مقدمة:
يقول العلامة ابن خلدون في مقدمته: «إن الاجتماع الانساني ضروري، ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم الانسان مدني بالطبع، أي لا بدّ له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم وهو معنى العمران».فالفرد الواحد غير قادر وحده على تحصيل حاجته وما يغذي استمرارية حياته، ومن هنا كان لابد له من التعاون مع أبناء جنسه للحصول على قوت يومه ونمو فكره وعقله والذي بهما يقوى لكي يتعرف ويتطلع على كل ما هو جديد ويدور في فلكه، واذا لم يتحقق هذا التعاون فاستمرارية حياته تغدو مهددة بالخطر والتي قد تصل فيما بعد إلى الزوال."لذلك فان هذا الاجتماع ضروري للنوع الانساني، ومما لا شك فيه فانه لا بدَّ لهذا الاجتماع من رادع يدفع البشر بعضهم عن بعض، فواحد منهم له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة... وهذا هو معنى الملك"
(1).والانسان قد عرف الحياة الاجتماعية منذ نشأته الاولى، وبدأت معه عندما كان متنقلاً (مجتمع الجمع والصيد) ولازمته في استقراره (المجتمع الزراعي والصناعي). وتعبير انسان اجتماعي يعني علاقات اجتماعية مع الاخرين.لقد استدعى وجود الانسان مع الاخرين ارتباطه بقواعد معينة من السلوك تتمشى مع عاداتهم وتقاليدهم، وهذا الترابط نجده عند بعض الكائنات الحية أيضاً «كما في الجراد والنحل... إلاّ أن ذلك موجود لغير الانسان بمقتضى الفطرة والهداية لا بمقتضى الفكرة والسياسة»[/COLOR]
(2).والذي يميز الترابط الانساني عن غيره هو الترابط الثقافي، ومن ثم تحدد علاقاته وسلوكه مع الاخرين لا بالفطرة وانما بالتعلم من خلال تجارب الاخرين.واذا كان السلوك الفطري الحيواني يتميز بالثبات فالسلوك الانساني يتميز بالتنوع والتغير تبعاً للمكان والزمان، فما يصح هنا لا يصح هناك.«من هنا نجد ان اهتمامات علم الاجتماع بالمجتمع او الجماعة او المجتمع المحلي لا يتوقف عند الحدود العددية لها بقدر ما يتوقف عند الابعاد النوعية وكيفية تنظيمها وانماط عيشها وسلوكها، وهذا ما يصطلح عليه بعلاقات اجتماعية.وهذه العلاقات الاجتماعية بين الافراد ما هي إلاّ علاقات تفاعلية محورها المشاركة في المجتمع
(3).وقد يتناول الباحث الاجتماعي موضوعاً مبسطاً ومباشراً كالعلاقات بين الزوجين أو الابناء، أو موضوعاً منظماً كالنظام الاسري والثقافي والاقتصادي والسياسي والديني، وهو ما يعرف في علم الاجتماع بالنظم الاجتماعية. إلاّ ان المفهوم السوسيولوجي في الوقت الحاضر تخطى المنظور التقليدي، فمجتمع اليوم اكثر تنقلاً وحراكاً وبالتالي فان قيمه عرضة للتغير والتبدل.مفهوم علم الاجتماع وتعريفه:إنّ لفظ «المجتمع» انما يطلق على نظام له وجود واقعي، وله أسس واركان محددة. وبمعنى أدق إن «المجتمع» لا يطلق إلاّ على التشكيلة الاجتماعية التي لها نظرية حول الوضع الشرعي أو القانوني للجماعة والمنزلة الاجتماعية والحقوقية للافراد. وفي ضوء طبيعة ذلك الوضع تصاغ العلاقات الاجتماعية المناسبة
(4).وعلم الاجتماع هو أحد فروع علم السلوك الانساني التي تحاول إكتشاف العلة والمعلول في العلاقات الاجتماعية بين الافراد. فهو يتناول دراسة العادات والاعراف، والتركيبات والمؤسسات الاجتماعية الناشئة من التفاعل بين الناس.ويحاول دراسة القوى التي تستطيع أن تكتنف تلك العادات والاعراف والمؤسسات الاجتماعية أو تضَّعفها. وبكلمة، فإن علم الاجتماع يدرس الطبيعة الانسانية للمجتمع واساليب الحفاظ على تركيبته الثقافية والسياسية، باعتبار ان اهم ما يميز السلوك الانساني عن سلوك بقية الكائنات هو طبيعته الاجتماعية.ولا شك أنّ تنظيم المؤسسات الاجتماعية يلعب دوراً رئيسياً في صياغة شكل أفعال الانسان على ساحة المجتمع. فمهمة علم الاجتماع تتلخص باكتشاف الطرق التي تستخدمها المؤسسات الاجتماعية على الفرد، وطبيعة تفاعله مع الاخرين. ومثال ذلك: التركيبة العائلية، التي تعتبر من اهم الحقول الدراسية في بحوث علم الاجتماع، والتركيبة الاقتصادية والسياسية ونحوها.ومع أن منشأ علم الاجتماع كان ولا يزال غربيّاً في اطاره العام، وتركيبته العلمية والثقافية كانت ولا تزال منتزعة من التقاليد والاعراف الاوروبية، إلاّ ان إرتباط مبادئ علم الاجتماع بالفلسفة الاخلاقية يجعلنا ننظر ـ وبتحفظ ـ من زاوية العلم الذي يدعو إلى التماس الارتكاز العقلائي في تنظيم المؤسسات الاجتماعية
(5).وقد كان طموح علم الاجتماع ان يتطور بشكل متواز لتطور العلوم الطبيعية كالكمياء والفيزياء والطب، إلاّ إنّ ذلك الطموح لم يتحقق لاختلاف المباني التي استندت عليها العلوم الاجتماعية قياساً لاشقائها في العلوم الطبيعية. بل إن العلوم الاجتماعية ـ في بعض مراحلها المتقدمة ـسلكت مسلك الاداة التنفيذية للاستعمار الاوروبي في فهم سلوك المجتمعات غير الاوروبية وتفاعلاتها الاجتماعية وعقائدها الدينية.وكل ذلك النشاط كان يهدف إلى غاية غير نبيلة تمثّلت بالسيطرة على مقدرات تلك الشعوب سياسياً واجتماعياً واقتصاديا
(6)ً.وعلى اي حال فقد ارتبطت دراسة الاحداث الاجتماعية بظهور الازمات الاجتماعية وكل ما يتعلق بها، فكلما تعدت الحوادث نطاق المألوف او تباعدت عنه، كلما استدعى ذلك الوقوف عند تلك التغيرات والتقلبات التي تلفت الانتباه، لا تلك الاحداث العادية المستقرة التي لا تحتاج إلى حلول. وعلم الاجتماع او السوسيولوجيا كما يُعرّفه «غاستون بوتول»: «هو العلم الوحيد الذي ما زال يتتبع ـ منذ نشأته ـ دراسة موضوع ما زال في طريق التطور السرمدي، وارتبطت كل خطوة من خطواته الكبرى بقلق اجتماعي كبير»
(7).ويحدد «اليكس انكلس» ثلاث طرق لتعريف علم الاجتماع وهي: الطريق التاريخي وذلك من خلال دراسة الكتابات السوسيولوجية الكلاسيكية للوقوف على رأي المؤسسين لعلم الاجتماع. فالعاطفة واحترام التراث تدفعاننا للاستعانة بالطريقة التاريخية التي من خلالها نستنشق حكمة الاجيال السابقة. والطريق الامپيريقي من خلال دراسة الاعمال السوسيولوجية المعاصرة والموضوعات التي يوجهون إليها أكبر إهتماماتهم. والطريق التحليلي أو النظري من خلال تحديد موضوع علم الاجتماع وموقعه بين العلوم الاخرى
(8).هذا، ولا شك إن التوجه الحديث لعلم الاجتماع في جمع المعلومات عن المشاكل الاجتماعية وتحليلها، كان قد نقل ذلك العلم من مرحلة التحليلات الذهنية إلى مرحلة العلم التجريبي. فبفضل التقنية الحديثة في جمع المعلومات عن الافراد والمجاميع، والمنظمات، والشعوب، أصبح علم الاجتماع قادراً ـ إلى حد ما ـ على التنبؤ العلمي بسلوك المجتمعات او الافراد المتوقع حدوثه عقب احداث خاصة وقعت توّاً كالثورات والانتفاضات والحروب ونحوها.فعلم الاجتماع يدرس سلوك الافراد في المدن ذات الكثافة السكانية الكبيرة عن طريق طبيعة توزيع الثروة الاجتماعية. فيدرس قيمة الاراضي، والتوزيع العرقي للافراد في المدينة، ومستويات التخلف العقلي بين الناس، وتحلّل الاسرة، ومستويات الجريمة ونحوها، وبعد جمع المعلومات عن كل تلك القضايا الاجتماعية، يبدأ بتحليلها وبناء الاستنتاجات المستنبطة على ضوئها.إلاّ ان التغير المستمر في أساليب جمع المعلومات والمنهجية العلمية، يجعلنا دائماً نتردد في حمل النتائج المستخلصة من البحوث التجريبية لعلم الاجتماع على سبيل القطع او على صورة المسلّمات العقلية. فلا بد لنا من حمل تلك النتائج على اساس أنها افضل المعلومات والتحليلات المتوفرة لنا لفهم النظام الاجتماعي والمؤسسات الملحقة به
.نظرة في تاريخ وعمر علم الاجتماع
:على الرغم من التاريخ الطويل للانسان ومعرفته بالحياة الاجتماعية منذ نشأته الاولى إلاّ ان عمر علم الاجتماع قد لا يتجاوز المائة عام وهو كما يقول روبرت ميرتون (R - Merton) علم جديد جداً لموضوع قديم جداً.لقد اعتمد العلماء على ما تركته الحضارات القديمة عند المصريين والبابليين والصينيين والهنود واليونان والرومان. وتؤكد معظم الكتابات القديمة على محاولات الانسان لفهم حياة جماعته وضبطها وان هذه المحاولات الاولى كانت في المجالات الدينية والسياسية
. فهيرودوت (Herodot) يؤكد ان مثالية المصريين مثلاً هي في تبرير التنظيم الاجتماعي تحت اطباق المفهوم الديني والحياة الاخرى ليست إلاّ امتداداً للحياة الدنيا وهو ما يفسر عنايتهم الكبرى بدفن الموتى محنطين مع كل ما يلزمهم في الحياة الاخرة
.ويشير بعض المؤرخين إلى ان التفكير والفلسفة الصينية الاجتماعية تمثل أقدم تفكير منظم عن المجتمع قبل عصر سقراط إلاّ ان المفكرين الصينيين بقوا متوقفين في نفعية ضيقة واخلاقية قاسية لم تبذل اي اهتمام للنظر في الالام البشرية وبخاصة منها آلام النساء. وكما يقول بعضهم ان الفضل يرجع إلى فلاسفة اليونان في وضع اساس العقلانية الغربية والى ظهور اول تفكير منظم فتح باب الاساليب العلمية في الموضوعات الاجتماعية، كالملاحظة والمقارنة والنقد وغيرها. ولم يمسوا ما له علاقة بالعادات والاساطير والخرافات بل ذهبوا يفتشون عن الحق الطبيعي في احترام الشخصية الانسانية ودافعوا عن الفرد، كما اهتموا اخلاقياً بالدفاع عن فكرة المساواة ومقارعة العبودية والوطنية الضيقة التي تمثلها المدن اليونانية
ولكن في المقابل لا يمكننا ان ننسى ابن خلدون وما له من الفضل في اعطاء التاريخ تعبيره الاجتماعي عندما تحدث عن احوال الناس وعاداتهم وتقاليدهم وسبب استعلاء بعضهم على بعض. ويقول هارى بارنس (Barnes - H) ان اهم ما يميز هذا المفكر «أي ابن خلدون» هو فصله بين ما سماه بالتاريخ القصصي المملوء بالخرافات والاوهام وبين التاريخ العلمي الذي يقوم على تحري الحقائق، وفي تحليله لاثر البيئة الطبيعية على المجتمع لم يساويه إلاّ بودان (Bodan) ومنتسكيو (montasikuh)(13). فقد تحدث عن تأثير الهواء في الوان البشر واخلاقهم والكثير من احوالهم، وعن الخصب والجوع واثره في أبدان البشر واخلاقهم، وعن البدو والحضر واختلاف نحلتهم من المعايش بقوله: «والبدو أقرب إلى الخير والشجاعة من أهل الحضر». وهو السبّاق في علم اجتماع المدن وفي اختلاف انواع الصناعات والحرف فيها، وفي الرزق والكسب ووجوه المعاش واصنافه ومذاهبه. ويقول سوروكين (وهو من اكبر علماء الاجتماع المعاصرين) ان ابن خلدون ناقش جميع المسائل التي ترد دائماً في موضوعات علم الاجتماع العام وفروعه المختلفة، كما انه في مجال التاريخ يعتبر مؤسس التاريخ العلمي(14).
علاقة علم الاجتماع بالعلوم الاخرى
علاقته بعلم الاقتصاد
:يعتبر الانتاج والتوزيع في مقدمة اهتمامات علم الاقتصاد لذلك يصب اهتمامه على علاقات ومتغيرات اقتصادية خالصة كالعلاقة بين العرض والطلب وارتفاع الاسعار وهبوطها... الخ. ولكن بالرغم من تضييق مجال علم الاقتصاد إلاّ ان ذلك اعطاه قدرة على معالجة ظواهره بطريقة منظمة وحدد مصطلحاته ومقاييسه ومبادئه الاساسية بدقة متناهية، بل ان قدرة هذا العلم على تحويل النظرية الاقتصادية إلى التطبيق العملي جعله مساهماً اساسياً في رسم السياسات العامة. وبالرغم من ذلك فان التشابه بين علمي الاقتصاد والاجتماع نجده في طابع التفكير، فالاقتصادي كالاجتماعي يهتم بالعلاقات بين الاجزاء والسيطرة والتبادل والمتغيرات، ويستعين بالطرق الرياضية في تحليل بياناته
.علاقته بعلم السياسة:
التكيف السياسي مع المجتمع هو سيرورة ترسيخ المعتقدات والتمثلات المتعلقة بالسلطة وبمجموعات الانتماء. فليس هناك من مجتمع سياسي يكون قابلاً باستمرار للحياة من دون استبطان حد أدنى من المعتقدات المشتركة المتعلقة في آن واحد بشرعية الحكومة التي تحكم، وبصحة التماثل بين الافراد والمجموعات المتضامنة. يهمُّ قليلاً ان تكون هذه المعتقدات ثابتة أو لا في حجتها، اذ يكفي ان تنتزع الانتماء(16).فدراسة التكيف السياسي مع المجتمع يجب ان يُنظر لها من مظهر مزدوج كيف يمكن بمساعدة تصورات ملائمة عرض هذه المعتقدات والمواقف والاراء المشتركة بين كل اعضاء المجموعة او جزء منها؟ وكيف يمكن التعرف على سيرورات الترسيخ التي بفضلها يجري عمل التمثل والاستبطان؟
ومن هنا، نجد ان علم الاجتماع يهتم بدراسة كافة جوانب المجتمع بينما علم السياسة يكرس معظم إهتماماته لدراسة القوة المتجسدة في التنظيمات الرسمية. فالاول يولي اهتماماً كبيراً بالعلاقات المتبادلة بين مجموعة النظم (بما في ذلك الحكومة)، بينما الثاني يهتم بالعمليات الداخلية كالتي تحدث داخل الحكومة مثلاً، وقد عبَّر ليبست (lipset) عن ذلك بقوله: «يهتم علم السياسة بالادارة العامة، اي كيفية جعل التنظيمات الحكومية فعالة، اما علم الاجتماع السياسي فيعنى البيروقراطية، وعلى الاخص مشكلاتها الداخلية». ومع ذلك فان علم الاجتماع السياسي يشترك مع علم السياسة في كثير من الموضوعات بل إن بعض العلماء السياسيين بدأوا يولون اهتماماً خاصاً بالدراسات السلوكية ويمزجون بين التحليل السياسي والتحليل السوسيولوجي(18).
علاقته بعلم التاريخ
:إن تتبع التاريخ للاحداث التي وقعت، هو في حد ذاته ترتيب وتضيق للسلوط عبر الزمن. وبينما يولي المؤرخون اهتماماتهم نحو دراسة الماضي ويتجنبون البحث عن اكتشاف الاسباب (باستثناء فلاسفة التاريخ)، فان علماء الاجتماع يهتمون بالبحث عن العلاقات المتبادلة بين الاحداث التي وقعت واسبابها. ويذهب علم الاجتماع بعيداً في دراسة ما هو حقيقي بالنسبة لتاريخ عدد كبير من الشعوب ولا يهتم بما هو حقيقي بالنسبة لشعب معين.والمؤرخون لا يهتمون كثيراً بالاحداث العادية التي تتخذ شكلاً نظامياً كالملكية او العلاقات الاجتماعية داخل الاسرة كالعلاقة بين الرجل والمرأة مثلا، بينما هي محور إهتمامات علم الاجتماع. إلاّ ان هذه الاختلافات لم تمنع بعض المؤرخين امثال روستو فتزيف (Rostovtzev) وكولتن (coulton) وبوركهارت (burkhardt) من ان يكتبوا تاريخاً اجتماعياً يعالج الانماط الاجتماعية والسنن والاعراف والنظم الاجتماعية الهامة(19).ولقد كان ابن خلدون واضحاً في تعريفه لعلم التاريخ عندما ربط الحاضر والماضي بطبيعة «العمران والاحوال في الاجتماع الانساني» وجعل منه علماً «شريف الغاية، اذ هو يوقفنا على احوال الماضيين من الامم في اخلاقهم»(20)
.علاقته بعلم النفس
:يُعرَّف علم النفس بانه علم دراسة العقل أو العمليات العقلية وبالتالي فهو يتناول قدرات العقل على ادراك الاحاسيس ومنحها معاني معينة ثم الاستجابة لهذه الاحاسيس العقلية كالادراك والتعرف والتعلم.كما يهتم بدراسة المشاعر والعواطف والدوافع والحوافز ودورها في تحديد نمط الشخصية.وبينما يعد مفهوم «المجتمع» أو النسق الاجتماعي محور علماء الاجتماع فان مفهوم «الشخصية» محور علماء النفس الذين يعنون بالجوانب السيكولوجية اكثر من عنايتهم بالجوانب الفسيولوجية. وبهذا فان علم النفس يحاول تفسير السلوك كما يبتدي في شخصية الفرد من خلال وظائف اعضائه وجهازه النفسي وخبراته الشخصية. وعلى العكس يحاول علم الاجتماع فهم السلوك كما يبتديء في المجتمع وكما يتحدد من خلال بعض العوامل مثل عدد السكان والثقافة والتنظيم الاجتماعي.ويلتقي علمي النفس والاجتماع في علم النفس الاجتماعي الذي يهتم من الوجهة السيكولوجية الخالصة بتناول الوسائل التي من خلالها تخضع الشخصية أو السلوك للخصائص الاجتماعية او الوضع الاجتماعي الذي يشغله. ومن الوجهة السوسيولوجية في توضيح مدى تأثير الخصائص السيكولوجية لكل فرد أو مجموعة معينة من الافراد على طابع العملية الاجتماعية(21).ويؤكد هومانز (Homans) في كتابه عن السلوك الاجتماعي اهمية الدوافع النفسية المفروضة على الجماعات في تفسير بناء الجماعة، ويتضمن ذلك النشاط والتفاعل والمعايير والعواطف التي تنشأ عمّا هو اجتماعي. وهو بذلك يركز على اشكال السلوك الاجتماعي التي تختلف باختلاف المجتمعات والثقافات(22
.علاقته بعلم الديموغرافيا:
الديموغرافيا (Demography)(23) او علم السكان، علم احصائي يهتم بتوزيع وتركيب السكان ونموهم والمواليد والوفيات والهجرات والمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الى غير ذلك(24). ومن المسلّم به إن فكرة تأثير حجم السكان على طبيعة الظواهر الاجتماعية فكرة قديمة في علم الاجتماع، فقد أشار إليها كل من مالتس (Maltas) وزميل دوركهايم (Z - Dorkhayim) فالديموغرافيا تُقدم تفسيرات ترتكز على الخصائص البيئية للمشاركين، باعتبار ان هذه البيئة تنطوي على اعداد معينة للسكان. والديموغرافيا تحدد ما هو اجتماعي في ضوء السلوك الموضوعي، فضلاً عن كونها تسعى إلى كشف العلاقات الموضوعية التي تظهر في عمليات: التحضير والانتاج الاقتصادي، والانساق السياسية والانساق التربوية، كما تهتم بالانماط الذاتية للسلوك مثل القيم الثقافية(25).النظرية الاجتماعية الفقهية: طموح متأخري الفقهاءإن التطور الذي حصل في البنية الشرعية والفلسفية لعلم الاصول خلال القرون الماضية من عمر التشيع لاهل البيت(ع) فتح آفاقاً واسعة لاستثمار ذلك المخزون العلمي الخام. فكان العمل من أجل بلورة النظرية الاجتماعية الفقهية أهم ثمار المرحلة التي أفرزها التكامل الموضوعي لاصول الفقه(26).لذا فإن أهم ثمرة يمكن جنيها من دراسة وتبويب وتنظير المفردات الفقهية هو عرضها على شكل نظرية إجتماعية للعالم المتعطش نحو فهم دوره الاجتماعي في الوجود. فالنظرية الفقهية الاجتماعية تمثل عصارة تفكير فقهائنا العظام في مدرسة أهل البيت(ع) وطموحهم نحو بناء المجتمع الاسلامي الممهد لظهور الامام القائم «عجل الله فرجه». فما أن استكملت النظرية الاصولية بناءها الشامخ في الدليل العقلي والملازمة بين الدليلين الشرعي والعقلي، حتى مهّدت الطريق نحو مرحلة جديدة من مراحل الرؤية الفقهية للفرد وللنظام الاجتماعي، فكان التطور الذي حصل في علم اصول الفقه وطبيعة الفهم الجديد حول وظيفة المكلف الشرعية قد أرسيا قواعد عقلية وشرعية لمناقشة أصول النظرية الاجتماعية على ضوء الفكرة الدينية(27).وهذا الفهم دفع نخبة من فقهاء الحوزة العلمية المتأخرين إلى التحسس بضرورة تطبيق القواعد الاصولية على المشاكل الاجتماعية التي يعيشها المسلم المعاصر. وبتعبير آخر استثمار عملية الاجتهاد الشرعي من أجل بناء الحياة الاجتماعية للمسلمين. ذلك ان الاستمرار في بناء وترميم الهيكل الاصولي المتكامل من غير محدودة من الزمن ودون الالتفات إلى طبيعة التغير الاجتماعي الذي تعيشه المجتمعات المعاصرة قد يضر بعملية استنباط الوظيفة الشرعية للمكلف التي اهتم بها علم الاصول من البداية. ولذلك فإن أصواتاً علمية بدأت تنطلق من الحوزات العلمية تدعو إلى بذل الجهود من أجل الاهتمام بالفقه الاجتماعي في ممارسة عملية الاجتهاد وإستثمار القواعد المشتركة في إستنباط الاحكام الشرعية التي تهم المكلف في موطن الابتلاء المتغير مع التغيرات الاجتماعية المستمرة دوماً. وهكذا كان فقد انبرى خيرة من فقهاء الطائفة في العصر الحديث نذكر منهم:الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ت 1373هـ) والسيد الشهيد محمد باقر الصدر (ت 1400هـ) والسيد الامام الخميني (ت1409هـ).فقد اعتبر الشيخ كاشف الغطاء العمل السياسي والاجتماعي من واجباته الشرعية، وطالما كان يردد كلمة الامام علي)ع): (إن الله أخذ على العلماء ان لا يغاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم). وفي أحد رسائله المهمة حول دور الفقيه في إدارة المجتمع يقول الشيخ كاشف الغطاء: «أما التدخل بالسياسة فإن كان المعني بها هو الوعظ والارشاد والنهي عن الفساد، والنصيحة للحاكمين والمحكومين، والتحذير من الوقوع في حبائل الاستعمار والاستعباد، ان كانت السياسة هي هذه الامور، نعم انا غارق فيها إلى هامتي وهي من واجباتي واراني مسؤولاً عنها أمام الله والوجدان، النيابة العامة والزعامة الكبرى والخلافة الالهية العظمى(28) "يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق"(29).وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على مدى ادراكه لقضايا الحقوق والواجبات في المجتمع الاسلامي.أما السيد الشهيد(قده) فيقول في مناقشة لطبيعة التطور في عملية الاجتهاد: «اظن اننا متفقون على خط عريض للهدف الذي تتوخاه حركة الاجتهاد وتتأثر به وهو تمكين المسلمين من تطبيق النظرية الاسلامية للحياة، لان التطبيق لا يمكن أن يتحقق ما لم تحدد حركة الاجتهاد معالم النظرية وتفاصيلها. ولكي ندرك أيضاً الهدف بوضوح يجب أن نميز بين مجالين لتطبيق النظرية الاسلامية للحياة. أحدهما: تطبيق النظرية في المجال الفردي بالقدر الذي يتصل بسلوك الفرد وتصرفاته. والاخر: تطبيق النظرية في المجال الاجتماعي وإقامة حياة الجماعة البشرية على أساسها بما يتطلبه ذلك من علاقة إجتماعية واقتصادية وسياسية.وقد التفت السيد الامام الخميني(قده) إلى أهمية تأثير اختلاف الزمان والمكان على عملية الاجتهاد، وآمن بأن فكرة الاجتهاد عند الشيعة ينبغي ان تلحظ التغيرات الاجتماعية. فقال: (إن القضية التي كان لها حكم معين في السابق، يمكن أن يكون لها في الظاهر حكم جديد، فيما يتعلق بالروابط التي تحكم السياسة والاجتماع والاقتصاد في نظام ما، بمعنى نتيجة المعرفة الدقيقة في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فحول الموضوع الاول ـ الذي لم يتغير في الظاهر ـ إلى موضوع جديد بالضرورة)، وفي مكان آخر أشار الامام الخميني إلى "ان الحكومة بنظر المجتهد الواقعي هي فلسفة أعمال تامة للفقه في جمع نواحي الحياة البشرية، والحكومة تظهر الجانب العملي للفقه عند مواجهته لجميع المعضلات الاجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية، في حين إن الفقه نظرية واقعية وكاملة لادارة شؤون الفرد والمجتمع من المهد إلى اللحد"(30).هذا، ومما لا شك فيه إن ادراك حقوق وواجبات الافراد في المجتمع، سيجعلنا أكثر قدرة على صياغة النظرية الاجتماعية الفقهية التي تسعى لتحقيق مصاديق العدالة الاجتماعية بين الافراد
.خاتمة في الفرق بين علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية الاخرى1
ـ الفرق من حيث الموضوع:
كل علم اجتماعي يدرس ناحية محددة من العالم الاجتماعي: فالاقتصاد يدرس الظواهر الاقتصادية، والسياسة تدرس الظواهر السياسية ولهذا تهتم بدارسة الدولة بينما يهتم الاقتصاد بتنظيم العمل.أما علم الاجتماع فينظر إلى المجتمع ككل مترابط ويهتم بالصلات بين اجزائه ديناً أو دولة أو عملاً. وكل علم اجتماعي ينظر إلى الانسان من زاويته، فالاقتصاد ينظر إليه على انه «إنسان اقتصادي»، والسياسة تنظر إليه على انه «انسان سياسي»... الخ. اما علم الاجتماع فينظر إلى الانسان باعتباره كائن حي يعيش في مجتمع في اطار حياة اجتماعية ذات الوان ثقافية واقتصادية وسياسية ودينية.... الخ.
2ـ الفرق من حيث المنهج:
يظهر الفرق بين علم الاجتماع وباقي العلوم الاجتماعية اذا ما تناولنا دراسة ظاهرة اجتماعية معينة «كالانتحار» مثلاً، فالاقتصاد يرجع أسبابها إلى الفقر، وعلم النفس يرجعها إلى خيبة في حب أو مفاجأة عصبية أو تهوس، والسياسة ترجعها إلى الاخفاق في الميدان السياسي، والدين يرجعها إلى فساد الخلق، والجغرافيا إلى اثر المناخ أو البيئة أو غير ذلك. وبالرغم من توصل هذه التفسيرات إلى جانب من حقيقة الانتحار، إلاّ ان كل منها على حدة لا يستطيع ان يقدم سبباً كافياً يمكن الاعتماد عليه، لانه لم يدخل في تبيان الخصائص الرئيسية للانتحار ونوع الاشخاص المنتحرين وفترات الزيادة والنقص في الانتحار وتوزيع نسب المنتحرين في المجتمعات المختلفة. والذي يستطيع ان يقدم السبب الكافي ويقوم بكل هذه الامور هو علم الاجتماع. وهذا لا يعني أن هناك قطيعة بين علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية الاخرى، فنظريات كارل ماركس الاجتماعية كان لها اكبر الاثر على الدراسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية على السواء. إلاّ ان علم الاجتماع ـ دون العلوم الاجتماعية الاخرى ـ يدرس الظواهر الاجتماعية في تفاعلها بعضها مع بعض وفي اثر كل منها على الاخرى والوظائف التي تؤديها والارتباط بينها. فهو اذن علم تركيبي شامل يحوي بين دائرته مختلف العلوم الاجتماعية الاخرى(31).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق