيولوجيا ما بعد الحداثة"، يقوم على محاولة إنشاء صلة رمزية بين ثقافة ما بعد الحداثة وظرف اجتماعي معين. فهو يربط بين ولادة مجتمع ما بعد الصناعة وبين ثقافة ما بعد الحداثة. وأهم من تبنى هذه الصلة هو الأمريكي دانيال بل، الذي يعتقد أن البلدان المتطورة قد دخلت مرحلة تاريخية جديدة، تحتل فيها المعرفة العلمية مكان إنتاج السلع (من الناحيتين الاجتماعية والاقتصاد). فهذا النمط المجتمعي الجديد يتميز بقدرته على الإبداع التكنولوجي وعلى إدارة مؤسسات إنتاج المعلومات أكثر من قدرته على تنظيم العمل. كما يستند هذا النمط وبشكل واسع، إلى أولوية وأهمية وجود الاختصاص (ولا سيما التقني منه). وإلى وجود التكنولوجيا (ولا سيما تكنولوجيا الخدمات)(4) ويوضح جان - فرانسوا ليوتار، من جهته، هذه العلاقة بين ما بعد الصناعة وما بعد الحداثة، بالقول إن شرط ما بعد الحداثة مرهون بحال ومستوى المعرفة الخاصة بالمجتمع ما بعد الصناعي(5)، أي المجتمع الذي تتخذ فيه القرارات من خلال "تكنولوجيا ثقافية" حقيقية، حيث المعرفة القائمة على التبعثر واللاتجانس، لا تحتاج إلى تلك المؤلفات الكبرى، مثل كتابات ماكس فيبر وماركس وفرويد وغيرهم، لجعل طموحاتها وأهدافها المدركة مشروعة. من هنا، إذا كانت الحداثة تعرف بصفتها تطبيقاً عقلانياً للعلم على الطبيعة، فإن "ما بعد الحداثة" بالنسبة لهذا التيار، تبدو وكأنها نتيجة من النتائج الثقافية للتكنولوجيا الثقافية الجديدة. ودانيال بل هو أبرز من يذهب في هذا الاتجاه، مركزاً في كتاباته على أهمية الثورة في قطاع الإعلام(باعتباره نموذج الثقافة الجديدة)، وداعياً إلى النظر في طبيعة المجتمع ما بعد الصناعي انطلاقاً من تفكك مبادئ الحركة والعمل فيه، أكثر من النظر في الوحدة والتماسك المفترضين لنظامه الاجتماعي.
........ينضم إلى هذا التيار (وإن بتمايز ملحوظ)(6) المفكر البريطاني جيمسون، الذي بشير إلى العلاقة الوثيقة بين "ما بعد الحداثة" والمرحلة الحالية من الرأسمالية متعددة الجنسية، فبالنسبة له، تبدو الماركسية وكأنها "المؤلف الكبير" الذي لا يزال يناسب الزمن الراهن، إذ إنها تسمح بمعرفة "أن ما بعد الحداثة الجديدة تعبر عن الحقيقة المركبة للنظام الاجتماعي الجديد للرأسمالية في مرحلتها المتقدمة هذه"(7). وعلى قاعدة الترابط بين نمط الإنتاج والثقافة، وفق النظرية الماركسية، يعتبر جيمسون أن الواقعية كتيار فكري، شكلت جزءاً من مرحلة الرأسمالية التنافسية، أما الحداثة فتطابقت مع مرحلة الرأسمالية الاحتكارية، وأما ثقافة ما بعد الحداثة فإنها تتناسب والمرحلة الثالثة من الرأسمالية وهي المرحلة الحالية. 
........إن ثقافة ما بعد الحداثة التي تتناسب والأنماط الجديدة من الاستهلاك وسرعة استعمال الدُرَجَة أو الموضة، تشكل الصورة المستقبلية المرتقبة للواقع الجديد والمستندة إلى مرتكزين اثنين: وسائل الاتصال والإعلام، والتقسيم الدقيق للوقت، أو ما نسميه "تذرية" الوقت. 
........وعلى عكس ما تتصف به الحداثة باعتبارها نقيضاً للمجتمع التقليدي، فإن ما بعد الحداثة لا تقوم إلاّ على إعادة إنتاج، وتقوية منطق الاستهلاك، عن طريق توسيع دائرة التعارضات وإبرازها. وقد شكلت الفنون التشكيلية، خصوصاً، والفنون عموماً، ميداناً أساسياً لتجسيد هذه التعارضات والتناقضات(8). لكن ولادة قيم فنية جديدة متعارضة مع قيم سائدة، لم تجر في ظل تقلص الثقافة وهامشيتها، بل على العكس، حيث كانت هذه الأخيرة تشهد توسعاً كبيراً لم يسبق أن عرفت شبيهاً له. وهذا التوسع هو بالضبط التوسع ولد في ظل المرحلة الرأسمالية الحالية، والتي تحولت فيه القيمة الاقتصادية والبنى المادية إلى قيم ثقافية، عن طريق تعميم القيم الاستهلاكية، وما يتطلبه هذا التعميم من قدرات تواصلية، إعلامية وثقافية هائلة. من هنا، تستمد تسمية "المجتمع الإعلامي" مشروعيتها وواقعيتها(9). وباختصار، حتى لو حاول جيمسون اعتبار أن ما بعد الحداثة هي ردة فعل ضد أرقى أشكال الحداثة(وهي أيضاً، برأيه، إزالة تامة للحدود الفاصلة بين النظم المعرفية والعلمية)، ويبقى من الواضح أن ما بعد الحداثة ليست "موضة" للمرحلة الرأسمالية الحالية، وإنما هي ثقافتها بالذات. 
........وإذا كان جيمسون من أوائل من حاول إيجاد منطق خاص لما بعد الحداثة، ضمن هذا التيار، إلا أنه ليس وحيداً في هذا المجال. فهناك كتابات أخرى عالجت هذا الموضوع مثل د. هارفي الذي يعتبر أن الثقافة اليوم هي مصدر السلطة ومكانها المركزي، وهي في الوقت عينه، المساحة التي تتبدى فيها الأشكال الجديدة للصراع الطبقي. وهذه الثقافة ليست إلا ثقافة ما بعد الحداثة، وهي تمتلك طواعية عالية للتلاؤم مع الأنماط المتحركة من التراكم الرأسمالي(10). وفي الاتجاه نفسه تقريباً، يربط م. دافي بين المضاربة المالية، التي تميز الاقتصاديات المتطورة في الولايات المتحدة، وبين تطور هندسة العمارة وفنونها الما بعد حداثوية (11). وتوجد أسماء أخرى عديدة، مثل س ليش و ج أوري اللذين يقيمان علاقة بين تفجر "حساسية" ما بعد الحداثة وبين تداعي وانهيار الأشكال القديمة للرأسمالية المنظمة(12). وبرغم أن هذا البحث لا يتسع لذكر كل الأسماء التي لها علاقة بهذا الموضوع (من وجهة نظر هذا التيار)، تجدر الإشارة إلى الأعمال المستمرة التي يقوم بها سكوت ليش، الذي سبق ذكره، والذي يعرف ظاهرة ما بعد الحداثة باعتبارها ظاهرة ثقافية بالدرجة الأولى، وتمتلك ثلاث مواصفات عامة: إنها، أولاً، نتاج سيرورة التمايزات الثقافية؛ وهي، ثانياً، خلق لنظام جديد من الرموز المجتمعة المتصفة بالرؤيوية أكثر من اتصافها بالملموسية؛ وثالثاً، هي ظاهرة تعكس تغيرات واضحة وجلية في التصنيف والتراتب الاجتماعيين(13).
........نستطيع أن نضيف وجهة نظر أخرى، تصب في هذا التيار، انطلاقاً من فكرة مشتركة هي أن ظاهرة ما بعد الحداثة تشكل ثقافة العصر الجديدة. ولكن هذه الوجهة تتمايز، لا بل تختلف كلياً في استنتاجها مع استنتاجات الوجهات الأخرى التي سلف ذكرها. فهي تعتبر أن "ما بعد الحداثة" هي لحظة من لحظات "تصريف المكبوت الثقافي"، كيف؟ 
........إنها تستند في تفسيرها ظاهرة ما بعد الحداثة إلى واقعين: الواقع الأول، أن التقسيم المتعاظم دقة للحفل الثقافي أنتج نوعاً من الانفصال بين خطاب المثقفين وكلامهم وبين ممارسة الفاعلين الاجتماعيين وحركتهم ونتيجة لهذا الانفصال والتباعد، ولدت فئة كبيرة من "المثقفين من أجل المثقفين" على غرار "الفن من أجل الفن". عندها تصبح ظاهرة ما بعد الحداثة، التي تعبر عن التذرية الهائلة للحقل الثقافي مجرد خروج للمكبوت الثقافي عند المثقفين، وهي لهذا تشكل وعياً متصاعداً بأن الثقافة أصبحت مجرد لعبة لغوية، أو قل الناحية "الجمالية" للسلطة، مثلاً. أما الواقع الثاني، فهو الذي يشير إلى نضوب القدرة الإبداعية في الزمن الراهن. فإذا كانت الحداثة (العقلانية) تقوم على مبدأ التقدم والتوسيع الدائم للقدرة الذاتية والإبداعية من أجل استيعاب كل حقيقة اجتماعية جديدة، وإذا كانت ما بعد الحداثة (التي تقطع مع فكرة التقدم=التقدمية) هي مراوحة وإعادة تكرار للأفكار وإنما بأشكال جديدة، فإن خصوصية المرحلة الحالية (أي مرحلة ما بعد الحداثة) تكمن – فقط - في القدرة على نقل الرموز المجتمعية التي كانت سائدة في مرحلة الحداثة، والتي جرى نسيان أو كبت أصولها التاريخية، من حيز إلى حيز آخر، ومن زمان إلى زمان آخر. وعليه، تحيل ما بعد الحداثة، قراءة الواقع إلى مجرد نوع من "فن التوليف" بين عناصر هذا الواقع، توليفاً جديداً لا أكثر. 
........وباختصار، تقول وجهة النظر هذه إن كل قراءة في الآداب والعلوم الإنسانية مثلاً، تتم انطلاقاً من التذرية والتقسيم الكبير والدقيق لحقول الثقافة وأنواع الفنون، وانطلاقاً مما تتميز به المرحلة الحالية، وهو أزمة الإبداع أو قل "أزمة المخيلة". 
........نحن نعتقد أن هذا الكلام لا يفسر شيئاً تقريباً، إن لم نربطه بالانهيارات الكبيرة التي أصابت الهيغلية - الماركسية التي يعتقد هذا التيار أنها حصلت، والتي ينطلق منها ضمناً. فالاعتقاد بانهيار الهيغلية - الماركسية، أدى حالياً إلى تراجع المثقفين والفنانين عن النظر إلى الثقافة تحت تأثير فكرة الطليعية. فالمثقف، ونتيجة لهذا التراجع، انفصل عن علاقته العضوية بالمجتمع، وأخذ يعتبر أنه تخطى ضرورة إنتاج كتابات فكرية ناظمة لأحداث ووقائع الواقع ومفسرة لها في الوقت نفسه. وهذا ما يجعل من ظاهرة ما بعد الحداثة حركة للانتلجنسيا التي تسعى إلى الاستقالة من وظائفها الاجتماعية. وغالباً ما نلاحظ، أن صلابة التزام المثقفين في هذا الموقف "المستقيل" تبزّ صلابة موقفهم والتزامهم الماركسية، حين كانوا ماركسيين(14). 
........بمعنى آخر، تُشكِّل ما بعد الحداثة اللحظية التي تجتمع فيها كل هذه الأنواع من الوقائع، لتؤدي إلى نتيجة، مفادها أن المثقفين لم يعودوا يشعرون بأن لديهم شيئاً حتى يقال، وأنهم أصبحوا في حل من كل واجب أو وظيفة اجتماعية. ويرددون (وبشكل جميل أحياناً) هذه الرسالة (الاستقالة)، بدون أن يكون لها، بالضرورة، لون واحد أو معنى واحد، وذلك منذ عشر سنوات على الأقل، في أوروبا عموماً وفي فرنسا خصوصاً وكذلك في الولايات والمتحدة الأميركية. والذي ينظر في سوسيولوجية المثقفين، على غرار ما يفعله برنار - هنري ليفي(15)، يرى من خلالهم أن ظاهرة ما بعد الحداثة ليست إلا تعبيراً عن القلق والانزعاج اللذين تبديهما "كنيسة المثقفين وكهنتها". فهم لا يزالون يقيمون على حنينهم إلى دورهم كـ "كاتمي أسرار العناية الإلهية" (على ما كان يصفهم به ريمون آرون)، وهم لا يزالون، أيضاً، برغم إعلانهم المتكرر عن انفصالهم عن الواقع واستقالتهم من وظيفتهم فيه، يمتعضون، وبقوة في غالب الأحيان، من تحولهم إلى مجرد "مثقفين اختصاصيين" (على ما يقول ميشال فوكو حين يتكلم على "موت المثقف"). كما أنهم يبدون الكثير من الأسى لكونهم تحولوا، في عالم يسوده العقل التقني والأدواتي وتسيطر عليه قوانين السوق، إلى مجرد وجوه بلهاء، لا معنى مميزاً لها، تصطف إلى جانب وجوه رجال الأعمال والمتعهدين وأصحاب المصانع والسياسيين(16). ولكن هذا النوع من النقد يبقى كلاماً ناقصاً، وغير قادر على توضيح حقيقة ما بعد الحداثة، إن لم يستند إلى ما هو جوهري في نقده، وهو أن كل المثقفين "الما بعد حداثويين" قضوا نهائياً على فكرة للمجتمع كانت قائمة سابقاً، وبهذا المعنى، يصبح المثقفون "شيئاً آخر" غير مجرد كونهم "أشباحاً" معزولة لا تأثير واقعياً لها في مجتمع اليوم. 
2. التيار الثاني:
ويمكن تسميته "ما بعد الحداثة السوسيولوجية"، فما هو؟
2. التيار الثاني:
هو تيار: "ما بعد الحداثة السوسيولوجية"، والذي يرتبط أكثر ما يرتبط، بكتابات لوهان التي لم نستطع للأسف، الاطلاع على مجملها، لأسباب ليس المجال لذكرها الآن. ولكننا استندنا إلى ما هو أساسي فيها، والوارد في الكتاب المشترك مع هابرماز "الخطاب الفلسفي للحداثة"(17). 
........في الواقع، قد يكون مستهجناً وصف كتابات لوهمان بأنها "ما بعد حداثوية". ولكن الأمر لا يكون كذلك، عند حديثه عن "النظرية العامة للنظم"، التي تأخذ بها ما بعد الحداثة وتقبل بكل نتائجها، وذلك على الرغم من أن لوهمان يحاول، في كتاباته، مفصلة المرتكزين التاريخيين الخاصين بالسوسيولوجيا (على طريقة فرانسوا ليوتار): النظام الوظائفي (المرتكز العضوي) والنظام التطوري (المرتكز المسيحي - الهيغلي).
.....إن نظرية النظم عند لوهمان تقوم على افتراض أنه طرأ تحول على مفهوم السستام (النظام). قبل التحول كان يفهم بالنظام علاقة بين الأجزاء وبين الكل الذي يؤلف مجموع هذه الأجزاء، وبعد التحول أصبح النظام يفهم باعتباره بنية علاقات بين السستام ومحيطه. وتستند نظريته هذه إلى مفهومين اثنين: مفهوم التعقيد (بمعنى الترابط الاصطفائي بين عناصر البنية) ومفهوم التمايز (إعادة إنتاج التمايز بين السستام ومحيطه من داخل السستام نفسه). وانطلاقاً من هذه الوظائفية يتطور الفهم التطوري للمجتمعات عند لوهمان، فهو يقول إن المجتمعات الغربية عرفت ثلاث أشكال للتمايز: 
الشكل الأول: هو التمايز الذي يقوم على التنوع (حيث يتميز المجتمع بكون بنيته العامة تشتمل على أنظمة فرعية متوازية). 
الشكل الثاني: هو التمايز التراتبي (حيث يقوم المجتمع على لا مساواة الأنظمة الفرعية فيه، ويشهد من خلال اللامساواة هذه، مبدأ التراتبية الهادف إلى جعل النظام العام للمجتمع متماسكاً). 
ثم الشكل الأخير: وهذا ما يتم التوجه إليه اليوم، وهو التمايز الوظائفي الذي ينظم التواصل والعلاقات بين الأنظمة الفرعية والتي يتميز كل واحد منها بوظيفة خاصة. 
........ولكن هذه الوظائف غير مستقلة عن بعضها البعض، بل مترابطة ومتداخلة الصلات، الأمر الذي يمنح الأولوية المطلقة لوظيفة معينة (أو لنظام فرعي معين) على الوظائف الأخرى. بهذا المعنى، فإن الوظائف لا تمتلك إلا أولويات مؤقتة، والنظام الاجتماعي العام الذي يخضع إلى هذه الأولية، لا يستوي تراتبياً بشكل ثابت، وإنما يستوي على قاعدة أولوية النظام الفرعي (سياسي، إداري، اقتصادي، ديني …) بحسب طبيعة التواصل الظرفي والمؤقت بين مجموع الأنظمة الفرعية. 
........بمعنى آخر، التمايز الوظائفي هو الذي يحدد، بنيوياً، أين تقع مركزية (أولوية وظيفة أي نظام فرعي) المجتمعات المعاصرة والكثيرة التعقيد. وقد قام لوهمان بدفع ما يسميه "المرجعية الذاتية" لكل نظام فرعي (أي باعتباره هو مرجع ذاته)، إلى أقاصيها، حيث يقول بأن الذات الإنسانية تفقد كل وجود فعلي، وتصبح "نتاجاً" للمبدأ الوظائفي الذي تختزل التعقيد المجتمعي، والذي يصبح، هو، الموجه الحقيقي للنظام الاجتماعي. ومع التمايز الوظائفي، يكتمل انتزاع صفة الأنسنة عن كل معنى؛ أي أن المعنى يتوقف عن كونه تعبيراً عن الوعي الذاتي، ويصبح علامة من علامات النظام وخصائصه. والذي يكشف لنا هذا في نظرية لوهمان، هو مفهوم (Autopoiesis). إن تمايز بنية نظام (يتضمن مجموعة أنظمة فرعية)، هو نتاج "نواة مغلقة للهوية" – بحسب تعبير لوهمان - أو ما يمكن تسميته بالفرنسية (Autoreflexif)، حيث تنتشر هذه النواة وتكبر بدون أي معوق خارجي لها(18). إن جوهر النظام الفرعي يكمن في قدرته على التكيف مع محيطه، الذي يزداد بدوره تعقيداً متواصلاً، أي تفرعاً بالتالي تمايزاً. بمعنى أوضح، يمتلك كل نظام فرعي منطقاً خاصاً به، مستقلاً عن غيره. وانقسام النظام العالم إلى مجموعة أنظمة مستقلة هو الذي يضمن حرية الكل الجامع، كما يضمن حرية كل نظام فرعي على حدة، ويصبح المجتمع، هنا، مجرد مساحة تنعكس فيها علاقة هذه الأنظمة ببعضها بعضاً.
........وعلى هذا، ينتقل "المعنى"، عند لوهمان، من موقع الذات - الفرد على موقع الذات - النظام الاجتماعي. فالمعنى الذاتي الفردي لا يشكل، وفق هذا الانتقال، أساساً مهماً في فهم طبيعة المجتمع، ويفقد أصليته متحولاً إلى مجرد سمة من سمات النظام. زد على ذلك، لا يقيم كبير اتفاق يبن المعنى الفردي وبين معنى الكل، فالمعنى الفردي هو جزء من محيط النظام أو الكل، ولا يستطيع، بالتالي، التأثير على أطره المرجعية. وبهذا، تنعدم العلاقة بين المعنى - معنى النظام أو الكل - وبين وعي الفاعلين الاجتماعيين. 
........استناداً إلى ما سبق، ورغم التعقيد الذي تتميز به نظرية لوهمان، نعتقد أن ما يطرحه هذا المفكر يمثل، ربما الفهم الأكثر تماسكاً لظاهرة ما بعد الحداثة. فنهاية "عصر المؤلفات الكبرى"، ودفن كل الأفكار الوجودية، إضافة إلى "موت الذات"، تصبح، كلها، عند لوهمان نظاماً بدون مركز أساسي ثابت فيه، نظاماً يمتلك سيطرة كبيرة على توجهه الذاتي، بدون أن يكون لهذا التوجه مركز رئسي فيه. إن هذا النظام بالمعنى الذي يعطيه لوهمان، هو التعبير الواضح عن رفض فكرة بناء قواعد عامة للنظام بكليته، وهو، أخيراً الذي يعتبر "الإنسان جزءاً من محيط المجتمع (وليس جزءاً من المجتمع نفسه)"(19). 
........يبقى أن ما تسميه النظرية العامة للنظم (من فوق) التمايز الوظائفي، هو عينه الذي يعرف (من تحت) باسم "التمايز المعيوش" أو "الفرع المعيوش" فما هو؟ 
التيار الثالث:
هو تيار السوسيولوجيا الما بعد حداثية، التي ترتكز على ما هو معيوش أو على التجربة المعيوشة. ويمكن وصف هذه السوسيولوجيا (التي تولد حالياً)، يصفتها جسراً تعبر عليه الأيديولوجيات من التفسيرات الكلية إلى الرؤى التفرعية. 
........في البداية، يبدو ضرورياً فهم معنى هذا "العبور" من خلال قراءة الواقع الاجتماعي فالأيديولوجيا، وبخلاف الرؤية التفرعية أو الجزئية، تفترض وجود حقيقة كلية شاملة (حتى إن كانت غير مرئية من قبل كل إنسان في المجتمع)، وتسمح باتصال المواقع الاجتماعية في ما بينها. وباختصار تشكل الأيدولوجيات رؤى متنوعة ومختلفة لحقيقة اجتماعية واحدة، وتفترض، بشكل أو بآخر، وجود مكان مركزي يضفي المعنى على المواقع والأجزاء المترابطة في ما بينها، وذلك بفضل وجود نظام، غالباً ما يكون تراتبياً. ولا يهم، هنا، إذا كان الفاعل الاجتماعي يماثل بين أيديولوجيته وبين الحقيقة الكلية (لوكاش)، أو على العكس، ينظر إلى هذه الحقيقة الكلية باعتبارها مجموع الرؤى (مانهايم). فكل نظرية حول الأيديولوجيا تفترض تواصلاً بين الأجزاء، وكل مجتمع يتشكل وفق انقسامه إلى أجزاء، ويقدم نفسه باعتباره تدامجاً لهذا الانقسام الذي يكسب المجتمع معناه عن طريق مركزي فيه. 
........أما الرؤى التفرعية (الأيديولوجيات) فإنها، على العكس، تتخلى عن كل مرجعية مركزية للكل، ويغيب تدريجياً كل تفسير توحيدي للعام الاجتماعي، فيحتل التبعثر والفوضى (كلمة أساسية في خطاب هذا النوع من الأيديولوجيات) مكان المنتظم والموحد. كما يصبح تعيين كل شيء بذاته الأمر الأساسي، فتحول "الفرديات" دون انتشار "الكليات"، وتستقل النظم الفرعية، أكثر فأكثر عن بعضها. أما الناس، الأفراد، فيشعرون أنهم مأخوذون بأساليب اجتماعية جديدة لا يعودون قادرين، تدريجياً، على فهمها، نتيجة الانتقال الدائم للمرجعية المركزية من نظام فرعي إلى نظام فرعي آخر، بدون الثبات على مرجعية بعينها، الأمر الذي يدفعهم باتجاه انطوائهم، التدريجي، أيضاً، على ذواتهم. وهذا ما يسمى بالنرجسية، حيث لا يعود الفاعل الاجتماعي قادراً على التأثير في محيط الاجتماعي، فيلجأ إلى تمركزه على ذاته، فيظهر العجز عند الناس وتكثر ضحايا "الفوضى" في صفوفهم. 
........هذا الكلام هو "جديد" هذا التيار الثالث، الذي يحاول تفسير ظاهرة ما بعد الحداثة. فهو يركز على أنه، بالإضافة إلى الانقطاع في العلاقة بين تجارب الأفراد المعيوشة وانعزالهم المتزايد عن بعضهم، توجد اليوم، أيضاً، استقلالية النظم الفرعية عن بعضها وعدم تدامجها في جامع أو كل تراتبي واحد. فيصبح المجتمع وفي هذه النظرة، حقل احتكاك بين النظم الفرعية والمستقلة عن بعضها. ويحاول البعض (كما رأينا آنفاً) أن يفسر هذا التمايز باعتباره محرك الحرية وعصبها (لوهمان)، ويحاول البعض الآخر اعتبار هذا الانفصال، بين مبادئ حركة المجتمع، بمثابة التناقض الذي تحتضنه الرأسمالية في مرحلتها الحالية (بيل). ولكننا نعتقد أن المهم في الموضوع هو أن المجتمع توقف عن تقديم نفسه بصفته وحدة ناجزة: فالانقسام بين أجزائه يطرح، عملياً مدى صحة شروط التواصل بين الأجزاء، في الوقت الذي لا يوجد فيه نظام مرجعي مشترك لها، ولا تمتلك "نصاً" (أيديولوجيا) كاملاً لها. كما يجعل المعنى الاجتماعي لكل ممارسة أو تجربة معيوشة غائباً كلياً. إن غياب النظام المرجعي المشترك، يدفع كل نظام جزئي إلى أن يتمحور (كما الأفراد) حول أوالية اشتغاله الذاتية، ولا يعود يسري بينهم من اتصال، سوى الاتصال المعلوماتي (الإعلام). 
........من أجل أن تكون هذه الرؤية "عقلانية" أكثر على المستوى السوسيولوجي، صير إلى الاستعانة بفكرة "السوق". فكل هذا المسار لما بعد الحداثة، مرهون بالعودة إلى فكرة "السوق" كمبدأ منفصل عن النظام الذي يحكم المجتمع، وكمختزل لتعقيداته، وكقناة للتواصل (المعلوماتي=الإعلامي) بين أجزائه. فالسوق، هنا، هو المعبّر عن منطق التاريخ الاجتماعي وتطوره، وهو الذي يكشف عن طبيعة النظام الاجتماعي (عناصر منفصلة عن بعضها وبدون مركز، ولا تتواصل إلا عبر الإعلام والمعلومات)، وهو الذي يعبر عن الخصوصيات عن طريق تحصين التمايزات والاختلافات بين الأجزاء.
abuiyad

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق