مجموعة اليسر للتدريب والاستشارات تأمل من زوارها الكرام المشاركة في الاستطلاعات التي تجريها بفعالية نظرا لفائدتها العالية
مجموعة اليسر للتدريب والاستشارات هي شركة تضامن لبنانية مسجلة تحت الرقم 489 تتنشط في مجال الدورات التدريبية والمؤتمرات العلمية والتربوية والاجتماعية والادارية والثقافية والتنمية والارشاد الاسري والاجتماعي ، واصدار المنشورات المتخصصة ، وتقديم الاستشارات في المجالات المذكورة وتوقيع الاتفاقيات مع الجامعات والمؤسسات والشركات الوطنية والعالمية على انواعها والقيام بالاستطلاعات والابحاث العلمية والدراسات المتخصصة في لبنان والخارج - نتمنى لكم زيارة ممتعة

09‏/12‏/2010

الماركسية وثنائية الخصوصية والكونية



فؤاد خليل
السفير- 19\11\2009

طغت على الكتابة العربية في العلاقة مع الغرب الحديث والمعاصر ثنائية الخصوصية والكونية التي انحكمت عند من أخذ بها إلى التعارض، لا بل في أحيان كثيرة إلى التناقض بين طرفيها. وقد تأتى عن ذلك، أن كل طرف رؤي من منظور الطرف الآخر، بأنه يمثل جوهرا مستقلا أو ماهية قائمة بذاتها؛ ما جعل العلاقة بين الطرفين تنتظم على قواعد برانية وشكلانية بمعنى أنها تنتظم وفق آليات التصنيف الانتقائي والنمذجة الاختزالية والأدلجة الشاملة.

وهكذا، فمن أخذ بالخصوصية، حدد الخاص بالحضارة العربية ـ الإسلامية، والعام بالحضارة الغربية. ثم رأى أن كل حضارة، أنتجت في سياقات تاريخية ومجتمعية مختلفة. فاتصفت بسمات أو خصائص أو روح متفردة لا يمكن أن تشكل روحا عامة أو كونية تنتظم في ضوئها العلاقات بين حضارات العالم.


ومن هذا المنطلق، وجد أن الحضارة الغربية هي حضارة مادية ليس إلا، فاختزلها إلى تقنيات وتكنولوجيا علمية، ورأى أن إنسانها قد ضل الطريق عن القيم الإنسانية والروحية السامية. لذا كان بديهيا بالنسبة إليه أن يدعو إلى الأخذ بالجوانب المادية من تلك الحضارة، وأن يرفض جوانبها الأخرى وبخاصة النظرية والفكرية التي توصلت إليها العلوم الإنسانية والاجتماعية. ذلك أن مثل هذه الجوانب أو أن النظريات الفلسفية والاجتماعية الغربية تعبّر عن تجربة تاريخية محددة بشروطها وظروفها المعلومة. وهي حسب منطقة لا تلائم التجربة التاريخية التي أنتجتها شروط وظروف الواقع العربي والإسلامي.


ومن أخذ بالكونية، انطلق كما الأول من التحديد نفسه للخاص والعام. لكنه رأى أن الحضارة الغربية التي انبنت في حقل تاريخي موصوف، تحولت إلى حضارة كونية وامتلكت أسباب النجاح والقوة لفرض هيمنتها على الحضارات العالمية كلها. أنها بمعنى ما الروح العامة التي تنتظم في ضوئها العلاقات بين بني البشر على كوكب الأرض.


على هذا اعتبر أن الحضارة الغربية تؤلف كلية تاريخية شاملة، لا يجوز فصلها انتقائيا إلى جوانب مادية وأخرى قيمية أو روحية. لذلك كان منطقيا في نظره أن يدعو إلى الاقتداء بتلك الحضارة والنهل من مناهجها ونظرياتها الفلسفية والفكرية، والأخذ بأشكال التنظيم العقلاني لمجتمعاتنا إذا ما أراد العالمان العربي والإسلامي أن يخرجا من تخلفهما وفواتهما التاريخي وأن يخوضا تجربة ناجحة في الحداثة والعصرنة.


يرجع الأصل في صيغة الكتابة أعلاه إلى رؤية فلسفية تسود في الغرب والشرق على السواء، وهي تحيل إلى إنسان يملك طبيعة ثابتة تتعالى على التاريخ وتحكم مجراه. فالغربي في متن تلك الرؤية ينطبع بالعقلانية والمنهجية العلمية في التفكير. وقد أنتج حضارة تتساوق مع خصائص طبيعته هذه. أما غير الغربي، كما هي حال الشرقي، العربي والإسلامي، فهو في منطواها ينطبع بعقلية الاستيعاب والوسطية والأصالة الروحية. وقد حصّل حضارة تلائم خصائصه العقلية وتؤكدها في مناحي حياته الفكرية عامة.


هذه الرؤية حكمت في جانب منها النظام المعرفي الفلسفي في الغرب قبل ماركس؛ وبخاصة في روحيته الهيغلية الطاغية التي جسّدتها مقولتنا: أن العقل المطلق تحقق في جرمانيا، وأن أوروبا هي نهاية التاريخ. كما شكلت المرجعية الإيديولوجية لطروحات مؤسسة الاستشراق من مثل: أن العقل الغربي هو عقل بنائي، بينما العقل الشرقي هو عقل غيبي؛ أو أن العقلية الغربية هي عقلية متفوقة في حين أن العقلية الشرقية هي عقلية دونية، أو ما شاكل من طروحات جوهرانية تجعل من الغرب ذات التاريخ ومحوره، ومن العوالم غير الغربية أعراضا طرفية تتنكب وظيفة رئيسة، هي خدمة تلك الذات والخضوع أو التبعية لسلطانها الحضاري.


أما في جانبها الآخر، فقد حكمت النظام المعرفي في الفكر العربي بعد أن جُبّت عقلانية ابن رشد وتاريخية ابن خلدون، وبخاصة في روحيته التوفيقية التي حملتها طروحات الأغلب الأعم من أعلام عصر النهضة العربية كالأخذ بمقولات: أن الشريعة لا تتعارض مع العلم، وأن الإسلام يتوافق مع المدنية والحداثة، وهو فضلا عن ذلك دين العقل والدعوة إلى التعقل. كما كوّنت الأبعاد الإيديولوجية لنزعات استغرابية نحو: أن الحضارة العربية الإسلامية هي حضارة العقل والروح، في حين أن الحضارة الغربية هي حضارة العلم والمادة أو العقل العاري من الإيمان الروحي، أو ما شابه من نزعات ماهوية تجعل حضارة الشرق وتاليا الحضارة العربية ـ الإسلامية متفوقة في قيمها الروحية على حضارة الغرب المادية.


لقد أفضت ثنائية الخصوصية والكونية كما قوربت آنفا إلى أدلجة كثيفة لمفاهيم الإنسان والحضارة والعقل والروح. فعلّقت تاريخية هذه المفاهيم وأفقرت المعرفة بها وبالواقع المدروس. فمن غلّب الخصوصية على الكونية، أهدر الكونية ولم ينتج معرفة حقة بالخصوصية. ومن غلّب الكونية على الخصوصية، أهدر الخصوصية ولم ينفذ إلى حقيقة الكونية.


وعليه، أن المقاربة الفعلية للثنائية المطروحة، لا تستقيم في نظرنا على صعيد فلسفي ماهوي؛ بل على صعيد تاريخي يرى إليها بوصفها وليدة تجربة مجتمعية محددة. والأصل في نظر كهذا لا بد له من أن يتناول الثنائية كبناء معرفي دينامي ومتكامل في آن.


في كل تجربة بشرية وجهان للمعرفة. وجه أول يرتبط بالشروط المجتمعية الملموسة للتجربة؛ وهو ما يعبر عنه بالمحلي والخاص. ووجه ثان تجاوز الشروط الملموسة للتجربة، وهو ما يعبر عنه بالعام أو الكوني. بتعبير آخر، أن كل تجربة بشرية أيا يكن مجالها تنتج وجهين متلازمين للمعرفة وفي الوقت عينه متمايزين. وهذا يعني، أن كل نظر في بنائهما يفترض وعي التمييز بينهما، مثلما يقتضي استحالة التمييز بينهما. فوعي التمييز يحيل إلى أن الخاص لا ينوجد إلا بوجود العام؛ وأن العام لا ينوجد إلا بوجود الخاص. واستحالة التمييز تحيل إلى وحدة المعرفة في وجهيها...


من هنا يتضح أن انتقال المعرفة سواء في داخل المجتمع أو بين المجتمعات لا يتم من خلال وجه واحد منها، بل من خلال وحدتها. كذا، لا يعود منطقيا القول: أن ثمة وجها يمكن أن ينتقل من الحضارة الغربية إلى الحضارة العربية الإسلامية، وآخر لا يمكن أن ينتقل لأنه يعبر عن روحية حضارية متفارقة عن روحية الحضارية التي يجري الانتقال إليها..


إن ما ينتقل إلى العالم العربي والإسلامي من العالم الغربي، ليس جوانب حضارة الأخير المادية وحسب، بل وحدة معرفته العامة، أي ما يرتبط بشروط تجربته التاريخية وما يتعدى شروط وظروف تلك التجربة في آن. أما عملية الانتقال فتنحكم إلى موازين القوى بين العالمين وموقع حضارة كل منهما في تلك الموازين.


ولطالما كان العالم الغربي قد شغل منذ قرنين وما زال يشغل موقع السيطرة العالمية؛ فإن السؤال عما إذا كانت المناهج والنظريات الفلسفية والاجتماعية الغربية تصلح في مقاربة أوضاع بلادنا أم لا تصلح؛ يصبح سؤالا تلفيقيا ومزيفا. ذلك أن السؤال الحقيقي هو: كيف نعيد إنتاج المعرفة بتلك النظريات أو المفاهيم من داخل شروط تجربتنا التاريخية. فإعادة إنتاج المعرفة تتيح تجاوز الوعي الدوغمائي بثنائية الخصوصية والكونية إلى الوعي بوحدتها الجدلية. كما تسمح بتجاوز الفهم الماهوي للحضارة والعقل والإنسان إلى فهم تاريخي يرى هذه المفاهيم بوصفها نتاجات تاريخية؛ والى المعرفة بأنها دينامية ونسبية تُنتَجُ وتُبنى ويُعاد إنتاجها وبناؤها باستمرار، بمعنى أنها ليست مطلقة أو متعالية على التاريخ والمجتمع.


هذا الفهم التاريخي تجلى في الفلسفة الماركسية بصورة أكثر جلاء من الفلسفات والنظريات الحديثة والمعاصرة. فإذا كانت منظومة التفكير الهيغلي تتأسس على مقولة ماهوية هي الذات العارفة، فإن منظومة التفكير الماركسي تنبني على مقولة تاريخية هي الذات المنتجة.


في فلسفة هيغل تتبدى الذات العارفة في تحقيق أو نضج العقل المطلق في أوروبا. وهو العقل الذي اختتم به التاريخ. وهذا ما جعل من الغرب »عقل« العالم أو أناه المحورية. وعندما يرسم الغرب عن نفسه صورة كهذه، يغدو من المسلّم به أن يتصف الغربي بعقل بنائي وبعقلية متفوقة على سواه من بني البشر، وبعقلانية في النظر إلى شؤون الكون والإنسان والمجتمع. وفي المقابل، أن يتصف غير الغربي بعقل سردي تكراري وبعقلية ميتافيزيقية وانطباعية في علاقتها بالعالم. جراء ذلك، حق للغربي المتفوق عقليا، أن يجد في المساواة بينه وبين الشرقي أو أي إنسان آخر، شأنا لا تقره طبيعة الأشياء، وأن يعتقد بأن الطبيعي في نظره، هو أن يمارس استعلاءه وسيطرته على غير الغربي، وأن على الأخير أن يتقبل ويذعن »لمشيئة الطبيعة«.


وفي فلسفة ماركس تتبدى الذات المنتجة في الحياة المادية للإنسان، أو بتعبير أدق، في شروط إنتاج هذه الحياة. والحياة المادية هي كما العقل أصل مشترك عند بني البشر. لكن العقل في نظر هيغل ومؤسسة الاستشراق يتصف بماهية ثابتة هي مختلفة عند الغربي عما هي عليه عند سواه. ما يعني أن العقل هنا، لا يؤلف أصلا مشتركا في التكافؤ والمساواة بين الخلق؛ لا بل على النقيض، فهو يؤلف ما يدل على التفوق والاستعلاء عند بعضهم، مثلما يعبّر عن القصور والبلادة لدى بعضهم الآخر.


أما الأصل في مشترك الحياة المادية، فهو عند ماركس أصل واقعي ملموس يعيشه بنو البشر في كل مكان. وعندما يختلف مشترك هنا عن مشترك هناك، لا يرجع الاختلاف بينهما إلى طبيعة ماهوية لهما، لأنهما لا يتصفان بمثل هذه الطبيعة، بل يرجع اختلافهما إلى الشروط التاريخية والمجتمعية لعملية إنتاج كل منهما، وهي شروط متبدلة ومتغيرة، تتيح لهذه العملية أن تبلغ مستوى من التطور، يختلف من مجتمع إلى آخر ومن مرحلة إلى أخرى؛ أي أنها تُدخل المجتمعات في مسار من التفاعل الدينامي الذي لا يحجزه أي طرح عن عقلية متفوقة واستعلائية أو غيبية ودونية. إذ ذاك يظهر أن الحياة المادية للإنسان أو الذات المنتجة، تؤلف أصلا مشتركا في التكافؤ والمساواة بين البشر بغض النظر عن عرقهم ولونهم ومكان إقامتهم. وفي الوقت عينه ينكشف العمق الإنساني في الفلسفة الماركسية التي طالما اختزلت في معظم المقاربات العربية إلى اقتصأدوية بائسة أو إلى طبقوية صلبة أو سياسوية فظة. ولعل هذا العمق ما أثر في المسيرة الفكرية لكارل ماركس الذي ابتدأها بدرس الاغتراب فلسفيا بهدف تحرير الفرد من اغترابه الفكري، وانتهى إلى درس الاقتصاد السياسي بغية تحريره من اغترابه أو تشيئه بلغة جورج لوكاتش، الناتج من استغلاله الاقتصادي والطبقي.. قد تكون مقولة إنتاج الحياة المادية جعلت ماركس ينزلق إلى تطورية أحادية قادته إلى مآل حتمي تحدد لديه في تنظيم مجتمعي موصوف بحيث اقترب من يوتوبيا توماس مور وابتعد عن الملموس التاريخي الماركسي نفسه. وربما يجد الانزلاق تفسيره من خلال تأثر صاحبه بالبيئة الفكرية في التاسع عشر التي طغت عليها التطورية. لكن بالرغم من ذلك لم يصل ماركس في انزلاقه إلى حد اعتبار الغرب ذاتا للتاريخ أو أناه المحورية؛ بل بقيت فلسفته تتركز على علم الوجود المجتمعي وهو العلم الذي قطع مع العقل الماهوي وأحل مكانه العقل التاريخي، أي العقل الذي ينبني ويعاد بناؤه في رحاب الصيرورة التاريخية.


إن فكرا يعدل في نظرته إلى بني البشر ويتصف بجدلية واقعية؛ تملك أدواته المعرفية قابلية استثنائية على التبيئة خارج حقله التاريخي. فإذا ما أحسن من يأخذ بتلك الأدوات، إعادة إنتاجها معرفيا من داخل شروط التجربة المجتمعية في بلادنا؛ أمكنه أن يتجاوز النظام المعرفي في الفكر العربي، أي أن يتجاوز روحية التوفيق القائمة على التصنيف الإيديولوجي أو الماهوي لمفاهيم الحضارة والعقل والإنسان، إلى روحية جدلية ترى إلى هذه المفاهيم كبناءات تاريخية ومجتمعية ومن ثم أن يتعامل مع ثنائية الكونية والخصوصية ليس من منظور ضدي، بل من منظور تكاملي ينطلق من وحدة المعرفة في وجهيها، ويعتبر أن إنتاج كل معرفة حقيقية بالخاص في بلادنا، لا يستقيم من دون أن ننتج معرفتنا بالكونية في الوقت نفسه.
abuiyad

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق