مجموعة اليسر للتدريب والاستشارات تأمل من زوارها الكرام المشاركة في الاستطلاعات التي تجريها بفعالية نظرا لفائدتها العالية
مجموعة اليسر للتدريب والاستشارات هي شركة تضامن لبنانية مسجلة تحت الرقم 489 تتنشط في مجال الدورات التدريبية والمؤتمرات العلمية والتربوية والاجتماعية والادارية والثقافية والتنمية والارشاد الاسري والاجتماعي ، واصدار المنشورات المتخصصة ، وتقديم الاستشارات في المجالات المذكورة وتوقيع الاتفاقيات مع الجامعات والمؤسسات والشركات الوطنية والعالمية على انواعها والقيام بالاستطلاعات والابحاث العلمية والدراسات المتخصصة في لبنان والخارج - نتمنى لكم زيارة ممتعة

08‏/12‏/2010

علم الاجتماع السّياسي عند ابن خَلدون

تيسير شيخ الأرض 
تمهيد: "المقدمة" والسياسة‏ 
إذا أنعمنا النظر في "مقدمة" ابن خلدون في ضوء ما آل إليه علم الاجتماع، وجدنا أنه رأى فيها الموضوع الاجتماعي من أكثر جوانبه، وأن دراسة منهجية لها من شأنها أن تبين هذه الجوانب؛ لا سيما أن ابن خلدون كتب "مقدمته" في مدة قصيرة لا تتجاوز الخمسة أشهر (1)؛ من دون أن يجد له متسعاً من الوقت يساعده على عرض موضوعه عرضاً منظماً؛ بحيث يعرض الظواهر الاجتماعية ظاهرة ظاهرة، بعد تحديد الموضوع العام لعلم الاجتماع.‏ 
والحقيقة، أن ابن خلدون لا يقتصر في "مقدمته" على الموضوع العام لعلم الاجتماع بل يتجاوزه إلى ظواهره الاجتماعية المختلفة، كالظاهرة التعليمية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والمعرفية واللغوية والأدبية الخ... لكننا لن نتعرض لهذا كله هنا، وإنما نريد أن نتوقف عند ظاهرة واحدة هنا، هي الظاهرة السياسية، بما هي ظاهرة اجتماعية.‏ 
إن أول سؤال يطرح نفسه علينا –ونحن بصدد موضوع السياسة عند ابن خلدون –هو الكيفية التي طرح بها مسألة الدولة في "مقدمته". فهل فهمها كما نفهمها نحن اليوم على أنها علم الدولة، أو فن حكم المجتمعات؟ هل درسها دراسة وضعية أو تاريخية أو مقارنة؟ أو تراه فهمها فهماً آخر مغايراً؟ ما المبادئ التي استند إليها؟ وما الأفكار التي نادى بها؟ وهل وقف عند حدود الوصف، أو تعداها إلى التوجيه والإرشاد؟‏ 
إن الإجابة عن هذه الأسئلة لا يمكن أن نقدمها قبل عرض آرائه في الدولة والسياسة.‏ 
فعندئذ يحق لنا أن نرجح رأياً، أو نجزم بفكرة. لهذا لا بد لنا من أن نشرع بتحديد المسائل التي سنتناولها في بحثنا هذا؛ لنتمكن من تبني رأي محدد بهذا الصدد.‏ 
أما المسألة الأولى التي سنشرع في تناولها، فتتعلق بنشأة الدولة في المجتمع وما يرافقها من سلطة، وارتباط ذلك بالعصبية والرئاسة والتغلب في المجتمعين البدوي والحضري؛ لكي ننتقل من بعد إلى مسألة الدولة ذاتها؛ فنتكلم على نطاقها وأجيالها المتعاقبة وشأوها الذي تبلغه؛ في سبيل النظر إلى مسألة جبايتها وتأثير هذه الجباية في ازدهارها من ناحية، وفي اضمحلالها من ناحية أخرى.‏ 
1- نشأة الدولة‏ 
قبل أن نعرض لرأي ابن خلدون في نشوء الدولة، لا بد لنا من أن نضع نصب أعيينا الرأي الذي انتدب نفسه لمعارضته، والذي يسميه رأي الفلاسفة. لقد لاحظ هو نفسه اختلافه في الرأي عن الرأي الذي كان سائداً في مجتمعه، والذي يرد نشوء الدولة والسلطة إلى الشرع المفروض من عند الله. لهذا فإننا سنبدأ بعرض هذا الرأي، قبل عرض نظرية ابن خلدون.‏ 




(1)الرأي الشائع في الدولة: ينسب ابن خلدون هذا الرأي إلى الفلاسفة؛ مع أننا نعلم أن هناك آراء كثيرة مختلفة في نشوء الدولة؛ ولا ندري لماذا فعل ذلك. ولكن لنتجاوز هذا، ونبدأ بعرض هذا الرأي اعتماداً على عرض ابن خلدون له. إنه يبدأ بعرضه لكي يعقب عليه بالنقد والتفنيد. يقول: "وتزيد الفلاسفة على هذا البرهان؛ حيث يحاولون إثبات النبوة بالدليل العقلي؛ وأنها خاصة طبيعة للإنسان؛ فيقرون هذا البرهان إلى غايته؛ وأنه لا بد للبشر من الحكم الوازع. ثم يقولون بعد ذلك: وذلك الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله؛ يأتي به واحد من البشر؛ وأنه لا بد من أن يكون متميزاً عنهم؛ بما يودع الله فيه من خواص هدايته؛ ليقع التسليم له والقبول منه؛ حتى يتم الحكم فيهم وعليهم، من غير إنكار ولا تزييف (2).‏ 
ولا يكاد ابن خلدون يصل إلى هذا الحد مما دعاه رأي الفلاسفة، حتى ينبري لتفنيده قائلاً: "وهذه القضية للحكماء غير برهانية كما تراه؛ إذ إن الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك؛ بما يفرضه الحاكم لنفسه، أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته: فأهل الكتاب والمتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب؛ فإنهم أكثر أهل العالم؛ ومع ذلك، فقد كانت لهم الدولة والآثار فضلاً عن الحياة. وكذلك هي لهم لهذا العهد، في الأقاليم المنحرفة في الشمال والجنوب، بخلاف حياة البشر فوضى دون وازع لهم البتة، فإنه يمتنع (3)".‏ 
وهذا يعني، أن نشوء السلطة ملازم للحياة الاجتماعية، مرتبط بها ارتباطاً طبيعياً. ولهذا رفض ابن خلدون رد نشوء السلطة إلى الشرع المفروض من عند الله؛ ولجأ إلى تفسير اجتماعي وضعي. فما هذا التفسير؟‏ 
(2)نظرية ابن خلدون في السلطة: يرى ابن خلدون أن المجتمعات البشرية تنشأ عن حاجتين أساسيتين هما الحاجة إلى التعاون على تحصيل الغذاء، والحاجة إلى الدفاع عن النفس (4). إن هاتين الحاجتين هما اللتان تحوجان إلى السلطة التي تتطلب الرئاسة والغلبة في مرحلة البداوة، والتي تؤدي إلى تأسيس الدولة في مرحلة تجاوز البداوة إلى الحضارة.‏ 
آ-الاجتماع والسلطة: وهذا يعني، أن السلطة ضرورة من ضرورات الحياة الاجتماعية، وأن تملكها وسيلة لإقامة الدولة.‏ 
والحقيقة، أن السلطة تنشأ نشأة طبيعية بمجرد اجتماع البشر، وقيام العمران. وهذا رأى تفرد به ابن خلدون عن معاصريه الذين يذهبون إلى أن الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله: فالاجتماع لا يكاد يحصل، والعمران لا يكاد يتم، حتى تنشأ الحاجة إلى السلطة؛ فالسلطة ضرورة من ضرورات الحياة المشتركة في المجتمع؛ كما إن الاجتماع ضرورة من ضرورات وجود الإنسان واستمراره: فالإنسان الذي اتخذ من السلاح وسيلة له، للدفاع عن نفسه ضد الحيوانات العجم، لا يلبث أن يستخدمه ضد أخيه الإنسان؛ إذا ما قام بينه وبينه نزاع لأتفه الأسباب؛ ولا يمكن أن يزعه عن ذلك غير السلطان.‏ 
يقول ابن خلدون في ذلك: "ثم أن هذا الاجتماع، إذا حصل للبشر كما قررناه،وتم عمران العالم بهم؛ فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض؛ لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم(5)".‏ 
وإذا تساءلنا عن سر ذلك، أجابنا ابن خلدون، أن في طباعهم عدوان الحيوان، ومن ظلم الإنسان لأخيه الإنسان. وإذا كانوا يتفوقون على الحيوان، بما لديهم من أسلحة يشهرونها في وجهه؛ فهم فيما بينهم سواء في امتلاك هذه الأسلحة واستخدامها؛ ويمكن لكن منهم، أن يفني بها من يشاء من خصومه. ولا يمكن ترك هذا يحدث؛ فهو إذا حدث واستشرى، أصبح كارثة تنزل بالنوع الإنساني، وتهدد بقاءه؛ ولا بد لدفعها من قيام سلطة تضع الأمر في نصابه؛ وتمنع المعتدي عن عدوانه؛ وتعاقبه عليه إذا قام به.‏ 
وهذا ما أشار إليه ابن خلدون بوضوح، حينما قال: "وليست آلة السلاح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوان العجم عنهم، كافية في دفع العدوان منهم لأنها موجودة لجميعهم. فلا بد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض؛ ولا يكون من غيرهم؛ لقصور جميع الحيوان عن مداركهم وإلهاماتهم؛ فيكون ذلك الوازع واحداً منهم، يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة؛ حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان (6)".‏ 
وإذن، فالسلطة نابعة من صميم الحياة الاجتماعية؛ وهي تتم بما يفرضه الحكم لنفسه من غلبة، أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على طاعته، والسير في الاتجاه الذي يرسمه لهم (7).‏ 
ب-السلطة والملك: لكن السلطة لا تقتصر على ذاتها؛ فهي الطريق إلى الملك؛ إن لم تكن هي والملك توأمين. إنها خصوصية الإنسان التي جعلت الغلبة والسلطان واليد القاهرة مفضية إلى الملك؛ وهذا الإفضاء طبيعي في رأي ابن خلدون. ولهذا فهو يعقب على كلامه السابق قائلاً: "وهو هو معنى الملك؛ وقد تبين لك بهذا أنه خاصة للإنسان طبيعية؛ ولا بد منها (8)".‏ 
ولكن، إذا كان نشوء السلطة طبيعياً، فما الذي يجعلها في يد هذه الفئة من الناس دون تلك، وبرئاسة واحد منهم دونهم جميعاً؟ لكي يفسر لنا ابن خلدون ذلك، يلجأ إلى نظريته في العصبية؛ فيرى أن الرئاسة تكون لأصحاب العصبية الأقوى. بيد أن نظرية العصبية ذات علاقة بنشوء المجتمعات، ابتداء من المجتمع البدوي حتى المجتمع الحضري. لهذا لا بد لنا من أن نبدأ بالنظر إلى هذين النوعين من المجتمعات.‏ 
2-العمران البشري والعصبية‏ 
لكن، إذا كان الاجتماع الإنساني طبيعيا، كما يقول ابن خلدون، فكيف يكون الترابط بين أفراده، والأفراد –كما قال –قد يعدو بعضهم على بعض؟ لقد قلنا: إن السلطة هي التي تمنعهم من ذلك. وهنا يتبادر إلى أذهاننا السؤال عن سند هذه السلطة، ما دام صاحب السلطة فرداً من الأفراد، أو جماعة صغيرة منهم! لتفسير ذلك يلجأ ابن خلدون إلى نظريته في العصبية التي يراها ضرورية لقيام الملك، لا سيما في بدايته أعني المجتمع البدوي. فما العصبية؟‏ 
آ-مفهوم العصبية: يقول ابن خلدون: "إن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه؛ وذلك أن صلة الرحم أمر طبيعي في البشر إلا في الأقل. ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة؛ فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه؛ ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك: نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا. فإذا كان النسب المتواصل بين المتناصرين قريبا جداً، بحيث حصل به الاتحاد والالتحام، كانت الوصلة ظاهرة، فاستدعت ذلك بمجردها ووضوحها؛ وإذا بعد النسب بعض الشيء، فربما تنوسي بعضها، ويبقى منها شهرة فتحمل على النصرة لذوي نسبه بالأمر المشهور منه، فراراً من الغضاضة التي يتوهمها في نفسه من ظلم من هو منسوب إليه بوجه (9)".‏ 
وإذا كان هذا معنى العصبية، فلننظر إلى أثرها في العمران البدوي والحضري.‏ 
ب-العمران البدوي والعصبية: يرى ابن خلدون أن للعصبية أهمية عظيمة في حياة سكان البوادي؛ فهي التي تمكنهم من سكنى البوادي (10)؛ كما تمكن أصحابها الحقيقيين من تسلم مقاليد الرئاسة التي تنتهي إلى تأسيس الدولة وامتلاك الرقاب. يشرح ابن خلدون ذلك قائلاً: "والرياسة إنما تكون في نصاب واحد منهم؛ ولا تكون في الكل. ولما كانت الرياسة إنما تكون في نصاب واحد منهم؛ ولا تكون في الكل. ولما كانت الرياسة إنما تكون بالغلب، وجب أن تكون عصبية ذلك النصاب أقوى من سائر العصائب؛ ليقع الغلب بها؛ وتتم الرياسة لأهلها. فإذا وجب ذلك، تعين أن فإذا تعين أن الرياسة عليهم لا تزال في ذلك النصاب المخصوص بأهل الغلب عليهم؛ إذ لو خرجت عنهم، وصارت في العصائب الأخرى النازلة من عصابتهم في الغلب، لما تمت لهم الرياسة. فلا تزال في ذلك النصاب متناقلة من فرع منهم إلى فرع، ولا تنتقل إلا إلى الفرع الأقوى من فروعه، لما قلناه من سر الغلب؛ لأن الاجتماع والعصبية بمثابة المزاج في التكون، والمزاج في المتكون لا يصلح إذا تكافأت العناصر؛ فلا بد من غلبة أحدها؛ وإلا لم يتم التكوين. فهذا هو سر اشتراط الغلب في العصبية (11)".‏ 
وهذا يعني، أن ذوي العصبية، حينما تضعف عصبيتهم، ينحون عن الرياسة ويفقدون ملكهم، وتؤول الدولة إلى غيرهم من ذوي العصبية القوية التي تخرج عليهم، وتهدم ملكهم، وتؤسس لها ملكاً خاصاً بها. يقول ابن خلدون في ذلك: "وأول كل شرف خارجية كما قيل؛ وهي الخروج على الرياسة والشرف إلى الضعة والابتذال وعدم الحسب؛ ومعناه أن كل شرف وحسب فعدمه سابق عليه، شأن كل محدث (12)".‏ 
ولكن هذا لا يحدث إلا في أربعة آباء. فعند الأب الرابع تضعف العصبية، ويؤدي ضعفها إلى زوال الملك والغلبة. يصف ابن خلدون ذلك، فيقول: "ثم إذا جاء الرابع، قصر عن طريقتهم جملة، وأضاع انحلال الحافظة بعناء مجدهم واحتقرها؛ وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف، وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة، بمجرد انتسابهم، وليس بعصابة ولا بخلال، لما يرى من التجلة بين الناس؛ ولا يعلم كيف كان حدوثها ولا سببها؛ ويتوهم أنه النسب فقط. فيربأ بنفسه عن أهل عصبيته، ويرى الفضل له عليهم، وثوقاً بما فيه من استتباعهم، وجهلاً بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال، التي منها التواضع لهم، والأخذ بمجامع قلوبهم، فيحتقرهم بذلك؛ فينغصون عليه، ويحتقرونه، وبديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت، ومن فروعه في ذلك العقب، للإذعان لعصبيتهم كما قلناه، بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله. فتنمو فروع هذا، وتذوي فروع الأول، ويهدم بناء بيته. هذا في الملوك. وهكذا في بيوت القبائل والأمراء وأهل العصبية أجمع؛ ثم في بيوت أهل الأمصار (13)".‏ 
ومن هذا نرى، أن قيمة العصبية قيمة وظيفية: فهي تقوم بوظيفة الدفاع عن المجتمع البدوي، وبوظيفة دعم أصحابها في رئاسة القوم، ثم الحصول على الملك وتأسيس الدولة. وهي من هذه الناحية ذات أثر كبير في بقاء الجماعة واستمرارها من طور البداوة إلى طور الحضارة والملك.‏ 
جالعمران البدوي والحضري: إن حياة البادية تختلف عن حياة أهل المدن، من حيث دفع عدوان الناس بعضهم عن بعض، ضمن المجتمع الواحد، ومن حيث دفع عدوان الناس الذين خارج المجتمع عن أولئك الذين هم داخله.‏ 
أما عدوان الناس بعضهم على بعض، داخل المدينة، فيدفعه الحكام وأصحاب السلطان، في حين أن عدوانهم بعضهم على بعض داخل القبيلة أو العشيرة، إنما يدفعه مشايخ البدو وكبراؤهم. وفي الحين الذي يلجا الحكام إلى القهر والسلطان، لدفع ظلم فئة من الناس لفئة أخرى، يلجأ مشايخ البدو وكبراؤهم إلى ما لهم من تجلة ووقار في نفوس أفراد قبائلهم أو عشائرهم، لبلوغ هذه الغاية. يصف ابن خلدون ذلك فيقول:‏ 
"فأما المدن والأمصار، فعدوان بعضهم على بعض تدفعه الحكام والدولة بما قبضوا على أيدي من تحتهم من الكافة، أن يمتد بعضهم على بعض، أو يعدو عليه. فإنهم مكبوحون بحكمة القهر والسلطان عن التظالم، إلا إذا كان من الحاكم بنفسه. وأما العدوان الذي من خارج المدينة، فيدفعه سياج الأسوار عند الغفلة أو الغرة بنفسه. وأما العجز عن المقاومة نهاراً: أو يدفعه ذياد الحامية من أعوان الدولة عند الاستعداد والمقاومة. وأما أحياء البدو فيزع بعضهم عن بعض مشايخهم وكبراؤهم، بما وقر في نفوس الكافة لهم من الوقار والتجلة. وأما حللهم فإنما يذود عنها من خارج حامية الحي من أنجادهم وفتيانهم المعروفين بالشجاعة فيهم. ولا يصدق دفاعهم وذيارهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسب واحد: لأنهم بذلك تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم؛ إذ نعرة كل أحد على نسبه وعصبيته أهم (14)".‏ 
بيد أن العصبية التي تبدو تجلة ووقاراً داخل المجتمع البدوي، تسفر عن وجهها أتم الإسفار، إذا كان العدوان آتياً من خارج المجتمع؛ وبهذا يختلف المجتمع البدوي عن المجتمع الحضري أتم الاختلاف.‏ 
وخلافاً لذلك، فإن من لا عصبية لهم لا يمكنهم سكنى البادية؛ لأن الملمات حينما تلم بها، لا يجدون من يساعدهم على دفعها عنهم؛ وليس بإمكانهم أن يعتمدوا على أي شخص فيها. يصفهم ابن خلدون فيقول: "وأما المتفردون في أنسابهم، فقلَّ أن تصيب أحداً منهم نعرة على صاحبه. فإذا أظلم الجو بالشر يوم الحرب، تسلل كل واحد منهم يبغي النجاة لنفسه؛ خيفة واستيحاشاً من التخاذل، فلا يقدرون من أجل ذلك على سكنى القفر؛ لما أنهم حينئذ طعمة لمن يلتهمهم من الأمم سواهم (15)".‏ 
3-العصبية والدولة والعمران‏ 
(1)العمران والرئاسة: وهكذا نجد أن السلطة والدولة يسبقان قيام الحضارة واختطاط المدن لدى ابن خلدون. وبهذا الصدد يقول: "إن الدول أقدم من المدن والأمصار؛ وإنها إنما توجد ثانية عن الملك؛ وبيانه أن البناء واختطاط المنازل إنما هو من منازع الحضارة التي يدعو إليها الترف والدعة. وذلك متأخر عن البداوة ومنازعها. وأيضاً فالمدن والأمصار ذات هياكل وأجرام عظيمة وبناء كبير؛ وهي موضوعة للعموم لا للخصوص؛ فتحتاج إلى اجتماع الأيدي وكثرة التعاون؛ وليست من الأمور الضرورية للناس التي تعم بها البلوى، حتى يكون نزوعهم إليها اضطراراً؛ بل لا بد من إكراههم على ذلك، وسوقهم إليه مضطهدين بعصا الملك، أو مرغبين في الثواب والأجر، الذي لا يفي بكثرته إلا الملك والدولة؛ فلا بد في تمصير الأمصار، واختطاط المدن، من الدولة والملك (16)".‏ 
وهذا يعني، أن الرئاسة ليست مرتبطة ضرورة بالدولة التي هي نتاج حضاري: بل قد سبقها، كما هي الحال بالنسبة إلى حياة البداوة في سبقها لحياة الحضارة؛ إذ إن العصبية هي لحمة الرئاسة وسداها. يقول ابن خلدون شارحاً ذلك: "إن كل حي أو بطن من القبائل، وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام، ففيهم أيضاً عصبيات أخرى لأنساب خاصة هي أشد التحاماً من النسب العام لهم، مثل عشير واحد، أو أهل بيت واحد، أو أخوة بني أب واحد؛ لا مثل بني العم الأقربين أو الأبعدين. فهؤلاء أقعد بنسهبم المخصوص، ويشاركون من سواهم من العصائب في النسب العام. والنعرة تقع من أهل نسبهم المخصوص ومن أهل النسب العام؛ إلا أنها في النسب الخاص أشد، لقرب اللحمة. والرياسة فيهم إنما تكون في نصاب واحد منهم، ولا تكون في الكل (17)".‏ 
والرئاسة في رأي ابن خلدون تقوم بوظيفة هامة في المجتمع؛ إذ إن مهمتها الأساسية هي إيجاد التكافؤ بين العناصر المختلفة، بتغلبها عليها جميعاً: إنها بمثابة المزاج في المتكون الذي لا بد من طغيان أحد عناصره على العناصر الأخرى. وبهذا الصدد يقول ابن خلدون: "لأن الاجتماع والعصبية بمثابة المزاج في المتكون؛ والمزاج في المتكون لا يصلح إذا تكافأت العناصر؛ فلا بد من غلبة أحدها وإلا لم يتم التكوين. فهذا هو سر اشتراط الغلب في العصبية؛ ومنه يقين استمرار الرياسة في النصاب المخصوص بها (18)".‏ 
أما أولئك الذي لا أنساب لهم، ولا عصبية تتأتى عن هذه الأنساب، فلا يمكن لهم أن يصبحوا من ذوي الرئاسة؛ لأن هذه إنما تكون لذوي الغلب كما قلنا. ومع ذلك، فإن الزمان قد يعفي على أصل أنساب اللصقاء واللزقاء، ويسلم إليهم رئاسة القبيلة أو البطن أو الحي. لكن ذلك لا يكون إلا إذا اندمجوا في إحدى العصبيات، وأصبحوا من ذويها وأهلها. يقول ابن خلدون شارحاً رأيه في ذلك: "والساقط في نسبهم بالجملة، لا تكون له عصبية فيهم بالنسب؛ إنما هو ملصق لزيق؛ وغاية التعصب له بالولاء والحلف. وذلك لا يوجب له غلباً عليه البتة. وإذا فرضنا أنه قد التحم بهم واختلط، وتنوسي عهده الأول من الالتصاق، ولبس جلدتم، ودعي بنسبهم، فكيف له الرياسة قبل هذا الالتحام، أو لأحد من سلفه؟ (19)".‏ 
وهذا يرينا إلى أي حد تعمل العصبية في تعضيد الرئاسة والحفاظ على استمرارها.‏ 
(2)الرئاسة والملك: يفرق ابن خلدون بين الرئاسة والملك؛وتفريقه بينهما قائم على التفريق بين نوعين من الغلب، أحدهما خاص بالرئاسة، والثاني خاص بالملك. وهو يرى أن التغلب في الرئاسة سؤدد يؤدي بصاحبه إلى أن يكون متبوعاً دون أن يكون له قهر في أحكامه يلزم الناس له إلزاماً؛ في حين أن التغلب في الملك هو الحكم بالقهر وإلزام الناس بهذا الحكم. ومن هنا كان الحكم بالقهر هو الذي يزيد به الملك على الرئاسة (20).‏ 
وإذا كانت الرئاسة نتيجة العصبية، كان الملك نتيجة لها أيضاً؛ ولكن بدرجة أعلى من درجة الرئاسة. بيد أن الانتقال من الدرجة الأولى إلى الدرجة الثانية أمر تقتضيه طبيعة النفس الإنسانية، إذ النفس مولعة بفرض سلطانها على الآخرين من ناحية، وهي كلما بلغت في أحد الأمور رتبة، صبت إلى الرتبة التي تليها فيه، من ناحية أخرى. لكنها تظل عاجزة عن بلوغ ذلك بذاتها، ولا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية التي تبلغ غايتها بالتغلب الملكي (21).‏ 
ومتى لجأ صاحب العصبية إلى استتباع العصبيات الأخرى بالقوة والقهر، جعلها تلتحم في عصبيته، وتصير وإياها عصيبه واحدة كبيرة. وفي هذه الحال، يدفع عن هذه العصبيات الافتراق المفضي إلى التنازع والتخاصم.‏ 
بيد أن منطق العصبية لا يقف عند هذا الحد: بل يتابع نتائجه إلى أقصى حدودها: فلا يكاد صاحب العصبية يتغلب بعصبيته على قومه، حتى يلقي بأنظاره إلى أهل العصبيات الأخرى البعيدة عن عصبيته. فإذا كانت العصبيتان متكافئتين، لم تستطع إحداهما التغلب على الأخرى؛ وظلت كل منهما باسطة يدها على قومها، فانعة إلى حين بمكانتها. أما إذا كانت إحداهما أقوى من الأخرى، فإنها تغلبها وتستتبعها وتلتحم بها: لتكون العصبيتان معاً عصبية واحدة أوسع نفوذاً، وأشد باسا. ثم لا تلبث بعد ذلك، أن تتطلع إلى العصبيات الأخرى. وهكذا تظل دائماً، حتى تكافئ بقوتها قوة الدولة.‏ 
وعندما تصل العصبية إلى هذا الحد من القوة، تكون بإزاء احتمالين: فهي إما أن تدرك الدولة في هرمها، وأما أن تدركها وهي ما زالت في قوتها؛ وهي بحاجة إلى الاستظهار بأهل العصبيات. في الحالة الأولى تستولي العصبية النامية على الدولة، وينتزع صاحبها الأمر من أيدي أصحابه؛ ويصبح الملك كله لهذه العصبية وصاحبها. أما في الحالة الثانية، فإن الدولة ذاتها لا تلبث أن تنتظم هذه العصبية في أوليائها، تستظهر بها على أعدائها، تستخدمها في تحقيق مقاصدها (22).‏ 
ولكن، هل يمكن لهذه العصبية المستتبعة على هذا النحو، أن تنتظر مدة من الزمن –وهي قلب الدولة –لكي تستولي على الملك فيما بعد؟ يرى ابن خلدون أن هم أهل العصبية –ليأسهم من انتزاع الحكم –تنصرف إلى تحصيل الكسب والانغماس في النعيم، والجنوح إلى الدعة والسكون؛ وفي ذلك كسر لحدة عصبيتهم. والحقيقة، أن خصب العيش، والتأنق في المظاهر جميعاً، والاستكثار من الكماليات، لا تلبث أن تذهب بخشونة بداوتهم، وتضعف من بسالتهم، وتودي بأواصر عصبيتهم. ويأتي بنوهم على أعقابهم، ويذهبون إلى ما ذهب إليه آباؤهم شوطاً بعيداً؛ فتنقرض بذلك عصبيتهم تماماً، بعد أن تناولها الضعف لدى آبائهم. وحينذاك يصبح هذا حائلاً دون بلوغ الملك، الذي هو غاية العصبية (23).‏ 
(3)العصبية والدولة: مما تقدم يمكننا أن نرى، إن العصبية في أصل الدولة. ولكن هذا لا يعني أن يكون من المحتوم على العصبية أن تستمر باستمرار الدولة: إذ أن النفوس يصعب عليها الانقياد للدولة العامة في أول قيامها؛ ولا يكون هذا الانقياد إلا بقوة عظيمة من الغلب والقهر. ولكن، لا تكاد تنقضي حقبة معينة من الزمن، حتى تستقر أمور الدولة، وتستقر الرئاسة معها في أهل النصاب المخصوص بالملك، وتصبح حقاً لهم ولأولادهم وأحفادهم من بعدهم؛ فيتوارثونها ويتوارثون الملك بتوارثها، واحداً بعد واحد. وعندئذ ينسى الناس شأن الأولية، وتستحكم الرئاسة لأهل ذلك النصاب، ويرسخ في العقائد دين الانقياد لهم، والتسليم بغلبتهم وحكمهم؛ ويقاتل الناس معهم على أمرهم، قتالهم على العقائد الإيمانية؛ فلا يحتاجون من بعد إلى كبير عصابة في أمرهم (24).‏ 
في هذا الدور تخمد ثورة العصبية، وتنكسر حدتها، ويلجأ أصحاب الملك إلى الموالي والمصطنعين يستظهرون بهم حيناً، وإلى العصائب الخارجين على نسبها، الداخلين في ولايتها حيناً آخر. وبذلك تستقر الدولة، ويستتب الأمر لأصحاب الملك؛ فيصبحون هم المرموقين من سائر الناس؛ ويتخذون قدوة في كل شيء (25).‏ 
بيد أن استقرار الأمور في أيدي فئة من الناس، يجعلهم في مكان المتفوقين الغالبين؛ ويصبح مكانهم هذا معترفاً به في الغالبية العظمى من الفئات الأخرى. وهذا يعني، أن التغلب كف عن أن يكون تغلباً من الخارج، وأصبح تغلباً يغزو النفوس من الداخل؛ ويزين للمغلوبين كل ما لدى الغالب من عوائد ومذاهب. وهذا يؤدي إلى تشبه المغلوب دائماً بالغالب؛ فيقلده في ملبسه ومركبه وسلاحه؛ ولا يقتصر تقليده هذا على اتخاذ ما يتخذه الغالب منها؛ بل يتعدى ذلك إلى أنواعها وأشكالها وسائر صفاتها (26). ويعلل ابن خلدون ذلك قائلاً: "والسبب في ذلك، أن النفس تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه. إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب. فإذا غالطت بذلك، واتصل لها، حصل اعتقاداً؛ فانتحلت جميع مذاهب الغالب، وتشبهت به؛ وذلك هو الاقتداء (27)".‏ 
4-نطاق للدولة وعمرها‏ 
ولكن الدولة امتداداً معيناً في المكان والزمان؛ لأن لها حدوداً تتسع أو تضيق بحسب قوتها؛ وأجيالاً معينة تمر بها وتحتفظ لنفسها بها بالاستمرار. وسنحاول في الصفحات التالية أن نبينها.‏ 
(1)نطاق الدولة: إن لكل دولة نطاقاً معيناً يبلغ أقصى اتساعه؛ لكي يأخذ بالتضايق شيئاً فشيئاً، حتى يصل إلى غاية اضمحلاله.‏ 
آ-اتساع الدولة: يرى ابن خلدون أن الدولة تستمر آخذة في الاتساع، إلى أن تبلغ غاية محدودة تقف عندها، ولا تستطيع تجاوزها. وهو يعلل ذلك؛ بأن عصابة الدولة تكون محدودة، وقوتها من ثمة محدودة؛ فيقول: "والسبب في ذلك، أن عصابة الدولة وقومها القائمين بها، الممهدين لها، لا بد من توزيعهم خصيصاً على الممالك والثغور التي تصير إليهم، ويستولون عليها، لحمايتها من العدو، وإمضاء أحكام الدولة فيها، من جباية وردع وغير ذلك، فإذا توزعت العصائب كلها على الثغور والممالك، فلا بد من نفاذ عددها؛ وقد بلغت الممالك حينئذ إلى حد يكون ثغراً للدولة، وتخماً لوطنها، ونطاقاً لمركز ملكها. فإن تكلفت الدولة بعد ذلك، زيادة على ما بيدها، بقي دون حامية، وكان موضعاً لانتهاز الفرصة من العدو المجاور (28)".‏ 
أما إذا كانت عصابة الدولة ما تزال موفورة، فيمكن استخدامها في فتوح جديدة، واستعمالها على ثغور ونواح جديدة، نتيجة هذه الفتوح. وهذا يعني، أنه ما دام لدى الدولة قوة على تجاوز حدودها، وعلى حماية مكتسباتها، فإنها تظل تفسح من نطاقها، إلى أن تصل إلى غايتها. حتى إذا انتهت إلى النطاق الذي هو الغاية، عجزت وأقصرت عما وراءه، شأن الأشعة والأنوار إذا انبعثت من المراكز والدوائر المنفسحة على سطح الماء، من النقر عليه (29).‏ 
ومن هنا كان اختلاف اتساع نطاق الدول عائداً إلى اختلاف عدد عصاباتهم: فالدولة التي تكون عصابتها أكثر، يكون اتساع نطاقها أبعد؛ وعلى نسبة العدد تكون نسبة الاتساع، يقول ابن خلدون: "وأهل العصبية هم الحامية الذين ينزلون بممالك الدولة وأقطارها؛ وينقسمون عليها؛ فما كان من الدولة العامة قبيلها وأهل عصابتها أكثر، كانت أقوى وأكثر ممالك وأوطاناً؛ وكان ملكها أوسع لذلك (30) "ومن هذه النسبة في أعداد المتغلبين لأول الملك، يكون اتساع الدولة وقوتها (31)".‏ 
بيد أن اتساع الدولة لا يتوقف على هذا العامل فقط؛ بل يتعداه إلى عامل آخر هو امتداد له. وهذا يعني، أن أهل العصبية إذا استولوا على الملك، أتيحت لهم سعة في العيش لم يكونوا يعرفونها؛ فأدى ذلك إلى كثرة تناسلهم، وازدياد عصاباتهم التي يمكن استخدامها في حماية الثغور والنواحي (32). وعلى هذا النحو، تزداد الدولة نمواً على نمو، واتساعاً على اتساع، حتى تستنفذ طاقاتها جميعاً، وتقف عند حدود لا تتعداها.‏ 
ب-تضايق الدولة واضمحلالها: بيد أن اتساع الدولة يظل في الأعم الأغلب تابعاً لدور البداوة؛ في حين أن بدء توقف هذا الاتساع، ثم تضايقه فيما بعد، يرجع دور الحضارة، حينما يبالغ الناس في انغماسهم في الترف والنعيم. وابن خلدون يشرح ذلك قائلاً: "وهذا كله حينما تكون الدولة في شعار البداوة وخشونة البأس. فإذا استفحل العز والغلب، وتوافرت النعم والأرزاق بدور الجبايات، وزخر بحر الترف والحضارة، ونشأت الأجيال على اعتياد ذلك لطفت أخلاق الحامية، ورقت حواشيهم، وعاد من ذلك إلى نفوسهم هيئات الجبن والكسل، بما يعانونه من خنث الحضارة المؤدي إلى الانسلاخ من شعار البأس والرجولية، بمفارقة البداوة وخشونتها، وبأخذهم العز بالتطاول إلى الرياسة والتنازع عليها (33)".‏ 
وهذا الانتقال طبيعي بالنسبة إلى الدول؛ وطور الحضارة تابع بالضرورة لدور البداوة، جراء تبعية الرفه للملك. ويصف ابن خلدون الآلية التي يتبعها هذا الانتقال، فيقول: "إن هذه الأطوار طبيعية للدول. فإن الغلب الذي يكون به الملك، إنما هو بالعصبية وما يتبعها من شدة البأس وتعود الافتراس، ولا يكون ذلك غالباً إلا مع البداوة؛ فطور الدولة من أولها بداوة. ثم إذا حصل الملك، تبعه الترف واتساع الأحوال، والحضارة إنما هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه؛ من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله؛ فلكل واحد فيها صنائع في استجادته والتأنق فيه، تختص به، ويتلو بعضها بعضاً؛ وتتكثر باختلاف ما تنزع إليه النفوس من الشهوات والملاذ والتنعم بأحوال الترف؛ وما تتلون به من العوائد؛ فصار طور الحضارة في الملك يبتع طور البداوة ضرورة، لضرورة تبعية الرفه للملك (34)".‏ 
أما سبب هذا التحول، فيرجع إلى محاولة أهل الدولة الجديدة تقليد أهل الدولة السابقة في الترف والبذخ (35). بيد أن ذلك لا يلبث أن يبذر بينهم بذور الشقاق، ويؤدي إلى تقاتلهم، وذهاب أكابرهم ورؤسائهم، مما من شأنه أن يضعف الحامية. يقول ابن خلدون في ذلك: "فيفضي إلى قتل بعضهم بعضهم، ويكبحهم السلطان عن ذلك بما يؤدي إلى قتل أكابرهم وإهلاك رؤسائهم؛ فتفقد الأمراء والكبراء، ويكثر التابع، والمرؤوس، فيفل ذلك من حد الدولة، ويكسر شوكتها؛ ويقع الخلل الأول في الدولة، وهو الذي من جهة الجند والحامية (36)".‏ 
لكن الشر لا يأتي من هذه الجهة وحدها، بل تشارك فيه زيادة النفقات على الموارد؛ فتقع الدولة في العجز، يشرح ابن خلدون ذلك قائلاً: "ويساوق ذلك السرف في النفقات، بما يعتريهم من أبهة العز، وتجاوز الحد بالبذخ، بالمناغاة في المطاعم والملابس، وتشييد القصور، واستجادة السلاح، وارتباط الخيول؛ فيقصر دخل الدولة حينئذ عن خرجها، ويطرق الخلل الثاني في الدولة، وهو الذي من جهة المال والجباية (37)".‏ 
وفي هذه الحال، لا بد لهم من أن يستنفدوا قواهم في ذلك؛ فيطمع فيهم أعداؤهم، ويتطلعون إلى انتزاع ملكهم، والاستيلاء على دولتهم. يقول ابن خلدون: "وربما تنافس رؤساؤهم فتنازعوا، وعجزوا عن مغالبة المجاورين والمنازعين ومدافعتهم. وربما اعتز أهل الثغور والأطراف بما يحسونه من ضعف صاحب الدولة وراءهم؛ فيصيرون إلى الاستقلال والاستيلاء بما في أيديهم من العمالات؛ ويعجز صاحب الدولة عن حملهم على الجادة؛ فيضيق نطاق الدولة عما كانت انتهت إليه من أولها، وترجع العناية في تدبيرها بنطاق دونه (38)".‏ 
وهذا يعني، أن الدولة تبدأ بفقدان بعض أجزائها. ولكن هذا الفقدان لا يكون جزافاً؛ بل يتبع سيراً معيناً؛ إذ إن التناقص يبدأ من جهة الأطراف؛ فيظل المركز محفوظاً (39). ولا تكاد الدولة تفقد بعض ثغورها ونواحيها، حتى تتقلص رقعتها، وتصبح لها ثغور ونواح جديدة في نطاق أضيق من النطاق الأول. وعندئذ تتعرض هذه الثغور والنواحي الجديدة لما تعرضت له الثغور والنواحي القديمة من قبل؛ وتقل أموال الجباية مرة أخرى (40). وتظل تتناقص على هذا النحو، إلى أن تغلب على مركزها. وعندئذ تكون نهايتها؛ لأن المركز كالقلب الذي تنبعث منه الروح. فإذا غلب القلب وملك، انهزم جميع الأطراف (41).‏ 
(1)عمر الدولة وأجيالها: رأينا كيف تتسع الدولة ثم تضيق في المكان؛ ونريد أن ننظر الآن إلى العمر الذي تقتضيه، والأجيال التي تتعاقب عليها في الزمان. فكما أن للدولة اتساعاً محدوداً يبلغه نطاقها، كذلك لها عمر معين يمتد إليه أجلها.‏ 
1-عمر الدولة: يرى ابن خلدون أن عمر الدولة مرتبط أيضاً بعدد الحامية التي تناصر الدولة بالعصبية؛ لأن العصبية القوية تبقى مدة أطول على الدهر. يقول شارحاً ذلك: "على أن هذه النسبة في أعداد المتغلبين، لأول الملك يكون اتساع الدولة وقوتها. وأما طول أمدها أيضاً، فعلى تلك النسبة؛ لأن عمر الحادث من قوة مزاجه؛ ومزاج الدولة إنما هو بالعصبية، فإذا كانت العصبية قوية، كان المزاج تابعاً لها، وكان أمد العمر طويلاً. والعصبية إنما هي بكثرة العدد ووفوره (42)".‏ 
ولكن، كيف يحدث ذلك؟ إن ابن خلدون يلجأ هنا أيضاً إلى نظريته في أطراف الدولة: فيعلل بها طول أمدها: فالدولة مترامية الأطراف تحتاج إلى آماد نقص كثيرة، قبل أن تفقد سائر ممالكها وتضمحل؛ في حين أن الدولة ضيقة الاتساع تحتاج إلى آماد نقص أقل، فتضمحل في زمن أقصر؛ فعلى نسبة الاتساع يكون أمد البقاء بالنسبة إلى الدول. وهو يعلل ذلك قائلاً: "والسبب الصحيح في ذلك، أن النقص إنما يبدو في الدولة من الأطراف. فإذا كانت ممالكها كثيرة، كانت أطرافها بعيدة عن مركزها وكثيرة؛ وكل نقص يقع فلا بد له من زمن؛ فتكثر أزمان النقص لكثرة الممالك، واختصاص كل واحد منها بنقص وزمان؛ فيكون أمدها طويلاً" (43).‏ 
كذلك فإن الانغماس في الترف والنعيم، سبب من أسباب تقصير عمر الدولة؛ إذ إن الناس يزدادون حرصاً على الحياة، ويحسبون كل عطاء من السلطان نتيجة لمعونتهم له. ويبدو هذا واضحاً في الجيل الثاني أكثر منه في الجيل الأول، وفي الجيل الثالث أكثر منه في الجيل الثاني؛ وهكذا... (44).‏ 
وليس الانغماس في الترف والنعيم سبباً في تقصير عمر الدولة من هذا الوجه فحسب؛ بل إنه سبب في تقصير عمرها من وجه آخر؛ وهو ما يثيره في النفوس من طمع بعضها، يقول ابن خلدون في وصف ذلك: "الوجه الثاني أن طبيعة الملك تقتضي الترف... فتكثر عوائدهم، وتزيد نفقاتهم على أعطياتهم، ولا يفي دخلهم بخرجهم: فالفقير منهم يهلك، والمترف يستغرق عطاءه بترفه. ثم يزداد لذلك في أجيالهم المتأخرة، إلى أن يقصر العطاء كله عن الترف وعوائده؛ وتمسهم الحاجة، وتطالبهم ملوكهم بحصر نفقاتهم في الغزو والحرب؛ فلا يجدون وليجة عنها؛ فيوقعون بهم العقوبات؛ وينتزعون ما في أيدي الكثير منهم، يستأثرون به عليهم، أو يؤثرون به أبناءهم وصنائع دولتهم؛ فيضعفونهم لذلك عن إقامة أحوالهم، ويضعف صاحب الدولة بضعفهم. وأيضاً، إذا كثر الترف في الدولة ، وصار عطاؤهم مقصراً عن حاجاتهم ونفقاتهم، احتاج صاحب الدولة الذي هو السلطان إلى الزيادة في أعطياتهم، حتى يسد خللهم، ويزيح عنهم. والجباية مقدار معلوم، لا تزيد ولا تنقص؛ إن زادت بما يستحدث من المكوس، فيصير مقدارها بعد الزيادة محدوداً (45)".‏ 
وعندئذ تضعف الحماية، وتسقط قوة الدولة، وتشرف على الهرم، ويتجاسر عليها جيرانها من الدول، أو من تحت يدها من العصائب والقبائل؛ فيحل بها الفناء، وتكون نهايتها (46).‏ 
وإذا بلغت الدولة هذا المبلغ، فليس لها من علاج لإطالة أمد حياتها، إلا أن تستعين بأنصار من الأمم الأخرى، التي ما تزال معتادة شظف العيش وخشونة الحياة؛ فيكون ذلك دواء للدولة من الهرم الذي عساه أن يطرقها (47)، ولكن هؤلاء قد يكونون سبباً في زوال الدولة، واغتصاب الملك، يقول ابن خلدون: "إذا استقر الملك في نصاب معين، ومنبت واحد من القبيل القائمين بالدولة، وانفردوا به، ودفعوا سائر القبيل عنه، وتداوله بنوهم واحداً بعد واحد، بحسب الترشيح، فربما حدث التغلب على المنصب من وزرائهم وحاشيتهم، وسببه في الأكثر ولاية صبي صغير مضعف من أصل المنبت، يترشح للولاية بعهد أبيه، أو بترشيح ذويه وطوله؛ ويؤنس منه العجز عن القيام بالملك؛ فيقوم به كافله من وزراء أبيه وحاشيته ومواليه وقبيله، ويورَّى عنه بحفظ أمره عليه، حتى يؤنس منه الاستبداد؛ ويجعل ذلك ذريعة للملك؛ فيحجب الصبي عن الناس، ويعوده اللذات التي يدعوه إليها ترف أحواله، ويسيمه في مراعيها متى أمكنه، وينسيه النظر في الأمور السلطانية، حتى يستبد عليه. وهو بما عوده يعتقد أن حظ السلطان من الملك إنما هو جلوس السرير، وإعطاء الصفقة، وخطاب التهويل، والقعود مع النساء خلف الحجاب، وأن الحل والربط، والأمر والنهي، ومباشرة الأحوال الملوكية، وتفقدها من النظر في الجيش والمال والثغور، إنما هو للوزير. ويسلم له في ذلك، إلى أن تستحكم له صبغة الرياسة والاستبداد؛ ويتحول الملك إليه، ويؤثر به عشيرته، وأبناءه من بعده (48).‏ 
2- أجيال الدولة: وإذا كان هذا عمر الدولة، وهو محدود بنهاية لا بد منها، فإنه موزع أيضاً على أربعة أجيال، يمثل الرابع بينها فترة انقراضها. أما الأجيال الثلاثة الأول فهي عمرها الحقيقي، الذي يكون لها فيه الغلب والقهر.‏ 
ولكن، ماذا يعني ابن خلدون بالجيل؟ وكم يمتد إذا شئنا أن نقيسه بالسنين؟ بل بمعنى آخر، كم يمتد عمر الدولة نفسه على حساب الزمن؟ يجيب ابن خلدون عن ذلك قائلاً: "إلا أن الدولة –في الغالب –لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال؛ والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط؛ فيكون هو أربعين الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته (49)".‏ 
وهذا يعني، أن ابن خلدون يجعل عمر الجيل أربعين سنة؛ وهو إذ يقدره هذا التقدير، يجعل عمر الدولة مئة وعشرين سنة؛ وهو دور العزة والمنعة الذي تنتقل منه إلى الجيل الرابع الذي هو الهرم والاضمحلال.‏ 
وقد قسم ابن خلدون عمر الدولة إلى ثلاثة أجيال، لا لمجرد توارث الملك في الآباء إلى الأبناء على الأحفاد؛ بل لأن كل جيل يختلف في أخلاقه وطرائق عيشه عن الجيل السابق عليه. وهذا الاختلاف يمثل تطور الدولة من القوة إلى الضعف، ومن قسوة البداوة إلى لين الحضارة. لهذا كانت لكل جيل سمات معينة تميزه من الجيل السابق عليه من ناحية، ومن الجيل اللاحق به، من ناحية أخرى.‏ 
أما الجيل الأول فهو جيل البداوة والخشونة؛ يصفه ابن خلدون فيقول: "لأن الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحشها، من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد؛ فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظة فيهم: فحدهم مرهف، وجانبهم مرهوب، والناس لهم مغلوبون (50)".‏ 
وأما الجيل الثاني فهو جيل الانتقال من البداوة إلى الحضارة؛ ومن شظف العيش إلى رخائه ونعيمه. ويصفه ابن خلدون فيقول: "والجيل الثاني تحول حالهم بالملك والرفه من البداوة إلى الحضارة؛ ومن الشظف إلى الترف والخصب؛ ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به، وكسل الباقين عن السعي فيه، ومن عز الاستطالة إلى ذل الاستكانة؛ فتنكس سورة العصبية بعض الشيء؛ وتؤنس منهم المهانة والخضوع. ويبقى لهم الكثير من ذلك، بما أدركوا الجيل الأول، وباشروا أحوالهم، وشاهدوا من اعتزازهم وسعيهم إلى المجدة ومراميهم في المدافعة والحماية؛ فلا يسعهم ترك ذلك بالكلية؛ وإن ذهب منه ما ذهب؛ ويكونون على رجاء من مراجعة الأحوال التي كانت للجيل الأول، أو على ظن من وجودها فيهم" (51).‏ 
وإذا كان الجيل الثاني يمثل دور الانتقال من البداوة إلى الحضارة، فإن الجيل الثالث هو جيل الحضارة والترف المبالغ فيه. يصفه ابن خلدون قائلاً: "وأما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية، بما فيهم من ملكة القهر؛ ويبلغ فيهم الترف غايته، بما تفننوه من النعيم وغضارة عنهم؛ وتسقط العصبية بالجملة، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة، ويلبسون على الناس في الشارة والزي وركوب الخيل وحسن الثقافة، يموهون بها؛ وهم في الأكثر أجبن من النسوان على ظهورها. فإذ جاء المطالب لهم، لم يقاموا مدافعته (52)".‏ 
وعندئذ تنتقل الدولة إلى الجيل الرابع؛ وهو جيل الضعف والاضمحلال. بيد أن هذا لا يحدث في الظاهر في الحالات كلها؛ إذ إن الدولة قد تصل إلى هذا الحد من الضعف والانهيار، ولا يكون هناك من مطالب ولا طامع؛ فتبقى قائمة في الظاهر، مع أنها منخورة في الباطن. وهذا يعني، أن عمر الدولة مئة وعشرين سنة؛ فإذا لم يأتِ مطالب بها، امتد إلى أكثر من ذلك، حتى يأتي المطالب. وبهذا الصدد يقول ابن خلدون: "وهذه الأجيال الثلاثة عمرها مئة وعشرون سنة على ما مرّ. ولا تعدو الدول في الغالب هذا العمر بتقريب قبله أو بعده، إلا أن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب؛ فيكون الهرم حاصلاً مستولياً، والطالب لم يحضرها؛ ولو قد جاء الطالب لما وجد مدافعاً (53)".‏ 
(3) الجباية وتجارة السلطان: رأينا أن أجيال الدولة تنتقل من شظف العيش إلى الترف والرفه، ثم إلى المبالغة في الترف والرفه؛ وأن هذا يستدعي من السلطان زيادة وزائع الجباية. ولكن السلطان ربما لا يكتفي بذلك، بل يعمد إلى منافسة رعاياه في التجارة. وهذا في رأي ابن خلدون من بوادر انتهاء الملك وسقوط الدولة.‏ 
والحقيقة، أن السلطان ربما لا يقنع بما تدره عليه الجباية من أموال؛ فيسعى إلى التجارة يتخذها –في زعمه –وسيلة لزيادة دخله. ولكن امتهان السلطان التجارة، لا يلبث أن يؤدي إلى الإضرار بالرعايا من جهة، وإلى إفساد الجباية من جهة أخرى؛ بل إن الضرر الذي يلحق بالرعايا جراء ذلك، يكون السبب المؤدي إلى إفساد الجباية في النهاية، إفساداً يؤدي بدوره إلى إفساد العمران والدولة. يقول ابن خلدون شارحاً ذلك: "وأعظم من ذلك الظلم وإفساد العمران والدولة، التسلط على أموال الناس، بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان، ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع (54)". ويتابع كلامه قائلاً: "ويؤول ذلك إلى تلاشي الدولة وفساد عمران المدينة؛ ويتطرق الخلل على التدريج، ولا يشعر به (55)".‏ 
ويرى ابن خلدون أن الظلم الواقع على أموال الناس يحدث في الأمصار جميعاً. ولكنه يظهر سريعاً في الأمصار الصغيرة قليلة السكان، بما يخلفه وراءه من آثار الخراب؛ ويخفى في الأمصار العظيمة كثيرة السكان، ولا يظهر إلا بعد حين. وبهذا الصدد يقول: "ولا تنظر في ذلك إلى أن الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة من الدول التي بها، ولم يقع فيها خراب (56)".‏ 
ويعلل خفاء آثار الخراب الناتجة عن الظلم في الأمصار العظيمة على النحو التالي: فيقول: "إن ذلك إنما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء وأحوال أهل المصر. فلما كان المصر كبيراً، وعمرانه كثيراً، وأحواله متسعة بما لا ينحصر. كان وقوع النقص فيه بالاعتداء والظلم يسيراً؛ لأن النقص إنما يقع بالتدريج. فإذا خفي بكثرة الأحوال والأعمال في المصر، لم يظهر أثره إلا بعد حين (57)".‏ 
بيد أن آثار الخراب الناتجة عن تجارة السلطان، في العمران، قد تظل خافية، لحلول دولة جديدة مكان الدولة الظالمة. وبهذا الصدد يقول ابن خلدون: "وقد تذهب الدولة المعتدية من أصلها، قبل خراب المصر، وتجيء الدولة الأخرى، فترفعه بجدتها، وتجبر النقص الذي كان خفياً فيه؛ فلا يكاد يشعر به؛ إلا أن ذلك في القليل النادر (58)".‏ 
وعلى هذا النحو، يؤدي الظلم إلى انهيار الدول وخراب العمران؛ ويكون هذا الخراب ظاهراً حيناً، وخفياً حيناً آخر.‏ 
خاتمة: قيمة السياسة عند ابن خلدون‏ 
وبعد، لا بد لنا من أن نتساءل في نهاية هذا البحث، عن طبيعة العمل الذي قام ابن خلدون به، وعن قيمته. أهو السياسة أم علم الاجتماع السياسي؟ وإذا كان هذا أو ذاك، فأي حد بلغ ابن خلدون منه؟‏ 
إننا نعتقد أن المباحث السياسية التي تطرق إليها أقرب إلى علم الاجتماع السياسي، منها إلى السياسة؛ وإن كنا لا ننكر أن هناك إشارات كثيرة مبعثرة هنا وهناك في هذه المباحث، تدخل في علم السياسة حيناً، وفي فن السياسة حيناً آخر. بيد أن مما لا شك فيه، أن هذا وذاك إنما حصلا عرضاً، ولم يكونا مقصودين مباشرة منه. بل إن الحقيقة أعم من ذلك؛ إذ إن ابن خلدون كان ينظر إلى الظواهر المختلفة التي درسها، خلال علم العمران (الاجتماع): فالتاريخ أراد أن يقيمه على أساس الاجتماع؛ وكذلك الاقتصاد؛ وكذلك التربية والتعليم. ولكن هذا لم يأتِ في غاية الإحكام؛ لأن ابن خلدون كان بصدد وضع أسس علم جديد يبدو في أول مرة. ولهذا لم يكن من الممكن له أن يحكم مسائله تمام الإحكام؛ فيظل ضمن حدود العلم.‏ 
(1)شهادات الدارسين: وهذا يجعلنا نرى أن ما قدمه في المباحث السياسية هو أقرب إلى علم الاجتماع السياسي منه إلى السياسة الخالصة. وإننا إذ نقول ذلك نشاطر عالم الاجتماع الفرنسي غاستون بوتول رأيه؛ إذ يقول: "كان يتوجب علينا أن ننتظر بعد القديس أوغسطين قرابة ألف عام، لكي تظهر مؤلفات رئيسية في علم الاجتماع السياسي، بعد فترات الاضطراب الناشئة عن غزوات البرابرة والعصر الوسيط الأعلى. لقد كتب المؤرخ التونسي ابن خلدون "مقدمته" في الفترة التي كانت فيها الحضارة العربية الزاهرة تتهاوى تحت ضربات التتر والتركمان والبربر والفرق المتعصبة؛ ومؤلفه ذو نزعة تشاؤمية عميقة يتأمل انحطاط المتحضرين، وانتصار البرابرة، دون أن يحتفظ من الحكم إلا بالوظيفة الطفيلية المميزة لنزعة الاستبداد الشرقية التقليدية (59)".‏ 
وإذا كان علم الاجتماع السياسي هو الموضوع الغالب على المباحث السياسية في "المقدمة"، كان لا بد من أن نتساءل عن المدى الذي بلغه ابن خلدون في هذا العلم. هنا لا بد من أن نلاحظ، أن ابن خلدون لم يبلغ بهذا العلم شأوه الأخير الذي نعرفه عليه اليوم؛ لأنه اقتصر –وما كانت له حيلة في ذلك –على التاريخ القديم وتاريخ المسلمين لعهده. وهذا رأي غاستون بوتول الذي يقول: "ولذا فإن السنن التي عبر عنها، مستنبطة مبدئياً من تاريخ افريقية الشمالية، هذا القسم الذي بدا له وحده حياً في الحقيقة، وهو القسم الذي جاب مسرحه وعرف ممثليه؛ ثم من تاريخ بلاد إسلامية أخرى، منذ الإسلام فقط على العموم. ومن شأن هذا الاعتبار تضييق عمومية تركيب المشروع من قبل هذا الفيلسوف؛ ولكن مع تعيينه مداه في الوقت ذاته. ولذا فإن نتائج المقدمة العامة تكون استقراءات ناشئة عن تأمل الأحوال التاريخية الخاصة بالدول العربية التي أسفر عنها الفتح الإسلامي؛ ولا سيما دول إفريقيا الشمالية (60)".‏ 
وهذا يعني، أن ابن خلدون رأى موضوع هذا العلم بوضوح؛ لكن من خلال تجربة زمانه، ومن دون أن تبلغ الشمول العلمي اللازم. وهذه نقطة ليست لصالحه، إلا إذا اقتصر علم الاجتماع على الناحية الوصفية؛ وهو في حقيقة أمره ليس كذلك.‏ 
كان لا بد لابن خلدون من أن يتجاوز المعطيات الحاضرة إلى ما كان وما سيكون في كل زمان ومكان؛ ليتسنى له رؤية العلاقات الاجتماعية في كليتها. وهذا ما لم يقم به على وجهه المطلوب. ولعلنا نجد عذراً له في ذلك، أنه كتب "مقدمته" على عجلة من أمره في غضون خمسة أشهر، وهو متوارٍ في قلعة ابن سلامة.‏ 
وإننا نحسن صنعاً لو ربطنا هذا بنقطة أخرى كانت لصالحه؛ وهي أنه عرف شروط البحث العلمي، وأقام "مقدمته" على أساس منها. وهذا ما يشهد به الدكتور حامد عبد الله ربيع حين يقول: "فأول ما يجب أن نتذكره، هو أن ابن خلدون، بالطريقة التي تناول بها الظاهرة موضع الدراسة؛ قد خلق طريقاً وضعياً للبحث العلمي (61)". وإذا كان الأمر كذلك، حق لنا أن نطالبه بما طالبناه به.‏ 
لكن الدكتور محمد عبد المعز نصر يرى أن ابن خلدون جمع في دراسة الدولة بين الطريقتين الوضعية والمعيارية. وهو في هذا يقول: "وعلى هذا النحو، أخذ ابن خلدون يعالج الدولة في واقعها، وفيما ينبغي أن تكون عليه؛ مفصلاً القوانين التي تحكم عملها، راسماً المقاييس التي يحكم بها عليها في الوقت نفسه، ولقد وضع بهذا النظام الفلسفي السياسي الذي عرضه في "المقدمة" حول دراسته للدولة، أسس علم السياسة في اللغة العربية (62)".‏ 
وإذا توقفنا عند هذه الملاحظة، كان لا بد لنا من أن نرى، أن ابن خلدون لم يحافظ على خطه الوضعي في دراسة العمران البشري؛ وأنه مزج علم الاجتماع السياسي بفن السياسة.‏ 
ومع ذلك، فإننا نظل نرى إلى أي حد كان ابن خلدون نافذ النظرة، حينما رأى من السياسة وجهيها الوضعي والمعياري؛ وهما الوجهان اللذان أصبحنا ننظر إلى السياسية منهما في وقتنا الحاضر؛ وإن كان مكان فن السياسة غير مكان علم الاجتماع السياسي.‏ 
ولكن، ما الجوانب الإيجابية التي أتى بها؟‏ 
(2) الجوانب الإيجابية في "المقدمة": يمكننا أن نحصر الجوانب الإيجابية التي أتى بها ابن خلدون في "مقدمته" في النقاط الآتية:‏ 
أولاً- لقد حاول ابن خلدون أن يفسر الظاهرة السياسية بربطها بالاجتماع حيناً، وبالنفس حيناً آخر، وبالطبيعة حيناً ثالثاً، وبالتطور والتاريخ حيناً رابعاً وبالاقتصاد حيناً خامساً، وبالأخلاق حيناً سادسا. وهذه هي المناحي التي تتبعها العلوم السياسية في أيامنا الحاضرة؛ لتفسير ظاهرة السلطة؛ مما يجعلنا نرى إلى أي حد بعيد استطاع ابن خلدون أن يرى الظاهرة السياسية في ارتباطاتها كلها، وفي تعقدها كله. وهذا يفسر لنا لماذا زخرت "المقدمة" بتحليلات اجتماعية ونفسية وتاريخية واقتصادية وأخلاقية في غاية الدقة ونفاذ النظرة.‏ 
ولكن هذا إذا صح كله بالنسبة إلى علم السياسة وفنها، فهو زائد عن الحاجة بالنسبة إلى علم الاجتماع السياسي الذي يجب أن يرى الأمور من زاويتها الاجتماعية، على وجه التغليب.‏ 
ثانياً: لقد أدرك ابن خلدون أن الدولة قائمة على أساس من القهر والغلب؛ ولم يكن إدراكه عابراً؛ بل كان راسخاً يكرره في كل مناسبة؛ وكأنه يريد أن يرسخه في ذهن قارئه. وهذا هو محور عمل الدولة في الداخل والخارج، وهو الذي أصبحنا نعبر عنه بكلمتي "السلطة" و "السيادة" في عصرنا الحاضر.‏ 
ثالثاً- لقد رأى الأساس المتين الذي تقوم عليه الدولة؛ وهو العصبية. ونظريته في العصبية تفسر لنا تفسيراً مرضياً قيام الدولة ورسوخها وزوالها، بالنسبة إلى الأزمنة القديمة، ولا سيما المجتمعات البدوية. لكن هذه النظرة تظل صادقة في العصر الحديث، وفي المجتمعات المتحضرة، إذا استبدلنا بالعصبية القبلية الحزب السياسي. والحقيقة أن علاقة أفراد الحزب السياسي بحزبهم في الدول الحديثة شبيهة بعلاقة أبناء العصبية بصاحب العصبية في الدول القديمة. وما الفرق بينهما إلا في تبلور بعض الأفكار السياسية، كالحرية والعدالة مثلاً؛ وهما فكرتان لم تكونا واضحتين في عصر ابن خلدون تماماً؟ نظراً لطبيعة الحكم في الدول الشرقية؛ ولأن هاتين الفكرتين نتيجة للتطورات السياسية والاجتماعية التي مرت الدول بها، ولا سيما الغربية منها، بعد ذلك.‏ 
رابعاً- لقد ربط بين السياسة والاقتصاد، كما ربط بين الاقتصاد والاجتماع؛ وهو محق في هذا الربط تماماً. وقد أتت الماركسية بعده بخمسة قرون؛ لتبين ذلك وتثبته. لكنه رأى أن تجارة السلطان مؤدية إلى فساد العمران، واضمحلال الدولة، بما تفرضه من ظلم على الرعايا الذين يقعدون عن العمل والكسب، لذهاب آمالهم في كسبهم، ونتيجة منافسة السلطان لهم فيه. وهذا صحيح إذا افترضنا أن السلطان يقوم به لصالحه وصالح العائلة المالكة أو الحاشية، كما كان يحدث في عصر ابن خلدون والعصور السابقة. لكنه غير صحيح، إذا كان بإشراف دولة عصرية تريد أن توجه اقتصادها في إطار مصلحة المجموع ولخيره.‏ 
خامساً- لقد كشف ابن خلدون عن قانون اجتماعي وسياسي خطير، صادق في كل زمان ومكان؛ حينما بيَّن أن ظلم السلطان الذي يقع على المصر الذي يحكمه، يتناسب عكساً مع سعة هذا المصر. وقد تحدث عن ذلك، وهو بصدد الحديث عن تجارة السلطان وأثرها في الإضرار بمصالح الرعايا، وقعودهم عن الكسب.‏ 
وهكذا يمكننا أن نرى في ابن خلدون مؤسساً لعلم الاجتماع السياسي، كما رأينا فيه مؤسساً لعلم الاجتماع العام؛ على الرغم من أن طبيعة عصره وطبيعة المجتمعات التي درسها لم يكونا بلغا المستوى الذي بلغه عصر علماء الاجتماع الغربيين ومجتمعاتهم.‏ 
وهذا يبين عمق النظرة التي كان يتمتع بها، والتي جعلته ينفذ إلى ما لم ينفذ إليه غيره في عصره وغير عصره. وهذا يجعلنا نصرف النظر عن بعض المآخذ التي أخذناها عليه؛ وإن كان لا يمكن صرف النظر عنها بالنسبة إلى علم الاجتماع بما هو علم.‏ 
الحواشي:‏ 
(1)- المقدمة ج 4 ص 1355، نشر الدكتور علي عبد الواحد وافي، لجنة البيان العربي، القاهرة 1962.‏ 
(2)- المقدمة، ج1، ص 274 –275، لجنة البيان العربي القاهرة 1957.‏ 
(3) -المقدمة، ج1، ص 275.‏ 
(4) -المقدمة، ج1، ص 272 –273.‏ 
(5) -المقدمة، ج1، ص 274.‏ 
(6) -المقدمة، ج1، ص 274.‏ 
(7) -المقدمة، ج1، ص 275.‏ 
(8) -المقدمة، ج1، ص 274‏ 
(9) -المقدمة، ج2، ص 424، لجنة البيان العربي، القاهرة 1958.‏ 
(10) -المقدمة، ج2، ص 422 –423.‏ 
(11) -المقدمة، ج2، ص 428 –429.‏ 
(12) -المقدمة، ج2، ص 435.‏ 
(13) -المقدمة، ج2، ص 436.‏ 
(14) -المقدمة، ج2، ص 422 –423.‏ 
(15) -المقدمة، ج2، ص 423.‏ 
(16) -المقدمة، ج2، ص 829 –830.‏ 
(17) -المقدمة، ج2، ص 428.‏ 
(18) -المقدمة، ج2، ص 429.‏ 
(19) -المقدمة، ج2، ص 429.‏ 
(20) -المقدمة، ج2، ص 439.‏ 
(21) -المقدمة، ج2، ص 439.‏ 
(22) -المقدمة، ج2، ص 439 –440.‏ 
(23) -المقدمة، ج2، ص 441.‏ 
(24) -المقدمة، ج2، ص 462.‏ 
(25) -المقدمة، ج2، ص 462.‏ 
(26) -المقدمة، ج2، ص 450.‏ 
(27) -المقدمة، ج2، ص 450.‏ 
(28) -المقدمة، ج2، ص 472 –473.‏ 
(29) -المقدمة، ج2، ص 473.‏ 
(30)- -المقدمة، ج2، ص 474.‏ 
(31) -المقدمة، ج2، ص 475.‏ 
(32) -المقدمة، ج2، ص 492.‏ 
(33) -المقدمة، ج2، ص 698 –699.‏ 
(34)-المقدمة، ج2، ص 488.‏ 
(35) -المقدمة، ج2، ص 488.‏ 
(36) -المقدمة، ج2، ص 699.‏ 
(37) -المقدمة، ج2، ص 699.‏ 
(38) -المقدمة، ج2، ص 700.‏ 
(39) -المقدمة، ج2، ص 473.‏ 
(40) -المقدمة، ج2، ص 700.‏ 
(41) -المقدمة، ج2، ص 473.‏ 
(42) -المقدمة، ج2، ص 475.‏ 
(43) -المقدمة، ج2، ص 475 –476.‏ 
(44) -المقدمة، ج2، ص 482.‏ 
(45) -المقدمة، ج2، ص 482 –483.‏ 
(46) -المقدمة، ج2، ص 483.‏ 
(47) -المقدمة، ج2، ص 484.‏ 
(48) -المقدمة، ج2، ص 510 –511.‏ 
(49)- -المقدمة، ج2، ص 485.‏ 
(50) -المقدمة، ج2، ص 486.‏ 
(51) -المقدمة، ج2، ص 486.‏ 
(52) -المقدمة، ج2، ص 486 –487.‏ 
(53) -المقدمة، ج2، ص 487.‏ 
(54) -المقدمة، ج2، ص 684.‏ 
(55) -المقدمة، ج2، ص 685.‏ 
(56) -المقدمة، ج2، ص 681.‏ 
(57) -المقدمة، ج2، ص 681.‏ 
(58) -المقدمة، ج2، ص 681.‏ 
(59)- في كتابه: علم الاجتماع السياسي‏ 
Sociologie de la Politique‏ 
ص 14، منشورات الـ P. U. F. باريس 1965.‏ 
(60)- في كتابه: ابن خلدون، فلسفته الاجتماعية، دار احياء الكتب العربية، القاهرة 1955، ص 30 –31.‏ 
(61)-راجع مقاله "فقه في السياسة في فلسفة ابن خلدون الاجتماعية" المنشور في أعمال مهرجان ابن خلدون ص 270، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، القاهرة 1962.‏
(62)-راجع مقاله "فلسفة السياسة عند ابن خلدون" في أعمال مهرجان ابن خلدون ص 345.
abuiyad

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق