مجموعة اليسر للتدريب والاستشارات تأمل من زوارها الكرام المشاركة في الاستطلاعات التي تجريها بفعالية نظرا لفائدتها العالية
مجموعة اليسر للتدريب والاستشارات هي شركة تضامن لبنانية مسجلة تحت الرقم 489 تتنشط في مجال الدورات التدريبية والمؤتمرات العلمية والتربوية والاجتماعية والادارية والثقافية والتنمية والارشاد الاسري والاجتماعي ، واصدار المنشورات المتخصصة ، وتقديم الاستشارات في المجالات المذكورة وتوقيع الاتفاقيات مع الجامعات والمؤسسات والشركات الوطنية والعالمية على انواعها والقيام بالاستطلاعات والابحاث العلمية والدراسات المتخصصة في لبنان والخارج - نتمنى لكم زيارة ممتعة

09‏/12‏/2010

الوضعية تاريخا و فكرا مع دور كايم نموذجا لها


مقدمة : 
يبدو أن الإنسان من خلال سعيه المتواصل من أجل الكمال ، نجده في حالة تطور مستمر سيرا ً نحو الأفضل ، و إن لم ينفصل عن خبراته المعرفية السابقة ، و حيث أن علم الاجتماع جزء ً من هذه المعرفة نجه دائما في حالة تطور مستمر في منهجيته و نظرياته . 
و قد لاحظ أوجست كونت هذا التطور و التغير في الفكر الإنساني حيث يرى أنه قد مر بمراحل ثلاث هي : 
1 ــ مرحلة التفكير الميثولوجي أو الخيالي ( اللاهوتي ) 
2 ــ مرحلة التفكير الميتافزيقي أو المجرد . 
3 ــ ثم أخيرا ً مرحلة التفكير الوضعي . 
و هذه المرحلة أو هذا الاتجاه الوضعي هو ما يهمنا الحديث عنه في هذه الوريقات المقدمة ، و قبل أن نسترسل في الحديث عن الوضعية، دعونا نتعرف أولا ً على ماذا تعني الوضعية أو الاتجاه الوضعي . 
الوضعية Positive
موقف فلسفي يدعي أنه يمكن اشتقاق المعرفة من التجربة الحسية .. و يطلق بارسونز مصطلح الوضعية على أي نظرية اجتماعية ترى أن العلم الوضعي يمثل العلاقة المعرفية الوحيدة و الممكنة للإنسان بالحقيقة الخارجية . 
أما الاتجاه الوضعي فهو نموذج منهجي يسعى إلى الاستناد إلى المشاهدات و التجريب للوصول إلى القوانين العامة التي تخضع لها الظواهر ، ويسعى إلى أن يصير التفسير في علم الاجتماع محاكيا لنماذج التفسير في العلوم المضبوطة مستخدما ً أساليبها المنهجية نفسها في الوصول إلى هذا التفسير ، رافضا ً كل الاتجاهات و الافتراضات و الأفكار التي تتعدى حدود الأسلوب العلمي . 
والآن ، هل أن هذا التفكير الوضعي وليد مرحلة متأخرة من مراحل تطور الفكر الإنساني أم أن له جذورا تضرب في عمق التراث الفكري ؟
و للإجابة عن هذا التساؤل سوف نتتبع ما كتب عن هذا الاتجاه : 
الاتجاه الوضعي قديما ً : 
في الحقيقة أن الوضعية كاتجاه فكري قد صيغت و تحددت معالمها في القرن الثامن عشر ولكن هذا لا يمنع أن لها جذورها الضاربة في أغوار التراث الفكري لدى الذريين و السوفسطائيين * و فرنسيس بيكون . 
و هذا الاتجاه الفكري يقيم معالجاته و تفسيراته للعالم على التجربة بوجه خاص و ذلك ما أتفق عليه بين المهتمين بتحليل الاتجاه الوضعي و التطورات التي مر بها في النظرية السوسيولوجية . 
فقد شاع في العالم اليوناني القديم اتجاهان هما الذريون و السفسطائيون و إليهما تمتد جذور الوضعية . 
فديمقرطيس مثلا يجد في مذهب الذرة أو الجزء الذي لا يتجزأ حلاً وسطا ً بين التغير و الثبات ، و ذلك لاقتناعه بأن جميع التغيرات التي تحدث في الطبيعة يمكن إرجاعها إلى عمليات الالتحام و الانفصال الدائمة للذرات ، و الواقع أن الأفكار التي نادى بها ديمقرطيس و واجه بها مفكري عصره تظهر بوضوح ارتباطها بالوضعية الحديثة . 
أما السوفسطائيون فقد رفضوا البحث الميتافيزيقي وأقاموا كل دراساتهم على التجربة و حاولوا أن يجمعوا من خلالها أكبر قدر ممكن من المعرفة عن كل شؤون الحياة و كان منهجهم في هذا كله واقعيا ً استقرائيا ً ، و حاولت السوفسطائية أن تجعل تحليلها يلتزم التجربة ذاتها و أظهرت ميلا ً لمد منهجها ليستخدم في حل مشاكل الحياة اليومية أو الاجتماعية . 
و من المألوف وعند تتبع الوضعية الجديدة أن تبدأ من كتابات فرنسيس بيكون و التي حاول فيها أن يدرس نقائض العلوم و مبلغ ما وصلت إليه في بحوثها كما درس ارستقراطية العلم الحديث التي أحلت سيادة الإنسان على الطبيعة محل سيادة الإنسان على الإنسان ، إذا ً فماذا نسمي العنصرية و سنوات الاحتلال الطويلة التي مارستها الدول الغربية بهدف سيادة الإنسان على الإنسان و على موراد الطبيعة في نفس الوقت !!!
و بعد أن تعرفنا على تعريف الوضعية و ألقينا نظرة على جذورها الضاربة في عمق التاريخ الفكري الإنساني ، دعونا ننظر إلى الأسس المنهجية للوضعية . 
الأسس المنهجية للوضعية : 
إذا أردنا أن نبحث في الفلسفة الوضعية عن مقولة تلخص لنا جوهر الفكرة الوضعية التي قامت عليها سنجد بذرتها عند سان سيمون حيث يقول : إن أكبر و أشرف وسيلة لدفع العلم نحو التقدم هو جعل العالم في إطار التجربة ، و لا نقصد العالم الكبير و إنما هذا العالم الصغير ، يعني الإنسان الذي نستطيع إخضاعه للتجربة . " 
إذا فالوضعية قد قامت أصلا لمقاومة كل تفكير يخرج عن دائرة الحس سواء أكان تفكيرا ً دينيا ً أو ميتافيزيقيا ً أو عقليا ً ، فهي لا ترى المنطق السليم سوى في المعرفة الواقعية المنتزعة من الحس . 
و هناك عدة أسس منهجية تقوم عليها الوضعية يمكن طرحها في النقاط التالية : 
1 ــ اعتبار الإحساس وحده مصدرا ً للمعرفة الاجتماعية : 
فالأساس الوحيد الذي تعتبره الوضعية هو تقدير الطبيعة و تقييمها وحدها كمصدر للمعرفة ، و الطبيعة أو الواقع أو الحس كلها تدل على معنى واحد في نظر الوضعين و تقدير هذه الفلسفة الطبيعية لا كمصدر مستقل للمعرفة فحسب ، بل كمصدر فريد للمعرفة اليقينية ... و كل ما يأتي من وراء الطبيعة خداع للحقيقة و ليس حقيقة . 
2 ــ اعتبار النموذج الطبيعي سلطة مرجعية للعوم الإنسانية : 
إن نموذج العلوم الطبيعية أو الفيزيائية يتردد كثيرا ً في عبارات دور كايم و ليفي بروهيل ، و قد حاولا استخدام مناهج العلوم الطبيعية القائمة على الملاحظة و التجربة ، و ذلك لتأكيد وحدة العلم عبر تأكيد وحدة المنهج التجريبي على أجزاء الكون في جانبيه المادي و المعنوي ، فالوضعية تقوم في أساسها على تأكيدها وحدة المنهج في التفكير بغض النظر عن الموضوع المدروس ، و هي تريد بذلك سد الطريق أمام ذلك الانفصام الذي كان يعاني منه جيل ما قبل الوضعية حينما كان يستخدم المنهج الوضعي في معالجة العلوم الطبيعية و المنهج اللاهوتي في العلوم الإنسانية . 
فالدافع إلى تمثل العلوم الطبيعية هو تحقيق درجة كافية من العلمية و الابتعاد عن الأحكام القيمية التي تخضع لها ، فالحقيقة العلمية ثابتة في ذاتها لا تؤثر فيها الأحكام القيمية بالاستحسان أو الاستهجان. 
3 ــ إخضاع الظواهر الاجتماعية للتجريب : 
و الهدف من هذه النزعة التجريبية هو تحقيق العلمية في العلوم الإنسانية ، فالمنهج التجريبي يهدف بالدرجة الأولى إلى إقصاء التجريدات و التأملات فهو يستعيض عن الخيال بالملاحظة و التسجيل الدقيق للوقائع ، فالمقصود بالتجربة هنا ليس التجربة المعملية و إنما التجربة الاجتماعية التي تقوم على مقارنة الظواهر في حالة تشابهها و اختلافها . 
و لكن يجب عدم إغفال أن الوضعية لا تلجأ للتجربة لأنها أداة معرفية صالحة و لكنها تفعل ذلك لسد الطريق أمام التفكير الديني ، تلك هي حقيقة التجربة في النزعة الوضعية فهي ليست أداة معرفية بقدر ما هي أداة ايدولوجية . 
4 ــ شيئية الظواهر الاجتماعية : 
يعتبر دور كايم الظواهر الاجتماعية على أنها أشياء خارجة عن ذواتنا و هو يقول : إن الظواهر الاجتماعية أشياء و يجب أن تدرس على أنها أشياء ، و ويضح دور كايم ف إسهاب معنى الشيئية : إننا لا نقول في الواقع بأن الظواهر الاجتماعية أشياء مادية و لكننا نقول أنها جديرة بأن توصف بأنها كالظواهر الطبيعية تماما ً .... و معنى أن نعتبر الظواهر الاجتماعية على أنها أشياء هو دراستها بنفس الطريقة التي تدرس بها الظواهر الطبيعية ، و أن نتحرر من كل فكرة سابقة حول هذه الظواهر و أن تأتي معرفتنا بها من الخارج عن طريق الملاحظة و المشاهدة و ليس من الداخل عن طريق التأمل و الاستبطان . 
بينما يشير السيد عبد العاطي السيد إلى أهم الأفكار التي يشتملها الاتجاه الوضعي بالآتي : 
1 ـ الإيمان بالعلم كأساس و مصدر للمعرفة . 
2 ــ استخدام التحليل الإحصائي في النظرية الاجتماعية . 
3 ــ البحث عن تفسيرات علمية للظاهرة الاجتماعية و عن القوانين التي تحكم عملية التغير التاريخي و الموجهة للطبيعة البشرية . 
و لا شك أن اتخاذ النموذج الطبيعي سلطة مرجعية تستقي منها الدراسات الاجتماعية أساليبها و مفاهيمها و طرق بحثها لا يمضي دون أن يحدث فيها ذلك الأثر العميق الذي يغير من طبيعتها شكلا ً و مضمونا ً ، و ينتهي بالمنهج الوصفي نفسه إلى التضخم بحيث تصبح القضايا الواقعية وحدها القابلة للإدراك العلمي و يصبح المنهج الوضعي وحده المالك للحقيقة الاجتماعية دون سواه . 
و يمكن إجمال هذه النتائج في النقاط التالية : 
1 ــ تضخم العقائد العلمية : 
إن التغير الجذري للموقف العملي أسلوب إلى دعوة عقائدية قد جعل العلم محل تهمة لا تقل خطرا عن التهمة التي وجهها هو نفسه إلى العقائد الدينية ، فقد كان العلم ينكر على الدين إدعاءه أنه هو وحده الذي يملك الحقيقة و القادر على تفسير كل شيء في الكون ، و أنه ذو بعد واحد هو البعد الغيبي و هي نفس التهم التي توجه اليوم إلى العلم الوضعي ، فالعلم الوضعي يمارس نشاطا ً ضد الموضوعية التي قام أساسا ً لتحقيقها : فهو أولا ً يسير في الطريق نفسه الذي سار فيه الأسلوب اللاهوتي حينما يريد أن يستقل وحده بإدراك الحقيقة . 
و هو ثانيا ! في المجال الإنساني على العكس من الأسلوب الديني اللاهوتي الذي كان يختزل الحقيقة في جانبها الميتافيزيقي و بعدها الغيبي وحده ، ويختزل هو الحقيقة الإنسانية في حدودها المادية الواقعية وحدها . 
2 ــ اختزال الحقيقة الاجتماعية في جوانبها المادية الواقعية : 
اتخذت البحوث الاجتماعية من نموذج العلوم الطبيعية السلطة المرجعية في كل جوانبها الحسية و المعنوية و وحدة المنهج ، هذه تمتد إلى المجالات الدينية و الأخلاقية و النفسية ليقرر في النهاية اختزال الجوانب الإنسانية في حدودها المادية الواقعية و يتضح ذلك من خلال : 
اختزال الطبيعة الإنسانية في جانبها العضوي الفيزيقي : 
فالوضعية لا تعرف بأي شعور أو نظام خاص بالحياة الداخلية للإنسان إلا ّ ما كان قابلا ً للإدراك فهي قادرة على إعطاء تفسير عقلي مقبول لسلوك الإنسان الداخلي و الخارجي معا ً ... فالنظرة الوضعية تقوم على أساس أن الإنسان في بنائه الداخلي النفسي محكوم كليا ببنائه الفيزيقي العضوي المادي و المفهوم الفيزيقي الخاص للنفس الإنسانية ، يهمل كل العوامل الأخرى كالشعور و الدوافع و الإرادة الحرة . 
اختزال الظواهر الاجتماعية في جانبها الواقعي : 
فالوضعية عندما تتعرض لدراسة الظواهر الاجتماعية غير المادية تعطيها دلالات واقعية و تستبعد عنها كل العناصر الغيبية التي تكون جزء ً جوهريا ً في حقيقتها ، و يتضح لنا ذلك من خلال الدراسة التي قدمها دور كايم و التي رأى فيها أن الظاهرة الدينية كظاهرة اجتماعية قابلة للتفسير العلمي الصارم و يرفض الانطلاق من كل فكرة مسبقة في دراسة الظاهرة الاجتماعية . 
وهذا في رأيي الشخصي يتعارض مع دين الإسلام حيث هو ليس مجرد ظاهرة اجتماعية بل نظام حياة متكامل لا يمكن لنا دراسته بمعزل عن كل جوانب الحياة ، أو أنه يمكن لنا أن نخضعه للتفسير العلمي الصارم بينما هو يمتزج بكثير من الغيبيات التي علينا أن نؤمن بها و لو لم تثبت بشكل علمي مثل وجود الملائكة و الجنة و النار . 
3 ــ إحلال النسبية محل المطلق في دراسة الظواهر الأخلاقية : 
لم تعد مناهج البحث مع الوضعية تبحث عن العلة الأولى لوجود الظواهر و لكن عن الأسباب المباشرة في خلق هذه الظواهر ، فالبحث عن العلل الأولى للظواهر من سمات المنهج اللاهوتي الذي يؤمن بوجود حقائق مطلقة لا تتغير حسب الزمان و المكان ، أما الوضعية فتعتقد أن الواقع الاجتماعي معقد و هو في تغيير و صيرورة دائمين وليست هناك سوى حقائق نسبية مرتبطة بظروف الوسط الاجتماعي، وقد حصرت الوضعية مهمتها في الكشف عن هذه الحقائق النسبية و الروابط التي توجد بين الظواهر الملاحظة و القوانين التي تتحكم بها . 
فالمهمة الأساسية للوضعية حسب تعبير دور كايم هي : أن تحل في كل شيء النسبي مكان المطلق . 
ظروف نشأة الوضعية حديثا ً : 
نحن نعلم أن الوضعية لم تكن وليدة القرن الثامن عشر و إنما ظهرت في العصور السابقة له عند اليونان و غيرهم و لكن ما الذي جعلها تطفو و بقوة على سطح التاريخ في هذا الوقت بالذات ، ترى هل كانت هناك أسباب أو ظروف دعت لهذا التغيير في الفكر الغربي مما جعله يرفض بل و يصر على رفض اللاهوتية والميتافيزيقية و يجعل من العقل وحده هو المعيار و هو المقدس . 
يقول أوجست كونت " تقدم الفلسفة الوضعية الأساس المتين الوحيد لإعادة التنظيم الاجتماعي الذي يجب أن يحل محل الجو النقدي الذي تعيش فيه أغلب الدول المتحضرة الآن " و يتضح من خلال رؤية أوجست كونت للفلسفة الوضعية أن هناك ظروفا ً تاريخية راديكالية كانت من العوامل التي ساهمت في ظهور الفلسفة الوضعية بل لتبلور علم الاجتماع الأكاديمي بصفة عامة ، حيث تأثر علم الاجتماع الأكاديمي في نشأته بحدثين بالغي الأهمية بما يحيط بهما من مناخ فكري وفلسفي وهذين الحدثين هما ما أديا بالتالي لظهور الفلسفة الوضعية إلى سطح الفكر الإنساني مرة أخرى . 
أولا ً : الثورة الصناعية : 
عاش المجتمع الأوربي لفترة طويلة في ظل فلسفة المجتمع الاقطاعي الأوروبي اللاهوتي ، و التي كانت ترى أن ليس في الإمكان أبدع مما كان ، و ألا جدوى من محاولات النقد الاجتماعي و الإصلاح و ذلك لأن الإنسان غير قادر على الوعي بمصالحه الحقيقية ، و هذه الفلسفة اللاهوتية تنفي التغير و الإصلاح و الثورة و كل محاولة إنسانية للتقدم ، و لكن مع بزوغ الثورة الصناعية الناشئة عن الثورة العلمية ، بدأ الناس يدركون أنه بالإمكان التقدم نحو التغيير و أن هذا التغير قد أتى كثمرة للعقول الإنساني و من هنا بدأ فكر فلسفة التنوير يظهر من منطلق نقدي عقلاني يدركون النظم الاجتماعية المختلفة سياسية و دينية و اقتصادية و أخلاقية و يضعونها موضع النقد العنيف بمعيار العقل وحده و يطالبون بتغيير النظم التي تبدو غير منطقية أو غير متسقة مع العقل . 
و قد ساعد على ظهور هذه الحركة النقدية و ازدهارها مجموعة من العوامل مثل التقدم الهائل الذي أحرزته العلوم الطبيعية و التقدم الصناعي و ما ترتب عنه من تغييرات واسعة في بناء المجتمع كظهور طبقات جديدة ( أصحاب الأعمال الصناعية و العمال بصفة خاصة ) و إزالة القيود القديمة المفروضة على حرية حركة العمل و هي القيود التي سادت المجتمع الإقطاعي و ظهور مشاكل جديدة مرتبطة بنمو المجتمع الصناعي بصفة عامة ، كالفقر و ازدحام المراكز الصناعية و الظروف الصحية و الاجتماعية المتدهورة التي كان يعيشها عمال المدن ، و الأوضاع الاقتصادية السيئة للطبقة العاملة بصفة عامة و ذلك بالإضافة إلى حركة الإصلاح الديني . 
و كنتيجة لما ترتب على الثورة الصناعية من تغيرات اجتماعية مهمة ظهر في المجتمع الأوروبي المفكرون المحافظون و المفكرون الراديكاليون . 
لقد عرف المحافظون بهذا الاسم لأن هدفهم كان يتمثل في الحفاظ على النظام القائم ( الرأسمالي ) في أوروبا ، بل إن بعضهم كان يتجاوز ذلك المطلب و يتطلع إلى العودة إلى النظام القديم الاقطاعي اللاهوتي ( مثل بونال دي مستر ) لقد أخذ هؤلاء في توليد و صك مفهومات جديدة في فلسفاتهم مثل : الاستقرار و السلطة و المكانة و التضامن والتوافق و الوظيفة و المعيار و الرموز و الطقوس و غير ذلك . 
و إذا قورنت هذه المفهومات بتلك التي ميزت فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر يظهر أن هناك تحولا ً حادا ً قد حدث في موضوع الاهتمام ، فبينما كانت الفلسفة النقدية أو فلسفة التنوير تهتم بالفرد ، أصبحت هذه تهتم بالجماعة ، و بينما كانت فلسفة التنوير تهتم بالتغير الاجتماعي ، أصبحت الفلسفة المحافظة تركز على الاستقرار و الثبات . 
ثانيا ً : الثورة الفرنسية ( فلسفة التنوير ) 
إنه الحدث المعنوي و الذي تمخض عن فلسفات التنوير ، و كانت فلسفة التنوير تؤكد على مشروعية هذه الثورة ، و يطلق اسم عصر التنوير على القرن الثامن عشر و فلاسفته و علمائه و مفكريه ، و قد مهد فلاسفة التنوير بأفكارهم الناقدة للحياة الأوربية و المجتمع الأوروبي لنشوء حركات التحرر الفكري والسياسي التي شهدها المجتمع الأوربي في القرن التاسع عشر ، و التي تعد مسئولة بدورها عن نشأة علم الاجتماع . 
و الواقع أن الثورة الفرنسية لم تكن أقل تأثيرا على المشاعر التقليدية الراسخة من الثورة الصناعية ، بل إن هذه الثورة السياسية كانت تنطوي على معالم و قضايا افتقرت إليها الثورة الاقتصادية ، فقد تميزت بعناصر مفاجئة و درامية لم تعرفها الأخيرة ، عناصر أثرت في طول القارة الأوربية و عرضها ، مثل إعلان حقوق الإنسان و إدانة الأوضاع الاجتماعية و السياسية القديمة . 
و لقد انشغل علماء الاجتماع شأنهم شأن غيرهم من المفكرين الآخرين بالقضايا التي أثارتها الثورة الفرنسية ، كالتقليد في مقابل العقل ، و الدين في مقابل الدولة و طبيعة نظام الملكية الخاصة و العلاقة بين الطبقات الاجتماعية و الإدارة و المركزية و القومية ، و فوق ذلك كله قضية المساواة ، و من الواضح أن مفهوم الديموقراطية كان هو الباعث لهذه القضايا جميعا ً . 
و الحق أن فلسفة التنوير و التي كانت الخلفية الفكرية و الممهدة لظهور الثورة الفرنسية لم تكن فقط ابنة القرن الثامن عشر بل ضربت بجذورها في القرن السابع عشر ، إذ تم في هذا القرن التأليف بين تيارين فلسفيين سائدين ، التيار العقلاني و التيار الأمبيريقي أو التجريبي ، بواسطة فلاسفة خلعوا ثقتهم العظيمة على العقل و الملاحظة بوصفهما وسيلتين لحل مشاكل الإنسان ، كما عبروا عن قناعتهم بأن العالم تحكمه قوانين طبيعية ، وأنه يمكن حل مشكلات الإنسان و المجتمع عن طريق تنظيم الوضع السياسي و الاجتماعي وفقا ً لهذه القوانين . 
و هذا هو الأساس الذي تقوم عليه الوضعية عند اعتبارها النموذج الطبيعي سلطة مرجعية للعلوم الإنسانية .
و لكن إذا كانت الفلسفة الرومانسية و المحافظة هي التي ولدت و طورت كثيرا من أفكار علم الاجتماع الأكاديمي ، أو بمعنى أدق علم الاجتماع المحافظ ، فإن فلسفة التنوير النقدية قد ولدت و طورت التيارات الراديكالية و الثورية في الفكر الاجتماعي و لا نقول في علم الاجتماع بمعناه المحدود المرتبط بنشأته التاريخية على يد أوجست كونت و لكن حتى نتجنب الخلط في هذا الصدد ، فإننا سوف نميز بين تيارين من علم الاجتماع ، التيار المحافظ الذي أسسه كونت و من قبله إلى حد ما سان سيمون و هو التيار الذي يعد وريثا ً شرعيا ً للفلسفة المحافظة و الرومانسية ، أما التيار الثاني فهو التيار الراديكالي و هو الوريث الشرعي لفلسفة التنوير النقدية السلبية . 
يتضح لنا أن كثيرا ً من أفكار علم الاجتماع الأكاديمي أو التيار المحافظ في علم الاجتماع ، يضرب بجذوره في الفلسفة الرومانسية و المحافظة التي ظهرت في القرن التاسع عشر كرد فعل على فلسفة التنوير النقدية التي سادت القرن الثامن عشر ، و عرفنا أن فلسفة التنوير هذه قد أفرزت هي الأخرى تيارا ً فكريا ً في علم الاجتماع يتزود من أفكارها وقضاياها هو التيار الراديكالي . 
ثالثا ً : تقويض الفكر الديني و نشأة العلمانية : 
بالإضافة إلى هذين الحدثين المهمين نجد أيضا ً عدة أسباب ساهمت في ظهور التفكير الوضعي و يتطرق إليها محمد امزيان في رسالته منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية و المعيارية حيث بحث في دواعي قيام المنهج الوضعي و تقويض الفكر الديني ، و يرى امزيان أن هناك حقيقة أصبحت من المسلمات في تاريخ الفكر الغربي و هي أن الصراع بين العلم و الدين كان ضرورة تاريخية لا محيد عنها ، فهما ضدان لا يجتمعان و عدوان لا يتصالحان و كلا ً منهما يسعى إلى تدمير الآخر . 
و في تركيز شديد يعرض امزيان أسباب الحملة العلمانية على أسلوب التفكير الديني و التي تمخضت عن اقتناع الغرب بضرورة قيام المنهج الوضعي : 
أ ) أسلوب التفكير اللاهوتي الذي انتهجته الكنيسة : 
كان تفكير الكنيسة يتجه معاكسا ً للحقيقة و الواقع ، و ظل موغلا ً في ميتافيزيقيا عقيمة ... و كانت النزعة المضادة أول الأمر تهدف إلى إزالة ما علق بالدين من الخرافات التي نسجها البابوات حول الفكر الديني باسم الدين ، و لذلك نجد أن فلاسفة القرن السابع عشر أمثال اسبيتوزا و ليبنز ، ممن قاموا بإصلاحات دينية على أساس من التعاليم المسيحية الأصيلة ، قاموا بمحاولة تعليل عقلي للمسيحية و أطلقوا على هذا التعليل دين الطبيعة أودين العقل . 
و يتضح من هذه المحاولات أن الذين انتقدوا أو تجاوزوا بنقدهم الميتافيزيقيا إلى الدين لم ينقدوه إلا لتنقيته من العقائد غير المعقولة ، و لم ينتقدوا الإيمان في حد ذاته ، فكان من الطبيعي أن يقف المفكرون الأحرار الذين رفضوا قرارات الكنيسة في وجه هذا التيار الديني العارم، و يعلموا على تقويضه ، فإذا كانت تلك هي سمة الفكر الديني : الخرافة والوهم فإن الفكر الحر لا يسعه إلا أن يخالفه و يعلن علمانيته. 
ب ) اضطهاد الكنيسة للأسلوب العلمي في التفكير : 
مضت الكنيسة في احتكارها لمجال التفكير بل و التقديس العقلي للكلمة المنقولة ، و لعلنا لا يغيب عن أذهاننا المحاكم العلنية التي كانت تقام لمحاكمة العلماء و إعدامهم و الذين كانوا يأتون بالأفكار العلمية المناهضة لما تؤمن به الكنيسة ، و كنتيجة لهذا الإرهاب الذي تمارسه الكنيسة و وقوفها بوجه العلم ، ظل التفكير العلمي جامدا ً طوال الفترة التي امتد فيها نفوذ الكنيسة و هي تقع بين فترتين ازدهر فيها التفكير العلمي ، ففي العهد اليوناني كان هناك ثقافة وفكر متحرر شديد الازدهار ، و مع تنحي سلطان الكنيسة و إحياء الروح العلمانية في القرن الخامس عشر و ما بعده استرد الغرب الروح العلمية و تفتحت حضارته من جديد ، فاستقر في ذهن الأوربي وجود علاقة عكسية بين الدين و الحضارة ، بمعنى أنه كلما سيطر الدين ماتت الحضارة و كلما تنحى استردت الحضارة روحها . 
و هكذا نرى أنه قد كانت هناك عدة عوامل تاريخية كان لها دورها في بلورة الاتجاه الوضعي و عودته إلى السطح الأيدولوجي و بقوة ، بغض النظر عن مدى صوابه و اتفاقه مع العقل الذي يعمل على تقديسه . 
إشارة سريعة للوضعية المحدثة : 
إن دعاة الوضعية المحدثة يعتبرون قبول نمط البحث العلمي في العلوم الطبيعية، الذي يعني عدم الإلتزام بأي شيء سوى البحث، والبحث فحسب، نقطة تحول هامة في تاريخ العلوم الإنسانية. إن العالم في نظرهم، لم يعد عضوا مساهما في أي صراع من صراعات عصره، إنه يراقب فحسب، وشاهد يصف ولا يصدر حكما. إن عليه أن يقدم الأسلحة العقلية، ولكنه ينسحب من الميدان في اللحظة التي يبدأ فيها إستخدامها. إن أبحاثه هي مسؤوليته القصوى والوحيدة.
ولقد كان "جورج لند برج " وهو أحد أعمدة الوضعية المحدثة متفقا مع "ماكس فيبر" في أن العلم لا يستطيع ولا ينبغي له أن يصوغ أحكاما قيمية. ذلك أن الأحكام الأخلاقية لا صلة لها بالصياغات العلمية. ومعنى ذلك أنه يتعين على علم الإاجتماع أن يكون علما حقيقيا. كما يذهب "لندبرج" إلى "أن أعظم إسهام يمكن أن يقدمه العلم للأخلاق يتمثل فيما يقدمه - أي العلم- للإنسان من فرصة التسجيل الصادق لخبراته وتفسيرها." وعندما يذهب"لندبرج" إلى أن العلم هو وحده الخليق بأن ينقذ العالم من الفقر والجهل والجريمة والحروب، في كتابه المشهور (هل يستطيع العلم أن ينقذنا؟) فإنه لا يهتم بتحديد الأهداف والقيم العامة للمجتمع الإنساني أو الجنس البشري، بدعوى أنه هناك إتفاقا عاما بين كل الناس على ما هو ذو قيمة (طول الحياة، الصحة، التعليم، الأمان... الخ). ولكن الإختلاف بينهم هو على الوسائل التي توصل إلى هذه الأهداف. والإختلاف على الوسائل مرجعه سيادة الإيديولوجيات الواهمة أو اللاهوت أو الميتافيزيقا. والبديل لكل هذا هو علم الإجتماع المبني على المنهج العلمي. هذا الأخير تصبح مهمته صياغة كل البدائل الممكنة لتحقيق أهداف الإنسانية، على أن يبين الظروف الخاصة لكل مجتمع والتي تجعل لبديل معين أفضلية على البدائل الأخرى، والوقت والجهد والنفقات التي يأخذها تنفيذ هذا البديل، والتنبؤ بالنتائج المترتبة على ذلك. علم الإجتماع بهذا الشكل يصبح في شؤون المجتمع مثله مثل علم الطبيعة في شؤون المادة.
وهكذا فإن أصحاب الوضعية الجديدة هم الذين عمقوا فأشاعوا أن علم الإجتماع وعلماء الإجتماع يمكن وينبغي أن يكونوا محايدين حيادا تاما، وموضوعيين موضوعية كاملة، في تناولهم بالدراسة أية ظاهرة إجتماعية. وما عليهم إلا تجريد أساليب المنهج العلمي واستخدامه بإخلاص وتفان. لذلك إنصبت جهودهم على تطوير مناهج البحث الإجتماعي، وأدوات التجريب، وأساليب جمع المعلومات، وإِبتكار المقاييس المقننة، وإِستخدام الأساليب الإحصائية والرياضية. 
ويشير"ريمند ريس R.REISS" إلى أن علم الإجتماع في الغرب قد تحول إلى الإتجاه الواقعي أو الأمبريقي الرشيد أو العقلي. ومن مهام علم الإجتماع في مجتمعات الغرب تقديم بيانات موضوعية عن المجتمع في صورة معدلات الطلاق أو معدلات النمو الإِقتصادي والإجتماعي، أو إِتجاهات الرأي العام... الخ. ويذهب إلى أن المشتغلين بعلم الإجتماع أو بالعلوم الإجتماعية -خاصة بعد الحرب العالمية الثانية- قد تخلوا تماما عن التوجيهات الإيديولوجية أو - على حد قوله- قد إنفصلوا عن الإيديولوجيا. ويدلل على صحة رأيه بأن أغلب مفكري هذه الحقبة لم يعودوا يهتمون بالبحث عن المعنى، وهذا يعني في نظره أن العلم الإجتماعي بعد الحرب العالمية الثانية في الغرب قد تجاوز الإيديولوجيات أو تحرك بعيدا عنها. و"يفرق "ريس" بين البحث العلمي الموضوعي، وبين إستخدام نتائج هذا البحث في خدمة السياسة. فالعلوم الإجتماعية في نظره لا تستطيع أن تقدم لنا حلولا لمشكلات الجريمة أو الجناح أو الفقر أو التفكك ولكنها قادرة على أن تزودنا بالفهم الموضوعي لتلك المشكلات، كما يمكن أن تشير إلى وسائل الحل وتكاليف كل منها."
إميل دور كايم ( 1858 ــ 1917 )
ولد إميل دور كايم في مدينة إيبينال بمقاطعة لورين في الجنوب الشرقي من فرنسا من أسرة يهودية ، و بعد أن استكمل دراساته بمدرسة المعلمين العليا بباريس سافر إلى ألمانيا حيث درس الاقتصاد و الفولكور و الأنثروبولوجيا الثقافية ثم عين أستاذا ً بجامعة بوردو عام 1887 م والتحق بجامعة باريس عام 1902 م ، وقد أسس الحولية الاجتماعية عام 1896 م و التي ظلت لسنوات عديدة الدورية الأساسية للفكر السوسيولوجي و البحث في فرنسا . 
و لقد أقر دور كايم تلمذته على كونت و أخذ عنه تأكيده الوضعي للاتجاه الامبيريقي و أهمية الجماعة في تحديد السلوك الإنساني . 
و لابد من الإشارة إلى أن دور كايم قد احتل مكانة بارزة في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر و حتى وفاته عام 1917 م سواء في الأوساط الأكاديمية أو الإدارية أو السياسية كما أن نظرياته و آراءه عن المجتمع بصفة عامة و عن التربية و الأخلاق و السياسية كما أن نظرياته و آراءه عن المجتمع بصفة عامة و عن التربية و الأخلاق و السياسة بصفة خاصة قد لقيت رواجا ً كبيرا في الأوساط البورجوازية و الحكومية الفرنسية في ذلك الوقت ، كما أنه قد شغل مركزا ً هاما ً جدا ً في المؤسسات التربوية التي تسيطر عليها الدولة في فرنسا ، و أدى به مركزه هذا إلى أن يتحكم إلى حد ٍ كبير في اختيار العلماء و الأساتذة الذين يعينون في معاهد التعليم العالي . 
على غرار الظروف الفكرية و الاقتصادية التي نتج عنها الفكر الذي حمله أوجست كونت نجد كذلك أن هناك بعض الظروف البنائية و الفكرية التي انبثق منها فكر دور كايم فقد بدأ دور كايم في الكتابة و المجتمع الفرنسي يتعرض لأزمة أصابته بسوء التكامل و ذلك ، بعد الهزيمة في الحرب مع ألمانيا في عامي 1870 ــ 1871 م و بناء على ذلك ظهرت من جديد مشكلة الاتساق العام ، كيف يمكن حماية المجتمع من الانهيار و مع وجود هذه الأزمة لم تكن الظروف التي أدت إلى انبثاق علم الاجتماع على يد كونت قد اختفت تماما ً ، فما يزال الصراع بين النزعة المحافظة و الاشتراكية الراديكالية قائما ً . 
و كان على دور كايم أن يختار لنفسه طريقا ً وسط هذه الظروف و مع انهيار المجتمع الفرنسي عام 1870 م ، و مع شعور الفرنسيين بالإهانة من جراء الهزيمة كان شغل دور كايم هو إعادة بناء المجتمع من خلال إعادة بناء التماسك الأخلاقي فيه و من هناك كان اهتمام دور كايم بالنظام العام القائم على التضامن بنوعيه و الذي يستمد استقراره من سلطة الضمير الجمعي . 
و إذا كان اهتمام دور كايم بإقامة دعائم النظام العام قد جعله يرفض التفسيرات الفردية و الاشتراكية فإن نفس السبب قد جعله يتبنى الوضعية . 
إن القول بأن دور كايم تبنى الاتجاه الوضعي فإن هذا لا يعني أنه ردد آراء كونت على عواهنها بل أنه استلهم الروح الوضعية عندما ركز على أهمية تحليل العلاقات القائمة بين النظم الاجتماعية من ناحية و بينها وبين البيئة الموجودة فيها من ناحية أخرى . 
و قد حاول دور كايم أن ينقي الوضعية و يخلصها من الشوائب الفلسفية و اليوتوبية التي أضفاها عليها كونت و قد تجلى ذلك فيما يلي :
1 ــ ظهر الاهتمام بالدراسات المقارنة و يتضح هذا في دراسته لتقسيم العمل و الانتحار و الدين بينما اختفت أو ضعفت النزعة التطورية في أعماله . 
2 ــ معارضة النزعة التنبؤية اليوتوبية ، حيث ذهب دور كايم إلى أن العلم لم يصل إلى مرحلة من النضج بحيث يمكن أن يتنبأ بالمستقبل ، كما أنه لم يعر أهمية للتقدمو ركز على النظام ، على العكس من أوجست كونت و بهذا يكون دور كايم قد أجهض النظرة التطورية للوضعية و قلب مفهومها عن الماضي رأسا ً على عقب . 
3 ــ أضفى دور كايم طابع العلمانية على العلم و درس الدين كظاهرة اجتماعية مثل كل الظواهر في المجتمع على العكس من كونت وسان سيمون و الذين ربطا علم الاجتماع بالدين إلى درجة أنهما اعتبراه ديانة جديدة للإنسانية . 
4 ــ نحا دور كايم بالوضعية منحا علميا ً فبذل قصارى جهده لتحديد موضوع و منهج علم الاجتماع ، فحدد خصائص الظاهرة الاجتماعية و ركز على الموضوعية و العلمية في دراسة الظواهر الاجتماعية إلى درجة أنه ذهب إلى أننا يجب أن نعتبرها أشياء خارجية منفصلة عن شعورنا الذاتي و أنه يجب على الباحث أن يتحرر من كل فكرة سابقة عن الظاهرة كي لا يقع في أسر أفكاره الخاصة . 
والحقيقة أن إسهامات دور كايم في علم الاجتماع لم تصب فقط في جانب الفلسفة الوضعية و إنما كانت له إسهاماته العديدة حيث ألف دور كايم أربع مؤلفات رئيسية : 
تقسيم العمل الاجتماعي 
الصورة الأولية للحياة الدينية 
الانتحار 
قواعد المنهج في علم الاجتماع . 
و في هذه الكتب الأربعة يثبت اميل دور كايم وجهة نظره البسيطة في أن أساس الحياة الاجتماعية ليس في الاقتصاد كما يقول ماركس و لكن في القيم الروحية ، و أن هدف المجتمع الذي يجب أن يتحقق هو الوصول إلى حالة الإجماع ، و أن كل مظاهر الاضطراب أو التفكك أو المشكلات الاجتماعية مرجعها ليس العوامل أو الظروف الاقتصادية أو الاجتماعية و لكن في انعدام الإجماع ، أي أن حل كل أزمات النظام الرأسمالي إنما يتمثل في تحقيق الإجماع على القيم بين جميع المواطنين . 
أهم العوامل التي شكلت فكر دور كايم : 
إذا ما نظرنا إلى إسهامات دور كايم العلمية ، يمكن لنا أن نستقرأ العوامل التي أثرت في فكره . 
و يبدو أن أهم عامل ٍ هو الديانة التي ينتمي إليها و هي اليهودية ، فنحن نعلم ما تعرض له اليهود عبر التاريخ و في أكثر من منطقة جغرافية ، مما جعلهم أكثر تضامنا ً و تكاتفا ً و هذا ما لفت نظر كايم و جعل دراساته تنصب حور محور التضامن الاجتماعي . 
كما كان للثورة الفرنسية و اعتناق البعض للفكر الماركسي أثر كبير على دور كايم في تشكيل نظرياته و بلورة أفكاره .
و مع انهيار المجتمع الفرنسي عام 1870 م و مع شعور الفرنسيين بالإهانة من جراء الهزيمة ، كان شغل دور كايم الشاغل هو إعادة بناء المجتمع من خلال بناء التماسك الأخلاقي فيه . 
و من هنا كان اهتمام دور كايم بالنظام العام القائم على التضامن بنوعيه و الذي يستمد استقراره من سلطة الضمير الجمعي . 
كما تأثر بأفكار سان سيمون و عمل على تطوير الجانب المحافظ الذي آمن به سان سيمون و دعا إليه و تأثر كذلك بأفكار أوجست كونت و لكنه لم يرددها على عواهنها و إنما عمل على تمحيصها و انتقادها و تطويرها كما أريانا في فلسفة الوضعية . 
أما الفكر الماركسي فقد كان له أثره البالغ على دور كايم حتى ذهب البعض إلى أن كل أعماله ما هي إلا محاولة لإقامة نموذج للمجتمع يعارض نموذج ماركس الاشتراكي . 
و أخيرا ً لا يسعنا القول إلا أن دور كايم يعتبر من أعاظم علماء الاجتماع بل و يعتبره البعض هو المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع ، و سوف نعرض بعضا ً من إسهاماته المنهجية و النظرية . 
الإسهامات المنهجية و النظرية لدور كايم
يرى دور كايم أن كل مظاهر الاضطراب أو التفكك أو المشكلات الاجتماعية مرجعها ليس للعوامل أو الظروف الاقتصادية أو الاجتماعية و لكن انعدام الإجماع ، أي أن حل كل أزمات النظام الرأسمالي إنما يتمثل في تحقيق الاجتماع على القيم بين جميع المواطنين . 
وسوف نرى كيف تناول اميل دور كايم في كتبه الأربعة هذا الموضوع الرئيسي بطرق مختلفة ، و لكنها جميعا تصب في نفس المصب في نهاية الأمر . 
أولا ً : دراسة الظواهر الاجتماعية : 
يوصف جوهر منهج دور كايم بأنه نزعة سوسيولوجية واقعية بمعنى أنه قد منح الجماعة واقعا ً اجتماعيا ً مطلقا ً بدلا ً من الفرد ، و يرجع ذلك إلى أن دور كايم يقرر أن الظواهر الاجتماعية لا يمكن إرجاعها إلى ظواهر فردية . 
و الظواهر الاجتماعية كما يقول دور كايم : طل وسيلة أو كل أسلوب للتصرف تمارس فرضا ً أو إجبارا ً خارجيا ً على الفرد، أو كل وسيلة للتصرف تتصف بالعمومية في مجتمع ما ، و هي توجد في نفس الوقت مستقلة بذاتها . 
فقد وجد دور كايم ظواهر معينة في الحياة الاجتماعية يتعذر تفسيرها في ضوء التحليل السيكولوجي أو الطبيعي فهناك أنماطا من السلوك و ضروب التفكير و التصور تتميز بأنها خارجة عن الفرد ، كما تتمتع بقوة وقهر ، و قد عرف دور كايم الظاهرة الاجتماعية عن طريق تحديد خصائصها المميزة لها عن غيرها من الظواهر فهي : 
أ ) تلقائية : 
و معناها أن الظواهر الاجتماعية لم يخلقها فرد بل هي موجودة قبل أن يولد الأفراد ، فنحن نولد و نجد أمامنا مجتمعا ً كاملا ً معدا ً من قبل لا نستطيع أن نغيره إذا أردنا و علينا أن نخضع لنظمه العامة و الخاصة . 
ب ) جبرية : 
معناها أن الظواهر الاجتماعية ملزمة للأفراد و الجماعات على السواء و قد وضع المجتمع الجزاء لكل من ينحرف بسلوكه عما اقتضته طبيعة الحياة الاجتماعية و نظم المجتمع الذي يعيش فيه . 
ج ) لها صفة العمومية : 
و معناها أن الظواهر الاجتماعية عامة لا توجد في مكان دون آخر و لذلك يمكن أن نطبق مقياس العمومية في اكتشاف الحقائق الاجتماعية التي يمكن أن ترقى إلى مرتبة الظواهر و بالتالي فإن علم الاجتماع لا يهتم إلا بالظواهر ذات الصفة العمومية . 
د ) خارجية : 
معناها ان الظواهر الاجتماعية بما لها من الخواص السابقة مستقلة عن الأفراد بحيث يمكن ملاحظتها منفصلة عن الحياة الفردية ، أي يمكن دراستها دراسة موضوعية على أنها أشياء. 
و قد شرح دور كايم كيف تكون الظواهر الاجتماعية خارجة عن الفرد بقوله : 
حين أقوم بالتزاماتي كأخ أو أب أو حين أوفي بتعاقداتي فإنني أقوم بواجبات لم أحددها أنا بنفسي أو لم تحددها أفعالي و لكنها محددة لي سلفا ً في القانون و في العرف و في العادات الجمعية . 
وفضلا ً عن ذلك فإنها حتى إذا ما اتفقت مع عواطفي و شعرت بها ذاتيا ً فإن واقعها يظل موضوعيا ً ، ذلك أنني لم أخلقها و لكنني ورثتها من خلال عملية التربية . 
و لقد أدى ذلك بدور كايم إلى أن يؤكد أنه من العسير أن ندرس الظواهر الاجتماعية اعتمادا على منهج الاستبطان ، ذلك أنه ليس هناك ما يدلل على أن أفكارنا عن الأشياء تطابق الأشياء ذاتها ، و الغاية الأساسية لعلم الاجتماع هي تحقيق الموضوعية بمعنى أن عالم الاجتماع حينما يدرس المجتمع يتعين أن يتخذ موقفا ً يماثل موقف العالم الطبيعي الذي يفترض أنه يرتاد ميدانا ً غير معروف و غير مكتشف ، و حينما يقوم بإجراء بحثه على هذا النحو يستطيع أن يتعرف على الظواهر من خلال ملاحظة الظواهر الخارجية الملموسة مثل الولاء الديني و المكانة الزواجية و معدل الانتحار و المهنة الاقتصادية و غيرها . 
و الظواهر الاجتماعية في نظر دور كايم هي انعكاسات أو تعبيرات عن أخلاقيات الجماعة و الأخلاقيات بالنسبة لكايم تشمل كل المدى المعياري ابتداء ً من القواعد البسيطة للسلوك الاجتماعي ( الاتيكيت ) حتى أكثر العادات الاجتماعية صرامة وشدة . 
ثانيا ً : التضامن الآلي و التضامن العضوي 
لقد كان اهتمام دور كايم في كل مؤلفاته منصبا ً على دراسة العلاقة بين الأخلاقيات من حيث مصادرها و أشكالها و بين طبيعة الروابط الاجتماعية . 
ورأى دور كايم في كتابه تقسيم العمل أن التنظيم الاجتماعي قد تطور من حالة التماسك أو التضامن الآلي إلى حالة من التماسك العضوي ولا يمكن ملاحظة أي من النوعين من التماسك ملاحظة مباشرة و لكن يمكن التعرف عليهما عن طريق مؤشرات معينة تتمثل في نوع الجزاءات التي توقع على مخالفي القواعد الأخلاقية . 
والجزاءات في نظر دور كايم تنبعث من العقل أو الضمير الجمعي أو من المعتقدات و المشاعر المشتركة بين المواطنين في نفس المجتمع فأي فعل يعتبر إجراميا ً حين يتعارض مع مبادئ الضمير الجمعي . 
والتماسك الآلي يوجد في المجتمع الذي يتصف بإحساس قوي و عام بالضمير الجمعي ، فاي فعل ضد شخص ما يعتبر مضادا ً لكل الناس في المجتمع و في مثل هذا المجتمع البدائي توقع الجزاءات بطريقة آلية أي دون تفكير ويسود مثل هذا المجتمع ما أسماه دور كايم بالقانون القمعي في هذا المجتمع البدائي نجد أن الناس متشابهون في أفكارهم و في وجهات نظرهم لما لديهم من قيم و خبرات مشتركة فإنهم يصبحون جميعا ً كرجل واحد و لهم عقل واحد و بذلك يتحقق التماسك الاجتماعي بينهم و لكن هذا التماسك ، تماسك آلي أو طبيعي .
أما في المجتمعات الحديثة ( أي المجتمع الصناعي الرأسمالي ) فإن الأمر يختلف عن ذلك تماما ً ، فأفراد المجتمع يختلفون في كثير من النواحي مثل الخبرات التي يمرون بها و تنشئتهم الاجتماعية و تدريبهم ... و يسود في هذا المجتمع ما يسمى بالتماسك العضوي و هذا التماسك العضوي يصاحب التقسيم المعقد في العمل الذي تتصف به المجتمعات الصناعية ، فالتماسك في هذه المجتمعات لا ينشأ عن التشابه بين الناس و لكنه على العكس من ذلك ينشأ نتيجة الاعتماد المتبادل . 
وقد لاحظ دور كايم حين قارن بين المجتمعات القديمة و المجتمعات الأكثر تطورا ً أن الأولى يسودها التضامن الآلي أما الثانية فيسود فيها تضامن عضوي . 
وفي رأيي الشخصي أن التضامن الآلي و التضامن العضوي كانا موجودين حتى في المجتمعات القديمة و لا يعود ذلك إلى إلى تقسيم العمل فقط كما يرى دور كايم و لكن أيضا ً على المصالح المشتركة و قلة الموارد في بلد ما و كثرتها في الآخر . 
ففي المجتمعات البدوية القديمة يمكن أن نشهد هذا التضامن العضوي في التحالف القائم بين بعض القبائل نتيجة لوجود مصالح مشتركة بينهما ، و لا زال هذا التضامن العضوي يظهر في المجتمعات الحديثة و يتضح لنا ذلك من خلال حرب الخليج الثانية و التي تضامن فيها غالبية دول العالم مع الكويت ليس لتقسيم العمل و إنما لوجود بعض المصالح المشتركة . 
ثالثا ً : تقسيم العمل 
يعد كتاب دور كايم تقسيم العمل الاجتماعي ، 1893 م و الذي كان فاتحة أعماله السوسيولوجية دراسة كلاسيكية للتضامن العضوي ، فقد عالج في القسم الأول من الكتاب الظواهر الاجتماعية بوجه عام باعتبارها نتائج مصاحبة لتقسيم العمل في المجتمع و الذي اعتبره متغيرا ً مستقلا ً . 
و يرى دور كايم أن التماسك العضوي إنما هو ناتج لتقسيم العمل الأكثر تقدما ً و لكن تقسيم العمل في حد ذاته ليس كما يرى علماء الاقتصاد نتيجة لعوامل اقتصادية و لا نتيجة رغبة الأفراد في أن يزيدوا من طاقاتهم الإنتاجية و في أن يحسنوا الإنتاج أو يحسنوا من أساليب حياتهم و لكن تقسيم العمل يرجع في رأي دور كايم إلى ما أسماه بالكثافة الدينامية أو الكثافة الأخلاقية و يعني بها تلك الحالة من التفاعل المكثف بين الناس و الناتج عن زيادة عدد الأفراد الذين تهيأ لهم فرص الاتصال بعضهم ببعض بدرجة تجعلهم قادرين على التفاعل مع بعضهم ، وبالتالي يمكن القول حسب دور كايم أن التقدم في عملية تقسيم العمل إنما يتناسب تناسبا ً طرديا ً مع الكثافة الدينامية أو الكثافة الأخلاقية بمعنى أن مصدر تقسيم العمل المتقدم إنما يكمن في القيم الثقافية التي يتضمنها الضمير الجمعي لأعضاء مجتمع ما قائم بالفعل . 
ومن مفردة الضمير الجمعي يمكننا أن نتطرق لعمل آخر من أعمال دور كايم و إساهماته النظرية .
رابعا ً : الضمير الجمعي : 
كان كتاب قواعد المنهج في علم الاجتماع ( 1895 ) العمل الرئيسي الثاني لدور كايم و الذي قدم فيه تصورا ً جديدا ً للضمير الجمعي و يؤكد دور كايم أنه ينتج عن تجمع عقول الأفراد و التحامها ، نوع من الوحدة السيكولوجية تتميز عن الأفراد ذاتهم و هذا النتاج الجمعي ليس هو مجموع الأجزاء ، ذلك أن الجماعة تمارس أنماطا ً من التفكير و الشعور و السلوك مختلفة تماما ً عن الأفراد الذين يكونونها ، و هذا هو الذي يجعل من الضروري أن يبدأ تحليل سلوك الجماعة بدراسة ظواهر جمعية بدلا ً من دراسة الأفراد . 
فمن العسير أن نفسر الظواهر الاجتماعية على أساس العمليات النفسية للفرد ، لأن هذه العمليات لا تستطيع بذاتها أن تؤدي إلى إيجاد تصورات جمعية للعواطف و غير ذلك من الميول الجماعية . 
وهذه الظواهر الجمعية تمارس ضغطا ً قويا ً على الأفراد بحيث تصبح السمات العامة المميزة لأعضاء الجماعة نتيجة مترتبة عن هذا الضغط ، على الرغم من أن ذلك لا يبدو واضحا ً للأفراد، و لقد أوضح وجهة نظره في كتابه " قواعد المنهج في علم الاجتماع " باعتبارها تمثل تعديلا ً جزئيا ً للموقف الذي تبناه في كتاب " تقسيم العمل الاجتماعي " فقد ذهب في كتابه هذا إلى أن الضمير الجمعي يتألف من التصورات و العواطف الشائعة بين الأفراد و الذين يكونون غالبية أعضاء الجماعة أما في " قواعد المنهج " فنجد أن التماثل العقلي و العاطفي بين غالبية الأعضاء مستمد من الضغط الذي يمارسه الضمير الجمعي على كل منهم . 
تعليق على نظرة دور كايم للعقل الجمعي أو الضمير الجمعي 
تتخلل مفردة الضمير الجمعي أو العقل الجمعي كثير من إسهامات دور كايم و دراساته فنجدها عند دراسته للمجتمعات القديمة كما سبق عندما رأى أن الضمير الجمعي موجود بشكل أكبر في المجتمعات القديمة المتميزة بالتضامن الآلي ، و يمكن لنا القول أن قوة العقل الجمعي تكون أشد في المراحل الأولى لإيمان مجتمع ما بنظام ما ، و كمثال على ذلك نرى أن العقل الجمعي كان أكثر قوة و وضوحا في المراحل الأولى للدولة الإسلامية في عصر النبي ( ص ) و في المراحل اللاحقة رغم أن الدول بنظام ما ، و كمثال على ذلك نرى أن العقل الجمعي كان أكثر قوة و وضوحا في المراحل الأولى للدولة الإسلامية في عصر النبي ( ص ) و في المراحل اللاحقة رغم أن الدول ما زالت تسمى إسلامية إلا أنها قد ظهر بها الكثير مما يخالف الشرع ، و قد خفت سطوة العقل الجمعي بها لعوامل عديدة ، قد يكون أحدها الفارق الزمني من عصر النبي ( ص ) إلى العصور الأخرى رغم أنها ترى أن نفس العقل الجمعي الإسلامي هو المفترض الحاكم والمنظم لشؤونها . 
و في العصر الحديث نجد أيضا العقل الجمعي و الذي يوقع جزاءات بطريقة آلية دون تفكير كما عبر عن ذلك دور كايم ، و أصدق مثال على ذلك أنه في وقت الثورات التي تقوم بها الشعوب ضد نظام ما ، فإن هناك عقل جمعي يحركها مما يجعلها تتصرف كفرد واحد و ما إن تتولى السلطة حتى توقع الجزاءات و بطريقة آلية دون تفكير في حق كل من كان يخالفها ، و لعل الثورة الفرنسية نفسها التي لمس دور كيام مخاطرها تدلنا على ذلك ، و لكن بعد مضي فترة من الزمن يبدأ هذا العقل الجمعي بالتغير البطيء لدخول عناصر عديدة تغير من خطه الذي بدأه حتى يتشكل عقلا ً جمعيا ً آخر قد يكون مخالف تماما ً للعقل الجمعي الذي كان هو المحرك الأساسي للثورة . 
خامسا ً :دراسة دوركايم للانتحار 
تعتبر دراسة دور كايم الشهيرة عن الانتحار Sucide من أهم الدراسات التي عكست مدى اهتمامات هذا العالم بتحليل مشكلة اجتماعية بالغة الأهمية ، و التي زادت معدلاتها نتيجة لوجود التفكك الاجتماعي و تناقص عمليات التضامن أو التكامل الاجتماعي ، و الخلل بالقواعد المعيارية ( الأنومية ) أو العلاقات التي تربط الفرد بالجماعة أو التنظيمات المجتمعية التي ينتمي إليها . 
فجاءت الثلاث أنواع المميزة للانتحار في المجتمع بعد دراسة تحليلية لدور كايم استخدم فيها الإحصاءات لتكشف عن أن مظاهر الانتحار زادت نتيجة لوجود ظواهر مرضية في المجتمع و نتيجة لعدم التكيف من قبل الأفراد داخل الجماعات و البناءات التنظيمية التي ينتمون إليها سواء من شدة الانتماء الشديد أو التفكك و البعد النهائي عن قواعد المجتمع و معاييره و قيم أخلاقه ، بل و ربطها بكثير من الأمراض الاجتماعية و الخلل الذي أصاب البناء الاجتماعي ، أيضا ً نتيجة زيادة المجتمع من حيث السكان و الحجم و زيادة نمو التصنيع و تقسيم العمل . 
ومن خلال ما سبق يتضح لنا مدى أهمية دراسة دور كايم عن الانتحار . 
وتعتبر دراسة دور كايم عن الانتحار من خيرة دراساته التي تمثل البحث السوسيولوجي الذي يقوم على أسس نظرية واضحة . 
فقد يبدو الانتحار لأول وهلة أنه ظاهرة فردية ، يمكن تفسيرها في ضوء اصطلاحات علم النفس ، و لكن دور كايم لاحظ أنه نسب الانتحار تختلف من جماعة لأخرى . 
و تقوم الافتراضات الأساسية عند دور كايم في تفسير الانتحار على أن التكامل الاجتماعي يؤثر في احتمالات حدوث الانتحار ، و قد بين أن تعميمه النظري هذا ــ مع شيء من التحسين ــ يمكن أن يفسر الحقائق الكثيرة المعروفة عن نسب الانتحار . 
وللانتحار أنماط متعددة أهمها
1 ــ الانتحار الأناني : 
و هو الذي يرجع إلى مشاركة الفرد غير المرضية أو الكافية في حياة الجماعة ، فالفرد نفسه قليل القيمة ، و لكن الذي يعطي وجوده أهمية و هدفا ً ، و هو ما يستمده من مشاركة في حياة الجماعة و لذلك فالفرد الذي يظل عزوفا أونائيا ً عن الجماعات الاجتماعية ذات التكامل القوي و الذي يتابع أهدافه الشخصية و حسب ، هو الذي يكون معرضا ً أكثر من غيره لأن يقهره السأم و الضجر ، و من ثم لا يجد سببا ً لاستمراره فيلجأ إلى الانتحار . 
2 ــ الانتحار الغيري : 
و هو الانتحار الذي يرجع إلى شدة اندماج الفرد في الجماعة حتى أنه يفقد فرديته و يفسر هذا الاندماج نفسيا ً بشدة شعور الفرد بالواجب إزاء جماعته حتى أنه يصبح مستعدا ً أن يضحي بحياته من أجل الجماعة إذا كانت هذه التضحية ضرورية ، و يقول دور كايم إن هذا النوع من الانتحار يوجد غالبا ً في المجتمعات التي تتميز بالتضامن الآلي .
( و يبدو أنه مع التغيرات العالمية المتلاحقة أن هذا النوع من الانتحار لم يعد يظهر بشكل جلي في المجتمعات كما يبدو في التنظيمات الصغيرة و التي تتميز بهذا التضامن الآلي و يجمعها عقلا جمعيا ً واحدا ً ، و لكن لا بد من الإشارة إلى أن ما يصفه دور كايم بالانتحار نطلق عليه في مجتمعاتنا الإسلامية بالاستشهاد و تسميه مجتمعات أخرى ( تحركات إرهابية ) و هو معنويا ً ] الاستشهاد [ يقع في مرتبة أعلى من مجرد الانتحار ، ذلك أن المنتحر يعتقد أنه سينهي حياته بهذا العمل أما الاستشهادي ففي يقينه أنه يبدأ حياة أخرى هي أكثر راحة و سعادة من حياته الدنيا . 
3 ــ النمط القدري : 
النمط القدري و هو نمط لم يناقشه دور كايم بالقدر الكافي من التفصيل و الإيضاح و اكتفى بالإشارة إلى أنه يقع نتيجة للإفراط في التنظيم. 
4 ــ الانتحار اللامعياري " الأنومي " : 
ظهر هذا المصطلح " الأنومي " في اللغة الانجليزية منذ عام 1591 م ثم ذاع استخدامه في اللغة الفرنسية في القرن السابع عشر في ميدان علم اللاهوت ، و كان يقصد به إهمال القانون ، و بخاصة القانون الإلهي ، و قد كان إميل دور كايم أول من أدخل هذا المصطلح في علم الاجتماع في دراسته الشهيرة عن الانتحار حيث تحدث عن الانتحار اللامعياري باعتباره واحدا ً من بين أشكال أخرى للانتحار تزايد انتشارها في المجتمع الحديث . 
و يستخدم المصطلح بمعاني ثلاثة مختلفة : 
1 ــ التفكك الشخصي و بخاصة هذا النوع الذي يؤدي إلى وجود من لا قانون له و من يفتقد التوجيه الرشيد و ذلك دون الإشارة إلى مبلغ تماسك البناء الاجتماعي أو طابع المعايير السائدة فيه . 
2 ــ الموقف الاجتماعي الذي يشهد صراعا ً بين المعايير و بين الجهود التي يبذلها الفرد للامتثال لها . 
3 ــ الموقف الاجتماعي الذي تنعدم فيه المعايير تماما ً نتيجة لتغيرات اجتماعية و ثقافية تقلب التوقعات السلوكية العادية للفرد . 
و يحدث هذا النوع من الانتحار في تلك الحالات التي يتهتك فيها النسيج الاجتماعي على حد تعبير دور كايم و بالتالي تنشأ حالة من اللامعيارية أو انعدام المعايير في المجتمع و حالة انعدام المعايير في المجتمع أو حالة الاضطراب المعياري ينجم عن أي خلل في التوازن سواء كان هذا الخلل في التوازن مؤديا ً إلى نتائج إيجابية أو نتائج سلبية ، فأي تغييرات مفاجئة في النظام الاجتماعي تؤدي إلى حالة من اللامعيارية أو التفكك الاجتماعي فمثلا الكساد الاقتصادي أو الرخاء الاقتصادي ، حالتان تمثلان تغيرا ً مفاجئا ً في النظام الاجتماعي ، يترتب عليها درجة من اللامعيارية تؤدي إلى زيادة معدل الانتحار في المجتمع . 
و يمكن القول أن الإنسان في حالته الطبيعية أو البداءة لا يقع في أزمة الأنومي لأن حاجاته الأساسية تكون حاجات فيزيقية محدودة بمستويات إشباع طبيعية ، و لكن حاجات الإنسان الاجتماعية و الطموحات و التطلعات التي يخلقها المجتمع الصناعي و يكسبها الإنسان من خلال نشأته و حياته في مثل هذه المجتمعات التي تسبب الأنومي ، لأن تحديد مستويات إشباع هذه الحاجات و وسائل هذا الإشباع يتم بواسطة المجتمع . 
و يفترض دور كايم أن مجتمعات ما قبل الرأسمالية الصناعية تكون أكثر استقرارا ً و تماسكا ً حين يكون هناك انسجام بين الأهداف التي تتطلع إليها كل طبقة و الفرص البنائية و الوسائل المشروعة التي يتيحها لها المجتمع لبلوغ تلك الأهداف و يشعر كل فرد داخل جماعة بالتقدير الذي يحتاج إليه ، و من ثم لا يشعر بالمهانة و إذا كان يشغل إحدى المراتب الدنيا في المجتمع ، كما أنه لا يستاء من وضعه الاجتماعي لسببين ، أولها أنه يأخذه كأمر واقع مقبول وثانيهما أنه يحقق ذاته داخل جماعته الأولية فلا يشعر بالدونية في مواجهة الآخرين. 
أما في المجتمع الصناعي ، فإن المجتمع يفشل في تحديد الأهداف و وسائل بلوغ تلك الأهداف ، بحيث ينسجم مع الإمكانيات المتاحة للأفراد على مختلف أوضاعهم الطبقية ، و تحظى في نفس الوقت بالقبول و التقدير الاجتماعي ، كما أصبحت الثورة و القوة و النفوذ أهدافا في حد ذاتها و غدا الناس عاجزين عن تحقيق المكانة الاجتماعية التي يطمحون فيها و يسعون إليها ، لأنهم لا يملكون الوسائل المقبولة اجتماعيا لبلوغها . 
و لذلك ينهمك الناس في صراع مع القيم و المعايير الاجتماعية السائدة و يسعون للتحايل عليها ، مما يؤدي إلى انهيار النظام المعياري في المجتمع ، تلك الحالة التي أطلق عليها دور كايم كلمة أنومي ، و التي تشير إلى حالة اجتماعية لا تخضع فيها رغبات الفرد للمعايير العامة.
أهم نتائج دراسة الانتحار : 
إن محور التحليل الدور كايمي في دراسته للانتحار هو الفكرة القائلة أن هناك تناسبا ً عكسياً بين التكامل الديني والعائلي و السياسي للفرد و ميله للانتحار و بسبب ذلك أنه حين يكون المجتمع متكاملا بقوة فإنه يبقي الأفراد تحت سيطرته و من ثم يمنعهم من التخلص الإرادي من أنفسهم على أساس أنه يوجد في كل مجتمع متماسك تفاعل مستمر خاص بالأفكار و المشاعر شيء أشبه بدعم معنوي مشترك من شأنه أن يقود الفرد ليشارك في الحياة الاجتماعية . 
و يرى دور كايم أن : 
1 ــ الكاثوليكية تؤدي إلى تكامل اجتماعي أكثر مما تؤدي إليه البروستنتيني التي تتميز بالطابع الفردي. 
2 ــ أن شعور اليهود بالاضطهاد المزعوم يجعلهم يرتبطون ارتباطا ً قويا ً بعضهم مع البعض الآخر . 
3 ــ أن المتزوجين يرتبطون بروابط توحدهم و تؤلف بينهم و هي التي تنقص العزاب . 
4 ــ أن وحدة المجتمع تكون أعظم في أوقات الشدة و الحروب بعكس الحال في أيام السلام .
5 ــ أن التكامل الاجتماعي يكون أقوى في القرى ( المناطق الريفية ) إذا قورن بالتكامل في المدينة (المناطق الحضرية ) .
كل ذلك و غيره من النتائج يبدو أنها تشير في نفس الوقت إلى أن التضامن الآلي أقوى من التضامن العضوي في تخفيف حالات الانتحار. 
سادسا ً التفسير الاجتماعي للدين : 
يمثل كتاب " الصور الأولية للحياة الدينية " 1912 م آخر أعمال دور كايم الهامة ، ففيه حاول أن يطبق تحليله للقوى الجمعية أو الجماعية في دراسته للدين في أكثر مظاهره أولية .
و هو يقرر ومنذ البداية أنه في هذا الكتاب سوف يحاول أن يدرس أكثر الديانات المعروفة لنا بدائية و بساطة ، و هي تلك التي نجدها في مجتمع لا يتجاوزه أي مجتمع آخر في بساطة تنظيمه ، و قد وقع اختياره على إحدى القبائل الاسترالية التي تسمى الأرونتا ، وقد أخذ التوتمية كما تسود فيها باعتبارها أكثر صور الدين بساطة ، و تشير التوتمية إلى اعتقاد داخلي في قوة غيبية أو مقدسة أو في مبدأ يحدد مجموعة من الجزاءات يتعين تطبيقها على كل من يحاول انتهاك المحرمات ، ويعمل في الوقت ذاته على دعم المسؤوليات الأخلاقية في المجتمع بل و يضفي حياة على هذا التوتم ذاته . 
و يرمز التوتم سواء كان حيوانا ً أو نباتا ً أو شيئا ً طبيعيا ً إلى هذا المبدأ التوتمي المقدس من ناحية و إلى الجماعة من ناحية أخرى . 
و لقد درس دور كايم النشاطات الاجتماعية للأرونتا فلاحظ أن حياتهم تنقسم قسمة عادلة بين جانبين : 
الأول علماني يتصل بانقسام العشيرة إلى مجموعات صغيرة من الأفراد يمارسون حياتهم الخاصة سعيا ً وراء قضاء مطالبهم و حاجاتهم ، أما الجانب الثاني فيتمثل في التجمعات الدورية المقدسة للعشيرة التي تعمل على تنظيمها و تحقيق سيادة الجماعة و قد يصاحب هذا التجمع انتهاك بعض المحرمات . 
و يؤكد دور كايم أن فكرة الدين و عاطفته تتحققان من خلال هذه النشاطات الجماعية ، فالجماعة إذن هي المصدر الأساسي أو السبب الكافي لظهور الدين ، ذلك أن أفكارنا و ممارساتنا الدينية ترمز إلى الجماعة الاجتماعية و هذا هو الذي يجعل التمييز بين ما هو مقدس و علماني تمييزا ً يتسم بالعمومية و يؤدي وظائف جوهرية في الحياة الاجتماعية بوجه عام . 
و يرى دور كايم أن الحياة الجمعية هي مصدر الدين و هي تحدد موضوعه ، فالمقدس إذا ً مشخص في قاع المجتمع . 
و الواقع أن هذا التفسير السوسويولوجي العلماني للدين يستند إلى فكرة أساسية تتلخص في أن هناك نوعا ً من التماثل فيما يتعلق باتجاهات الناس نحو الله و المجتمع فكلاهما يخلق لدى الفرد إحساسا ً بالألوهية و هما كذلك يتمتعان بسلطة أخلاقية و يدفعان الإنسان إلى الإخلاص و التضحية بالذات و هما بالإضافة إلى ذلك يكسبان الفرد سلوكا ً غير عادي ، ومعنى ذلك كله أن شعور الفرد بالاعتماد على قوة أخلاقية خارجة عنه لا يفسر بأنه استجابة لضرب من الوهم و الخيال بل إن ذلك في الواقع نتيجة مترتبة على عضويته في المجتمع ، و يخلص دور كايم من دراسته هذه إلى أن الوظيفة الأساسية للدين تتمثل في تحقيق التضامن الاجتماعي و تدعيمه و المحافظة عليه ، بل إنه يؤكد فوق ذلك كله أن الدين سوف يبقى طالما تحقق للمجتمع بقاؤه و استمراره . 
سابعا ً التربية : 
جاءت نسبة كبيرة من تصورات دور كايم في علم اجتماع التربية في كتابه المميز عن " التربية و علم الاجتماع " الذي نشر عام 1956 م و تصور فيه أن التربية شيء اجتماعي و أنها تغير المجتمع ككل ، كما أنها تعد بمثابة الوسط الاجتماعي الذي يحدد الأفكار و المثل و القيم ، كما أن المجتمع لا يستطيع أن يبقى إلا عندما يحدث نوع من التجانس الكاف ، و تعتبر التربية هي الوسيلة التي تعزز بقائه و وجوده ، كما أ،ها التربية تعتبر جزء ً أساسيا ً من عناصر و متطلبات الحياة الجمعية , و من ناحية أخرى ــ كما يتصور دور كايم ــ أنه بدون التنوع و التعاون لا يمكن تحقيق الحياة الجمعية و لكن عن طريق التربية يمكن السعي لإحداث التنوع و التخصص المطلوب للحياة الاجتماعية ( الجمعية ) 
كما سعى دور كايم ليحدد مفهوم التربية ، أو ماذا يقصد بعملية التربية ، فنجده يشير إليها بأنها التأثير الذي يمارس بواسطة الأجيال الراشدة على الأجيال الصغيرة الذين لم يتأهلوا بعد لمرحلة الحياة الاجتماعية ، علاوة على ان التربية تهدف إلى نشأة و تطوير الأطفال فيزيقيا و فكريا ً و أخلاقيا ً و تعد مطلبا أساسيا ً إلى المجتمع السياسي ككل ، كما أنها تعد الوسط الخاص الذي يحدد كل شيء بالنسبة للأفراد و الناشئين ، و من ثم نلاحظ أن دور كايم يستخدم مفهوم التأثير أو النفوذ الذي تقوم به التربية في المجتمع ، أو بالتحديد أن دور كايم سعى ليوضح لنا الوظيفة الاجتماعية لعملية التربية ، خاصة و أن التربية هي التي تعد الأفراد و خاصة الناشئين إلى مرحلة الحياة الاجتماعية ، ويقصد بالتربية بأنها تعني مجموعة القيم و العادات و التقاليد و المعايير التي تحدد نوعية الحياة الاجتماعية ، خاصة أن هذه الحياة لا يمكن تحقيقها أو ظهورها بدون الحياة الاجتماعية المشتركة بين الأفراد و الجماعات . 
كما تعد قضية التنشئة إحدى القضايا الهامة التي وضحها بعد عرضه لقضية التربية من ناحية المعنى و المفهوم و علاقتها بالحياة الاجتماعية للأفراد و المجتمع ككل ، فالتنشئة تعتبر جزء أساسيا ً من عملية التربية ذاتها التي تؤهل الأطفال أو الصغار لاكتساب العادات و التقاليد و السلوكيات و تسق القيم و المعايير من الأجيال الرشيدة أو الكبار و من خلال الأسرة و المؤسسات الاجتماعية الأخرى .
كما أنها ( التنشئة الاجتماعية ) تسهم في استمرارية وجود المجتمع و الحياة الجمعية و بقائها ، كما تعمل على توفير درجة كافية من التجانس بين الأفراد و الجماعات التي تكون المجتمع ذاته . 
أما من ناحية القضايا التربوية ذات الوحدات الميكروسكوبية التحليلية الصغرى التي اهتم بها دور كايم و هي ما يعرف بسوسيولوجيا المنهج و التي ظهرت في كتابه " تطور المنهج في فرنسا " و التي تبرز بوضوح إسهامات هذا العالم في مجال علم اجتماع التربية الجديد على وجه الخصوص ، حيث اهتم دور كايم بدراسة مشكلات التربية و التعليم في فرنسا و لا سيما تصفية المنهج ، و نوعية المقررات الدراسية التي تعطى للتلاميذ و الطلاب في المدارس أو الجامعات . 
و تعتبر قضية العلاقة بين المدرس والتلميذ من القضايا التربوية الهامة التي تناولها بوضوح مستخدما ً مدخله السوسيولوجي التربوي المميز ، و لقد ناقش هذه القضية في إطار تحليله للوظيفة النقدية للتربية و العملية التعليمية ، خاصة و أنه تصور أن الظاهرة التربوية ما هي إلا شيء اجتماعي أكثر منها شيء فردي أو شخصي . 
إسهامات أخرى
ليس هذا كل ما قدمه دور كايم للنظرية السوسيولوجية ، فلقد كتب بمفرده أو بالتعاون مع تلاميذه و خاصة ( مارسيل موسى ) عدة مقالات عن التظرية السياسية والأخلاق و حاول أن يصنف المجتمعات ، و حدد الصلة بين الفلسفة و الاجتماع و كتب في نظرية المعرفة ، و لعل علم اجتماع المعرفة يعتبر الآن من أحدث فروع علم الاجتماع نشأة إلا أن دور كايم كتب في هذا الموضوع و حاول أن يؤكد أن المعرفة ذاتها ما هي إلا نتاج للظروف الاجتماعية ، ذلك أن الفكر يعتمد على اللغة و اللغة بدورها تعتمد على المجتمع ، و من ثم كان الفكر نتيجة للمجتمع أيضا ً ، و لذلك تكون كل قضايا المنطق موجودات اجتماعية بالضرورة . 
تعليق ختامي
يتضح مما سبق مدى تنوع اهتمامات هذا العالم المتعددة و نؤكد بالضرورة على أن الهدف الأول من تحليلات دور كايم هي سعيه من أجل تفسير المجتمع الذي عاش فيه و معرفة التغيرات التي حدثت على بناءاته ة ومؤسساته التنظيمية و الاجتماعية ، ولقد انعكست أهمية هذه الكتابات في ضوء تأكيده المستمر على استخدام التحليل السوسيولوجي في دراسة حقائق المجتمع ، تلك الحقائق التي اعتبرها في منهجيته المعروفة على أنها أشياء يجب دراستها دراسة واقعية حتى يتعرف على حقيقة العوامل المتداخلة في تشكيلها و من أجل تفسيرها بصورة علمية . 
و من ناحية أخرى تتميز تحليلات دور كايم عن تحليلات كثير من العلماء لاهتمامه بالمدخل البنائي الوظيفي الذي أضفى عمقا ً مركزا ً على كتابات دور كايم . 
بالإضافة إلى استخدامه المنهج التاريخي المقارن في دراسته للظواهر الاجتماعية ، و ربطه للقضايا و المشاكل الاجتماعية التي حاول أن يعالجها و يقدم حلولا ً لها في دراسته للمجتمع الحديث . 
هكذا ظهرت كتاباته بصورة عميقة و مركزة و ذات بعد تحليلي يمثل دراسته للعلاقة التي تربط بين الفرد و المجتمع ، أو محاولته للتعرف على دور الدولة ، و وظائف السلطة في المجتمع و فكرته حول التضامن الاجتماعي و تقسيم العمل ، و دراسته للجماعات المهنية و النقابات العمالية ، و تحليله للأفكار السياسية مثل الشيوعية و الاشتراكية و الصراع الطبقي . 
و في حقيقة الأمر توضح اهتمامات دور كايم للقضايا نزعته الليبرالية المحافظة و مدى حرصه الشديد على الحفاظ على القواعد المعيارية و الأخلاقية و التي ظهرت في معظم كتاباته مثل تحليله لمفهوم الأنومي ، و فكرته حول التضامن الاجتماعي تلك النزعة التي تكشف أيضا ً عن مدىقلقه و مخاوفه من مظاهر التصدع و التفكك الاجتماعي و تفشي روح الفردية و الأنانية و التهديد الشامل للبناءات و التنظيمات و المؤسسات الاجتماعية نظرا ً لزيادة التحول نحو التصنيع و ما صاحبه من نتائج مثل تقسيم العمل و زيادة التخصص و التحول في العلاقات الاجتماعية من التضامن العضوي إلى ما أسماه بالتضامن الآلي و عدم التكامل الاجتماعي . 
و الواقع أن كتابات دور كايم و تحليلاته لم تظهر من فراغ بل لقد تأثر كثيرا ً بالمناخ الفكري و الثقافي و الاجتماعي الذي كان سائدا ً في العصر الذي عاش فيه . فجاءت أفكاره وليدة لظروف هذا العصر . 
قائمة المراجع : 
1 ــ الجوهري ، عبد الهادي ، قاموس علم الاجتماع ، الاسكندرية ، المكتب الجامعي الحديث ، 1998 م 
2 ــ أحمد ، سمير نعيم ، النظرية في علم الاجتماع ، القاهرة ، دار المعارف ، 1985 
3ــ السيد ،عبد العاطي السيد ، النظرية في علم الاجتماع ، الاسكندرية ، دار المعرفة الجامعية ، 2000 م 
4 ــ امزيان ،محمد محمد ، منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية و المعيارية ، الولايات المتحدة الأمريكية ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، 1991 م 
5 ــ حكمت عرابي ، النظريات المعاصرة في علم الاجتماع ، الرياض ، مكتبة الخريجي ، 1991 
6 ــ زايد ، أحمد علم الاجتماع بين الاتجاهات الكلاسيكية و النقدية ، القاهرة ، دار المعارف ، الطبعة الثانية ، 1984م 
7 ــ شتا ، السيد علي ، نظرية علم الاجتماع ، الاسكندرية ، مؤسسة شباب الجامعة ، 1993 م 
8 ــ زمام ، نور الدين ، http://knol.google.com/k
9 ــ عبد الرحمن ، عبد الله ، تطور الفكر الاجتماعي ، الاسكندرية ، دار المعرفة الجامعية ، 1999 
10 ــ غيث ، محمد عاطف ، قاموس علم الاجتماع ، الإسكندرية ، دار المعرفة الجامعية ، 1999 م 
11 ــ غيث ، محمد عاطف ، تاريخ النظرية في علم الاجتماع ، الاسكندرية ، دار المعرفة الجامعية ، 1987 م 
12 ــ نبيل رمزي ، النظرية السوسيولوجية المعاصرة ، الاسكندرية ، دار الفكر الجامعي ، 1999 م 
13 ــ نيقولا تيماشيف ، نظرية علم الاجتماع طبيعتها و تطورها ، الاسكندرية ، دار المعرفة الجامعية ، 1993 م

abuiyad

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق