توفيق المديني
يتخذ مفهوم الهيمنة عند ماركس طابعاً اجتماعياً وتاريخياً هو طابعه الطبقي، يحدده وضعه في البنية الاقتصادية الاجتماعية الشاملة. لأن ماركس، حين كان يلح على أن شروط الثورة هي شروط بنيوية، تشمل البنية في تعقد مستوياتها (المستوى الاقتصادي، والمستوى السياسي، والمستوى الايديولوجي)، كان يعتبر أن البنية التحتية هي المهيمنة معنى هذا، أن البنية التحتية، باعتبارها الهيكل العظمي الاقتصادي للجسم الاجتماعي، حيث أن العلاقات الانتاجية، في مجموعها، وبشكل خاص، التي قامت على أساس القوى المنتجة، تألف القاعدة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع في مرحلة معينة من مراحل تطوره التاريخي، وتألف أيضاً الأفكار، والايديولوجيات، والمؤسسات، والعلاقات الاجتماعية، لهذه التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية أو تلك، هذه البنية حاضره في البنية الفوقية الايديولوجية، والمؤسساتية، والحقوقية الخاصة بها، والتي هي نتاج لها، ومرتبطة عضوياً بها، وتؤثر فيها تأثيراً فعالاً. غير أن هذا الشكل من الحضور للبنية التحتية، أي للبنية الاجتماعية في البنية الفوقية، أي البنية الفكرية، والايديولوجية والثقافية، ليس حضوراً متماثلاً، بل هو مختلف، من ايديولوجية طبقية إلى ايديولوجية أخرى، باعتبار هذا الحضور يتحدد مباشرة بالبعد الاجتماعي، أي بالبعد الطبقي، أي من وجهة نظر طبقية محددة. كما أن "تطور البنية الايديولوجية العامة، كتطور البنية الاجتماعية الشاملة تطور تفاوتي لابد أن تكون السيطرة فيه، في كل مرحلة من مراحله، لبنية فكرية محددة، أي لايديولوجية طبقية محددة، هي بشكل عام ايديولوجية الطبقة المسيطرة. وهذا ما يساعدنا على فهم مقولة لينين الشهيرة "إن الصراع الايديولوجي شكل من أشكال الصراع الطبقي"(1).
إذا كانت، بالنسبة لماركس، معرفة الطابع التاريخي للبنية التحتية، باعتبارها المهيمنة، تصبح قضية حيوية، لأن لها صلة بالنتيجة التي تعكسها بنية التاريخ الداخلية للمجتمع في أفق تطور الرأسمالية، الذي أنتج البروليتاريا، وبمجرى تطور البروليتاريا ذاتها في مرحلة معينة من التطور الاجتماعي، فإنه في الوقت عينه يؤكد على الطابع الشمولي لوعي البروليتاريا الطبقي، لكي تدخل البروليتاريا كذات طبقية واعية وعارفة بالمهفوم الجدلي، معترك الصراعات الطبقية بأبعادها المختلفة الاقتصادية والايديولوجية، والسياسية، وتخوض معاركها الحاسمة ضد البرجوازية، كما يتطلبه ذلك التطور التاريخي بالحاح، وكذلك ضرورة الثورة الاجتماعية، من أجل فرض هيمنتها. في كتاب "الايديولوجية الألمانية، حدد كل من ماركس وأنجلز في فصل تحت عنوان "شروط الملكية الخاصة ونتائجه" "إن التملك يتقرر بطريقة تكون فعالة. ولن تكون هذه الطريقة فعالة إلا من خلال الاتحاد. هذا الاتحاد الذي يصبح شاملاً بسبب الطابع الشمولي للبروليتاريا نفسه. ومن خلال ثورة تطيح من جهة بسيادة الطريقة الانتاجية والعلاقة السابقة للتنظيم الاجتماعي، ومن جهة أخرى يتطور الطابع الشمولي وطاقة البروليتاريا التي من غيرها لا يمكن إنجاز الثورة، والتي بواسطتها تحدد البروليتاريا نفسها من شيء لا يزال عالقاً بها من وضعها السابق في المجتمع".
إن تركيز ماركس على البنية التحتية كإطار لمفهوم الهيمنة، نابع أيضاً من أن أصل الطبقتين الكبيرتين المتناقضتين في العصر الراهن، البرجوازية والبروليتاريا، وكذلك تطورهما لاحقاً "قد نشأ بطريقة واضحة وملموسة على أسباب اقتصادية خالصة". وهذه الأسباب مرتبطة بأثر التغيير في نمط الانتاج. ثم أن ماركس يعتبر "إن جميع النضالات الطبقية التحريرية، في التاريخ الحديث على الأقل، تدور في نهاية الأمر، على الرغم من شكلها السياسي بالضرورة حول التحرر الاقتصادي".
كما أن ماركس كان يلح على الشروط البنيوية للثورة، التي تتمثل في التطور الاقتصادي، والصراع الطبقي، باعتبارهما يخلقان شروط الانتاج الاشتراكي، وهو في تحليله العلمي لرأس المال، وبشكل عام في "نقد الاقتصاد السياسي"، ينتقل إلى السياسي، أي إلى الصراع الطبقي، وليس إلى سلطة الدولة، حيث أن ماركس في معظم تحليلاته السياسية والتاريخية حول الدولة الحديثة كان يقصد بها دولة المزدوجة التناقضية مجتمع مدني/ دَوْلَه. وهذا التحليل يتماشى مع تلك المرحلة التاريخية، التي عاشها ماركس ما بعد 1848، حيث كانت الدولة بدائية ومتخلفة نسبياً وكان المجتمع المدني الذي يعرفه ماركس هو على النحو التالي "ظهر اصطلاح المجتمع المدني في القرن الثامن عشر، عندما انتزعت العلاقات الخاصة نفسها من المجتمع المشاعي القديم والوسيط. ولم يتطور المجتمع المدني إلا مع البرجوازية. وانبثق التنظيم الاجتماعي مباشرة من الانتاج والتجارة، اللذين يشكلان في كل العصور أساس الدولة وبقية البناء الفوقي المثالي. ولهذا قال دائماً هذا الاسم"(2).
ففي مرحلة التكوين التاريخي للبنية الاجتماعية الرأسمالية تعمل الرجوازية كطبقة صاعدة على أن تكون مسيطرة اقتصادياً، من دون أن تكون مسيطرة سياسياً، حيث أن الهيمنة السياسية تكون فيها للطبقات الحاكمة القديمة. ولكن مع تبلور السيطرة الاقتصادية للطبقة البرجوازية في مرحلة تكون البنية الاجتماعية الرأسمالية، تنزع هذه البرجوازية المسيطرة اقتصادياً بالضرورة، إلى مجابهة ثورية مع جهاز الدولة القديم المسيطر عليه من قبل الارستقراطية وطبقة النبلاء، لكي تحقق سيطرتها السياسية، باعتبار أن وجودها في موقع السيطرة السياسية، هو الشرط الضروري لاستمرار وجودها في موقع السيطرة الاقتصادية، كما أن هذه السيطرة السياسية للطبقة البرجوازية لابد أن يكون ملازماً لها سيطرة ايديولوجية وثقافية.
ومن الواضح، إن هذه السيطرة السياسية تتضمن في الوقت عينه سيطرة الدولة، باعتبارها كياناً منفصلاً بمؤسساتها عن المجتمع المدني. يقول أنجلز: "تنعكس في الدولة الحاجات الاقتصادية للطبقة المسيطرة على الانتاج" و"تتركز فيها".
ومن هنا أطلق ماركس مفهوم الهيمنة على علاقات الانتاج الاجتماعي البرجوازية، المتجلية في صورها المتعددة: الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والحقوقية، والايديولوجية، والثقافية والفكرية، باعتبارها مفهوماً يتضمن درجة كبيرة من الغنى والعمق، حيث أنه في مرحلة التكون التاريخي لعلاقات الانتاج الرأسمالي، وفي مرحلة تطورها اللاحق في إطار تكاملها البنيوي، تعمل البرجزازية كطبقة ثورية صاعدة، ممثلة لهذه العلاقات الانتاجية، وحاملة في سيرورتها الطبقية نظام الانتاج الرأسمالي، على فرض هيمنتها الطبقية داخل المجتمع المدني، باعتبارها الطبقة المهيمنة النقيض للطبقات القديمة في النظام الاقطاعي.
وإذا كان ماركس يرى في البنية التحتية هي المهيمنة، فإن غرامشي بالمقابل لا يختلف معه حول هذه المسألة، بل إنه ينساق بعيداً إلى الجدل بين البنية التحتية والبنية الفوقية، وإنْ كان يحدد الهيمنة في المحصلة النهائية للبنية الفوقية.
إن الفهم الشائع عند الماركسيين هو أن الدولة تمثل المجتمع السياسي، وليس توازناً بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، وبالتالي فهم يرون فيها، الهيمنة لطبقة البرجوازية، أو لفئة طبقية برجوازية على المجتمع بأكمله، حيث يتم التوصل إلى هذه الهيمنة، عبر مؤسسات المجتمع المدني. ويقدم لنا دارس بريطاني لهذه المرحلة من فكر غرامشي تعريفاً مدخلياً مفيداً لهذه المشكلة: فالهيمنة هي "نظام تسيطر فيه طريقة معينة للحياة وللتفكير، وليس فيه إلا مفهوم واحد للحقيقة، ينتشر في المجتمع بكافة مظاهره المؤسساتية والخاصة، يصوغ بروحيته كل الأذواق والأخلاق والعادات والمبادىء الدينية والسياسية، وكل العلاقات الاجتماعية، خصوصاً في ملامحها الثقافية والأخلاقية".
ورأى غرامشي مثلاً أساساً لظهور الهيمنة في تاريخ فرنسا من نشأة الطبقة البرجوازية قبيل ثورة 1789، لم تكن للطبقات السائدة تنظم المرور بينها وبين الطبقات الأخرى، ولم تسع إلى توسيع دائرتها الطبقية "فنياً وايديولوجيا". وهنا يسود مفهوم الخاصة الطبقية caste المغلقة. ويضيف غرامشي قائلاً أما الطبقة البرجوازية فتطرح نفسها كتنظيم في حركة دائمة قادرة على استيعاب المجتمع بأجمعه، وادماجه في مستواه الثقافي والاقتصادي: فتتحول وظيفة الدولة كي تصبح الدولة المربية الخ. وتتماثل فترة نمو البرجوازية مع مهمة غزو الهيمنة وينتقل المجتمع من مرحلة الدولة الكنيسة إلى مرحلة تنمية البنى الفوقية (وإلا تلاشت الدولة قبل أزدهارها)(3).
إن غرامشي لا يخلط بين الدولة والسياسية والمجتمع المدني، وهو يطلق تسميات مختلفة للدولة، طبقاً للمبدأ التي قامت عليه، وللمرحلة التاريخية، التي عرفتها، لكي يبين لنا بأن الدولة ليست جهازاً للحكم فقط، وإنما تعني أيضاً جهاز الهيمنة "الخاص"، أو المجتمع المدني. فهناك الدولة التي تعتبر حقيقة الحياة الأخلاقية عند هيغل، التي يكمن مبدأها المعلن بوضوح في العالم الحديث، في ادعائها مبدأ الخصوصية الذي يتحول إلى أبعد مدى في المجتمع المدني، وفي المحافظة على الأفراد "بوصفهم أشخاصاً، واذن أن تجعل من الحي واقعاً فعلياً ضرورياً، وأن تشجع رفاهيتهم التي يهتم بها كل لذاته أولاً، والتي لها مع ذلك قطعاً، وجه كل - وأن تصون الأسرة، وتقود المجتمع المدني. "إن مفهوم الدولة الأخلاقية عند هيغل يمكن ربطه "بالدولة- العسس،" المستمدة من الأصول الفلسفية والثقافية الليبرالية، التي تفسح في المجال للمبادرة التاريخية للمجتمع المدني، ولمختلف القوى التي لا تحصى فيه إلى جانب دولة ترعى "أمانة اللعبة" "وقوانينها"، وتقوم على أساس العلمانية، التي ترفض التنظيم الديني- الرهباني. ويقابل تعبير "الدولة العسس" "الدولة الشرطي" في الايطالية، التي لا تتعدى مهامها في المحافظة على الأمن العام، واحترام القوانين. ضمن هذا السياق يندرج مفهوم الهيمنة عند غرامشي، الذي يعني به كشيء خاص معين، أي المجتمع المدني. والهيمنة هي "التكملة" للمفهوم الشامل للدولة: والمجتمع المدني حسب تعريف غرامشي له، يتوقع "بين البنية الاقتصادية والدولة بتشريعاتها وقمعها". ومن هذا المنطلق فإن مفهوم الدولة عند غرامشي يتضمن "معنى أوسع وأكثر عضوية"، ويضم "عناصر تعود لفكرة المجتمع المدني. بمعنى أن تعريف الدولة يعني أن الدولة تساوي المجتمع السياسي+ المجتمع المدني، أي هيمنة مصفحة بالقمع". تصبح بذلك الدولة، بالمعنى الأوسع، "دولة كدولة ومجتمع مدني، أو "المركب الكامل للنشاطات العملية أو النظرية التي لا تبرر الفئة الحاكمة فيها سيطرتها وتحافظ عليها فحسب، بل تفلح في الحصول على الموافقة الفاعلة للمحكومية".
يمتد بذلك مفهوم السلطة ليشمل المركب الكامل للمؤسسات التي توسط /Mediate/ علاقات القوى في المجتمع مؤمنة "الهيمنة السياسية والثقافية لفئة اجتماعية على المجتمع برمته في المحتوى الأخلاقي للدولة"(4).
وهكذا، فإن الهيمنة الطبقية، التي يتم التوصل إليها عبر مؤسسات المجتمع المدني، تتم بواسطة وظيفة "القيادة بالموافقة"، مع وظيفة "القمع". وبذلك تتخطى معالجة غرامشي للمفهومية مقولات علم السياسة ومقولات علم الاجتماع، فليست الدولة بعد الآن مجرد جهاز قمعي لها أثر ارتجاعي /Retroactive/ في مجال المجتمع المدني، خلال "تعددية التجمعات والوكالات المعينة" التي تشكل "كجهاز هيمنة فئة اجتماعية على باقي السكان أو (المجتمع المدني)، أساس الدولة بالمعنى الضيق كجهاز قمعي حاكم"(5).
إزاء الاستباقات النظرية للتطور التاريخي لمفهوم الهيمنة، الذي كان له تاريخاً طويلاً في تقدمه الفلسفي والمعرفي، وفي تطوره السياسي، منذ عهد ماركس، مروراً بلينين، حيث يدل مفهوم الهيمنة في أوروبا الغربية على واقع تحقق المجتمع المدني كقلب مركزي، أو كحصن داخلي في إطار وجود علاقة توازن صحيحة بين الدولة والمجتمع المدني، كما عاشها ماركس. وحيث أن لهذا المفهوم مضمون واقعي خاص في روسيا المتأخرة تاريخياً، في إطار وجود دولة تمثل كل شيء هناك، في حين أن المجتمع المدني كان بدائياً وهلامياً، كان الخطاب الغرامشي حول مفهوم الهيمنة، بقدر ما كان يستند إلى نموذج السلطة المرجعية الفلسفية والمعرفية والسياسية للماركسية، بقدر ما أنه استطاع أن يؤسس مفهوماً حديثاً وعصرياً للهيمنة، محققاً بذلك الاستقلال التاريخي التام، وأن يخوض نضالاً قاسياً ضد الاقتصادية- الايديولوجية في مجال علم التاريخ، وفي مجال نظرية وممارسة السياسية، لكي يبلور نظرية ماركسية ثورية متميزة في إطار الفلسفة، والتاريخ، والسياسة، على أساس من مفهوم الهيمنة. وقد استطاع غرامشي انطلاقاً من رؤيته الاستراتيجية لمفهوم الهيمنة، أن يعطي أهمية خاصة وفائقة للبنية الفوقية، وللمثقفين العضويين، حيث أن الهيمنة "حصيلة الدور السياسي للطبقة، أي دور انتقال البنية وتناقضاتها إلى البنية الفوقية"، في علاقاتها ببناء الحزب، أي الأمير الحديث، القادر على أن يكون مثقفاً جمعياً للطبقة العاملة وحلفائها الموضوعيين، من خلال وعي هذه الطبقة ذاتها ومهامها السياسية والتاريخية، "أي رؤية شاملة+ برنامج سياسي"، وأن يتحمل مسؤولية قيادة ثورة، وبالتالي مسؤولية الاستيلاء على السلطة السياسية، وخلق دولة حديثة جديدة، بما يعني ذلك "خلق مجتمع مدني+ الاستيلاء على الجهاز الحكومي القمعي"، باعتبار أن هدف الثورة هو تحقيق الهيمنة" إذا دولة بالقوة".
وقبل أن نغوص في قراءة غرامشي حول مفهوم الهيمنة والمجتمع المدني، اللذين ركزا عليهما كثيراً، أكثر مما ركز على مسألة المجتمع السياسي، التي أعطاها لينين أولوية مطلقة، خصوصاً وأنها تعني بالنسبة له ولباقي الماركسيين "ديكتاتورية البروليتاريا"، من الجدير أن نتطرق إلى مفهوم الهيمنة داخل التيارات المختلفة المكونة للماركسية الروسية، في عهد الصراعات الايديولوجية والسياسية، التي خاضها لينين ضد خصومه، وحتى اندلاع الثورة الروسية في العام 1917.
الاشتراكية الديمقراطية الروسية ومفهوم الهيمنة:
في صياغة نظرية الهيمنة للطبقة العاملة وللمثقفين العضويين في بداية العقد الثاني من القرن العشرين، والتي ترتبط باسم غرامشي، استطاع هذا الأخير أن يضيف تراثاً جديداً بطريقة ابداعية للماركسية، كان له الأثر العظيم، في أعماله اللاحقة، وفي احتلاله المكانة المركزية في مساحته الفكرية والسياسية. ولكن مفهوم الهيمنة لم يكن جديداً، فقد كان الفكر الماركسي الروسي بمختلف اتجاهاته وتياراته، منذ أواخر القرن التاسع عشر يبحث في مشروع ثوري للهيمنة، باعتبار أن الهيمنة كانت واحدة من الشعارات السياسية المركزية، التي تستجيب لطموحات الجيل الجديد من الماركسيين الروس بقيادة لينين، فضلاً عن أنها كانت وراء انقسام الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية إلى اتجاهات وتيارات متصارعة.
لقد ظهر مصطلح الهيمنة لأول مرة في كتابات ج.ن. بليخانوف، الذي نظم أول فرقة ماركسية في روسيا القيصرية، وهي فرقة "تحرير العمل" العام 1883، وخاض صراعاً قوياً ضد الشعبية. وبذلت فرقة "تحرير العمل" جهداً كبيراً لنشر الفكر الماركسي في روسيا، وبالتالي شقت الطريق في الميدان النظري والفكري لولادة الحركة الاشتراكية الديموقراطية الروسية، مع نمو الرأسمالية في روسيا، وبداية تحول الطبقة العاملة إلى قوة حقيقية ذات وزن، قادرة على القيام بنضال ثوري منظم. في حين أن الشعبيين كانوا يعتبرون أن القوة الثورية الرئيسة هي جماهير الفلاحين، واختاروا طريق الارهاب الفردي لمكافحة القيصرية، ولم يدركوا مهمة الطبقة العاملة، من حيث هي طليعة الحركة الثورية. ففي إطار النضال الذي خاضه بليخانوف ضد الشعبيين الروس، الذين كانوا يجهلون قوانين التطور الاقتصادي والسياسي للمجتمع، بالرغم من أن روسيا قد دخلت منذ زمن في طريق التطور الرأسمالي، وضعت فرقة "تحرير العمل" مشروعها السياسي الأول العام 1884، كخطوة أولى نحو إنشاء حزب اشتراكي ديموقراطي ماركسي في روسيا. وقال بليخانوف في حينه "إن البرجوازية في روسيا كانت وما تزال أضعف من أن تبادر إلى النضال ضد الحكم المطلق، مما يوجب على الطبقة العاملة أن تتبنى مطالب الثورة البرجوازية الديموقراطية. وقد استخدم بليخانوف في هذه النصوص مصطلح "السيطرة" الغامض للدلالة على السلطة السياسية بما هي سلطة سياسية، واستمر يفترض أن على البروليتاريا أن تدعم البرجوازية في ثورة تقودها الأخيرة بالضرورة في نهاية المطاف، وفي عام 1889 اهتز تأكيده بعض الشيء "الحرية السياسية"، يمكن الآن كسبها من قبل الطبقة العاملة فقط وإلا فلا"، مع الحفاظ في الوقت نفسه على موقف عدم تحدي السيطرة النهائية لرأس المال في روسيا"(6).
وفي العام 1899، بدأ الخط الاقتصادي "يتغلغل داخل الحركة الاشتراكية الديموقراطية الروسية الفتية، وأصدر بعض دعاته (بروكوبوفيتش وكوسكوفا وغيرهما) بياناً، أكد فيه على أن النضال السياسي هو من شؤون البرجوازية الحرة، وهو من شأنها قبل غيرها. ولهذا، فإن دعاة الماركسية الليبرالية يتكلمون عن تنظيم نضال العمال الاقتصادي ضد أصحاب العمل والحكومة، باعتباره المهمة الرئيسة المباشرة للاشتراكيين الديموقراطيين، لا النضال السياسي ضد الحكومة القيصرية، ولا القضاء عليها. وهكذا، أصبح "الاقتصاديون" يمثلون الماركسية الليبرالية داخل الحركة الاشتراكية الديموقراطية الروسية. وقد أعلن أكسلورد زميل بليخانوف في رسالة موجهة إلى ستروفه في العام 1901، أكد فيها الحقيقة التالية المتعلقة بالهيمنة "بفضل الموقع التاريخي للبروليتاريا، تستطيع الاشتراكية الديمقوقراطية الروسية أن تكون مهيمنة في النضال ضد الحكم المطلق". كما أن مارتوف تبني الفكرة عينها في إطار سجاله ضد الماركسية الليبرالية، حين قال: "إن الصراع بين الماركسيين "النقديين" والأصوليين "يشكل في الحقيقة الفصل الأول من الصراع في سبيل الهيمنة السياسية بين الديمقراطية البروليتارية والديموقراطية البرجوازية". وبين لينين في كتابه الشهير ما العمل؟ خطورة هذه الفلسفة الليبرالية داخل الحركة الاشتراكية الديمقراطية، التي يدعو إليها "الاقتصاديون"، لأن "صرف الطبقة العاملة عن النضال السياسي ضد القيصرية، وحصر مهماتها في النضال الاقتصادي ضد أصحاب العمل والحكومة، مع ترك أصحاب العمل والحكومة في أمان وسلام، معناها الحكم على الطبقة العاملة بالعبودية الأبدية... ولا يستطيع العمال توسيع النضال ضد الرأسمالية وفي سبيل الاشتراكية، ما دامت القيصرية، كلب الرأسمالية وحارسها قائمة في طريق حركة العمال. ولهذا، فالهدف المباشر الموضوع أمام الحزب والطبقة العاملة هو تكنيس القيصرية من الطريق وبذلك يشقان الطريق نحو الاشتراكية". وفي إطار هذا الصراع القاسي ضد "الاقتصاديين" الذين يحتقرون النظرية الماركسية، التي تشكل سلاح الطبقة العاملة، كان لينين يقول "لا حركة ثورية، بدون نظرية ثورية.. ولا يستطيع القيام بدور مناضل الطليعة إلا حزب ترشده نظرية الطليعة"(لينين ما العمل؟. المؤلفات المختارة المجلد الأول صفحة (192-193). ومرة أخرى حين أصبح "الاقتصاديون" يقدسون العفوية وينكرون ضرورة ادخال الوعي الاشتراكي إلى الطبقة العاملة، كان لينين يقول "إن كل تقديس لعفوية حركة العمال وكل انتقاص من دور "العنصر الواعي" إي دور الاشتراكية الديموقراطية، يعني سواء أرادوا أم لم يريدوا، فليس لذلك أقل أهمية- تقوية نفوذ العقلية البرجوازية على العمال (المرجع نفسه ص204). إنه من خلال هذا العرض يتبين لنا، أن لينين تبنى شعار "الهيمنة" الشهير، الذي يعود إلى بليخانوف، فضلاً عن دعوته إلى إصدار جريدة سياسية الأيسكرا لعموم روسيا، تجسد الأساس الفكري للحزب، وتقوم بحملة واسعة في سبيل تحقيق "هيمنة حقيقية" للطبقة العاملة في روسيا باعتبارها الطبقة القائدة لجميع الطبقات المظلومة، التي تناضل في سبيل اسقاط الحكم القيصري- وهكذا- شكل شعار "الهيمنة" للاشتراكية والديمقراطية، وبالتالي شعار هيمنة البروليتاريا في الثورة البرجوازية، القاسم المشترك لمعظم أقطاب الحركة الماركسية الثورية في روسيا من بليخانوف، وأكسلورد، وبوترسيف، ولينين، إلى حين الانشقاق الكبير، الذي حصل في المؤتمر الثاني لحزب العمال الاشتراكي الديموقراطي عام 1903، بين البلاشفة، والمناشفة. "وبعد الانشقاق كتب "بوتريسيف" مقالة مطوّله في الايسكرا يلوم فيها لنين على تفسيره المبسط "لفكرة الهيمنة هذا التفسير الملخص في الدعوة الشهيرة الواردة في "ما العمل"؟ والتي تدعو "الاشتراكيين- الديمقراطيين إلى التغلغل "في جميع طبقات السكان، وإلى تنظيم "فصائل مساعدة خاصة، لصالح الطبقة العاملة من تلك الطبقات". وقد شكا بوترسيف من أن جملة الطبقات الاجتماعية التي استمد منها لينين واسعة جداً، في حين أن نموذج العلاقة المقترحة بينها وبين البروليتاريا نموذج تسلطي وديكتاتوري جداً في الوقت نفسه، نموذج ينطوي على "تمثل" مستحيل لها أكثر من أن يكون تحالفاً معها.
إن الاستراتيجية الصحيحة للوصول إلى الدور المهيمن للطبقة العاملة يجب أن تتوجه وجهة خارجية، لا نحو تلك العناصر غير المحتملة من النبلاء المعارضين أو الطلاب، بل نحو الديمقراطيين الليبراليين، لا من خلال أفكار استقلاليتهم التنظيمية بل عبر احترامها"(7).
ومما ساعد على تفاقم الانقسام بين البلاشفة والمناشفة، إضافة إلى خلافاتهم القديمة حول مسائل التنظيم، اندلاع ثورة 1905- 1907 في روسيا، باعتبارها أضخم انتفاضة بعد كومونة باريس للطبقة العاملة وحلفائها الموضوعيين الفلاحين. وعلى الرغم من أن روسيا تمر حتماً في تلك الفترة بمرحلة الثورة الديمقراطية البرجوازية، إلا أن لينين استنتج في كتابه "خطتا الاشتراكية الديمقراطية" المبدأ التكتيكي الأساسي، وهي أن هذه الثورة لن تنتصر إلا إذا ترأستها البروليتاريا، وأمنت التحالف مع جماهير الفلاحين". وإذا تم عزل البرجوازية الحرة، حيث يجب على البروليتاريا أن تكون زعيمة هذه الثورة الديمقراطية البرجوازية في روسيا. ولهذا دعا لينين إلى تحقيق "ديكتاتورية العمال والفلاحين" في ثورة 1905، كنموذج انتقالي للسلطة، بينما كان خط المناشفة بمن فيهم بليخانوف، يعتبر أن هذه الثورة، هي ثورة برجوازية، ولهذا فالبرجوازية الحرة وحدها تستطيع أن تضطلع بقيادتها. فلا ينبغي على البروليتاريا أن تتقرب من جماهير الفلاحين، بل عليها أن تتقرب من البرجوازية الحرة، كي لا تخيف البرجوازية بالروح الثورية، ولا تعطيها أية حجة تتذرع بها للتحول عن الثورة، لأن الثورة تضعف إذا تحولت البرجوازية، وارتدت عنها.
هكذا كانت بإيجاز الخطتان، اللتان انتهجها كل من البلاشفة والمناشفة، إبان الثورة الروسية وبعد هزيمتها، ومنذاك انتقد لينين انتقاداً لاذعاً المناشفة لتخليهم عن فكرة "هيمنة البروليتاريا"، وبالتالي قبول قيادة الثورة للبرجوازية، على أن تبقى الاشتراكية الديمقراطية جانباً.
كتب لينين يقول "نظراً لأن المهمات البرجوازية الديمقراطية ما زالت معلقة فإن الأزمة الثورية ما زالت حتمية. إن مهمات البروليتاريا التي تترتب على مثل هذا الوضع هي مهمات محددة تماماً ولا مجال فيها للوقوع في أي خطأ. فيما أن الطبقة العاملة هي الطبقة الثورية الثابتة الوحيدة في المجتمع المعاصر، فإن عليها أن تتولى القيادة في نضال الشعب كله في سبيل ثورة ديمقراطية حقاً، في نضال جميع الكادحين والمستغلين ضد المستغلين والمستثمرين- ولا تكون البروليتاريا ثورية إلا بمقدار ما تعي فكرة هيمنة البروليتاريا هذه، وتضعها موضع التنفيذ". ويزداد الهجوم اللينيني حده، حين أنزل المناشفة إلى تقديم الاقتراحات بشأن اصلاح وتحسين القيصرية، باعتبار أن الدولة القيصرية بعد 1905، تحولت من دولة اقطاعية إلى دولة رأسمالية، وعوضاً عن هيمنة البروليتاريا، كانوا يقترحون زعامة البرجوازية الحرة، وعوضاً عن تحالف العمال مع جماهير الفلاحين كانوا يقترحون التحالف مع البرجوازية المتمثلة في حزب الكاديت، وعوضاً عن حكومة ثورية مؤقتة، كانوا ينادون بدوماً للدولة تكون مركزاً "للقوى الثورية" في روسيا.
كتب لينين في هذا الصدد رداً على هذه الطروحات قائلاً: إن تقديم المواعظ للعمال حول كونهم بحاجة إلى حزب طبقي لا إلى "هيمنة" يعني خيانة قضية البروليتاريا لصالح الليبرالية، يعني الوعظ وضرورة استبدال السياسية العمالية الاشتراكية الديمقراطية بسياسة عمالية ليبرالية. إن التنكر لفكرة الهيمنة هو الشكل الأكثر وقاحة للاصلاحية في الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية". ويضيف قائلاً: من وجهة نظر الماركسية لا تكون الطبقة التي ترفض فكرة الهيمنة أو تخفق في تبنيها طبقة، أو طبقة لم تستكمل مقوماتها كطبقة بعد، بل نقابه أو مجموعة نقابات مختلفة.. إن الوعي بفكرة الهيمنة وتطبيقها عبر نشاطاتها هما اللذان يحولان النقابات ككل إلى طبقة".
إن مفهوم الهيمنة شكل محوراً مركزياً واستراتيجياً في الصراع الايديولوجي والسياسي داخل الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية، بين جناحيها البلشفي والمنشفي، قبل اندلاع الثورة البلشفية في عام 1917، باعتباره كان يدخل في سياق بلورة نظرية تمرحل الثورة الديمقراطية البرجوازية إلى ثورة اشتراكية، غير أنه ما أن تحققت هذه الثورة الاشتراكية حتى تم التخلي عنه تماماً.
الهوامش :
(1)- مهدي عامل مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني- الطبعة الخامسة، 1986 (ص30).
(2)- حاضرة المستقبل- مجموعة مقالات لغرامشي.
(3)- هذه الاستشهادات لغرامشي مدونه في مقال للدكتوره أمينة رشيد/ بعنوان غرامشي من الهيمنة إلى الهيمنة الأخرى- منشورة في كتاب غرامشي وقضايا المجتمع المدني مركز البحوث العربية- ندوة القاهرة 1990 (ص197).
(4)-أنطونيو غرامشي- الأمير الحديث- ترجمة زاهي شرفان- قيس الشامي، دار الطليعة، الطبعة الأولى نيسان (ابريل) 1970، (ص153).
(5)- المصدر السابق (ص153).
(6)- برى أندرسون- النقائض في فكر غرامشي- فاضل جتكر- مجلة النهج العدد 19- العام
1997- (ص144).
(7)- المصدر السابق (ص145- 146).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق