مجموعة اليسر للتدريب والاستشارات تأمل من زوارها الكرام المشاركة في الاستطلاعات التي تجريها بفعالية نظرا لفائدتها العالية
مجموعة اليسر للتدريب والاستشارات هي شركة تضامن لبنانية مسجلة تحت الرقم 489 تتنشط في مجال الدورات التدريبية والمؤتمرات العلمية والتربوية والاجتماعية والادارية والثقافية والتنمية والارشاد الاسري والاجتماعي ، واصدار المنشورات المتخصصة ، وتقديم الاستشارات في المجالات المذكورة وتوقيع الاتفاقيات مع الجامعات والمؤسسات والشركات الوطنية والعالمية على انواعها والقيام بالاستطلاعات والابحاث العلمية والدراسات المتخصصة في لبنان والخارج - نتمنى لكم زيارة ممتعة

08‏/12‏/2010

البناء الاجتماعي

يرجع الفضل في انتشار مصطلح البناء الاجتماعي إلى المحاضرة التي ألقاها الأستاذ (راد كليف براون) عام 1940م بعنوان (في البناء الاجتماعي).
لا شك أن نظرية راد كليف بروان في البناء الاجتماعي صادرة أصلاً من نظرته إلى الأنثروبولوجيا الاجتماعية واعتبارها فرعاً من العلم الطبيعي يتبع مناهج ذلك العلم التي تقوم على الملاحظة والاستقراء بقصد الوصول إلى قوانين عامة وكلية.
والعلم الطبيعي في نظر راد كليف براون هو البحث المنهجي في بناء الكون كما تظهره لنا الحواس ويتفرع العلم إلى عدد من العلوم الهامة المنفصلة التي يعالج كل منها فئة معينة أو نوعاً معيناً من الأبنية بقصد اكتشاف الخصائص المميزة لكل الأبنية المندرجة تحت هذا النوع فالطبيعة الذرية مثلاً تعالج بناء الذرات، والكيمياء تدرس بناء الجزئيات والتشريح وعلم وظائف الأعضاء يدرسان أبنية الكائنات العضوية، ومن هنا كان يعتقد أن ثمة مكاناً لفرع آخر من العلم الطبيعي سوف يوجه همه إلى اكتشاف الخصائص العامة لتلك الأبنية الاجتماعية التي تتألف من الكائنات الإنسانية وهذا معناه أن الأنثروبولوجيا الاجتماعية يهتم في المحل الأول باعتباره علماً طبيعياً بدراسة الأبنية الاجتماعية وأن البناء الاجتماعي يتألف من كائنات إنسانية.
يرى راد كليف براون أن كلمة بناء تشير بالضرورة إلى وجود نوع من التنسيق أو الترتيب بين الأجزاء التي تدل في تكوين الكل الذي نسميه بناء. 
مفهوم البناء الاجتماعي عند راد كليف براون: 
أولاً: اعتبر كل العلاقات الاجتماعية التي تقوم بين شخص وآخر جزءاً من البناء الاجتماعي، فالبناء القرابي لأي مجتمع مثلاً يتكون من عدد من تلك العلاقات الثنائية كالعلاقة بين الأب والإبن.
ثانياً: أدخل تحت البناء الاجتماعي التمايز القائم بين الأفراد والطبقات بحسب أدوارهم الاجتماعية، فاختلاف المراكز الاجتماعية بين الرجل والمرأة أو غير ذلك لا يقل أهمية في تحديد العلاقات الاجتماعية في اختلاف العشيرة أو الدولة التي ينتمي إليها الفرد.
إن البناء الاجتماعي عند راد كليف براون هو: شبكة من العلاقات الاجتماعية الفعلية التي تقوم بين سائر الأشخاص في المجتمع.
إن البناء الواقعي هو: ذلك البناء الذي يصفه لنا الباحث الحقلي والذي يخضع للملاحظة المباشرة وليس بناءاً جامداً ثابتاً استاتيكياً كبناء البيت، وإنما هو بناء ديناميكي متغير تتجدد فيه الحياة الاجتماعية كما يتجدد البناء العضوي بالنسبة لحياة الكائن الحي.
ويقصد راد كليف براون بالبناء الواقعي مجموعة العلاقات التي تتغير بين الأشخاص والجماعات، فيدخل أعضاء جدد بطريق الميلاد أو الهجرة ويخرج آخرون بطريق الموت.
وإذا ما تصور راد كليف براون البناء الواقعي بهذه الصورة المتغيرة الديناميكية تظل الصورة البنائية العامة ثابتة نسبياً لفترة قد تطول وقد تقصر، لأن تلك (الصورة البنائية) قد يلحقها التغير أحياناً، إما بصورة تدريجية أو فجائية كما هو الحال في الثورات والغزو العسكري، ومع ذلك يظل البناء متماسكاً حتى في أعنف حالات التغير الثوري.
في الواقع لا يمكن فهم البناء الاجتماعي إلا بملاحظة العلاقات الاجتماعية تلك التي تتجلى في السلوك المتبادل بين الأشخاص وهنا يميز راد كليف براون بين الأشخاص والأفراد.
فالإنسان من حيث هو فرد: هو الكائن العضوي البيولوجي كمجموعة هائلة من جزئيات وتغيرات وعمليات فسيولوجية سيكولوجية.
أما الإنسان كشخص: هو عبارة عن مجموعة من العلاقات الاجتماعية، فهو مواطن وهو زوج وأب ويمارس مهنة معينة وهو عضو في جماعة معينة.
وبذلك يعتبر راد كليف براون الإنسان كشخص هو موضوع دراسة الأنثروبولوجي الاجتماعي، يدرسه في ضوء البناء الاجتماعي، فالشخص عند راد كليف براون هو اللبنة الأولى التي يتكون منها البناء الاجتماعي، ذلك الذي يستمر باستمرار التنظيم الاجتماعي الذي ينظم أدوار الأشخاص ويحدد علاقاتهم ببعضهم، وهذا هو السبب في استمرار الأمة والعشيرة والقبيلة.
أي أن استمرار البناء الاجتماعي رغم تغير وحداته يمثل تماماً استمرار البناء العضوي رغم تغير وتجدد خلاياه.
لقد اعتبر راد كليف براون الأشخاص لا الأفراد هم وحدات البناء الاجتماعي ولبناته، وأكد لنا ضرورة هذا التمييز بالنسبة للأنثروبولوجي الاجتماعي.
إن الأنساق الاجتماعية هي: الأجهزة التي تتفاعل فيما بينها داخل هذا البناء، والتي يقوم كل منها بوظائفه الاجتماعية التي بفضلها يضمن البناء حياته واستمراره، فالبناء الاجتماعي في الواقع إنما هو مجموعة من الأنساق الاجتماعية، حيث نجد مجموعة من الأجهزة والأنساق كالجهاز الاقتصادي والجهاز السياسي وكالنسق الديني والقرابي.
إن النسق الاجتماعي يتألف من مجموعة النظم التي تتعلق به فالنظام العائلي مثلاً يحدد المعايير الخاصة بعلاقة الآباء بالأبناء.
فالنسق بهذا المعنى هو: عبارة عن عدد معين من النظم التي تتشابك فيما بينها وتتعامد في شكل رتيب منتظم، ويعبر النظام في الواقع عن قاعدة أو قواعد منظمة للسلوك تفرضها الزمرة الاجتماعية ويتفق عليها الأشخاص باعتبارهم وحدات البناء الاجتماعي ولبناته.
إن علاقة النظم الاجتماعية بالبناء الاجتماعي بهذا المعنى الذي يقصده راد كليف براون هي علاقة ثنائية ذات شقين: تتعلق إحداها بأفراد الزمرة الاجتماعية التي تخضع لمعايير النظام الاجتماعي، وتتعلق الثانية بعلاقة هذا النظام بسائر النظم التي تتعلق بالنسق الاجتماعي وبعلاقتها أيضاً بالبناء الاجتماعي التي هي جزء منه.
البناء الاجتماعي عند إيفانز برتشارد:
ظهر مفهوم البناء عنده في دراسته عن (النوير) حيث يهتم بالمناشط الاجتماعية من زاوية البناء السياسي.
يقول إيفانز برتشارد أنه يعني بالبناء الاجتماعي تلك العلاقات التي تربط بين الجماعات والتي تتميز بدرجة عالية من الثبات والتركيب بمعنى أن الجماعات تدوم وتستمر في الوجود بغض النظر عن ما تحتويه من أفراد، ويدخل فيها أفراد عندما يولدون ويخرج منها أفراد عندما يموتون، أي أن الأفراد يتغيرون أما البناء فيبقى ويدوم.
بهذا التعريف لا يعتبر إيفانز برتشارد الأسرة جماعة بنائية فليس هناك بين الأسر علاقات ثابتة ودائمة كما هو الحال بالنسبة للجماعات، فإن الأسر تختفي وتزول بموت أفرادها وتظهر أسر جديدة إلى الوجود أما الأسر القديمة فتختفي إلى الأبد ولا يقصد إيفانز برتشارد بذلك أن الأسر أقل أهمية من الجماعات البنائية، فإن للأسرة أهميتها في حفظ البناء ودوامه، كما أنها هي المصدر الأول للأفراد الذين يؤسسون النسق البنائي ويجددونه، فيتجدد بذلك الأساس الذي يقوم عليه النسق البنائي.
الفروق الأساسية بين مفهوم البناء الاجتماعي عند كل من (راد كليف براون) و (إيفانز برتشارد):
إيفانز: لا يعتبر الأسرة جماعية بنائية، لاعتبارها جماعة زائلة تموت بموت أفرادها أي أنه يقصد بالجماعة البنائية الجماعة التي تتميز بدرجة عالية من الثبات والتركيب والتي تتألف من مجموعة من الأشخاص يعتبرون أنفسهم وحدة قائمة بذاتها وترتبط بسائر الوحدات الأخرى في علاقات بنائية.
براون: يتخذ من الأسرة الوحدة الأولية للبناء الاجتماعي بل إنه يرى أن أية علاقة ثنائية بين شخصين كعلاقة الأب بالإبن تعتبر جزءاً من عدد كبير من الأجزاء أو العلاقات التي يتألف منها النسق القرابي هذا النسق يعتبر هو الآخر حجر الزاوية في البناء الاجتماعي.
أي أن أية علاقة جزئية في رأي براون إنما هي علاقة منتزعة من سياق عام أو من نسق اجتماعي من نوع معين، ولا يمكن تفسيرها إلا بالرجوع إلى الكل الذي هي جزء فيه وبردها إلى البناء الاجتماعي وفهمها في ضوء النسق الاجتماعي أو النظام أو القانون الذي تعتبر هذه الحالة إحدى حالاته الجزئية.
الأمر الآخر هو:
أن براون باعتباره أحد رواد الأنثروبولجيا الوظيفية يأخذ المسلمة القائلة بأن الأنساق الاجتماعية هي أنساق طبيعية ويمكن معالجتها بتطبيق مناهج العلوم الطبيعية باعتبارها فرعاً من الطبيعيات.
إيفانز برتشارد، يعتبر الأنساق الاجتماعية أنساقاً خلقية ويمكن معالجتها بتطبيق مناهج العلوم الإنسانية باعتبارها فرعاً من الإنسانيات.
ويقول إيفانز برتشارد لتوضيح هذا الرأي: "وفي رأيي أن الأنثروبولوجيا الاجتماعية تنظر إلى المجتمعات على أنها أنساق خلقية أو رمزية وليست أنساق طبيعية وأنها لا تهتم بالعملية مثلما تهتم بالشكل التخطيطي العام وأن غايتها بالتالي هي الكشف عن الأنماط والنماذج وليس الوصول إلى القوانين".
وعلى هذا الأساس، يمكن أن نقول أن البناء الاجتماعي كما يتصوره إيفانز برتشارد كبناء خلقي يقصد به نسق العلاقات المجردة والقيم السائدة التي تربط سائر الجماعات البنائية ببعضها أي أن التركيب البنائي عنده عبارة عن تركيب بين مجردات.
مفهوم البناء الاجتماعي عند رايموند فيرث:
حيث يهتم إيفانز برتشارد بالمناشط الاجتماعية، من زاوية البناء السياسي في المجتمع النويري نجد أن رايموند فيرث يهتم بالمناشط الاجتماعية ولكن من زاوية البناء الاقتصادي في (تيكوبيا) ولعل السبب الأساسي في هذا التاشبه أنهما درسا الأنثروبولوجيا على يد مالينوفسكي باعتباره رائداً وأستاذاً للكثيرين من الأنثروبولوجيين المعاصرين.
والبناء الاجتماعي عند رايموند فيرث يتضمن مختلف أنواع الجماعات والنظم التي تربط بين أفراد المجتمع، ويقوم البناء الاجتماعي عنده على: التخصص المهني باعتباره من المبادئ الأساسية في كل المجتمعات، أما المبدأ الثاني فهو يتعلق بالاختلاف الطبقي أو المرتبة، فالامتياز في المرتبة قد يبدأ في الأسرة نفسها كما يحدث بين الأخ الأكبر والأخ الأصغر وحقوق أحدهما على الآخر، والمرتبة عن طريق الوراثة نشاهدها أيضاً في معظم النظم التي تتعلق بالرئاسة أما المرتبة التي يحصل عليها الفرد عن طريق الثروة فأمر نادر في المجتمع التقليدي.
وبذلك نستطيع أن نحدد الخاصية الثانية للبناء الاجتماعي عند رايموند فيرث، ذلك المفهوم الذي يغلب عليه الطابع الاقتصادي الخالص، الذي يهتم بدارسة المهن والطبقات والمراتب فطبيعة المهنة هي التي تحدد الطبقة الاجتماعية وهي التي تعكس المركز الاجتماعي.
إن ريفرز ذكر -في كتابه (التنظيم الاجتماعي) في فصل خاص عن الطوائف- أن هناك مسافات هندسية معينة تقف عندها سائر جماعات الأفراد طبقاً لاختلافات المسافات الطبقية والاجماعية في البناء الاجتماعي.
ويقصد ريفرز بالبناء الاجتماعي وصف مختلف الأشكال البنائية وتحليل كل منها إلى عناصره الجزئية ودراسة العلاقات بين تلك العناصر وبحث الوظائف الاجتماعية لتلك العناصر ولعل راد كليف براون قد تأثر بأستاذه الأول ريفرز فيما يتعلق بمعالم البناء الاجتماعي عنده.
وإذا كان التخصص المهني والاختلاف الطبقي عند رايموند فيرث من الخصائص الأساسية للبناء الاجتماعي، باعتبارها ظواهر تعبر عن شروط اقتصادية فهناك بعض الشروط الاجتماعية التي يجب أن تتحقق في البناء الاجتماعي فإن ما يقصده رايموند فيرث باصطلاح البناء الاجتماعي أنه: مجموعة من العلاقات المنظمة تلك التي تربط الأجزاء بالكل الذي فيه تعمل، والعلاقات المنظمة في رأيه هي تلك العلاقات التي لها نصيب من الاستمرار والثبات، وعلى ذلك فإن العلاقات المؤقتة لا يدخلها رايموند فيرث في حسابه في دراسته للبناء الاجتماعي، ولعله في ذلك يشبه ما يقوله إيفانز برتشارد عن البناءات والعلاقات البنائية التي تتمتع بدرجة عالية من الثبات والاستمرار.
ويمكننا أن نلم بأطراف المبادئ العامة التي تحدد معالم البناء الاجتماعي عند رايموند فيرث، فهو يعتبر البناء: مجموعة من العلاقات المنتظمة لا المؤقتة المتغيرة، كما أنه يركز الاهتمام على علاقة النظم ببعضها كالدين والنظام الاقتصادي والسياسي على اعتبار أنها تمثل الأجزاء التي تتفاعل في الكل، كما أنه يؤكد على ذلك النوع من العلاقات التي تقوم بين الأجزاء بشرط أن يكون لها درجة عالية من الديمومة والثبات وهو في هذا الموقف يشبه إلى حد كبير موقف إيفانز برتشارد في فهمه لطبيعة البناء الاجتماعي.
كما أن رايموند فيرث يجمع معالم البناء الاجتماعي كلها في تلك العلاقات الثابتة التي تدور حول الجنس والقرابة والموطن والعمر وما يقوم بينها من اختلافات في المراتب والطبقات تبعاً لنوع التخصص المهني.
ويرى أن القيم الاجتماعية والعلاقات المثالية إنما تؤلف أيضاً جزءاً أساسياً من البناء الاجتماعي، لأن ما يسمح للأفراد أن يؤكدوا أدوارهم في الحياة الاجتماعية إنما يقوم على التوقعات المنتظرة والمعتقدات المثالية عن ما يجب أن يفعله الفرد في علاقته مع الآخرين.


وخلاصة القول: إن دراسة البناء الاجتماعي كانت من وجهة النظر التحليلية دراسة متعددة الجوانب، فإذا كان راد كليف براون يؤكد على دراسة الجوانب الشخصية ويركز على العلاقات الثنائية بين الأشخاص، نجد أن إيفانز بريتشارد لا يرى في البناء الاجتماعي إلا الجانب الثابت بدراسة الزمر الاجتماعية التي تتميز بدرجة عالية من الديمومة والتركيب، بينما يقتصر رايموند فيرث على دراسة العلاقات المثالية ويركز على أهمية التوقعات السلوكية في الحياة الاجتماعية.
والاتجاه الغالب الآن فيما يتعلق بدراسة البناء الاجتماعي إنما هو تقسيم المجتمع إلى عدد من البناءات أو الأنساق الثانوية الداخلة في تكوينه وبذلك يمكن أن نتكلم عن النسق القرابي، أو النسق الاقتصادي أو النسق الديني أو النسق السياسي في هذا البناء الكلي.
ومهما يكن من شيء فإن مفهوم البناء الاجتماعي يتضمن وجود مبدأين أساسيين ومتكاملين:
الأول: هو مبدأ الاستمرار في الزمن ويصدق ذلك على الجماعات أو على العلاقات الاجتماعية التي تؤلف البناء الاجتماعي، فالجماعات الكبيرة التي تحتفظ لعدة أجيال بكيانها وبهيكلها العام ونظام تقسيماتها الداخلية ونمط علاقتها بعضها البعض تعتبر وحدات بنائية في نظر كل علماء الاجتماع والانثروبولوجيا بغير استثناء وذلك بعكس الزمر الاجتماعية المؤقتة أو السريعة الزوال التي اتفق معظم العلماء على إخراجها من البناء الاجتماعي وبالمثل تعتبر العلاقات الدائمة التي تقوم بين هذه الجماعات علاقات بنائية وتعبر عن مواقف بنائية بعكس العلاقات التي تقوم بين الأفراد والتي يمكن وصفها بأنها علاقات اجتماعية فحسب، ومع أن راد كليف براون يعتبر العلاقات الثنائية جزءاً في البناء الاجتماعي فالذي لا شك فيه هو أنه لم يكن يقصد بذلك العلاقات العرضية، وإنما كان يقصد على الخصوص العلاقات التي تقوم بين الأب والإبن وهي علاقة تمثل في حقيقة الأمر أنماطاً أساسية لا يمكن إغفالها في دراسة البناء الاجتماعي فالعلاقة الأولى تمثل نمط العلاقة بين الجنسين والعلاقة الثانية تمثل نمط العلاقة بين الجيلين المتتاليين وهكذا ودراسة العلاقات الثنائية التي تندرج تحت إصطلاح البناء الواقعي عنده هي الأساس الذي تقوم عليه دراسة الأنماط السلوكية العامة المجردة التي يسميها الصورة وعلى أساس هذا الفهم يمكننا أن نرى أن راد كليف براون يتفق في الأساسيات مع غيره من العلماء في نظرتهم إلى البناء الاجتماعي.
والمبدأ الثاني: هو أن العلاقات الثابتة المستمرة التي تقوم بالضرورة بين الجماعات المتماسكة التي ينقسم إليها المجتمع تتخذ شكل أنساق ونظم تلعب دوراً هاماً في الحياة الاجتماعية، أو بقول آخر تؤدي وظيفة اجتماعية معينة كما هو الشأن في علاقات القرابة والعلاقات الاقتصادية وهذا معناه أن الدراسات البنائية لا يمكن أن تقف عند حد الاهتمام بالظواهر الاجتماعية من حيث هي كذلك، وإنما لا بد لها من أن تدرس النظم والأنساق التي تتألف بدورها من ظواهر وعلاقات مشخصة ملموسة.
الدور الحديث لعلم الإنسان:
إن علاقة الأنثروبولوجيا بالعالم المعاصر ذات طبيعة متنوعة فهي تظم تأثير الأنثروبولوجيا في الطريقة التي نظر بها الإنسان إلى نفسه وزملائه وكذلك العالم الطبيعي والاجتماعي الذي يعيش فيه، ويرتبط بذلك الطرق التي بمقتضاها يفسر الأنثروبولوجيين ثقافتهم والثقافات الأخرى استناداً إلى خبراتهم والنتائج التي يصل إليها علمهم، وهناك مجموعة أخرى من المشكلات تظم الوسائل التي من خلالها يوجه الأنثروبولوجيين بحوثهم نحو حل المشكلات المعاصرة أو تلك التي تفرض نفسها في البرامج التطبيقية وتتطلب حلاً، وهناك أيضاً مجموعة أخرى من العلاقات تتعلق بالمكانة الحالية والمقبلة للأنثروبولوجيا، وهي علاقات قد تؤثر في الإسهامات الممكنة التي يقوم بها هذا العلم من أجل تحقيق الرفاهية الإنسانية.
وربما كان أعظم التأثيرات التي أحدثتها الأنثروبولوجيا هو إسهامها في تغيير النظرة إلى طبيعة الإنسان ذاته ففي الفكر الغربي سادت نظرة مؤداها أن الإنسان هو مركز الكون وأن هذا الكون قد خلق لإشباع لذاته ولكي يستغله، على أن وجهة النظر المقابلة معها في انسجام قد ازدادت تأثيراً وأصبحت تشكل جزءاً من الأساس الفلسفي المجرد الذي ينهض عليه الاهتمام الحديث بالإيكولوجيا، أما التأثير الهام الذي طرأ على هذه النظرات المتغيرة فيتمثل في مفهوم أنثروبولوجي هو: الثقافة، وهو مفهوم يلقى الآن قبولاً عاماً بوصفه مجالاً لاتفاق معظم العلماء الاجتماعيين فضلاً عن أن هذا المفهوم قد أصبح مألوفاً بالنسبة للعلماء الاجتماعيين الآخرين وباستخدام الأنثروبولوجيا لمفهوم الثقافة فإنها تضع أمام الإنسان مرآة تمنحه صورة أوضح لنفسه ولأقرانه، وتسهم الأنثروبولوجيا في فهم نشأة المجتمع وطبيعة وظائفه ومنظماته، كما توضح دوافعنا وسلوكنا، فضلاً عن دوافع الاخرين وسلوكهم ويزداد تأثير الأنثروبولوجيا وضوحاً في ميادين الفلسفة والأدب والسياسة.
إن أحد الأسباب المسئولة عن إخفاق الأنثروبولوجيا الجزئي في التأثير في تفكير كثير من الناس فضلاً عن عدم الاستعانة بها في حل المشكلات الحالية، هو حداثة استخدام المناهج العلمية في دراسة الظواهر الاجتماعية والثقافية، ففي كثير من بلاد العالم نجد أن إمكانات تطبيق هذه المناهج غير معروفة أو قد تلقى رفضاً بل إن بعض العلماء الطبيعيين وعلى الأخص أولئك الذين يخلطون بين الأساليب المعملية والأساليب التجريبية من ناحية، والمنهج العلمي من ناحية أخرى يميلون إلى الشك في استخدام المناهج العلمية في دراسة الظواهر الاجتماعية والثقافية، والواقع أن تطور العلوم الاجتماعية لم يصبح أمراً ممكناً إلا حينما تقرر أن المنهج العلمي ليس مقصوراً على التجربة المعملية، أو أي نوع محدد آخر من الملاحظة.
وللأنثروبولوجيا دور هام في تطوير ودعم احترام القيم الثقافية التي يتبناها الآخرون، فضلاً عن مساعدتهم في التكيف مع العلم الصناعي الحديث، وبما يتفق مع مفهوماتهم لا مفهومات الاخرين.
إن الأنثروبولوجيا في العالم الحديث تؤدي وظيفة هامة هي مساعدتنا على فهم أنفسنا وثقافتنا.
ومن الطبيعي أن لا تكون الأنثروبولوجيا هي العلم الاجتماعي الوحيد الذي يتناول السلوك، كما أنها ليست ذلك العلم الذي يقدم حلولاً لكل المشكلات الاجتماعية.
إنها تقدم من خلال تصورها الأساسي للثقافة والمقارنات الواسعة النطاق التي تعقدها بين ثقافات متنوعة إطاراً متكاملاً يساعد كل العلوم الاجتماعية في تحليل وفهم حضارتنا البالغة التعقيد، وقد تسهم الأنثروبولوجيا إسهاماً كبيراً في إنجاز الهدف النهائي، وهو تحقيق نفس السيطرة على الظواهر الاجتماعية والثقافية، تلك السيطرة التي نملكها في مجال العلوم الطبيعية كما أن الأنثروبولوجيا قد تسهم وهذا هو الأهم في مشكلة استخدام تلك السيطرة العلمية لصالح الجنس البشري بأسره.
abuiyad

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق