مجموعة اليسر للتدريب والاستشارات تأمل من زوارها الكرام المشاركة في الاستطلاعات التي تجريها بفعالية نظرا لفائدتها العالية
مجموعة اليسر للتدريب والاستشارات هي شركة تضامن لبنانية مسجلة تحت الرقم 489 تتنشط في مجال الدورات التدريبية والمؤتمرات العلمية والتربوية والاجتماعية والادارية والثقافية والتنمية والارشاد الاسري والاجتماعي ، واصدار المنشورات المتخصصة ، وتقديم الاستشارات في المجالات المذكورة وتوقيع الاتفاقيات مع الجامعات والمؤسسات والشركات الوطنية والعالمية على انواعها والقيام بالاستطلاعات والابحاث العلمية والدراسات المتخصصة في لبنان والخارج - نتمنى لكم زيارة ممتعة

10‏/12‏/2010

جاك دريدا .. كيف يعيش فيلسوف التفكيك موته ؟

د. فتحي المسكيني*
عرف قراء العربية الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، الذي رحل السبت الماضي، متأخرين وبطريقة جزئية من خلال الباحثين المغاربة في نهاية السبعينات، بالرغم من ولادته في الجزائر التي مكث فيها حتى سن التاسعة، والرغم من مواقفه المؤيدة عموماً لقضايا العالم الثالث. ولكن الاهتمام بفكر دريدا ازداد بشكل ملحوظ في السنوات اللاحقة بالرغم من صعوبة الفكر، وطرحه لقضايا كانت ما تزال جديدة على الذهن العربي، كما إزداد حجم ترجماته إلى العربية على تفاوت هذه الترجمات.
هنا مقالات لكتاب عرب تسلط الضوء على جوانب من فكره: 
مات جاك دريدا. هو يوم حزين آخر، ولكن هذه المرة للفلاسفة وليس للحواريين. انطفأت تلك القامة التي لم تتعلّم الانحناء برغم ثقل السنين الأربع والسبعين التي تجرّها وراءها، في مساء يوم الجمعة 8 أكتوبر 2004، «دون أن يتألّم كثيرا»، كما يذكر أقرباؤه. إنّ موته ذو دلالة خاصة بالنسبة لنا، فهو أوّلا مولود في بلد عربي، في البيار في الجزائر، وهو ثانيا من أسرة يهودية، هي على الأرجح يسارية وممّن يسمّون أوربيي الجزائر أو ذوي «الأقدام السوداء»، وثالثا هو «مهاجر» ( بمعنى ما ) إلى مركز الامبراطورية الفرنسية، باريس، حيث دخل دار المعلمين العليا سنة 1950، وصار أستاذا فيها سنة 1965، ورابعا هو يحرص على التحلي بمواصفات المواطن الكوني، ليس فقط لأنّه يحاضر و يدرس في كل أصقاع المعمورة، وهو أشهر فيلسوف يكتب بالفرنسية داخل أوروبا وخارجها، وأكثر مفكّر فرنسي مقروء ومترجم من الفرنسية إلى لغات العالم، بل بخاصة لأنّه يشارك بشكل نشط في معارك الرأي وقضايا حقوق الإنسان حيثما كانت.
* كيف يعيش الفلاسفة موتهم ؟ 
* لقد كشف دريدا عن ذلك في آخر حوار معه في اغسطس (آب) الماضي، حين كان على بيّنة من موته القريب، قائلا:« هل يمكن أن نتعلّم كيف نحيى؟ أن نعلّمه ؟. أنا لم أتعلّم أبدا كيف أحيى. إذْ أنّ تعلّم الحياة يعني تعلم الموت، أن نأخذه في الحسبان، أن نقبل به (من دون خلاص ولا بعث ولا غفران). منذ أفلاطون، هو الأمر الفلسفي نفسه: أن نتفلسف، هو أن نتعلم الموت. لكنّني لم أتعلم أن أقبله، الموت. نحن كلنا ناجون مع تأجيل التنفيذ».
إنّ الفيلسوف يكتب دوما عن الموتى، ونصوص الموتى شكل لطيف من الحياة المستحيلة. وهو دوما الناجي الوحيد أو الأخير من جيل من الذين ذهبوا. ولذلك فحين يموت هو يفرض علينا ضربا من نهاية العالم. لذلك كان دريدا يحرص على تسجيل موت كل عضو من ذلك الجيل العظيم الذي انتمى إليه لبعض الوقت. لقد كتب عن موت أصدقائه الذين سبقوه: عن بلانشو ورولان بارط وألتوسير وفوكو وليوتار ودولوز وليفناس، وكان آخرهم بيار بورديو. وهو يعبّر عن هذه العلاقة المخصوصة بالفلاسفة الذين ماتوا بعبارة مثيرة، ألا وهي « إنّها فريدة في كل مرة، نهاية العالم». وهو قد عثر على هذه الصيغة عندما كان يحاول أن يبرّر موت أمّه بقراءة أحد أقوال القديس توما الإكويني، بأنّ في كل موت هناك نهاية للعالم، وأنّ كل موت هو أوّل، وفريد وأنّ موت الذين نحبّهم مهما سبقته موتات أخرى يظل بالنسبة لنا موتا أوّل. لكنّ دريدا لا يريد أن يتبع القديس في النظر إلى ما وراء الموت، إنّه يضيف فقط :«أنا أبكي مثلما يبكي أطفالي على حافة قبري». إنّ الموت عنده حالة خاصة وفريدة ولذلك لا ينبغي أن نشوّهها بأيّ نوع من الخلاص، بل نترك لها كلّ ثراء الحداد الذي ترسله فينا. 
* فيلسوف التفكيك 
* ربما كانت طريقة دريدا في طرح مسألة الحداد على نحو إستيتيكي، وليس على نحو عدمي أو ديني، هي من العلامات اللطيفة على طريقته في التفلسف: إنّه يحرص في كامل أطوار حياته الفكرية على الإشارة إلى أسلوبه الخاص في الكتابة بأنّه تفكيك. لكن لنحترس من أيّ سوء فهم لهذا المصطلح. إنّ دريدا ينبّهنا إلى أنّ التفكيك ليس منهجا على طريقة المحدثين، أي هذه المجموعة من القواعد التي تقود الذهن إلى معرفة الحقيقة في العلوم. إنّه على العكس من ذلك وكما أشار اليونان من قبل «ميثودوس» أي طريق ونهج. ليس المهمّ أن نضبط منهجا نستعمله ونطبّقه، بل المهم هو أن نمشي. التفكير لا يكون تفكيكا حتى يتقن فن المشي على معابر ليست له ومن دون أيّ إذن مسبق من أيّ سلطة معرفية أيّا كانت. وهو لا يقصد، مثل الرومانسيين، إلى فهم المؤلف أفضل مما فهم نفسه، بل إلى اللعب خارج حدود المؤلف والأثر معا، وعلى ذلك بما وضعه المؤلف بنفسه ويتضمّنه الأثر بشكل فائض عن حاجته. 
أجل، إنّ التفكيك يوشك أن يظهر كأنّه متاهة من الإشارات والتقاطعات والاعتداءات وسوء الفهم. لكنّ ذلك ليس سوى مظهره في عين من يواصل محاكمة المؤلفين من جهة إرادة الخطاب أو إرادة الحقيقة المفترضة في آثارهم. لكنّ خطورة دريدا، وهي خطورة حقا، إنّما تكمن في قراره المسبق بالامتناع عن أيّ مشاركة في إرادة الحقيقة التي تحرك الفلاسفة من أفلاطون إلى مارلوبنتي. إنّ التفكيك ليس هدما عدميا للصروح الفلسفية التقليدية بحجة مجاوزة الميتافيزيقا، وهو ليس لعبا استطيقيا يعامل الفلسفة والعلم كما يعامل نصوص الأدب، بل التفكيك هو موقف فلسفي واع بخطته يريد أن يبطل نمطا معيّنا من إرادة الخطاب التي أقام عليها الغرب كل سلطاته على بقية الإنسانية، وسماها الحداثة. إنّ التفكيك هو موقف من سلطة المعرفة يحاول بكل الوسائل أن يربكها ويكشف عن مكبوتاتها وإقصاءاتها وحيلها. ولذلك فالتفكيك لم يُفهم إلى حدّ الآن إلاّ قليلا. لقد ظل يُنظر إليه كمصطلح مذهبي خاص بمفكّر ما بعد ـ بنيوي أو ما بعد ـ حديث، وليس على أنّه مزاج فلسفي وأسلوب في الحياة وموقف سياسي وفن في الكتابة. 
* دريدا والديمقراطية
* ربما بقي دريدا إلى آخر السبعينات مفكّرا بنيويا أو ما بعد ـ البنيوي، ولذلك ظل التفكيك من حيث التلقي مشكلا خطابيا أو نصيا، غامضا أو مختصا، ولم يكشف بعد عن خطورته العملية والسياسية. بيد أنّ ما كتبه دريدا منذ بداية الثمانينات إنّما كشف لديه عن وجه طريف تماما. لقد ظهر أوّلا دريدا المناضل: ففي سنة 1982 وقع القبض عليه وأودع السجن لبعض الأيام في سجن تشيكي لأنّه ذهب إلى إلقاء محاضرات سرية وممنوعة. وبدأ دريدا يبحث بشكل حثيث وطريف عن وجوه من التواصل الخفي بين التفكيك وممارسة معيّنة للديمقراطية. 
إنّ دريدا يمتاز بأنّه على ريبة دائمة من أطر النضال التقليدية، فهي في نظره تصرّف عين الهاجس السلطوي الذي تزعم أنّها تقاومه. ولذلك هو يميّز بين موقف الجمهوريين الذين يدافعون عن كونية مجردة ولائكية، وهو الموقف العام في فرنسا، وبين صيغة ما من الديمقراطية التي تظل تنصت إلى هويات الجماعات والأقليات المختلفة. إنّه لا يعتبر أنّ الديمقراطية نظام حكم عادي، بل هي ما يجب علينا أن نعمل من أجله وننتظره في المستقبل. هي ما هو آت، لكنّه لن يأتي إلاّ بقدر ما نفكك كل الحواجز التي تفصلنا عنه. الحواجز ليست في نصوصنا فقط، بل في فهمنا لأنفسنا وفي سلوكنا حيثما كان، إزاء ماضينا كما إزاء الآخر، إزاء ما نعتقد أنّه صحيح كما إزاء ما نعتقد أنّه خاطئ. التفكيك نمط ديمقراطي من الكتابة لا ينتج إرادة خطاب جديدة ومن ثم سلطة مرجعية جديدة، بل هو لعب في الفضاء الإنساني الواسع الذي بحوزتنا في الكوكب الصغير الذي نسكنه. 
يقول دريدا قبل شهر من موته :« عندما أذهب إلى التدريس بشكل سري ويقع القبض علي في تشيكسلوفاكيا الشيوعية، وعندما أناضل ضدّ التمييز العنصري أو من أجل تحرير مانديلا، وضدّ حكم الإعدام في موميا أبو جمال، أو حين أشارك في تأسيس البرلمان العالمي للكتاب، وحين أكتب ما أكتبه عن ماركس، عن الضيافة أو الذين لا وثائق لهم، عن الغفران والشهادة والسرّ والسيادة، أو حين أساهم في خلق الكوليج العالمي للفلسفة، أنا أتجرّأ على التفكير بأنّ هذه الأشكال من الالتزام والأقوال التي تسندها، قد كانت في حدّ ذاتها على وفاق (وليس الأمر سهلا دوما) مع عمل التفكيك الجاري. وأنا أكثر شعورا بالتواصل منه بما يسميه بعضهم في الخارج المنعرج السياسي أو المنعرج الإتيقي للتفكيك». 
* قسم الفلسفة
ـ جامعة تونس المنار
abuiyad

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق