مجموعة اليسر للتدريب والاستشارات تأمل من زوارها الكرام المشاركة في الاستطلاعات التي تجريها بفعالية نظرا لفائدتها العالية
مجموعة اليسر للتدريب والاستشارات هي شركة تضامن لبنانية مسجلة تحت الرقم 489 تتنشط في مجال الدورات التدريبية والمؤتمرات العلمية والتربوية والاجتماعية والادارية والثقافية والتنمية والارشاد الاسري والاجتماعي ، واصدار المنشورات المتخصصة ، وتقديم الاستشارات في المجالات المذكورة وتوقيع الاتفاقيات مع الجامعات والمؤسسات والشركات الوطنية والعالمية على انواعها والقيام بالاستطلاعات والابحاث العلمية والدراسات المتخصصة في لبنان والخارج - نتمنى لكم زيارة ممتعة

09‏/12‏/2010

رواد علم الاجتماع ونظرياتهم 3 / ماكس فيبر

ماكس فيبر ربما يكون أكثر المنظرين الاجتماعيين تأثيراً وشهرة. كان فيبر كاتباً غزير الإنتاج ومفكراً معقداً وفى حين ساهم ذلك في شهرته فإنه يجعل من الصعوبة تلخيص أعماله في فصل واحد. ليس علينا فقط أن نتناول كمية ضخمة من الأعمال التى أتنتجها فيبر وإنما علينا أيضاً أن نأخذ بعين الاعتبار الكتابات الأكثر ضخامة التى أتنتجها منتقدوه ومحللوه العديدين. ومما يجعل الأمر أكثر صعوبة أن فيبر لم يعرف فقط بتوجهه النظرى العام ولكن أيضاً بعدد من الأفكار المحددة والتي هى نفسها أنتجت كمية معتبرة من التحليل والنقد. مثلاً جزء كبير في علم اجتماع التنظيم يمكن إرجاعه إلى عمله عن البيروقراطية. أيضاً أفكاره عن البروتستانتية والرأسمالية أثارت جدلاًغير عادى. إن حجم وتنوع وتعقيد أعمال فيبر يجعل من الصعوبة بمكان تلخيصها إضافة إلى ذلك فإن تناقض فيبر وفشله أحياناً في أن يقول تحديداً ماذا يعنى فاقم من صعوبة المشكلة. لذلك وبالرغم من أن أعمال فيبر مثيرة وغنية بالأفكار فإنها تستعصى على التلخيص والتحليل البسيط . 






تتميز أعمال فيبر بالتنوع كما أنها كانت عرضة للعديد من التفاسير التى أثرت على عدد كبير من نظريات علم الاجتماع. من المؤكد أنه كان لها تأثيرا على البنائية الوظيفية خاصة عن طريق أعمال تالكوت بارسونز. في السنوات الأخيرة بدأت أعماله تكتسب أهمية لدى التقليد النظرى للصراع وللنظرية النقدية التى تشكلت في الغالب بأعمال فيبر مثلما تشكلت بأعمال ماركس. التفاعليون الرمزيون تأثروا بأفكار فيبر عن "الفهم "كما تأثروا بأفكاره الأخرى. الفرد شوتز والذي سنتناوله في فصل قادم تأثر بشدة بأعمال فيبر عن المعنى والدوافع وهو بدوره لعب دوراً أساسياً في تطور علم الاجتماع الظاهراتى و الإثنوميثودولوجى. لقد كان فيبر وسوف يظل منظرا واسع التأثير . 






سنبدأ هذا الفصل بمناقشة أفكار فيبر حول منهج العلوم الاجتماعية وذلك لأن الفهم الواضح لهذه الأفكار ضروري لتناول أفكار فيبر الملموسة والنظرية. كان فيبر معارضاً للتنظير المجرد الصرف. كانت أفكاره النظرية متضمنة في أبحاثه الميدانية ذات الطابع التاريخي. شكل منهج فيبر أبحاثه والاتحاد بينهما- المنهج والأبحاث – بشكل أساسي توجهه النظرى . 






المنــــــــهج 






التــــــاريخ وعلم الاجتمـــــاع 






لتناول منهج فيبر يجب علينا أولاً توضيح أفكاره عن العلاقة بين التاريخ و علم الاجتماع. بالرغم من أن فيبر كان طالب قانون وأول وظيفة أكاديمية له كانت قانونية لكن الاهتمام بالتاريخ سيطر عليه منذ بداية حياته الأكاديمية. في الحقيقة كانت أطروحته للدكتوراه دراسات تاريخية عن القرون الوسطى وروما. لكن في سنواته الأخيرة بدأ يحدد أكثر وأكثر هويته كعالم اجتماع، ولقد ذكر أنه في عام 1909 عندما بدأ فيبر كتابة عمله الضخم " الاقتصاد و المجتمع " عند ذلك وهب نفسه بالكامل لعلم الاجتماع . 






مع تحول فيبر أكثر وأكثر في اتجاه علم الاجتماع الجديد نسبياً – في ذلك الوقت – حاول توضيح علاقته بعلم التاريخ الأكثر رسوخاً . بالرغم من أن فيبر شعر أن كل مجال بحاجة للآخر، كانت رؤيته أن مهمة علم الاجتماع هى توفير الخدمات الضرورية للتاريخ. فقد ذكر أن علم الاجتماع يؤدى فقط مهمة متوسطة. شرح فيبر الفرق بين التاريخ وعلم الاجتماع " يحاول علم الاجتماع صياغة مفاهيم نموذجية ونظم مهمة للعمليات الميدانية. هذا يميزه عن التاريخ الذى يتوجه نحو التوضيح والتحليل السببي لأفعال الفرد، البنيات والشخصيات التى لها أهمية ثقافية "[1] . بالرغم من هذا التمييز الواضح جداً فإن فيبر استطاع الدمج بين الاثنين في أعماله. كان علم اجتماعه متجهاً نحو تطوير مفاهيم واضحة تمكنه من القيام بالتحليل السببي للظواهر التاريخية. يمكننا أن نعتبر فيبر عالم اجتماع تاريخي . 






تفكير فيبر عن علم الاجتماع تأثر بعمق بسلسلة من المجادلات الفكرية التى كانت محتدمة في ألمانيا في ذلك الوقت. أهم تلك المجادلات كانت حول العلاقة بين التاريخ والعلم. قطبا الجدل أولئك الذين يرون أن التاريخ يتكون من قوانين عامة و أولئك الذين يحصرون التاريخ في أفعال وحوادث فردية. المفكر التعميمي مثلاً، يعمم حول الثورة الاجتماعية في حين أن المحلل الفردي يركز على الأحداث المحددة التي قادت إلى الثورة الأمريكية. رفض فيبر وجهتي النظر وطور طريقة متميزة لتناول علم الاجتماع التاريخي. رفض الفكرة التى تقول أن التاريخ يتكون من سلسلة من الكيانات المتفردة التى لا تقبل أي نوع من التعميم "لا يعتبر الأفراد، المجتمعات، والأحداث كيانات متفردة وإنما ممثلين لفئة عامة وكل منها يمكن فهمه فقط بالرجوع إلى تلك الفئة العامة ".[2] بالرغم من أن فيبر يبدو و كأنه يفضل شيئاً من التعميم، فقد رفض أفكار أولئك المؤرخين الذين حاولوا حصر التاريخ في حزمة بسيطة من القوانين. فقد انتقد مثلاً أحد المؤرخين – وليم روشر – الذى عنى بالبحث عن قوانين التطور التاريخي للبشر والذي يعتقد أن كل البشر قد مروا بمراحل شبيهة متعاقبة. وعبر فيبر عن رفضه قائلا ً "إن اختزال الحقيقة الواقعية إلى قوانين لا معنى له "[3]. هذه الرؤية تنعكس في العديد من الدراسات التاريخية المحددة. في دراسته عن الحضارات القديمة مثلاً، أقر فيبر "أن التاريخ الطويل والمتواصل لحضارات البحر الأبيض المتوسط الأوروبية لا يوضح دوائر مغلقة أو تطور خطى. أحياناً نجد أن ظاهرة من الحضارات القديمة اختفت تماماً ثم عادت للظهور في إطار جديد. "[4] 






في رفضه لوجهات النظر المعارضة لعلماء التاريخ الألمان، أظهر فيبر طريقته الخاصة والتي تحتوى على دمج للتوجهين. اعتبر فيبر أن التاريخ ( علم الاجتماع التاريخي ) يهتم بالفردية والتعميم في آن واحد. تحقق هذا التوحيد من خلال تطوير واستخدام مفاهيم عامة ( والتي سنسميها لاحقاً " نماذج مثالية ") لدراسة أفراد، أحداث أو مجتمعات محددة. هذه المفاهيم العامة تستخدم " لتحديد وتعريف فردية كل تطور، المميزات التى تجعلنا نستنتج في طريقة مختلفة جداً إختلاف أحدهما من الآخر. بعد ذلك يمكن تحديد الأسباب التى قادت إلى الاختلاف. "[5] في القيام بمثل هذا التحليل السببي، رفض فيبر وبوعي فكرة البحث عن عامل سببي واحد خلال كل التاريخ. وبدلا ً عن ذلك استخدم مخزونه المفهومى لترتيب العوامل المختلفة المتضمنة في حاله تاريخية محدده حسب أهميتها السببية. 






رؤى فيبر عن علم الاجتماع التاريخي تشكلت جزئياً بوفرة المعلومات التاريخية الحقلية وبالتزامه بدراسة تلك المعلومات. كان جيله من العلماء هو الأول الذي أتيحت له معلومات موثوقة عن الظاهرة التاريخية من أجزاء مختلفة من العالم. كان فيبر أكثر ميلاً لإغراق نفسه في هذه المعلومات التاريخية بدلا ً عن الأحلام عن تعميمات مجردة عن المجرى الأساسي للتاريخ. بالرغم من أن ذلك قاده إلى بعض الأفكار الهامة لكن خلق مشاكل حقيقية في فهم أعماله، أحياناً يدخل في تفاصيل تاريخية تقوده إلى النظر إلى الأسباب الأساسية للدراسة التاريخية إضافة إلى ذلك فان مدى دراساته التاريخية يشمل العديد جداً من المراحل والعديد جداً من المجتمعات مما لم يمكّنه الا من ماهو أكثر قليلاً من التعميمات غير المصقولة. بالرغم من ذلك فإن التزامه بالدراسة العلمية للظواهر الميدانية هو الذي جعله جذاباً جداً في تطور مجال علم الاجتماع في الولايات المتحدة الأمريكية. 






خلاصة، كان فيبر يعتقد أن التاريخ الاجتماعي مكون من عدد من الظواهر المستمرة. لدراسة هذه الظواهر يصبح من الضروري تطوير مفاهيم عديدة تعمم لفرض بعض النظام على اضطراب العالم الحقيقي. مهمة علم الاجتماع هى تطوير تلك المفاهيم و التى تستخدم بواسطة علم التاريخ في التحليل السببي للظواهر التاريخية المحددة. بهذه الطريقة حاول فيبر المزاوجة بين الخاص والعام في محاولة لتطوير علم يتعامل بعدل مع الطبيعة المعقدة للحياة الاجتماعية . 






الفـــــــهم الادراكــــــى "الفيرشتيهن" 






اعتبر فيبر أن عالم الاجتماع له ميزة على العالم الطبيعي تلك الميزة توجد في مقدرة عالم الاجتماع على فهم الظواهر الاجتماعية في حين أن العالم الطبيعي لا يمكنه الحصول على فهم مشابه عن سلوك الذرة أو العنصر الكيمائي. الكلمة الألمانية للفهم هي " فيرشتيهن" واستعمال فيبر الخاص للمصطلح "فيرشتيهن" واحد من أكثر مساهماته شهرة وإثارة للجدل في المنهج المعاصر لعلم الاجتماع. عندما نوضح ماذاعنى فيبر" بالفيرشتيهن" سنشير أيضا إلى بعض المشاكل المتعلقة بفهمه له. الخلاف المحيط بمفهوم أل"فيرشتيهن " وبعض المشاكل المتعلقة بماذا عني به فيبر نابعة من مشكلة عامة في أفكار فيبر المنهجية. وكما ذكر توماس بيرجر"1976"[6] لم يكن فيبر على دراية تامة ولم يكن منسجما في تصريحاته المنهجية . لقد مال أن يكون غير مهتم وغير دقيق بما أنه اعتبر نفسه ببساطة يعيد أفكاراً كانت معروفة جداً لدى علماء التاريخ الألمان في عصره. أكثر من ذلك فإن فيبر لم يفكر بعمق في الاعتبارات المنهجية ووصفها بأنها فقط "شروط للعمل الفكري المثمر[7] 






أفكار فيبر عن ال" فيرشتيهن" معروفة نسبيا وسط المؤرخين الألمان في أيامه وهي مأخوذة من مجال يعرف بالتفسير التأويلي وهي طريقة خاصة لفهم وتفسير النصوص المنشورة هدفها فهم قصد الكاتب وكذلك البنية الأساسية للنص. فيبر وأخرون حاولوا توسيع هذه الفكرة من فهم النصوص إلى فهم الحياة الاجتماعية. "عندما ندرك أن المنهج التاريخي ليس أكثر ولا أقل من المنهج التقليدي في التفسير مطبق على الفعل الملاحظ بدلا عن النص, منهج يهدف إلى تحديد تصور إنساني "معنى" لما وراء الأحداث الملاحظة لن تكون لدينا صعوبة في تقبل أنه يمكن أن يطبق على التفاعل الإنساني والفاعل الفرد. حسب هذه الرؤية، كل التاريخ تفاعل يجب أن يفسر على ضوء الخطط المتنافسة للفاعلين العديدين "[8] بمعنى آخر فان فيبر حاول استخدام أدوات التفسير ألتا ويلي من أجل أن يفهم الفاعلين, التفاعل وبالتأكيد كل التاريخ الإنساني. 






إحدى الأفكار العامة والخاطئة عن ال" فيرشتيهن " أنه ببساطة استعمال الحدس بواسطة الباحث. إن العديد من المنتقدين اعتبروه منهج بحث ناعم غير عقلاني وذاتي، لكن فيبر رفض فكرة أن ال " فيرشتيهن " يتضمن ببساطة استعمال الحدس، المشاركة المتعاطفة أو التقمص العاطفي. بالنسبة له ال" فيرشتيهن " يتضمن البحث المنظم والصارم وليس ببساطة تكوين إحساس عن النص أو الظاهرة الاجتماعية. بمعنى آخر ، بالنسبة لفيبر فإن ال" فيرشتيهن " منهج عقلاني للبحث والدراسة. 






السؤال الأساسي في تفسير مفهوم فيبر عن ال " فيرشتيهن " هو هل يرى أنه من المناسب تطبيقه على الأحوال الذاتية للفاعل الفرد أم على الجوانب الذاتية لوحدات التحليل الكبرى – الثقافة مثلاً . يمكننا إيجاد جوانب من كتابات فيبر تدعم الخيارين وهنالك مؤيدون وسط مفسري فيبر للاتجاهين . إذا نظرنا إلى مقولات فيبر المجردة، يبدو أن هنالك دليلاً ساحقاً بجانب المستوى الفردي لتفسير ال " فيرشتيهن ". وهذا التفسير يدعمه عدد من الملاحظين . 






من جانب آخر، هناك عدد من الناس فسر ال" فيرشتيهن " ومقولات فيبر عنه كطريقة تهدف إلى فهم الثقافة. يرى لاخمان " أن عناصر الخطة التى تهمنا ليست أهداف ملايين الأفراد التى يسعى لتحقيقها، وإنما العناصر العامة للمعايير، المؤسسات والبيئة العامة التى يجب أن تنجز فيها تلك الخطط "[9] . في نفس هذا الخط رأى كل من رينكمان[10] ومورى واكس[11] ال " فيرشتيهن " كأداة لتعلم لغة وثقافة أي مجتمع. ولقد وقف واكس ليس فقط مع المستوى الأوسع لتفسير ال " فيرشتيهن " وإنما ضد التوجه الفردي. استعمل واكس مفهوم " الحدس الشخصي التبادلي " ليعنى الرؤية الفردية. و بالنسبة له لم يقصد فيبر أن نستخدم ال" فيرشتيهن " لفهم الفاعلين، وإنما نستخدمه لفهم الثقافة الكبرى التى فيها يوجد الفاعلين والتي تقيد أفكارهم وأفعالهم. أخيراً, فإن البعض يرى أن ال " فيرشتيهن " يتضمن المدخلين. ب- أ مونش[12] ذكر أنه من أجل الفهم الكامل للفعل يجب علينا أولا تحديد معنى الفعل كما قصده الفاعل ثم ثانيا، معرفة الإطار الذى يحدث فيه الفعل ويكون له معنى . 






التفسيرات المتعددة " للفيرشتيهن " تساعدنا لنرى لماذا يحتل فيبر هذا الدور الأساسي في نظرية علم الاجتماع. تفسير المستوى الثقافي ل "الفيرشتيهن " يكون منسجماً مع النظريات الكبرى ( البنائية الوظيفية مثلاً )، في حين التفسير على المستوى الفردي يناسب النظريات الصغرى ( التفاعلية الرمزية مثلاً ) وموقف مونش التوفيقى يكون مناسبا ً للنوعين من النظريات. ما هو التفسير الصحيح من هذه التفسيرات الثلاثة ؟ يمكننا القول أن هذا لا يهم. ما هو مهم أن هناك تفسيرات مختلفة أثرت في مختلف التوجهات النظرية. لكن في مستوى آخر علينا أن نصل إلى خلاصة عن ال " فيرشتيهن " على أساس كتابات فيبر، لكننا لن نتمكن من ذلك ما لم نحلل علم اجتماع فيبر الملموس. ففي كتاباته الملموسة وليس في مقولاته عن المنهج سنجد المعلومات التى يعتمد عليها لفهم ماذا عنى فيبر حقيقة ب " الفيرشتيهن " وبالأدوات المنهجية الأخرى التى ستقابلنا . 






الســـــــــــــببية 






لابد من أن نشير باختصار هنا إلى جانب آخر من منهج فيبر – التزامه بدراسة السببية والتعليل. كان فيبر ميالاً إلى أن يرى دراسة أسباب الظواهر الاجتماعية ضمن مجال التاريخ وليس علم الاجتماع. مع تلك الدرجة التى يمكن الفصل فيها بين علم الاجتماع والتاريخ – وهما غير منفصلين في كتابات فيبر الملموسة – فإن موضوع السببية له علاقة بعلم الاجتماع. السببية مهمة أيضاً لأنها وكما سنرى في موقع آخر حاول فيها فيبر المزاوجة بين منهجي التعليل العام والفردي . 






بالسببية يعنى فيبر ببساطة الاحتمال أن الحدث يتبعه أو يصاحبه حدث آخر. وحسب رؤيته ليس كافياً البحث عن الثوابت،التكرارات أو المتوازيات التاريخية كما يفعل العديد من المؤرخين وبدلاً عن ذلك على الباحث أن ينظر إلى أسباب مثلما ينظر إلى مدلولات التغيرات التاريخية. بالرغم من أن فيبر اعتبر صاحب نموذج في السببية يتميز بالاتجاه الواحد – في مقارنة مع نموذج ماركس في التعليل الجدلي – ففي علم اجتماعه الملموس كان دائماً يناغم العلاقات بين الاقتصاد، المجتمع، السياسة، التنظيم، التراتب الاجتماعي، الدين ....الخ. 






كان فيبر واضحاً دائماً حول موضوع التعليل المتعدد في دراسته عن العلاقة بين البروتستانتية والروح الرأسمالية. بالرغم من أنه فسر أحياناً بشكل مختلف فقد ذكر فيبر ببساطة أن الأخلاق البروتستانتية " واحد" من العوامل السببية التى أدت إلى نشوء الروح الرأسمالية الحديثة. وقد وصف بالغباء الفكرة التى تقول أن البروتستانتية هى السبب الأوحد. 






كما وصف فيبر بالغباء أيضاً الفكرة التى تقول أنه ما كان للرأسمالية أن تنشأ من دون " الإصلاحات البروتستانتية " لأن عوامل أخرى كان من الممكن أن تؤدى إلى نفس النتيجة. فيما يلي الطريقة التى عرض فيها فيبر رؤيته " علينا قدر الإمكان توضيح الطريقة والاتجاه العام الذى أثرت به الحركات الدينية في نشوء الثقافة المادية. عندما يتحدد هذا وبصحة معقولة يمكننا القيام بتحديد إلى أي مدى يمكن نسب التطورات التاريخية للثقافة الحديثة إلى تلك القوى الدينية والى أي مدى يمكن نسب ذلك إلى قوى أخرى "[13] في ( الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية ) كما في معظم أعماله التاريخية الأخرى، كان فيبر مهتماً بموضوع السببية، لكنه لم يعمل بنموذج ذي اتجاه واحد وكان دائماً يبحث في العلاقات بين عدد من العوامل الاجتماعية. 






الشيء المهم الذي يجب تذكره عن أفكار فيبر عن السببية هو اعتقاده الذى يقول، لانه بإمكاننا الحصول على فهم خاص عن الحياة الاجتماعية أل" فيرشتيهن " فإن المعرفة التعليلية للعلوم الاجتماعية تختلف عن المعرفة التعليلية للعلوم الطبيعية. وقد أوضح فيبر ذلك عندما ذكر أن "التفسير الذى له معنى للسلوك الإنساني " الفعل " يعرف بالرجوع إلى (التقييم) والمعاني. لهذا السبب فإن معيارنا للتفسير التسبيبى له نوع متفرد من الإقناع ضمن التفسير التاريخي لذلك النوع من الوجود "[14] لذلك فان المعرفة التعليلية للعالم الاجتماعي مختلفة عن المعرفة التعليلية للعالم الطبيعي وافضل منها. 






أفكار فيبر عن السببية ذات علاقة بمحاولاته السيطرة على الصراع بين المعرفة العامة والمعرفة الفردية. الذين يأخذون بوجهة النظر العامة سيقولون أن هناك علاقة ضرورية بين الظواهر الاجتماعية، في حين أن مؤيدي الاتجاه الفردي يميلون إلى رؤية علاقة عرضية بين تلك الكينونات. كالعادة اتخذ فيبر موقعاً وسطاً كما يدل على ذلك مفهومه عن " الإمكانية الموضوعية " . ومفهوم " الإمكانية الموضوعية " يأخذ بوجهة النظر التى تقول أن افضل ما يمكن القيام به في علم الاجتماع هو إعداد مقولات احتمالية عن العلاقة بين الظواهر الاجتماعية، ذلك إذا حدث x فإنه من المحتملأن تحدث y 






النمــــــــاذج المثاليــــــة 






النماذج المثالية واحدة من أكثر مساهمات فيبر في علم الاجتماع المعاصر شهرة. كما رأينا كان فيبر يعتقد أن مسئولية علماء الاجتماع تطوير أدوات مفهومية يمكن استخدامها لاحقاً بواسطة المؤرخين. أكثر هذه الأدوات المفهومية أهمية هو النموذج المثالي. لكن هنالك مشكلة في تعريف النموذج المثالي لان فيبر لم يكن متسقاً تماماً في الطريقة التى استخدم بها المصطلح. ولنحصل على فهم لما يعنيه المفهوم سنتغاضى عن بعض عدم الاتساق. على المستوى الأساسي " النموذج المثالي " مفهوم يبنيه العالم الاجتماعي للإحاطة بالمعالم الأساسية للظاهرة الاجتماعية. مثلا ً ، المعركة العسكرية النموذجية المثالية. تحدد المكونات الأساسية لتلك المعركة مثل الجيوش المتحاربة، الاستراتيجيات المتعارضة، الأرض المتنازع عليها، قوى الإمداد والدعم مراكز القيادة وخواص القيادة. المعارك الحقيقية قد لا تحتوي على كل تلك العناصر وهذا أحد الأشياء التي يود أن يعرفها الباحث. 






الموضوع الأساسي هنا هو أن عناصر أي معركة عسكرية معينة يمكن مقارنتها مع العناصر التي حددت في النموذج المثالي. 






حسب رؤية فيبر، النموذج المثالي يستمد استنتاجاً من العالم الحقيقي للتاريخ الاجتماعي. لم يكن فيبر يعتقد أنه يكفي تقديم حزم مفاهيم معّرفة بعناية، خاصة إذا كانت قد استمدت استنتاجاً من نظرية مجردة. المفهوم يجب أن يكون ملائماً تجريبيا.ً لذلك فمن أجل إنتاج نماذج مثالية على الباحثين أولاً أن يغوصوا في الواقع التاريخي ثم يستمدوا النماذج من ذلك الواقع. 






وفق محاولات فيبر لإيجاد منطقة وسطي بين المعرفة العامة و الفردية، فقد ذكر أن النموذج المثالي يجب ألا يكون عاماً جداً ولا محدداً جداً . في حالة الدين مثلاً، فقد رفض النماذج المثالية لتاريخ الأديان بشكل عام كما أنه عارض النماذج المثالية عن الظواهر المحددة جداً مثل الخبرة الدينية للفرد. إنما تطوّر النماذج المثالية عن ظواهر متوسطة مثل الكالفينية ، البيتسمية ، الميثدوسمية والبابتسمية. بالرغم من أن النماذج المثالية تستمد من العالم الحقيقي فإنها ليست مرايا عاكسة لذلك العالم، وإنما يجب أن تكون مضخمات وحيدة الجانب لما يجري في العالم الحقيقي. يري فيبر أن النموذج المثالي كلما كان مضخما ، كلما كان مفيداً للبحث التاريخي. 






إن استخدام كلمة (مثالي) يجب أن لا تفسر لتعنى أن المفهوم الموصوف هو الأفضل. فكما استعمله فيبر، يعني المصطلح أن الشكل الموصوف في المفهوم نادرٌ إذا أمكن وجوده في العالم الحقيقي. في الحقيقية، فقد ذكر فيبر أن النموذج المثالي لا يحتاج أن يكون إيجابياً أو صحيحا،ً ويمكن بكل سهولة أن يكون سلبياً أو حتى ممقوتا أخلاقيا. النماذج المثالية يجب أن يكون لها معني على مستوي المدلول. ذلك إنها يجب أن يكون لها معني في ذاتها وأن تساعدنا في إيجاد معني للعالم الحقيقي. بالرغم أننا قد نعتقد أن النماذج المثالية تصف كينونات جامدة يعتقد فيبر إنها يمكن أن تكون جامدة أو حيوية. لذلك يمكن أن يكون لدينا نموذجاً مثالياً عن بنية مثل البيروقراطية أو تطور اجتماعي مثل انتشار البيروقراطية. النماذج المثالية لا تطوّر مرة واحدة والي الأبد. بما أن المجتمع يتغير باستمرار فمن الضروري تطوير نماذج جديدة لتناسب الواقع المتغير. هذا ينسجم مع رؤية فيبر انه في العلوم الاجتماعية لا توجد مفاهيم سرمدية. 






الشيء الأكثر أهمية والذي يجب أن يؤخذ في الاعتبار عن النماذج المثالية إنها عبارة عن أدوات مساعدة، فهى مفيدة وتساعد في البحث الميداني. وكما قال لاخمان68 أن النموذج المثالي "هو في الأساس عصا للقياس" وقد وصفه فيبر كما يلي "إن وظيفته هي المقارنة مع الواقع الميداني من أجل تحديد انحرافاته أو تماثله لوصفها بأكثر المفاهيم وضوحاً وسهولة للفهم وتوضيحهما وفهمها تعليلياً"69 . النماذج المثالية هي أدوات مساعدة تستخدم لدراسة شرائح الواقع التاريخي. مثال ذلك أن العلماء الاجتماعيين يبنون نموذجاً مثالياً للبيروقراطية على أساس غوصهم في المعلومات التاريخية. هذا النموذج المثالي يمكن مقارنته مع البيروقراطية في الواقع. ينظر الباحث في اختلافات الحالة الحقيقية عن النموذج المثالي المضخم. بعد ذلك يجب على العالم الاجتماعي أن يبحث عن أسباب الاختلافات. بعض الأسباب النمطية لتلك الاختلافات هي : 






1- البيروقراطيون ذوو الأفعال المدفوعة بنقص المعلومات . 






2- الأخطاء الاستراتيجية للقادة البيروقراطيين . 






3- المغالطات المنطقية التي تغلف أفعال القادة والتابعين . 






4- القرارات المبينة على العواطف . 






5- كل فعل غير عقلاني للقادة البيروقراطيين وأتباعهم . 






بالرغم من أننا عرضنا تصوراً غير غامض نسبياً عن النموذج المثالي هنالك تناقضات في الطريقة التي عرّف بها فيبر المفهوم. إضافة إلى ذلك ففي كتاباته الملموسة استخدم فيبر النموذج المثالي بطرق تختلف عن الطرق التي أوصى أن يستخدم بها. وكما لاحظ بورقر "النماذج المثالية الموجودة في (الاقتصاد والمجتمع) خليط من التعريفات، التصنيفات والافتراضات المحددة التى تبدو مختلفة جداً في التوفيق بينها وبين مقولات فيبر"70 وحدد بورقر أربعة استخدامات مختلفة للنماذج المثالية قام بها فيبر: 






1- نماذج مثالية فردية. هذه تتعلق بالظواهر التي وجدت في حقب تاريخية مختلفة (كالرأسمالية الحديثة مثلاً) . 






2- نماذج مثالية عامة. هذه هي المفاهيم غير التاريخية مثل المنافسة والصراع . مثل هذه المفاهيم يمكن انطباقها على ظروف وأفعال في أي لحظة في التاريخ بدون النظر إلى تطور تاريخي محدد . 






3- جوهر نسق الأفكار المعقد. هذا يشمل محاولات فيبر لتحرير حزمة معقدة من الأفكار، على الأقل حسب رؤيته النظرية. مناقشته لجوهر أفكار الكالفينية مثال جيد لذلك . 






4- نماذج مثالية للتطور. معظم نماذج فيبر المثالية عن البنيات الاجتماعية، لكنه أوجد أيضا نماذج مثالية عن العمليات التاريخية. مناقشته لتكرار "الكرزما" مثال لذلك. 






هكذا استخدم فيبر النماذج المثالية بطرق مختلفة عن برنامج مقولاته. ورغم هذا الغموض، يصح القول أن فيبر كثيراً ما طور نماذج مثالية عن حقائق تاريخية محددة وذات مستوي متوسط. هذا يعكس التزامه العام بعدم التفكير في كل المجتمعات، التطور الخطي واتجاهات الهيمنة السببية . 






القيم 






تشكل التفكير السوسيولوجي الحديث في أمريكا عن دور القيم في العلوم الاجتماعية لحد بعيد بتفسير مبسط ومغلوط لمفهوم فيبر عن علم الاجتماع الخالي من أى قيمة. الفهم العام لوجهة نظر فيبر هو أن العلماء الاجتماعيين يجب أن لا يسمحوا بأن تؤثر قيمهم الشخصية في اتجاهاتهم بأية طريقة. وكما سنري فإن أعمال فيبر عن القيم أكثر تعقيداً ويجب أن لا تختزل إلى المفهوم المبسط ان القيم يجب أن تبعد عن علم الاجتماع . 






كان فيبر واضحاً جداً حول الحاجة لأان يسيطر المعلمون على قيمهم الشخصية داخل قاعات الدراسة. وحسب وجهة النظر هذه فإن المتحدثين الجماهيريين لديهم الحق الكامل في التعبير عن قيمهم الشخصية في أحاديثهم لكن قاعات الدراسة الأكاديمية مختلفة. الاختلاف الأساسي يتعلق بطبيعة الجمهور. الجمع الذي يستمع إلى المتحدث الجماهيري اختار أن يكون هناك ويمكن أن يغادر في أية لحظة. لكن الطلاب إذا أرادوا النجاح ليس لهم خيار غير الاستماع بانتباه إلى موقف أستاذهم المحمل بالقيم. هنالك القليل من الغموض في هذا الجانب من موقف فيبر عن الحرية القيمية. السؤال الوحيد هو هل من الواقعية أن نعتقد أنه يمكن للأساتذة ابعاد معظم قيمهم من محاضراتهم؟. فيبر يمكن أن يتبع هذا الموقف لانه يعتقد انه من الممكن الفصل بين الحقيقية والقيمة. لكن ماركس سيعارض بما أنه يري أن هنالك تداخل بين الحقيقية والقيمة وانهما يرتبطان جدلياً . 






موقف فيبر عن مكانة القيم في البحث الاجتماعي اكثر غموضاً. يعتقد فيبر في فصل القيمة من الحقيقة، ووجهة النظر هذه يمكن تمديدها لتشمل عالم البحوث. لقد ميز دائماً بين المعرفة الوجودية عن ما هو كائن والمعرفة المعيارية عن ما يجب أن يكون. مثلاً ، عند تأسيس رابطة علماء الاجتماع الألمان قال "الرابطة ترفض من داخلها مبدئياً وبكل تأكيد كل الدعاية للأفكار المتجهة نحو الفعل. وبدلاً عن ذلك فإنها تسير في اتجاه دراسة" ماهو ، لماذا أن شيئاً ما هو على تلك الطريقة ولأي من الاسباب التاريخية والاجتماعية"71. لكن العديد من الحقائق يشير إلى اتجاهات مختلفة ويوضح أنه بالرغم من الدليل المشار إليه سابقاً، فإن فيبر لم يعمل وفق الرؤية التبسيطية التى ترى أن القيم يجب أن تبعد تماماً من البحوث الاجتماعية. بالرغم من أن فيبر تحدث عن بعض "المحققين" الذين يفصلون بين الحقيقية والقيمة أضاف أن البحث لا يمكن أن يكون خالياً من القيمة بالكامل. لقد كان مستعداً أن يقبل أن للقيم موقعاً محدداً بالرغم من أنه طالب الباحثين أن يكونوا حذرين حول دور القيم "يجب أن نوضح دائماً في أي نقطة تحديداً يصبح المحقق العلمي صامتاً ويبدأ الشخص المقيّم والفعال الحديث"72 عند التعبير عن قيمهم يجب على الباحثين المنتمين لعلم الاجتماع ايضاح ذلك لانفسهم ولجمهورهم. 






في حين أن فيبر وكما سنري اقر بدور تلعبه القيم في جوانب محددة ومعينة من عملية البحث كان يري أنها يجب أن تبعد أثناء عميلة جمع معلومات البحث. إنها يجب أن تشكل ما اخترنا دراسته وكيف يمكن أن نفسر ما وجدنا. أفكار فيبر عن دور القيم قبل البحث الاجتماعي يمكن وجودها في مفهومه عن علاقة القيمة. كما هو الحال مع العديد من مفاهيم فيبر المنهجية، فإن مفهوم علاقة القيمة مشتق من أعمال المؤرخ الأالماني هينرش ريكرت ويعني له "اختيار تلك الجوانب من الواقع الميداني التي يستخدم فيها البشر واحدة أو أكثر من تلك القيم الثقافية العامة التي يعتنقها الناس في المجتمع الذي يعيش فيه الباحث"73. هذا يعني أنه في البحوث التاريخية يكون اختيار مواضيع الدراسة على أساس ما يعتبر مهما في المجتمع المعين الذي يعيش فيه الباحث. بمعني آخر، اختيار موضوع الدراسة من الماضي على أساس نسق القيم المعاصر. كانت البيروقراطية مثلاً جزءاً هاما جداً من المجتمع الألماني أثناء الوقت الذي عاش فيه فيبر ونتيجة لذلك فقد اختار دراسة وجود تلك الظاهرة (أو عدمه) في أطر تاريخية مختلفة. 






آراء فيبر عن أهمية علاقة القيمة ذات صلة برؤيته عن الاختلاف بين العلوم الطبيعية والاجتماعية. في العلوم الطبيعية تأتي الأفكار من النظرية المجردة. لكن مثل تلك النظرية المجردة غير متاحة في العلوم الاجتماعية، وعلى العلماء الاجتماعيين البحث عن مكان آخر كأساس لأعمالهم. يجب أن ينظروا في نسق القيم للمجتمع الذي يعيشون فيه. 






لم يعتقد فيبر فقط أن القيم يجب أن تلعب دوراً قبل بداية البحث الفعلي وإنما كان يعتقد أنها يجب أن تلعب دوراً أساسياً في عملية تحليل المعلومات. المعلومات لا تتحدث عن نفسها وإنما يجب أن تفسر بواسطة عالم الاجتماع وقيم المجتمع تشكل تفسير علماء الاجتماع لنتائج بحوثهم. 






هنالك فجوة بين ما قاله فيبر وبين ما قام به فعلاً. كل مؤلفات فيبر من صياغة المفاهيم، التنفيذ، إلى تحليل المعلومات، إلى تفسيرها مخترقة باحكام القيمة. لم يكن فيبر يخشى التعبير عن احكام القيمة أبداً. فقد قال مثلاً "أن الجسد الاجتماعي للدولة الرمانية قد عاني من أمراض تشنجية". هذه المقولة تقود إلى خلاصة متناقضة تماماً عن موقف فيبر عن العلاقة بين القيم وعلم الاجتماع. يمكن القول أن القيم بالنسبة لفيبر ليست فقط الأداة الأساسية لاختيار مواضع الدراسة، لكنها ضرورة للحصول على معرفة ذات معني عن العالم الاجتماعي. لذلك فإن القيم تلعب في الحقيقة دوراً أساسياً قبل، وأثناء وبعد البحث الاجتماعي . 






يعتبر معظم علماء الاجتماع الأامريكيين أن فيبر مؤيداً لعلم الاجتماع الخالي من القيم. الحقيقة هي أن معظم علماء الاجتماع الأمريكيين هم المؤيدين لفكرة الخلو من القيمة ووجدوا أنه من المفيد إقحام اسم فيبر لدعم موقفهم. كما رأينا فإن مؤلفات فيبر مليئة بالقيم من بدايتها وحتى نهايتها . 






علم الاجتماع الملموس 






تتحول الآن إلى علم اجتماع فيبر الملموس. وسنبدأ كما فعل فيبر في مؤلفه الضخم (الاقتصاد والمجتمع) بالفعل والتفاعل، لكننا سرعان ما سنلتقي بالمفارقة الأساسية في كتابات فيبر، فالبرغم من أنه يبدو ملتزماً بعلم اجتماع العمليات الصغرى فإن أعماله هي في الأساس عن المستويات الكبرى في العالم الاجتماعي . 






ما هو علم الاجتماع 






في مناقشتنا لما عناه فيبر بعلم الاجتماع وكذلك عدم الاتساق بين مقولاته وعلم اجتماعه الملموس علينا ان نتذكر أن كتاباته عن علم الاجتماع في ذاته جاءت متاخرة في حياته كمفكر وبعد وقت طويل بعد إنجازه لمعظم دراساته التاريخية. ومن المحتمل إرجاع الفجوات وعدم الاتساق الذي يظهر في مؤلفاته إلى الاختلاف المتأصل بين علم الاجتماع والتاريخ وليس ببساطة الاختلاف بين مقولاته وكتاباته الملموسة. 






في الإعراب عن رؤيته لعلم الاجتماع كثيراً ما اتخذ فيبر مواقفً ضد علم الاجتماع التطوري الذي يركز على المستويات الكبرى أي المدرسة "العضوية" التي كانت سائدة في عصره. فقد قال فيبر مثلاً "لقد أصبحت سوسيولوجيا" لأضع حداً للمفاهيم الجمعية. بمعني آخر فإن علم الاجتماع أيضا يمكن ممارسته فقط بالانتقال من فعل أفراد – واحداً أو أكثر، قلة أو كثرة، ذلك يعني بتوظيف منهج فردي صارم"74. بالرغم من هذا التمسك بالمنهج الفردي فقد اضطر فيبر إلى الاقرار بأنه من المستحيل إبعاد المفاهيم الجمعية بالكامل من علم الاجتماع . ولكن حتى حين أقر بأهمية المفاهيم الجمعية فإن فيبر قد اختزلها وبشكل مطلق إلى كتل من الأفراد. "من أجل التفسير الذاتي للفعل في الأعمال السوسيولوجية يجب معاملة المجموعات باعتبارها نمط التنظيم الوحيد الناتج من أفعال أشخاص أو أفراد معينين، وبما أن هؤلاء فقط يمكن معاملتهم كفاعلين في مجري الفعل الذاتي المفهوم"75 يبدو أن هنالك القليل من الشك في أن فيبر كان يؤمن بعلم اجتماع المستوي الأصغر ونوي الأخذ به. لكن ماذا فعل حقيقة ؟ قونترروث (1968) أحد أشهر مفسري فيبر يقدم لنا إجابة غير ملتبسة في وصفه لمؤلف فيبر (الاقتصاد والمجتمع)" المقارنة الاولي الصارمة ميدانياً عن البناء الاجتماعي والنظام المعياري في عمق تاريخي عالمي"76. توجهت ماري فولبروك مباشرة إلى الانقطاع في مؤلفات فيبر حين ذكرت، "إن تركيز فيبر الملحوظ على أهمية معاني ودوافع الفرد في التفسير السببي للفعل الاجتماعي لا يتناسب بشكل كاف مع الأسلوب الحقيقي للتعليل المتضمن في دراساته التاريخية المقارنه عن أديان العالم. المستوي الأساسي لتفسير فيبر السببى في كتاباته الملموسة كان بالتأكيد عن الظروف البنائية الاجتماعية التي تحقق فيها انواعاً معينة من المعاني والدوافع فعالية تاريخية"77. 






لدينا القليل من الشك في أن هنالك تناقضاً كبيراً في اعمال فيبر وهو ما سنوليه الأهمية في معظم هذا الفصل. 






بعد هذه الخلفية اصبحنا مستعدين لتعريف فيبر لعلم الاجتماع "علم الاجتماع هو علم يختص بالفهم التفسيري السببي للفعل الاجتماعي ولذلك يختص أيضا بالتفسير السببى لمجرى ذلك الفعل ونتائجه"78. هذا التعريف يعطينا معبرا مهما بين الفقرات السابقة عن منهجية فيبر والنقاش عن علم اجتماعه الملموس. بين الأطروحات التي سبق مناقشتها وأشير اليها صراحة أوضحنا في هذا التعريف: 






علم الاجتماع يجب أن يكون علماً. 






يجب أن يختص علم الاجتماع بالتعليل. 






يجب على علم الاجتماع استخدام الفهم التفسيري التأويلى، ال(فيرشتيهن) 






يمكننا الآن مناقشة المكونات المحددة لعلم اجتماع فيبر ذى المستوى الأصغر. 






الفعل الاجتماعي 






ان كل علم اجتماع فيبر إذا أخذنا ما قاله على علاته، مبني على مفهومه للفعل الاجتماعي. لقد ميز بين الفعل والسلوك التفاعلي الصرف. مفهوم السلوك وسّع ليعني السلوك ذو الطابع الانعكاسي، والذي لا يتضمن عمليات تفكير. يظهر الدافع ويحدث السلوك مع تدخل قليل بينهما. مثل هذا السلوك ليس من اهتمامات علم اجتماع فيبر. لقد كان مهتما بالفعل الذي يتضمن وبوضوح تدخل العمليات العقلية بين حدوث الدافع والاستجابة النهائية . ولنضع ذلك بصورة مختلفة قليلاً ، تحدث الأفعال عندما يربط الأفراد أفعالهم بمعان ذاتية. وبالنسبة لفيبر فإن مهمة التحليل السوسيولوجي تشمل "تفسير الفعل على ضوء معناه الذاتي"79. المثال الجيد والمحدد عن تفكير فيبر عن الفعل موجود في مناقشته عن الفعل الاقتصادي والذي عرفه كما يلي، "التوجه الواعي والأساسى للاعتبارات الاقتصادية. وما هم مهم ليس الضرورة الموضوعية لتحقيق لوازم اقتصادية وإنما الاعتقاد أن تلك اللوازم ضرورية"80. 






في تركيز تحليله في العمليات العقلية كان فيبر مهتما بأن يشير إلى أنه من الخطأ اعتبار أن علم النفس أساس للتفسير السوسيولوجي للفعل. هنا يبدو أن فيبر يشير إلى نفس النقطة التي أشار إليها دوركايم في مناقشته لبعض الحقائق الاجتماعية غير المادية. ذلك أن علماء الاجتماع يهتمون بالعمليات العقلية ولكن ليس نفس اهتمام علماء النفس بالعقل، الشخصية وما إلى ذلك. 






بالرغم من أن فيبر يبدو، وكأن له اهتماماً كبيراً بالعمليات العقلية، فقد أمضى في الواقع زمنا قليلا في دراستها. هانز قيرث ورايت ميلز (1958) لفتا الانتباه إلى عدم اهتمام فيبر بالعمليات العقلية "لقد رأى فيبر فى مفهوم الشخصية مفهوماً أسئ استخدامه ليعنى بعمق مركز غير عقلاني للابداع وهو مركز تتوقف عنده الدراسة التحليلية"81. لقد كان شوتز (1967) محقا عندما أشار إلى أن" في حين أن كتابات فيبر عن العمليات العقلية موحية فإنه من الصعب أن تشكل أساسا لعلم اجتماع المستوى الأصغر"82 لكن هذا الايحاء في كتابات فيبر هو الذي جعله مفيدا لأولئك الذين طوروا نظريات الافراد وسلوكهم مثل التفاعلية الرمزية، الظاهراتية وما إلى ذلك. 






في نظريته عن الفعل كان هدف فيبر الواضح التركيز على الفرد وليس المجموع. " الفعل الذي يعني التوجه الذاتي للسلوك القابل للفهم موجود فقط في سلوك فرد واحد أو اكثر من البشر"83. كان فيبر مستعداً لأن يقبل أنه لبعض الأغراض ربما يجب علينا معاملة المجموعات كأفراد "لكن من أجل التفسير الذاتي للفعل في الأعمال السوسيولوجية هذه المجموعات يجب أن تعامل فقط كنتائج وأنماط من تنظيم أفعال أشخاص، أفراد بعينهم، بما أن الاشخاص الأفراد وحدهم يمكن معاملتهم كفاعلين في مجرى الفعل الذاتي القابل للفهم"84. يبدوأنه من الصعوبة أن يكون فيبر أكثر وضوحاً : علم اجتماع الفعل يختص بالأفراد وليس المجموعات. 






استخدم فيبر منهجه عن النموذج المثالي لتوضيح معنى الفعل بتحديده لأربعة أنماط أساسية من الفعل. ذلك التنميط ضروري ليس فقط لفهم ماذا يعني فيبر بالفعل، لكنه أيضا ولحد ما، أساس اهتمام فيبر بالمؤسسات والبنيات الاجتماعية الكبرى. 






تمييز فيبر بين نمطين أساسيين من الفعل العقلاني يتميز بأهمية كبرى. الأول الفعل العقلاني الهادف والذي يبدو أن فيبر (بالرغم من أنه لم يكن واضحا تماما هنا) يعني به الفعل الذي يختار فيه الفاعلين كل من الغايات (اهداف ، مواضيع) والوسائل لتلك الغايات في صورة محسوبة. هذا يرتبط بالفعل العقلاني القيمي. مثل الفعل العقلاني الهادف، فإن الفعل العقلاني القيمي يتضمن الاختيار العقلاني للوسائل لكن الغايات هنا محددة بواسطة نسق القيم العريض ولا يتم اختيارها عقلانيا بواسطة الفاعلين. 






النمطان الآخران من الفعل أقل أهمية لفيبر. الفعل العاطفي يتحدد بواسطة الحالة العاطفية للفاعل. الفعل التقليدي يتحدد بواسطة أساليب سلوك الفاعل المعتادة. وبما أن العقلانية تسيطر على علم اجتماع فيبر فإن هذين النمطين من الأفعال لهما أهمية قليلة نسبيا له. 






يجب الإشارة إلى أنه بالرغم من أن فيبر ميّز بين أربعة انماط نموذجيه ومثالية للفعل، فقد كان مدركا لأن أيّ فعل يتضمن عادة نوعاً من الاتحاد لأنماط الفعل الاربعة. إضافة لذلك يقول فيبر إن لعلماء الاجتماع فرصة أفضل في فهم الفعل من النوع العقلاني أكثر من فهم الفعل المبنى على العاطفة او التقليد. 






صفحات قليلة عن الفعل في بداية مؤلفه (الاقتصاد والمجتمع) تكوّن معظم تفكير فيبر عن تفكير الفرد والفعل. بعد ذلك انتقل باستمرار إلى وحدات أكبر للتحليل. ليس بسبب أنه فقد الرؤية تجاه الفاعل وإنما لأن الفاعل تحول من أن يكون مركز تحليله إلى حيث أصبح عاملاً متغيراً يتحدد بواسطة قوى كبرى متعددة. كما سنرى يعتقد فيبر مثلا ، أن الأفراد الكالفينست دفعوا للفعل في طرق متعددة بواسطة معاييرهم، قيمهم، ومعتقداتهم الدينية، ولم يكن تركيز فيبر على الأفراد وإنما على القوى الجماعية التي تدفع الفاعل. 






بنية السلطة 






اهتمام فيبر السوسيولوجي ببنية السلطة، كان ولحد ما بدافع اهتماماته السياسية. لم يكن فيبر راديكاليا سياسيا، في الحقيقة لقد وصف كثيرا بأنه (ماركس البرجوازية) لعكس التشابه في الاهتمامات الفكرية لماركس وفيبر ولعكس توجهاتهم السياسية المختلفة. 






بالرغم من أن فيبر انتقد الرأسمالية الحديثة مثل ماركس فإنه لم يدع إلى الثورة. كان يدعو إلى تغيير المجتمع تدريجيا وليس قلبه. لم يكن يؤمن بمقدرة سواد الشعب أو الجماهير في خلق مجتمع أفضل لكن فيبر رآى أيضا القليل من الأمل في الطبقات الوسطى والتي يرى أنها يسيطر عليها صغار البيروقراطيين قصيري النظر. كما انتقد فيبر عظماء السياسيين مثل بيسمارك، والذي يعتقد أنه أضعف القيادة السياسية في المستويات الدنيا . بالرغم من ذلك فإنه يرى أن الأمل في القادة السياسيين العظام أكثر من الجماهير أو البيروقراطيين. ومع إيمانه بالقادة السياسيين هنالك أيضاً إيمانه بالقومية. لقد وضع الأمة فوق كل ما عداها "إن المصالح الاساسية للأمة تقف وبالتأكيد فوق الديمقراطية والبرلمانية"85. تفضيل فيبر للديمقراطية كنظام للحكم ليس بسبب اعتقاده في الجماهير ولكن بسبب أنها تعطي الحد الأقصى من الحيوية وأفضل الطرق لإنتاج القادة السياسيين. لاحظ فيبر أن بنية السلطة موجودة في كل مؤسسة اجتماعية وآراؤه السياسية ذات صلة بتحليله لتلك البنيات في كل المواقع. 






بدأ فيبر تحليله لبنيات السلطة بطريقة منسجمة مع افتراضاته عن طبيعة الفعل. فقد عرّف الهيمنة بأنها "احتمال إطاعة بعض الأوامر المحددة أو( كل الاوامر) بواسطة مجموعة معينة من الناس"86. يمكن أن يكون هنالك أكثر من أساس للهيمنة، شرعية وغير شرعية ، لكن ما جذب اهتمام فيبر هو أشكال الهيمنة الشرعية أو ما أطلق عليه (السلطة). إن ما شغل فيبر ولعب دوراً أساسياً في الكثير من علم اجتماعه هي القواعد الثلاثة التي على أساسها تكون السلطة بالنسبة للأتباع شرعية، وهي الأسس العقلانية، التقليدية والكارزمية. في تعريفه لهذه الأسس الثلاثة بقى فيبر قريبا من أفكاره عن الفعل الفردي، لكنه تحول بسرعة إلى بنيات السلطة الكبرى. السلطة التي تأخذ شرعيتها على قواعد عقلانية ترتكز " على الاعتقاد في شرعية القوانيين المنفذة وحق أولئك الذين ارتقوا سدة السلطة عن طريق تلك القوانين في إصدار الأوامر"87. السلطة التي أصبحت شرعية على أساس قواعد تقليدية ترتكز على "اعتقاد مؤسس في قدسية تقليد سحيق وشرعية أولئك الذين يمارسون السلطة على أساسه"88. أخيرا، السلطة التي تصبح شرعية عن طريق الكارزما ترتكز على ولاء التابعين للقدسية الاستثنائية، البطولة والشخصية النموذجية للقادة كما ترتكز على النظام المعياري الذي فرضوه. 






كل هذه الأنماط من شرعية السلطة تتضمن بوضوح فاعلين أفراد، عمليات عقلية – اعتقاد – وأفعال. لكن من هذه النقطة فإن فيبر تحول في تفكيره عن السطة بعيداً جداً من الفعل الفردي كأساس، كما سنرى في مناقشتنا عن بينات السلطة التي تقف على أساس تلك الأنواع الشرعية. 






السلطة القانونية 






السلطة القانونية يمكن أن تأخذ عدداً من الأشكال البنائية، لكن الشكل الذي آثار اهتمام فيبر على نحو خاص هو البيروقراطية، والتي اعتبرها "أنقى أنماط ممارسة السلطة القانونية"89. تصّور فيبر البيروقراطية في إطار نموذجي مثالي. وبالرغم من إدراكه لنقاط ضعفها فقد وصف فيبر البيروقراطية بطريقة إيجابية جداً. 
"من الناحية الفنية الصرفة، البيروقراطية قادرة على تحقيق أعلى درجات الفعالية، وبهذا المعنى فهي أكثر الوسائل المعروفة عقلانية في ممارسة السلطة على البشر. إنها تتفوق على كل الأشكال الأخرى في الدقة، الثبات، حزم النظم والمصداقية. لذلك فهي توفر لرؤساء المنظمة وللذين يتعاملون معها تقدير درجة معينة وعالية من النتائج، إنها متفوقة في الفعالية المكثفة وفي مجال عملياتها كما يمكن تطبيقها على كل أنواع المهام الادراية"90. 
بالرغم من هذا المدح للبيروقراطية، فإنه وفي مواقع مختلفة من أعماله نجد ازدواجية أساسية في توجهه نحوها. وبالرغم من تفضليه لإيجابياتها كان مدركا لمشاكلها. عبر فيبر عن تحفظات مختلفة على التنظيم البيرقراطي. فقد كان مدركا مثلا (للشريط الأحمر) الذي يجعل التعامل مع البيروقراطيات مجهد وصعب. كان خوفه الأساسي من أن تهدد العقلنة التي تسيطر على كل جوانب الحياة البيروقراطية حرية الفرد. فقد ذكر "ليس هنالك ماكينة في العالم تعمل بهذه الدقة مثل ذلك الجهاز من البشر وأكثر من ذلك بثمن زهيد … الحساب العقلاني يختزل كل عامل إلى شخص عديم الأهمية في هذه الماكينة البيروقراطية، وعندما ينظر إلى نفسه على ضوء ذلك فإنه يهتم فقط بكيفية تحويل نفسه إلى شخص أكثر انعداما للأهمية. الرغبة في نشر البيروقراطية تقودنا إلى اليأس"91
لقد فزع فيبر من تأثير توسيع البيروقراطية، وبصورة عامة من عقلنة العالم التي تشكل فيها البيروقراطية مكوناً واحداً، لكنه لم ير أي مخرج. لقد وصف البيروقراطية (بدليل الهروب) ولا (يمكن تحطيمها عمليا) وواحدة من أصعب المؤسسات تحطيماً عندما تأسس، كذلك يرى أن الأفراد البيروقراطيين ليس في إمكانهم "الإفلات" من البيروقراطية عندما "يربطوا" داخلها. خلص فيبر إلى أن "المستقبل للبيروقراطية"92 ولقد أثبت الزمن صحة تكهنه. 
سيقول فيبر إن وصفه لإيجابيات البيروقراطية هو جزء من تصوره النموذجي المثالي عن الطريقة التي تعمل بها. النموذج المثالي للبيروقراطية تضخيم للميزات العقلانية فيها. مثل ذلك النموذج المضخم مفيد للأغراض المساعدة ولدراسة المنظمات في العالم الحقيقي ويجب ألا يعتبر خطأ وصفا واقعيا للطرق التي تعمل بها البيروقراطية حقيقة. 
النموذج المثالي للبيروقراطية 
ميّز فيبر بين النموذج المثالي للبيروقراطية والنموذج المثالي للبيروقراطى. لقد تصور البيروقراطية كبنيات، والبيروقراطيين كمواقع ضمن تلك البنيات. فهو لم يقدم مما قد يوحي به توجهه نحو الفعل، علم نفس اجتماعي عن المنظمات أو عن الذين بداخلها كما فعل (التفاعلين الرمزيين، الإثنوميثورولوجيين أو الظاهراتيين). النموذج المثالي للبيروقراطية نمط من المنظمات ووحداته الأساسية مكاتب مرتبة في طريقة تسلسلية ولها قواعد، وظائف، وثائق مكتوبة ووسائل للإلزام. 
كل تلك الوحدات بنيات كبرى تمثل أساس تفكير فيبر. كان بإمكانه بعد كل ذلك بناء نموذج مثالي للبيروقراطية يركز على أفكار وأفعال الأفراد داخل تلك البيروقراطية وهناك مدرسة فكرية تركز في دراستها للمنظمات على ذلك المستوى الفردي وليس على بنية البيروقراطية. ما يلي يمثل المكونات الأساسية للنموذج المثالي للبيروقراطية: 
1- تتكون من نظام متصل من الوظائف المكتسبة (مكاتب) تربطها قواعد معينة. 
2- لكل مكتب مجال محدد للعمل. المكتب يحمل حزمة من الالتزامات لأداء الوظائف المختلفة اضافة إلى السلطات لأداء تلك الوظائف ووسائل الإلزام الضرورية لأداء الوظيفة. 
3- المكاتب منظمة بطريقة تسلسلية. 
4- ربما تحمل المكاتب مؤهلات تقنية تتطلب من المشارك تدريباً مناسباً. 
5- الموظفون الذين يشغلون تلك المكاتب لا يملكون وسائل الإنتاج المصاحبة لها وإنما توفر لهم تلك الأشياء الضرورية لأداء الوظيفة.
6- الموظف لا يسمح له بالاستيلاء على الموقع وإنما يظل الموقع دائما جزءاً من المنظمة. 
7- الأوامر الإدارية، القرارات والقواعد تصاغ وتسجل كتابة. 
البيروقراطية واحدة من البنيات العقلانية التي تلعب دوراً متزايداً في المجتمع الحديث، لكن ربما يتساءل الفرد عن إمكانية وجود بديل للبنية البيروقراطية. كانت إجابة فيبر بكل وضوح : ليس هنالك بديل ممكن "الحاجة إلى الإدارة الكلية تجعل الإستغناء عنها مستحيلا. يكون الإختيار فقط بين البيروقراطية و عدم الجدية في مجال الإدارة"93. 
في حين أننا نقبل أن البيروقراطية جزء جوهري من الرأسمالية الحديثة فربما نتساءل عن هل سيكون المجتمع الاشتراكي مختلفا. هل من الممكن خلق مجتمع اشتراكي بدون بيروقراطيات وبيروقراطيين؟ مرة أخرى كان فيبر صريحا "عندما يحاول الخاضعين للسيطرة البيروقراطية الهروب من تأثير جهاز بيروقراطي قائم، هذا عادة ممكن عن طريق إيجاد منظمة خاصة بهم والتي هي أيضا عرضة لعملية نمو البيروقراطية داخلها"94. 
في الحقيقة ، فإن فيبر كان يعتقد أننا في الحالة الاشتراكية سنشهد زيادة وليس نقصاناً في نمو البيروقراطية. ( يبدو ان الزمن قد أثبت صحة تكهن فيبر عن الحالة الاشتراكية فلقد شهدت دول شرق أوربا سابقا أسوأ مثال للبيروقراطية من قمة الدولة إلى أدنى المنظما[*1])
اذا أرادت الاشتراكية تحقيق مستوى من الفعالية يمكن مقارنته بذلك الذي للرأسمالية فإن "هذا يعني زيادة هائلة في أهمية الموظفين البيروقراطيين"95 . في الرأسمالية الملاك غير بيروقراطيين لكن في الاشتراكية سيكون حتى القادة في المواقع العليا جدا بيروقراطيين. لذلك يعتقد فيبر أن "الرأسمالية توفر أفضل الفرص لحماية الحرية الفردية والقيادة الخلاقة في العالم البيروقراطي"96. 
نجد أنفسنا مرة أخرى عند أطروحة أساسية في فكر فيبر: إنها وجهة نظره تلك، إنه حقيقة ليس هنالك من أمل في عالم أفضل. الاشتراكيون في محاولاتهم، يرى فيبر أنهم يزيدون الأمور سوءا بتوسيع درجة البيروقراطية في المجتمع ، لاحظ فيبر "ليست ثمة ورود صيفية أمامنا وإنما ليل قطبي ذو قسوة وظلام ثلجيين ولا يهم أي المجموعات ستنتصر الآن"97
شعاع الأمل الوحيد في أعمال فيبر – وهو خافت جداً – إن المهنيين الذين يقفون خارج النسق البيروقراطي يمكن أن يسيطروا عليه لحد ما. في هذه الفئة أدخل فيبر السياسيين المحترفين، العلماء وحتى الرأسماليين إضافة إلى القيادات العليا جداً في البيروقراطيات . يقول فيبر مثلا السياسيون "يجب أن يكونوا القوة الموازية ضد الهيمنة البيروقراطية"98. مقاله المشهور (السياسة كمهنة) هو في الأساس التماس لتطوير القادة السياسيين ودعوتهم لمعارضة أحكام البيروقراطية والبيروقراطيين. كذلك في مقاله (العلم كعطلة) قام فيبر بمرافعة عن العلماء المحترفين الذين بإمكانهم التصدي (لبقرطة) وعقلنة العلم. لكن في النهاية يبدو أن ذلك مجرد أمل ضئيل. في الحقيقة يمكن القول إن هؤلاء المهنيين هم ببساطة جانب آخر من عملية العقلنة وتطورهم يخدم فقط زيادة وتائر تلك العملية. 
السلطة التقليدية
في تحليله لبنيات السلطة التقليدية، استخدم فيبر كأداة منهجية نموذجه المثالي عن البيروقراطية. كان هدفه هو توضيح الفرق بين السلطة التقليدية والنموذج المثالي للبيروقراطية. 
في حين أن السلطة القانونية تنبع من مشروعية نسق قانوني عقلاني، فإن السلطة التقليدية مؤسسة على ادعاء القادة واعتقاد التابعين أن هنالك ميزة في القوانين والقوى القديمة. القائد في مثل هذا النظام ليس رئيسا ولكن سيداً شخصياً. الكادر الإداري يتكون ليس من موظفين وإنما من خدام شخصيين. وكما قال فيبر، الولاء الشخصي وليس الواجب الرسمي غير الشخصي هو الذي يحدد علاقة الكادر الإداري مع السيد. في حين أن الكادر البيروقراطي يدين في ولائه وطاعته للقوانين السائدة وللقائد الذي يتصرف باسمهم، فإن كادر القائد التقليدي يطيع لأن القائد يحمل ثقل التقليد – هو أو هي اختيرا لذلك الموقع بصورة تقليدية. في نسق قانوني عقلاني القائد مقيد بممارسة السلطة ضمن حدود مبادئ رسمية، لكن في النسق التقليدي يمكن أن تذهب السلطات بعيد جدا دون أن تثير أي مقاومة. ما كان مثيراً لاهتمام فيبر هو كادر القائد التقليدي وكيف يمكن قياسه مع كادر النموذج المثالي البيروقراطي. خلص إلى انه يفتقد عدة جوانب. الكادر التقليدي يفتقد المكاتب ذات مجالات العمل المحددة والخاضعة لقوانين غير شخصية. أيضا، ليس له ترتيب عقلاني لعلاقات الرئيس والمرؤوس، أي يفتقد التسلسل الواضح . ليس هناك نظام ثابت للتعيين والترقي على أساس العقود الحرة. التدريب الفني ليس شرطا ثابتا للحصول على موقع أو تعيين. التعيينات لا تتضمن مرتبات ثابتة تدفع نقدا. 
استخدم فيبر منهج النموذج المثالي ليس فقط لمقارنة السلطة التقليدية مع العقلانية وتحديد أكثر المميزات وضوحا في السلطة التقليدية، ولكن أيضا ليحلل تاريخيا الأشكال المختلفة للسلطة التقليدية. ميّز بين شكلين قديمين من السلطة التقليدية، سلطة حكم الشيوخ التي تتضمن حكم كبار السن والسلطة الأبوية الأساسية والتي تتضمن قادة يحصلون على مواقعهم عن طريق الوراثة. 
كلا هذين الشكلين له سيد أعلا لكنهما يفتقدان الكادر الإداري. لذلك فهما يفتقدان البيروقراطية. شكل أكثر حداثة هو السلطة الوراثية والتي هي هيمنة تقليدية لها إدارة وقوة عسكرية وهما عبارة عن أدوات شخصية خالصة للسيد. كل هذه الأشكال الثلاثة يمكن اعتبارها تنوعات بنيوية للسلطة التقليدية وتختلف كلها اختلافا جوهريا عن السلطة القانونية العقلانية. 
رآي فيبر أن بنية السلطة التقليدية في كل أشكالها تعوق تطور العقلانية . هذه المرة الأولى التي تقابلنا فيها إحدى أطروحات فيبر الأساسية، العوامل التي تسرّع أو تعوق تطور العقلانية الهادفة. 
نجد فيبر مهتما أكثر وأكثر - كما هو الحال هنا – بالعوامل البنيوية المفضية للعقلانية في العالم الغربي، والعوائق البنيوية لتطور عقلانية مشابهة في ما تبقى من العالم. في هذه الحالة المحددة يقول فيبر إن بنية وممارسات السلطة التقليدية تمثل عائقا لنشوء بنية اقتصادية عقلانية – خاصة الرأسمالية – إضافة للمكونات المختلفة الأخرى لمجتمع عقلاني. حتى السلطة الوراثية – الشكل الأكثر حداثة للتقليدية – في حين أنها تسمح بتطور شكل معين من الرأسمالية (البدائية) لا تسمح بنشوء النوع العقلاني جداً من الرأسمالية التى تميز الغرب الحديث. 
السلطة الكارزمية 
الكارزما مفهوم صار يستخدم بعمومية شديدة. وسائل الإعلام والجمهور يسارعون في الإشارة إلى سياسي، نجم سينمائي أو فنان كشخص كارزمي. بهذا فهم عادة ما يعنون أن الشخص المعين يتمتع بمقدرات غير عادية . مفهوم الكارزما يلعب دوراً هاماً في أعمال ماكس فيبر لكن يعني له شيئاً مختلفاً جداً عن مفهوم معظم العامة اليوم . بالرغم من أن فيبر لم ينكر أن الزعيم الكارزمي قد يمتلك خواص مميزة ، فإن فهمه للكارزما يعتمد أكثر على مجموعة التابعين والطريقة التي يعرّفون بها الزعيم الكارزمي . لوضع موقف فيبر بوضوح تام ، إذا عّرف التابعون زعيماً ككاريزمي، فإنه غالباً ما يصبح زعيما كارزميا غض النظر عن امتلاكه حقيقة لمقدرات مميزة . الزعيم الكارزمي إذاً من الممكن أن يكون شخصا عادياً جداً. المهم هو العملية التي عن طريقها يبتعد ذلك الزعيم من الناس العاديين ويعامل كانما يتمتع بقوي فوق طبيعية أو فوق إنسانية أو على الأقل استثنائية أو مقدرات لا يمكن الوصول اليها بواسطة الشخص العادي . 
بالنسبة لفيبر، الكارزما قوة ثورية وواحدة من أهم القوي الثورية في العالم الاجتماعي. في حين أن السلطة التقليدية في الأصل محافظة فإن نشوء زعيم كارزمي ربما يمثل تهديداً لذلك النظام (وأيضاً للنظام القانوني العقلاني) مما يؤدي إلى تغيرات هائلة فيه. إن الذي يميز الكارزما كقوة ثورية أنها تؤدي إلى تغيير في عقول الفاعلين، إنها تسبب " إعادة توجيه ذاتي أو داخلي" . مثل هذه التغيرات قد تؤدي إلى "تغير جذري للسلوك المركزي واتجاه الفعل مع توجه جديد تماماً لكل المواقف تجاه مختلف مشاكل العالم"99. 
بالرغم من أن فيبر يتناول هنا التغيرات في أفكار وأفعال الأفراد فإنهم اختزلوا بوضوح إلى عوامل متغيرة. ما هو مهم لفيبر هي التغيرات في بنية السلطة أي نشوء السلطة الكارزمية. عندما تظهر هذه البنية الجديدة فغالباً ما تغير أفكار الناس وأفعالهم بطرق ملحوظة 
القوة أو الفاعلية الثورية الأخري في نسق فيبر النظري، والتي أفرد لها الكثير من الاهتمام هي العقل أو أكثر تحديدا العقلانية الهادفة. في حين أن الكارزما قوة ثورية داخلية تغير عقول الفاعلين اعتبر فيبر العقل فاعلية ثورية خارجية تغير أولاً بنية المجتمع وبعد ذلك أفكار وأفعال الأفراد. لدينا الكثير الذي نقوله لاحقاً عن العقلانية كفاعلية ثورية لكن هذا ينهى نقاشنا عن الكارزما كعامل ثوري بما أنه كان لفيبر القليل الذي يقوله عنها. ما كان مثيراً لاهتمام فيبر عن الكارزما ليست خاصيتها الثورية وإنما بنيتها، والضرورة لتحويل ميزتها الأساسية، وتكرارها من أجل بقائها كنسق للسلطة . 
في تحليله للكارزما بدا فيبر – مثل ما فعل مع السلطة التقليدية بالنموذج المثالي البيروقراطي. حاول أن يحدد إلى أي مدي تختلف السلطة الكارزمية بتابعيها وكادرها عن النسق البيروقراطي. في مقارنة مع النموذج المثالي للبيروقراطية فإن كادر الزعيم الكارزمي يفتقد العديد من الجوانب. أعضاء الكادر لا يتم تدريبهم فنياً وإنما يتم اختيارهم لامتلاكهم خواص كارزمية أو على الأقل خواص شبيهة بتلك التي يمتلكها الزعيم الكارزمي. المكاتب التي يحتلونها لا تشكل أي تسلسل. عملهم لا يتضمن مهنة، كما أنه لا توجد ترقيات، تعيينات واضحة أو فصل . للزعيم الكارزمي الحق في التدخل في أي وقت يري فيه أن الكادر لا يستطيع التعامل مع موقف. ليس للمنظمة قوانين رسمية، ليس هناك وحدات إدارية مؤسسة كما لا توجد صلاحيات لتوجيه الأحكام. لكل هذا وجد فيبر أن كادر الزعيم الكارزمي أدني مرتبة مقارنة بالشكل البيروقراطي للتنظيم . 
اهتمام فيبر بالمنظمة التي تتبع الزعيم الكارزمي والكادر الذي يشغلها قاده إلى السؤال عن ماذا يحدث للسلطة الكارزمية عندما يموت الزعيم؟ . بعد كل ذلك، النسق الكارزمي في الأصل هش جداً ، ويبدو أنه يبقي فقط مع بقاء الزعيم الكارزمي حياً. لكن هل من الممكن لتلك المنظمة أن تبقي بعد موت الزعيم ؟ الإجابة على هذا السؤال تحمل تبعات كبرى على أعضاء كادر الزعيم الكارزمي لأنهم يعيشون بعد موته، وغالباً ما يكون لهم مصالح متأصلة في استمرارية وجود المنظمة : إذا فنيت المنظمة يصبحون بدون عمل . لذلك فإن التحدي للكادر هو أن يخلق وضعا تبقي فيه الكارزما بشكل مزيف حتى بعد موت الزعيم . هذا صراع صعب لأن فيبر يري أن الكارزما بطبيعتها غير ثابتة وتوجد في شكلها النقي فقط أثناء حياة الزعيم الكارزمي. 
لتلافي آثار غياب الزعيم الكارزمي فإن الكادر وكذلك التابعين ربما يتبعون استراتيجيات مختلفة لخلق منظمة أكثر استمراراً. ربما يبحث الكادر عن زعيم كارزمي جديد ، لكن حتى إذا كان البحث ناجحاً فإنه لا يبدو أن الزعيم الجديد سيحقق نفس الهالة كسابقه. أو ربما تطور حزمة من القوانين لتسمح للمجموعة بتحديد زعماء المستقبل الكارزميين. لكن سرعان ما ستصبح هذه القوانين تقليداً وما كان زعامة كارزمية يصبح في طريقه إلى التحول إلى سلطة تقليدية. لكن طبيعة القيادة تتغير جذرياً مع إزالة الخاصية الشخصية الصرفة للكارزما. طريقة أخري هي السماح للزعيم الكارزمي باختيار خلفه، وبذلك تحويل الكارزما رمزياً إلى الذي يليه. مرة أخري يكون التساؤل عن هل هذه طريقة ناجحة دائماً وعلى المدى الطويل. طريقة أخري هى أن يترك للكادر أن يحدد الخلف على أن يجد اختياره قبولاً من المجتمع العريض. يمكن للكادر أيضاً عمل اختبارات طقوسية على أن يكون من ينجح في تلك الاختبارات هو الزعيم الكارزمي الجديد. لكن كل هذه الجهود محكوم عليها بالفشل. في المدى البعيد لا يمكن تكرار الكارزما ويجب أن تتحول بالضرورة إما إلى سلطة تقليدية او سلطة قانونية عقلانية .
بالتأكيد إننا نجد نظرية دائرية للتاريخ في أعمال فيبر. في حالة نجاحها ، فإن الكارزما تتحول مباشرة في اتجاه العقلنة لكن بمجرد استمرارها فإن الكارزما لا تملك إلا أن تتحول إلى سلطة تقليدية أو سلطة قانونية عقلانية، وعندما تحقق أياً من تلك الحالات فإن الدائرة تبدأ من جديد. لكن بالرغم من ولائه للنظرية الدائرية فإن فيبر يعتقد أن تغيراً أساسياً قد حدث في العالم الحديث و غالباً ما نري الكارزما تتكرر في اتجاه السلطة القانونية العقلانية . 
إضافة إلى ذلك فقد رآي النظم العقلانية للسلطة أقوي وتصمد باستمرار أمام الحركات الكارزمية. العالم الحديث المعقلن قد يعني حقيقة موت الكارزما كقوة ثورة هامة. وأكد فيبر أن العقلانية وليس الكارزما هي القوة الأكثر أهمية والتي لا يمكن مقاومتها في العالم الحديث . 
في هذه الفقرة ناقشنا أنماط السلطة الثلاثة كنماذج مثالية، لكن فيبر كان مدركاً أنه في العالم الحقيقي أن أي شكل محدد من السلطة يتضمن مزيجاً من الثلاث سلطات. لذلك يمكننا أن نعتبر أن فرانكلين د. روزفيلت كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية قد حكم على أساس الثلاثة أنماط من السلطة. لقد انتخب رئيساً حسب سلسلة من القواعد العقلانية القانونية. وعندما انتخب رئيساً للمرة الرابعة فإن جزءاً كبيراً من تلك القواعد كان يتميز بجوانب تقليدية. أخيراً فإن العديد من المؤيدين والتابعين يعتبرونه زعيماً كارزمياً. 
بالرغم من أننا عرضنا أنماط السلطة الثلاثة كبنيات متوازية، ففي العالم الحقيقي هنالك توتر دائم وأحياناً صراع بينهما. الزعيم الكارزمي يمثل خطراً ثابتاً لأنماط السلطة الأخري . وما أن يصل إلى السلطة، فعلي الزعيم الكارزمي التعامل مع التهديد من النمطين الآخرين للسلطة. حتى إذا أمكن استمرار السلطة الكارزمية بنجاح تظهر مشكلة المحافظة على حيويتها وخواصها الثورية الأصيلة. كما أن هنالك الصراع الناتج عن النمو الدائم للسلطة القانونية العقلانية والتهديد الذى تمثله أمام استمرار وجود الأنماط الأخري. إذا صح ما كان يراه فيبر، فربما نواجه مستقبلاً يختفي فيه التوتر بين أنماط السلطة الثلاثة وعالماً من هيمنة السلطة القانونية العقلانية بلا منازع. هذا هو القفص الحديدي من المجتمع المعقلن بالكامل الذي كان يخشاه فيبر كثيراً. إذا تحقق مثل هذا المجتمع فإن الأمل الوحيد يكون في الأفراد الكارزميين المعزولين الذين استطاعوا بطريقة ما تجنب قوي المجتمع القاهرة . لكن عدداً قليلاً من الأفراد المعزولين من الصعوبة أن يمثلوا أملاً كبيراً في وجه ماكينة بيروقراطية تذداد قوة وتوسعاً . 

عقلنة العالم 
من الواضح أن فيبر تجنب فكرة أن هنالك قوة ما وراء الطبيعة تدفع العالم الغربي – وبالتأكيد بقية العالم – في اتجاه المزيد والمزيد من العقلانية. بعد كل ذلك نجد أن فكر فيبر تفوح منه رائحة النظريات التطورية التي عارضها بشدة. العقلانية – وتحديداً العقلانية الهادفة – هي في المستوي الشكلي ببساطة شكل مصغر من الفعل الاجتماعي . العديد من المفسرين اعتادوا أن لا يصدقوا كلمات فيبر عن هذا الموضوع جوليان فرويند يري أن "فيبر لم ينظر إليها –العقلانية – كنوع من القوى فوق الطبيعية تدفع تطور العالم في اتجاه محدد مسبقاً نحو هدف مطلق يمكن التكهن به نظرياً . على العكس ، إنه الأثر الجانبي لنشاط نوع معين من البشر والذي ربما يبثه أولا يبثه إلى بقية الإنسانية . أكثر تحديداً إنه يتعلق بالمعني الذي يعطيه أولئك الناس لنشاطاتهم وليس لذلك الهدف المتعذر تغيير تطور العالم الذي أعلن بواسطة فلاسفة التاريخ الفيضيين"100. 
إن ما يدعم هذا الموقف عدم التناول المنتظم للعقلانية في أعمال فيبر كفاعلية ثقافية بالمعني الذي تعامل به دوركايم مع التيارات الاجتماعية أو الضمير الجمعي كقوي من ذلك النوع. من أجل التوصل إلى ميل فيبر للتفكير عن العقلنة كفاعلية ثقافية، يجب علينا النظر في سلسلة من دراساته التاريخية المحددة. وكلما انتقلنا من دراسة إلى أخري سيتضح أن فيبر يعود باستمرار إلى موضوع العقلنة ليس في شكل الفعل الفردي ولكن كفاعلية ثقافية تهيمن على قطاع بعد آخر في المجتمع. بالرغم من أن العديد من الملاحظين يقبلون وجهة نظر فرويند التي أوردناها سابقاً لكن هنالك آخرون يرون أن العقلانية فعالية ثقافية. الطريقة الوحيدة للتعامل مع هذا الموضوع هي دراسة أفكار فيبر عن عدد من المؤسسات المحددة. سيكون ذلك كافياً لأن فيبر لم يعط مفهوماً عن المجتمع ككل وبشكل عام حصر نفسه في تحليل مكونات محددة للمجتمع. في هذه المؤسسات سنجد أفكار فيبر عن العقلنة التقدمية للغرب . 
قبل أن نتحول إلى كتابات فيبر عن مؤسسات محددة نحتاج إلى تقديم تعريف للعقلنة وهو ما لم يفعله فيبر. كما رأينا سابقاً، فقد عّرف فيبر العقلانية كما ميز بين نوعين منها – العقلانية الهادفة والعقلانية القيمية. لكن هذه المفاهيم تعني نمطاً من الفعل. إنهما أساس لكن ليست له حدود مشتركة مع معني فيبر الواسع للعقلانية. بشكل أساسي يمكننا أن نفهم من العقلنة أنها حزمة من المعايير والقيم التي تخللت العالم الغربي في حين أن هذه المعايير والقيم تواجه عوائق حقيقية في الأجزاء الأخري من العالم. بالنسبة لفيبر فإن العقلنة تعّرف بمكوناتها المتعددة. ويمكننا تحديد المكونات الأساسية للعقلنة في أعمال فيبر كما يلي: الكفاءة، القابلية للتحديد الحسابي، إزالة الغموض، واللاإنسانية. يمكننا تعريف العقلنة بانها العملية التي يصبح فيها المجتمع مهيمناً عليه بوتائر متزايدة من معايير وقيم الكفاءة، القابلية للتحديد الحسابي وإزالة الغموض التي تنتج اللاإنسانية . الكفاءة تعني أن المجتمع يركز على أهمية وجود أكثر وأسرع الطرق بين نقطة وأخري. خط تجميع السيارات مثال لوسائل أكثر كفاءة وفعالية لإنتاج السيارات. القابلية للتحديد الحسابي تعني الانشغال بالتنبؤ. خط التجميع صمم لإنتاج أعداد كبيرة من السيارات بصورة متوقعة. إنها تتضمن أيضاً تفضيل العوامل الكمية على النوعية. مطاعم ماكدونالدز، مثلاً تبذل قدراً كبيراً من الجهد في إخبارنا عن كم من بلايين الهامبورغر باعتها أكثر من أن تخبرنا عن نوعية ذلك الهامبورغر. ازالة الغموض أو عدم الوهم تعني إبعاد العناصر السرية من الحياة الاجتماعية على أن تحل محلها عناصر منتظمة، منطقية ومقبولة. إذا عدنا إلى خط تجميع السيارات فإن المفاهيم الغامضة للحرفية استبدلت بطرق متسقة، منطقية ومتكررة. أخيراً تتضمن العقلنة اللا إنسانية – ابعاداً للقيم الانسانية وعدم الاهتمام بها – خط التجميع صمم لخفض، إن لم يكن إزالة التغيرالبشرى. إضافة إلى ذلك وكما أشارت الدراسة عن الاستلاب وسط عمال خط التجميع، تعمل التكنولوجيا عادة بطريقة مناقضة لبعض الحاجات والقيم الإنسانية الأساسية . 
مميزات العقلانية الأربعة تعكس ازدواجية فيبر العميقة تجاه هذه العملية. من ناحية، رآي العديد من الاشياء الايجابية تنبثق من التركيز على الفعالية، القابلية الحسابية وإزالة الغموض ، لكن من الناحية الأخري كان مهتما جداً باللاإنسانية التي تصاحب العقلنة . 
كتابات فيبر عن بنية السلطة تتناسب مع الإطار العام للعقلنة. السلطة التقليدية والكارزمية استبدلتا على الأقل في الغرب بنسق سلطة قانونية عقلانية. إضافة إلى ذلك البيروقراطية هي في طرق متعددة نموذج فيبر عن النسق العقلاني. إنها مبنية على مبادئ من الفعالية والقابلية المحاسبية . إنها باستمرار تستبدل العناصر الوهمية بطرق متسقة منطقية ومستمرة . إنها تدعم عملية اللاأنسنة باختزال البيروقراطيين إلى أشخاص صغار عديمي الأهمية في ماكينة بيروقراطية ضخمة وغير شخصية. ننتقل الآن لمناقشة أفكار فيبر عن العقلنة في العديد من المؤسسات المحددة. 
القانون 
عّرف فيبر القانون ليس على ضوء تعريف الناس له، لسلوكهم واعتقاداتهم وإنما اعتبره جملة من المعايير. إضافة إلى ذلك فإن تلك الجملة من المعايير تعتبر قاهرة للأفراد ولأفكارهم وأفعالهم. التركيز ليس على كيف يخلق الناس القانون، يفسرونه ويتعاملون معه يوميا،ً وإنما على أثره القاهر على الفرد . 
بدأ فيبر تحليله عن القانون بالقانون البدائي، والذي اعتبره غير عقلاني إلى درجة بعيدة. القانون البدائي عبارة عن نسق من المعايير غير المميزة. مثلاً ليس هنالك تفريق بين خطا مدني (الضرر) والجريمة. لذلك فإن القضايا التي تتضمن اختلافات حول قطعة أرض و قضايا القتل غالباً ما يتم تناولها ويعاقب المخطئون بالطريقة نفسها. إضافة إلى ذلك يفتقد القانون البدائي الآلية الرسمية. الثأر يهيمن على ردود الأفعال على الجرائم كما أن القانون خال من الإجراءات الرسمية والقواعد. القادة غير مقيدين تماماً فيما يتعلق بما يفعلونه بالتابعين . هذا ومن هذه الفترة المبكرة من عدم العقلانية تابع فيبر خطاً مباشراً للتطور تجاه إجراءات قانونية رسمية. وكما هو العادة في تفكير فيبر، في الغرب فقط، تطورت نظرية للقانون عقلانية ومتسقة . 
تتبع فيبر مراحل مختلفة من التطور نحو نظام قانوني أكثر عقلانية. المرحلة المبكرة تضمنت إلهاماً قانونياً كارزمياً بواسطة مبشري لقانون. ثم هنالك الخلق التجريبي و تأسيس القانون بواسطة الموظفين القانونيين. مؤخراً هنالك فرض القانون بواسطة قوي علمانية أو دينية. أخيراً في الحالة الأكثر حداثة نجد التوسع المنتظم للقانون والإدارة المحترفة للعدل عن طريق أشخاص تلقوا تدريبهم القانونى رسمياً وبانتظام أيضاً . 
يضع فيبر وزناً كبيراً على عملية الاحتراف. المهنة القانونية جوهرية في عقلنة القانون الغربي. بالتأكيد هنالك عوامل أخرى (تأثير القانون الروماني مثلاً ) لكن المهنة القانونية كانت مركزية في تفكيره "القانون الموسع رسمياً والذي يحتوي على احكام معقدة تطبق بوعي في قرارات لم تكن ستوجد أبداً من غير التضامن الحاسم من المختصين المدربين"101. 
بالرغم من أن فيبر كان مدركاً أن هناك سلسلة من الضغوط الخارجية – خاصة من الاقتصاد المتعقلن – تدفع بالقانون تجاه العقلنة، فإن وجهة نظره هي أن العامل الأكثر أهمية هو العامل الداخلي وهو احتراف مهنة القانون . 
ميّز فيبر بين نوعين من التدريب القانونى لكن واحداً فقط ساهم في تطور القانون العقلاني. الأول هو التدريب الحرفي الذي يتعلم فيه التلاميذ من المعلمين خلال الممارسة الفعلية للقانون. هذا النوع من التدريب نوع رسمي تغلب عليه السوابق. الهدف ليس إايجاد نظام قانونى عقلاني وشامل وإنما سوابق مفيدة عملياً في التعامل مع المواقف المتكررة. بما أن هذه السوابق مرتبطة بقضايا محددة في العالم الحقيقي فلن يكون من الممكن ظهور قانون عام، عقلاني ومتسق. 
على النقيض، إنما التدريب القانوني الاكاديمي هو الذي وضع الأساس العملي للقانون العقلاني في الغرب. في هذا النظام يدرس القانون في مدارس متخصصة ويكون التركيز على نظرية القانون والعلم – بمعني آخر تعامل الظواهر القانونية بشكل عقلاني ومتسق. 
المفاهيم القانونية التي تنتج لها صفة المعايير المجردة. تفسير هذه القوانين يتم بطريقة صارمة، رسمية ومنطقية. المفاهيم القانونية تتميز بالعمومية على العكس من القوانين المحددة المرتبطة بالسوابق في حالة التدريب القانوني الحرفي. التدريب القانوني الأكاديمي أدي إلى تطور النظام القانوني العقلاني الذي يتميز بعدد من الخصائص تشمل ما يلي: 
1- كل قرار قانوني ملموس يتضمن تطبيق مسألة قانونية مجردة لمواقف ملموسة. 
2- يجب أن يكون من الممكن في كل قضية استقاء قرار منطقي من مواد قانونية مجردة . 
3- القانون أصبح نسقاً من المواد القانونية الخالي من الثغرات أو على الأقل يعامل كذلك . 
4- النسق القانوني الخالي من الثغرات يجب أن يكون قابلاً للتطبيق على كل الأفعال الاجتماعية . 
يبدو أن فيبر ياخذ بوجهة النظر التي تقول أن التاريخ قد شهد تطور القانون من نسق معايير ثقافية إلى نسق من القانون الرسمي أكثر تعقيداً. عموماً، الفاعلون مقيدون باستمرار بنسق قانوني عقلاني. بالرغم من صحة ذلك، فقد كان فيبر عالماً اجتماعياً جيداً لم يفقد النظر بالكامل تجاه أهمية استقلال الفاعل. يري فيبر أن الفاعلين أساسيون في ظهور وتغيير القانون. لكن، الجانب الاكثر أهمية من أعمال فيبر في هذه الناحية – ولأغراض هذه المناقشة – هو الدرجة التي يعتبر فيها القانون جزءاً من العملية العامة للعقلنة في كل مكان من الغرب. 
نظام الحكم 
عقلنة النسق السياسي ذات ارتباط مباشر بعقلنة القانون وعقلنة كل عناصر النسق الاجتماعي. فقد ذكر فيبر مثلاً – كلما أصبحت البنية السياسية عقلانية كلما أدي ذلك إلى المزيد من الحذف المنتظم للعناصر غير العقلانية في القانون. نسق الحكم العقلاني لا يمكن أن يعمل في ظل قانون غير عقلاني والعكس صحيح – لم يكن فيبر يعتقد أن القادة السياسيين يتبعون سياسة واعية لعقلنة القانون وإنما يدفعون للسير في ذلك الاتجاه بمتطلبات وسائلهم الإدارية المتزايدة العقلانية. مرة أخري يتخذ فيبر موقفاً يكون فيه الفاعلون مدفوعين بقوي بنيوية – الدولة – وثقافية – العقلنة . 
عّرف فيبر نظام الحكم كما يلي "مجتمع فعله الاجتماعي يهدف إلى إخضاع الإقليم وأفعال الأشخاص داخله إلى الهيمنة المتحكمة بواسطة المشاركين وذلك من خلال الاستعداد للجوء لاستخدام القوة الجسمانية، ويشمل ذلك عادة قوة السلاح"102. هذا النوع من نظم الحكم لم يوجد في كل مكان ولم يكن موجوداً دائماً . إنه لم يوجد ككينونة منفصلة تكون فيها مهمة الدفاع المسلح ضد الأعداء موكلة للأسرة، روابط الجوار، مجموعة اقتصادية وما إلى ذلك . 
بالرغم من أن فيبر اعتبر نظام الحكم بنية اجتماعية، فقد كان حريصا على ربط تفكيره بآرائه عن فعل الفرد. ويري أن المنظمات السياسية الحديثة تقوم على المكانة والهيبة التي تمنح لها بواسطة أعضائها . 
وكما في استراتيجيته المعتادة، ذهب فيبر الوراء إلى الحالة البدائية من أجل متابعة تطور نظم الحكم. لقد أوضح أن الفعل الاجتماعي العنيف بدائي. لكن استقطاب العنف الشرعي وفرضه العقلاني لم يوجد في المجتمعات المبكرة وإنما تطور عبر القرون. ليس فقط السيطرة العقلانية على العنف هي المفقودة في المجتمع البدائي وإنما الوظائف الأخري الأسياسية للدولة فهي إما غائبة بالكامل أو لا تؤدي بطرق عقلانية. هذه تشمل وظائف مثل التشريع، الشرطة، العدل، الإدارة والعسكرية. تطور نظم الحكم في الغرب تضمن التمييز المتصاعد لهذه الوظائف وتوسيعها. لكن الخطوة الأكثر أهمية هي وضعها تحت دولة واحدة مهيمنة ومنظمة عقلانياً . 
المدينة 
اهتم فيبر أيضاً بقيام المدينة العقلانية والمتميزة في الغرب. وعّرف المدينة بأن لها الخصائص التالية : 
1- إنها مستوطنة مغلقة نسبياً .
2- إنها كبيرة الحجم نسبياً . 
3- تمتلك سوقاً .
4- لها سيادة سياسية نسبية . 
في حين أن العديد من المدن في الكثير من المجتمعات تمتلك الخصائص اعلاه, فإن المدن الغربية طّورت شخصية عقلانية خاصة، لها – إضافة إلى أشياء أخرى، سوق منظم عقلانيا وبنية سياسية. نظر فيبر إلى العديد من المدن ليحدد لماذا لم تطّور النمط العقلاني من المدينة. خلص إلى أن المعوقات مثل المجتمع التقليدي في الصين ونظام الطوائف في الهند حال دون قيام مثل تلك المدن. لكن في الغرب فإن العديد من القوي المعقلنة تضافرت لخلق المدينة الحديثة. تطور المدينة احتاج مثلاً اقتصاداً عقلانياً نسبياً، لكن العكس أيضا صحيح : تطور الاقتصاد العقلاني يحتاج إلى مدينة حديثة. 
الموسيقي 
لإعطاء القارئ فكرة عن سعة أفكار فيبر، نحتاج إلى أن نقول بعض الكلمات القليلة عن أعماله حول عقلنة الموسيقي . يري فيبر أن الموسيقي والفن في الغرب قد تطورا في اتجاه عقلاني خاص اختزل الإداع الفني إلى طرق روتينية مبنية على مبادئ شاملة. شهدت الموسيقي في الغرب "تحول عملية الإنتاج الموسيقي إلى شان قابل للحساب يعمل بوسائل معروفة ، أدوات فعالة وقواعد مفهومة"103. بالرغم من عملية العقلنة، يولد التوتر في كل المؤسسات التي تحدث فيها تلك العملية، وذلك التوتر أوضح في الموسيقي أيضا. يفترض أن تكون الموسيقي مجالاً للمرونة التعبيرية لكنها تختزل بوتائر متصاعدة إلى نسق عقلاني حسابي مطلق . 
في الصفحات الماضية استعرضنا أفكار فيبر عن العقلنة في جوانب مختلفة من الحياة الاجتماعية، وبالرغم من أنه لم يشر إلى ذلك بوضوح نعتقد أن فيبر ياخذ بوجهة النظر التي تقول إن التغيرات في المستوي الثقافي للعقلانية تقود إلى تغيرات في بنيات وكذلك أفكار وأفعال الفرد في العالم الحديث. عملية العقلنة لا تترك لتسبح وحدها فوق ظواهر محددة لكنها متضمنة في البنيات الاجتماعية العديدة وفي أفكار وأفعال الافراد. بمعني آخر، النقطة الأساسية هي أن النسق الثقافي للعقلانية يحتل موقع الأسبقية التعليلية في أعمال فيبر. يمكننا عرض ذلك بطريقة أخري بالنظر إلى عمل فيبر عن العلاقة بين الدين والاقتصاد، وتحديداً العلاقة بين الدين وتطور أو عدم تطور الاقتصاد الرأسمالي . 
الدين ونشوء الرأسمالية 
أمضي فيبر جزءاً كبيراً من حياته في دراسة الدين. واحد من اهتماماته الطاغية العلاقة بين مختلف أديان العالم وتطور النظام الاقتصادي الرأسمالي في الغرب فقط. من الواضح أن الجزء الأكبر من عمله كان على المستويين البنائي والثقافي، أفكار وأفعال الكالفينيين (*) ، البوذيين(*) ، والكونفوشيين(*) وآخرين يعتقد أنها تتحدد عن طريق التغيرات في البنيات والمؤسسات الاجتماعية. كان فيبر مهتماً أساساً بانساق الأفكار في أديان العالم، بالروح الرأسمالية وبالعقلنة كنسق معايير وقيم حديث. لقد كان مهتماً أيضاً ببنيات الأديان العالمية، وبمختلف المكونات البنائية للمجتمعات الموجودة فيها والتي تعمل على تسريع أو إعاقة العقلنة، كما كان مهتما بالجوانب البنائية للرأسمالية وباقي العالم الحديث . 
كتابات فيبر عن الدين والرأسمالية تتضمن عدداً ضخماً من الأحاث الثقافية التاريخية المتقاطعة . فرويند (1968) لخص التدخلات المعقدة في تلك البحوث على النحو التالي : 
1- القوي الاقتصادية أثرّت في البروتستانتية . 
2- القوي الاقتصادية أثرّت في أديان غير البروتستانتية (الهندوسية، الكونفوشية والطاوية(*)). 
3- أنساق الأفكار الدينية تؤثر في أفكار وأفعال الفرد – خاصة الأفكار والأفعال الاقتصادية . 
4- كانت أنساق الأفكار الدينية مؤثرة في كل أنحاء العالم . 
5- أنساق الأفكار الدينية (خاصة البروتستانتية)، كان لها أثر متفرد في الغرب في المساعدة على عقلنة القطاع الاقتصادي وكل القطاعات الاخري فعلياً . 
بإعطائه العامل الديني الأهمية المركزية يبدو فيبر وكانه يبني على تصوره لأعمال ماركس وينتقدها في نفس الوقت. عمل فيبر مثل ماركس على أساس نموذج معقد من العلاقات المتداخلة للأنساق الكبرى الأساسية. "إن علم اجتماع فيبر على علاقة بأفكار ماركس في سعيهما المشترك لإدراك تداخل نظم المؤسسات التي تكون البنية الاجتماعية. في أعمال فيبر الأنساق المؤسسية العسكرية والدينية، السياسية والقانونية ترتبط وظيفياً بالنظام الاقتصادي بطرق مختلفة"104. في الحقيقة إن علاقة فيبر بماركس أكبر من ما هو معروف عادة. بالرغم من أن فيبر في بداية حياته الفكرية أعطي الأهمية الأساسية للأفكار الدينية ، عاد مؤخراً ليري أن القوي المادية وليست أنساق الأفكار هي التي لها أهمية مركزية. فقد ذكر " ليست الأفكار وإنما المصالح المادية والمثالية هي التي تحكم مباشرة أفعال البشر. رغم ذلك فإن التصورات عن العالم التي خلقتها الأفكار حددت الطريق الذي دفعت فيه الأفعال بواسطة حركة المصالح"105. 
في تحليله للعلاقة بين الأديان العالمية والاقتصاد طور فيبر تصنيفاً لأشكال الدين. الزهد هو النوع الأول الواسع من التدين ويتضمن توجهاً نحو الفعل مع التزام المعتقدين بتحريم مباهج العالم على أنفسهم. الأديان الزهدية تنقسم إلى نوعين، الزهد الرافض للعالم ويتضمن حزمة من المعايير والقيم تأمر التابعين بالعمل ضمن العالم الدنيوي لكن عليهم أن يكافحوا ضد إغوائه. 
ما كان على أهمية خاصة لفيبر هو النوع من الزهد المتضمن للعالم وذلك يشمل الكالفينية. هذا الدين لا يرفض العالم وعلى العكس فإنه يحث أعضاءه بنشاط عاى العمل ضمن العالم ليجدوا الخلاص أو على الأقل إشارات له. الهدف المميز هنا هو السيطرة الصارمة والمنهجية على طرق حياة الأعضاء وأفعالهم وأفكارهم. يحث الأعضاء على رفض كل ما هو غير أخلاقي، حسي أو يعتمد على ردود أفعالهم العاطفية تجاه العالم الدنيوي. الزاهدون زهداً متضمناً للعالم يدفعون لتنظيم سلوكهم الخاص من أجل أن يكونوا ما أسماه فيبر "رجال المهنة" . 
في حين أن النوعين من الزهد يتضمنان نوعاً من الفعل وإنكاراً للذات، فإن التصوف يتضمن التأمل، العواطف وعدم الفعل. قسم فيبر التصوف بنفس الطريقة التى قسم بها الزهد. هنالك التصوف الرافض للعالم ويتضمن الابتعاد الكامل عنه، كما أن هنالك التصوف المتضمن للعالم والذي يقود إلى جهد تأملي لفهم معناه ، لكن ذلك المجهود محكوم عليه بالفشل لأن العالم يعتبر خارج إدراك الفرد. على كل حال، فإن نوعي التصوف والزهد الرافض للعالم يمكن اعتبارهما أنساق أفكار تعيق تطور الرأسمالية والعقلانية. من ناحية أخري فإن الزهد المتضمن للعالم هو نسق الأفكار والقيم الذي ساهم مساهمة كبيرة في تطور الظواهر – الرأسمالية والعقلانية – في الغرب . 
الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية 
تتبع ماكس فيبر في أكثر أعماله شهرة (الاخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية) أثر البروتستانتية – وفي الدرجة الأولي الكالفينية – على نشوء الروح الرأسمالية. هذا العمل جزء صغير من عمل ضخم يتابع العلاقة بين الدين والرأسمالية على مستوي العالم . 
في مقدمته لـ (الأخلاق البروتستانتية) أوضح فيبر بجلاء أن اهتمامه العام يتركز على نشوء العقلانية المميزة للغرب – العقلانية الهادفة- والرأسمالية بتنظيمها العقلاني للعمالة الحرة، أسواقها المفتوحة، ونظامها العقلاني لمسك الدفاتر هي مكون واحد فقط لذلك النسق المتطور – أي العقلانية الهادفة. كما ربطها مباشرة بالتطور الموازي، عقلنة العلم، القانون، السياسة، الفن، المعمار، الأدب، الجامعات ونظام الحكم 
لم يربط فيبر مباشرة بين نسق الأفكار في الأخلاق البروتستانتية و بنيات النظام الرأسمالي وإنما كان راغباً في ربط الأخلاق البروتستانتية مع نسق أفكار أخرى تلك هى "الروح الرأسمالية" . بمعني آخر نسقي أفكار يرتبطان مباشرة في هذا العمل . بالرغم من أن ارتباطات النظام الاقتصادي الراسمالي بالعالم المادي ضمّنت وأشير اليها ، لكنها لم تكن اهتمام فيبر الأساسي . 
بدأ فيبر باختبار ورفض تفسيرات مغايرة عن لماذا نشأت الرأسمالية في الغرب في القرنين السادس والسابع عشر. بالنسبة للذين يرون أن الرأسمالية نشات لأن الظروف المادية كانت مناسبة في ذلك الوقت أجاب فيبر بأن الظروف المادية كانت ناضجة في أوقات أخري كذلك ولم تنشأ الرأسمالية. رفض فيبر أيضاً النظرية السايكلوجية التي تقول أن تطور الراسمالية كان ببساطة نسبة لغريزة التملك. فهو يري أن مثل هذه الغريزة كانت موجودة دائماً لكنها لم تنتج رأسمالية في المواقف الأخرى. رؤية فيبر هي أن العامل التفسيري الأساسي هو حزمة الأفكار الدينية التي أنتجتها الثورات الدينية في القرن السادس عشر. 
الدليل على رؤية فيبر عن أهمية البروتستانتية موجود في اختبار البلدان ذات الأنساق الدينية المتعددة. بالنظر إلى تلك البلدان اكتشف أن قادة النظام الاقتصادي – قادة قطاع الاعمال – ملاك رأس المال، العمال المهرة في الوظائف العليا والكادر الأكثر تدريباً فنياً وتجارياً – جميعهم بروتستانت. أخذ ذلك ليعني أن البروتستانتية سبب هام في اختيار تلك المهن بينما فشلت الأديان الأخري (الكاثوليكية الرومانية) في إنتاج نسق أفكار يدفع الأفراد إلى نفس المهن. 
يري فيبر أن الرأسمالية لا تعرّف ببساطة بالجشع الاقتصادي، إنها وبطرق عديدة على العكس تماماً من ذلك. إنها نظام أخلاقي ، وطريقة حياة تؤكد على أشياء عديدة من بينها النجاح الاقتصادي. في الحقيقية، لقد كان تحويل جمع الأرباح إلى روح هو الحاسم في الغرب. في المجتمعات الآخري يعتبر السعي وراء الربح فعل فردي دافعه – على الاقل جزئياً – الجشع. لذلك فإن العديدين يعتبرونه مشبوه أخلاقيا.ً لكن لقد نجحت البروتستانتية في تحويل السعي وراء الربح إلى حملة. إن مساندة النظام الاخلأقي هي التي أدت إلى التوسع غير المسبوق في السعي وراء الربح وأخيراً الرأسمالية. على المستوي النظري، بتأكيده على أنه يتناول العلاقات بين روح محددة – (البروتستانتية) وأخرى (الروح الرأسمالية) استطاع فيبر المحافظة على تحليله على مستوي الأنساق الفكرية . 
روح الرأسمالية يمكن النظر إليه كنسق معياري يتضمن عدداً من الأفكار المتداخلة. هدفها مثلاً هو غرس "سلوك يسعي وراء الربح عقلانياً وبانتظام"106. إضافة إلى ذلك إنها تعظ بتجنب مباهج الحياة. "هل تري الرجل الناجح في عمله ؟ سيقف أمام الملوك"107. أيضا ضمن روح الرأسمالية أفكار مثل "الوقت من ذهب " كن مجداً "كن مقتصداً" "كن منصفاً" "كن منضبطاً في مواعيدك" و"كسب المال في حد ذاته غاية مشروعة". فوق كل ذلك هناك الفكرة التي تقول إن واجب الناس هو زيادة ثروتهم دون توقف. هذا يخرج الروح الرأسمالية من مجال طموح الفرد إلى نوع من الأمر الأخلاقي. وقال فيبر إن نوعاً من الرأسمالية (الرأسمالية المغامرة مثلاً) وجد في الصين، الهند، بابل، العالم القديم وأثناء القرون الوسطي لكنها تختلف من الرأسمالية الغربية بشكل أساسي لأنها تتفقد "تلك الأخلاق المحددة". 
لم يكن فيبر مهتما فقط بوصف هذا النسق الأخلاقي ولكن أيضاً توضيح كيفية اشتقاقه. رأي أن البروتستانتية وخاصة الكالفينية أساسية في نشوء الروح الرأسمالية ولكنها ليست العامل الأوحد. لم تعد الكالفينية ضرورية لاستمرار ذلك النظام الاقتصادي. في الحقيقة وفي معان مختلفة فإن الرأسمالية الحديثة بدنيوتها تقف في تعارض مع الكالفينية ومع الأديان بشكل عام. لقد أصبحت الرأسمالية اليوم كينونة حقيقية تجمع معايير، قيم، سوق، رأسمال وقوانين. إنها أصبحت حسب اصطلاح دوركايم حقيقة اجتماعية خارجة ومستقلة عن الفرد وقاهرة له. يقول فيبر: "الرأسمالية اليوم كون هائل يولد الفرد بداخله وتعرض نفسها له، على الأقل كفرد، كنظام للأشياء غير قابل للتغيير يجب أن يعيش فيه. إنها تجبر الفرد( بما أنه داخل في نسق من علاقات السوق) ليتوافق مع القواعد الرأسمالية للفعل"108. 
نقطة أخرى أساسية هنا هى أن الكالفينية لم تسع بوعي لإيجاد النظام الرأسمالي. حسب وجهة نظر فيبر، إن الرأسمالية نتيجة غير متوقعة للأخلاق البروتستانتية. مفهوم النتائج غير المتوقعة له أهمية كبيرة في مؤلفات فيبر لأنه يعتقد أن ما يسعي اليه الأفراد والجماعات في أفعالهم كثيراً ما يقود إلى حزمة من النتائج التي تختلف مع مقاصدهم. بالرغم من أن فيبر لم يوضح هذه النقطة، يبدو أنها ذات علاقة برؤيته النظرية التي تقول ان الناس يخلقون بنيات اجتماعية لكن هذه البنيات سرعان ما تأخذ حياتها الخاصة، والتي يكون للناس الذين خلقوها سيطرة ضعيفة عليها. وبما أن الناس فقدوا السيطرة عليها فإن البنيات حرة في أن تتطور في طرق مختلفة وغير متوقعة تماماً . 
الكالفينية والروح الرأسمالية 
الكالفينية هي تلك النسخة من البروتستانتية التي كثيراً ما أثارت اهتمام فيبر. أحد مظاهر الكالفينية تكمن فى الفكرة التي تقول إن عدداً صغيراً من الناس فقط هم الذين اختيروا للخلاص. اضافة إلى ذلك، الكالفينية تستلزم الإيمان بالقضاء والقدر وأن الناس قد قدر لهم مسبقاً إما مع الناجين أو المعذبين. ليس هنالك من شيء يمكن للفرد أو الدين ككل عمله للتأثير على ذلك القدر. لكن فكرة القضاء المسبق تترك الناس غير متأكدين حول إن كانوا ضمن الناجين. لتقليل هذه الشكوك طوّرت الكالفينية فكرة أن هنالك علاقات يمكن أن تستعمل كمؤشرات لمعرفة نجاة الشخص أم عدم نجاته. يحث الناس على العمل بجد وذلك لأنهم اذا نجحوا سيكشفون علامات الخلاص التي توجد في النجاح الاقتصادي. باختصار الكالفينى يحث على الدخول في نشاط دنيوي كثيف وأن يكون "رجل مهنة" . 
لكن الأفعال المعزولة غير كافية. الكالفينية كأخلاق تتطلب السيطرة على الذات وطريقة حياة منظمة تتضمن نشاطات دائرية متداخلة خاصة النشاطات الاقتصادية. هذا يقف في تعارض مع النموذج المسيحي المثالي للقرون الوسطي والذي يدخل فيه الأفراد ببساطة في أفعال معزولة حسب المناسبة من أجل التكفير عن ذنب معين ولزيادة فرصهم في الخلاص. "الكالفينية لا تتطلب من معتقد بها فعلاً واحداً جيداً وإنما حياة كاملة من الأعمال الجيدة متحدة في نسق موحد"109. أنتجت الكالفينية نسقاً أخلاقياً ومجموعة من الناس هم رأسماليون ناشئون. الكالفينية "تتميز بقبول أخلاقي عالٍ لدي رجل الطبقة الوسطي الجاد الذي يصنع نفسه"110. لخص فيبر موقفه عن الكالفينية وعلاقتها بالرأسمالية كما يلي "التثمين الديني للعمل المنظم المتواصل الذي لا يعرف الراحة واعتباره أعلا وسائل الزهد وفي نفس الوقت الدليل المؤكد والواضح على الميلاد من جديد والإيمان الأصلي، لابد أنه كان الدعامة الأقوي لتوسع الروح الرأسمالية"111. 
بالإضافة إلى صلتها العامة بالروح الرأسمالية للكالفينية بعض الجوانب الأخرى الملموسة. أولاً ، وكما أشرنا سابقاُ ، يسعى الرأسماليون خلف مصالحهم الاقتصادية بلا رحمة ويشعرون أن مثل ذلك السعي ليس مجرد مصلحة ذاتية وإنما في الحقيقة واجبهم الأخلاقي. هذا لا يسمح فقط بعدم الرحمة غير المسبوق في إدارة الأعمال وإنما يصمت أيضا المنتقدين المحتملين الذين من الممكن أن يختزلوا تلك الأفعال الى مصالح ذاتية . 
ثانياً، وفرت الكالفينية للرأسمالية الصاعدة "عمال جادين يعتنون بعملهم ومنضبطين على نحو غير عادي يتمسكون بعملهم كهدف للحياة أملاه الدين"112. بمثل قوة العمل هذه يمكن للراسمالي الناشئ أن يرفع مستويات الاستغلال إلى درجات غير مسبوقة . ثالثاً إانها تضفي الشرعية على نسق التراتب غير المتساوي بإعطاء الرأسمالي "التأكيد المريح أن التوزيع غير العادل للممتلكات في هذا العالم هو توزيع سماوي"113. 
بالرغم من ثنائه على النظام الرأسمالي ، كان لفيبر بعض التحفظات عليه كما فعل مع كل جوانب العالم المعقلن. فقد أشار مثلاً إلى أن الرأسمالية تنتج "متخصصين بلا روح، شهوانيين بلا قلوب، هذا الباطل يتصور أنه حقق مستو من الحضارة لم يحقق من قبل أبداً"114. 
على الرغم من أن فيبر في (الأخلاق البروتستانتية) ركز على أثر الكالفينية على الروح الرأسمالية فقد كان مدركاً أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية لها أثر تبادلي على الدين. لقد اختار أن لا يتناول تلك العلاقة لكنه أوضح أن هدفه ليس استبدال تفسير روحى وحيد الجانب بتفسير مادي وحيد الجانب نسبة للماركسيين . 
إذا كانت الكالفينية هي العامل الأساسي في نشوء الراسمالية في الغرب يكون السؤال : لماذا لم تنشأ الرأسمالية في مجتمعات أخري ؟ في محاولته للإجابة على هذا السؤال تناول فيبر المعوقات الروحية والمادية لنشوء الرأسمالية. دعنا الآن ننظر باختصار إلى تحليل فيبر عن هذه المعوقات في اثنين من المجتمعات – الصين والهند. 
الدين والرأسمالية في الصين 
أحد الافتراضات الجوهرية الذي مكن فيبر من جعل المقارنة مشروعة بين الغرب والصين أن الصين مثل الغرب كانت لديها الشروط الضرورية لتطور الرأسمالية. هنالك تقاليد راسخة من التملك والمنافسة. كانت هنالك صناعة عظيمة واستعداد كبير للعمل وسط عامة الناس. وجدت روابط عمل قوية و عدد السكان كان متزايداً كما كان هنالك نمو في المعادن الثمينة. بهذه وغيرها من الشروط المادية، لماذا لم تنشأ الرأسمالية في الصين ؟ كما أشرنا سابقاً إجابة فيبر العامة أن هنالك عوائق اجتماعية ، بنيوية ودينية في الصين منعت تطور الرأسمالية. هذا لا يعني أن الرأسمالية كانت غائبة بالكامل في الصين. كان هنالك مرابون وممونون يسعون من أجل الحصول على معدلات عالية من الربح. لكن السوق إضافة إلى العديد من المكونات العقلانية للنظام الرأسمالي لم تكن موجودة. يري فيبر أن الرأسمالية البدائية في الصين "تشير إلى اتجاهات معاكسة لتطور مؤسسات اقتصادية عقلانية"115. 
المعوقات البنيوية 
حدد فيبر العديد من المعوقات البنائية لنشوء الرأسمالية في الصين. أولها بنية المجتمع الصيني النمطي الذى يتماسك بنظام قرابة صارم في شكل مجموعات أقرباء. هذه المجموعات تحكم بواسطة كبار السن الذين جعلوا منها معاقل للتقليدية. مجموعات الأقرباء كينونات منغلقة على نفسها وفيها القليل من الاتصال مع المجموعات الأخري. وهذا، شجع حيازات الأرض المتقوقعة والأقتصاد المبني على الأسرة وليس السوق. هذا والتفتيت الكثيف لحيازات الارض منع تطور التكنولوجيا، و جعل الاقتصاد القياسي غير ممكنا، حيث بقي الإنتاج الزراعي في أيدي الفلاحين كما بقي الإنتاج الصناعي في أيدي الحرفيين الصغار. المدن الحديثة التي كانت مراكز للرأسمالية في الغرب أعيق تطورها لأن الناس احتفظوا بولائهم لمجموعات الأقرباء. وبسبب استقلالية هذه المجموعات لم تتمكن الحكومة المركزية أبداً من إدارة تلك الوحدات بفعالية أو مزجها في كل متحد . 
بنية الدولة الصينية هي العائق الثاني لنشوء الرأسمالية. الدولة كانت في الغالب وراثية وتحكم بالتقاليد، والامتياز والمحسوبية. وحسب رؤية فيبر فإن إدارة نظام عقلاني وقابل للمحاسبة إضافة إلى سيادة القانون وهما ضروريان للتطور الصناعي لم يوجدا. كان هناك القليل جداً من القوانين الرسمية التي تغطي المجال التجاري، ولم تكن هناك محكمة مركزية، وتطبيق القانون كان مرفوضا.ً هذا النمط من البنية الإدارية غير العقلانية كان عائقاً لنشوء الرأسمالية. حيث أوضح فيبر أن "الاستثمار في الصناعة حساس جداً تجاه مثل هذه القواعد غير العقلانية وهو شديد الاعتماد على إمكانية حساب العمليات الثابتة والعقلانية لمكينة الدولة ليظهر في إدارة من مثل ذلك النوع"116 الذي كان سائداً في الصين . إضافة إلى بينتها العامة هنالك عدد من مكونات الدولة المحددة التي عملت ضد تطور الرأسمالية. موظفو الإدارة البيروقراطية مثلاً، كانت لهم مصالحهم المادية الخاصة التي جعلتهم يعارضون الرأسمالية. فهم عادة ما يشترون المواقع لجمع الأرباح وهذا النوع من التوجه لم يساعد بالضرورة على تحقيق درجات عالية من الكفاءة . 
المعوق الثالث لنشوء الرأسمالية كان طبيعة اللغة الصينية، حيث يري فيبر أنها تعمل ضد العقلانية بجعل التفكير المنظم أمراً صعباً. لقد ظلت في الغالب في المجال "التصويري" "والوصفي". التفكير المنطقي كبح لأن فكر المثقفين ظل في شكل أمثال ومن الصعوبة أن يكون ذلك أساساً للتراكم المعرفي . 
بالرغم من أن هنالك معوقات أخري لنشوء الرأسمالية (بلد مسالم بدون حروب ولا تجارة عبر البحار مثلاً) فإن العامل الجوهري هو فقدان العقلية الضرورية وفقدان نسق الأفكار الضروري. نظر فيبر إلى نسقي الأفكار الدينية السائدين في الصين – الكنفوشية والطاوية وخصائصهما التي عملت ضد تطور الروح الرأسمالية. 
الكنفوشية 
الميزة الأساسية في التفكير الكنفوشى هي تركيزه على التعليم الكتابي كشرط للوظيفية والمكانة الاجتماعية، و للحصول على موقع وسط الطبقة الحاكمة على الفرد أن يكون متعلماً. الصعود والترقي مبني على نسق من الأفكار تختبر المعرفة الكتابية وليس مبنياً على معارف فنية ضرورية لأداء الوظيفة نفسها. ما يقيم ويختبر هو ما إذا كان عقل الفرد مغموراً بالثقافة ويتميز بطرق للتفكير تناسب الرجل المثقف. وحسب اصطلاح فيبر فإن الكنفوشية تشجع نوعاً من التعليم الذي يعتمد على المعرفة المستمدة من الكتب وليس التجربة. المتعلمون الذين ينتجهم مثل هذا النسق يرون أن العمل الفعلي في الإدارة دون مستواهم ومن الواجب أن يفوض إلى من هم دونهم. المتعلمون يتطلعون إلى الالفاظ الذكية، التورية واستعراض المقتطفات الكلاسيكية – نوع من التفكير الإدبي الصرف – بمثل هذا النوع من التوجه، يكون من السهل معرفة لماذا لا يهتم المتعلمون بالحالة الاقتصادية أو النشاط الاقتصادي. النظرة الكونفوشية للعالم نمت لتكوّن سياسة الدولة، ونتيجة لذلك، فإن الدولة الصينية صارت قليلة الاهتمام بالتأثير العقلاني على الاقتصاد والمجتمع. حافظ الكونفوشيون على تاثيرهم بالحصول على مرسوم دستوري يسمح لهم وحدهم بالعمل كموظفين ومنع منافسيهم الآخرين من العمل في الحكومة. وفي الحقيقة إذا تجرأ الإمبراطور على أن يحيد عن هذه القاعدة فسيعتبر ملاعباً للكارثة وسيكون سقوطه محتملاً . 
العديد من مكونات الكونفوشية الأخري عملت ضد تطور الرأسمالية. فهى في الأساس أخلاق للتوأم مع العالم ونظامه وتقاليده. وبدلاً عن العمل من أجل الخلاص مثل الكالفينى فالكونفوشى سيق لقبول الاشياء كما هي. في الحقيقة فكرة الخلاص لا توجد في الكونفوشية وفقدان التوتر هذا عمل على إعاقة نشوء الرأسمالية. يحث الكونفوشى المترفع على رفض الاقتصاد في الإنفاق لأن هذا من ممارسات العوام. لم يكن العمل معتبراً مناسباً للرجل الكونفوشى الأصيل بالرغم من أن الثروة تقدر. الانشغال النشط بعمل مربح يعتبر مشكوك فيه أخلاقياً ولا يتناسب مع مكانة الكونفوشى. الهدف المقبول لمثل هذا الرجل الأصيل هو الموقع الجيد وليست الأرباح، فالأخلاق تركز على مقدرات الرجل الأصيل أكثر من الخبرات عالية التخصص التي من الممكن أن تكون مفيدة لتطور النظام الرأسمالي. خلاصة, يعتقد فيبر أن الكونفوشية أصبحت قانوناً قاسياً للتقاليد . 
الطاوية 
يري فيبر أن الطاوية دين صيني أسطوري يعتبر فيه الخير المطلق حالة نفسية، وحالة عقلية وليست حالة أخلاقية يمكن الحصول عليها عن طريق السلوك في العالم الحقيقي. نتيجة لذلك فإن الطاوية لم تعمل بطريقة عقلانية لتؤثر على العالم الخارجي. الطاوية هي بالضرورة تقليدية وواحد من أهم معتقداتها "لا تدخل الاختراعات". مثل هذا النسق الفكري من غير الممكن أن ينتج أي تغيير أساسى دع عنك تغييراً مثل الرأسمالية . 
إحدى السمات المشتركة بين الطاوية والكونفوشية أنهما لم ينتجا توتراً كافياً أو صراعاً بين الأعضاء ليحفزهم على الفعل المبتكر في هذا العالم . 
"ليس في نظامها الديني الرسمي ولا في جانبه الطاوي يمكن للتدين الصيني إنتاج دوافع قوية وكافية من أجل الحياة الدينية للفرد مثلما تفعل الطريقة البيوريتانية(*). يفتقد النوعان من الدين القدر الضئيل من قوي الشيطان أو الشر التي كان من الممكن أن يصارع ضدها المتدين الصيني من أجل خلاصه"117. 
كما هو صحيح في الكونفوشية لا توجد قوي أصيلة في الطاوية تدفع الفاعلين لتغيير العالم، أو أكثر تحديداً لبناء نظام رأسمالي . 
الدين والرأسمالية في الهند 
إن مناقشة مختصرة لأفكار فيبر عن العلاقة بين الدين والرأسمالية في الهند تكون كافية لغرضنا. المقولة الأساسية توازي الحالة الصينية وإن كان ذلك ليس بالتفصيل. فلقد ناقش فيبر مثلاً المعوقات البنائية في نظام الطبقات، إضافة إلى أشياء أخري، فإن نظام الطبقات أسس عوائق ضخمة في سبيل الحراك الاجتماعي كما يعمل على تنظيم أدق جوانب حياة الناس. أعضاء الطبقة القائدة – البراهامات – يمكن مقارنتهم بالكونفوشيين كما أن نسق أفكارهم مشابه لهم . يتوقع منهم مثلاً تجنب الوظائف المبتذلة والسوقية والاهتمام بالأناقة في الأسلوب واللياقة في السلوك. عدم المبالاة بشئون العالم الدنيوية هي الفكرة المميزة للتدين البراهامي. إنهم أيضا يركزون على النوع الكتابي من التعليم. بالرغم من أن هنالك العديد من الاختلافات الجوهرية بينهما فإن الأخلاق البراهامية مثل تلك الكونفوشية تمثل عوائق عظيمة لنشوء الرأسمالية . 
الديانة الهندوسية تطرح عوائق فكرية مشابهة، وفكرتها الأساسية هي التقمص والذي يمكن مقارنته مع الاعتقاد الكالفينى عن التحديد المسبق. في الهندوسية يولد الشخص في الطبقة التي يستحقها بسبب سلوكه في الحياة الماضية. عن طريق التمسك المخلص بطقوس الطبقة يحصل الهندوسى على الميزات الخاصة للحياة القادمة. الهندوسية ليست كالكالفينية تقليدية، بمعني أن الخلاص يمكن تحقيقه عن طريق الاتباع المخلص للقواعد. الابتكار، خاصة في المجال الاقتصادي لا يقود إلى طبقة أعلا في الحياة القادمة. النشاط في هذا العالم ليس مهماً لأن العالم يعتبر مأوي مؤقتاً ويعوق البحث الروحي. بهذه الطريقة وبطرق أخري أيضاً فشل نسق الأفكار المرتبط بالهندوسية في إنتاج نوع من الناس يكون بإمكانهم خلق نظام اقتصادي رأسمالي ومجتمع منظم عقلانياً بشكل عام . 
لقد قمنا بمسح لأعمال فيبر عن العقلنة في أطر مختلفة، فوجدنا جوهر عمله هو الإشارة إلى أن العالم الغربي طور نظاماً متفرداً يركز على الكفاءة، القابلية المحاسبية، وإزالة الغموض، وأثناء هذه العملية فإن "اللاأنسنة" المستمرة للحياة الاجتماعية قد عززت بدون قصد . 
تلخيص
كان لماكس فيبر التأثير الأكثر قوة وإيجابية على قطاع واسع من نظريات علم الاجتماع مقارنة بمنظري علم الاجتماع الآخرين. هذا التأثير يمكن إرجاعه إلى الصقل، التعقيد وأحيانا حتى التشويش في نظرية فيبر. على الرغم من مشاكلها تمثل مؤلفات فيبر صهراً للبحث التاريخي والتنظير السوسيولوجي يستحق الانتباه . 
بدأنا هذا الفصل بنقاش عن الأصول النظرية والتوجيهات المنهجية لنظرية فيبر. لقد رأينا أن فيبر خلال حياته الفكرية انتقل باستمرار نحو صهر التاريخ وعلم الاجتماع أو نحو تطوير علم الاجتماع التاريخي . واحد من أهم مفاهيمه المنهجية هو الـ "فيرشتيهن" . بالرغم من أنه فسر في أحيان كثيرة كأداة تستعمل في تحليل وعي الفرد، ففي يدي فيبر كان دائما أداة علمية لتحليل القيود البنيوية والمؤسسية على الفاعلين. ناقشنا أيضا جوانب أخري من منهج فيبر شملت نزوعه للتفكير مستخدما السببية والنماذج المثالية. إضافة إلى ذلك ناقشنا تحليله للعلاقة بين القيم وعلم الاجتماع. فجوهر علم اجتماع فيبر يوجد في علم اجتماعه الملموس وليس في مقولاته المنهجية. بالرغم من أن فيبر أسس نظرياته وأفكاره عن الفعل الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية، كان اهتمامه الأساسي ببنيات المجتمع الكبرى ومؤسساته. لقد تناولنا بشكل خاص تحليله عن بنيات السلطة الثلاثة – القانونية ، التقليدية والكارزمية . 
في إطار السلطة الشرعية تناولنا النموذج المثالي الشهير للبيروقراطية وأوضحنا كيف استخدم تلك الأداة لتحليل السلطة التقليدية والكارزمية. كتابات فيبر عن الكارزما لها أهمية خاصة، ليس فقط بسبب إدراكه الواضح لها كبنية سلطة وإنما لأنه كان مهتماً بكيفية إنتاج تلك البنية . 
بالرغم من أهمية كتاباته عن البنيات الاجتماعية – مثل السلطة – فإن رؤآه الأكثر أهمية تقع في المستوي الثقافي وكتاباته عن عقلنة العالم. لم يعرب فيبر بوضوح عن فكرة أن العالم أصبح وبصورة متزايدة مسيطر عليه بقيم ومعايير العقلنة وإنما هي أطروحة يجب استخراجها من دراساته المحددة. في هذا الإطار ناقشنا كتابات فيبر عن القانون، نظم الحكم، المدينة والموسيقي. يري فيبر أن العقلنة تكتسح كل تلك المؤسسات في الغرب في حين أن هناك معوقات أساسية لتلك العملية في ما تبقي من أحزاء العالم . 
أفكار فيبر عن العقلنة وقضايا أخري متعددة وضحت في كتاباته عن العلاقة بين الدين والرأسمالية. من ناحية، تلك سلسلة من الدراسات عن العلاقة بين الأفكار (الأفكار الدينية) وتطور الروح الرأسمالية وأخيراً الرأسمالية نفسها. من ناحية أخري، إنها دراسة عن كيف أن الغرب طور نسقاً دينياً عقلانياً ومتميزاً (الكالفينية) لعب دوراً أساسياً في نشوء نظام اقتصادي عقلاني (الرأسمالية). درس فيبر مجتمعات أخرى وجد فيها أنساقاً دينية غير عقلانية (الكونفوشية، الطاوية والهندوسية مثلاً) والتي أعاقت نشوء نظام اقتصادي عقلاني. هذا التمدد المهيب فوق تاريخ قطاعات كبرى من العالم هو الذي ساعد في إعطاء نظرية فيبر أهميتها الدائمة.
abuiyad

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق